بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

التّرجيح من جهته عند الشارع تابع لقيام الدّليل القطعي عليه وإلاّ فوجوده كعدمه عند العقل ، وإن أوجب الظّن باعتباره الظّن برجحانه عند الشّارع إذا لم يحصل ممّا قطع بعدم اعتباره ؛ فإنّه إذا لم ينته إلى القطع كما هو المفروض لا يترتّب عليه أثر.

وببالي إنّ غلط النّسخة الّتي كانت عند شيخنا قدس‌سره ألجأه إلى هذا المعنى ؛ فإنّ الموجود في النّسخة الصحيحة : أنّ كون المرجّح ظنّا لا ظنيّا فقال قدس‌سره : « فإنّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعيّا لا يقتضي ذلك » (١) ، أي : كون المرجّح أمرا قطعيّا وجدانيّا وهو عين مطلب البعض المتقدّم ذكره.

نعم ، ما أفاده بقوله : « وإلاّ فليس ظنيّا أيضا » (٢) لا يخلو عن مناقشة يظهر بملاحظة ما ذكرناه. اللهمّ إلاّ أن يحمل على نفي الاقتضاء والملازمة ؛ إذ ربّما يحصل ممّا يقطع بعدم اعتباره عند الشارع كالقياس وأشباهه فتأمل.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره : من استظهار الخلط من المعترض بين التّرجيح بلا مرجّح في مقام الإيجاد والتّكوين وبينه في مقام الإلزام والتّشريع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكره الأخير في مقدّمته : من أنّ التّرجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال يظهر منه خلط ... إلى آخر ما أفاده » (٣).

فهو في كمال الجودة والاستقامة ؛ ضرورة أنّ المتّصف بالحسن والقبح بمعناهما الّذي وقع النّزاع فيه بين العدليّة والأشاعرة في مسألة التّحسين والتّقبيح

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٨٦.

(٣) نفس المصدر السابق.

٨١

العقليّين هو الأفعال الاختيارية للمكلّفين ، كما أن مفروض الأحكام الشّرعيّة أيضا الأفعال الاختياريّة ليس إلاّ ، فما يوجد من الممكنات من الفاعل المختار إن لم يكن له مرجّح لوجوده ولو كان مرجّحا نفسانيّا جزافيّا لا عقلانيّا ولو كان هو الإرادة بزعم الأشعري لم يمكن إيجاده ووجوده ، وإلاّ خرج عن كونه ممكنا ؛ لأنّ نسبته إلى طرفي الوجود والعدم على السواء لا اقتضاء له بحسب ذاته لأحد الأمرين أصلا.

ومن هنا ذكر المتكلّمون : أنّ التّرجيح بلا مرجّح يؤول إلى التّرجّح بلا مرجّح ؛ ضرورة أنّه إذا فرض عدم استناد وجوده إلى المرجّح فلا محالة يوجد بلا موجد ، وهو ممّا اتّفقت كلمتهم على استحالته من جهة ضرورة حكم العقل بها بعد فرض الإمكان والإلزام والحكم سواء كان من الشارع ، أو غيره من جهة كونه فعلا وإيجادا اختياريّا من الحاكم لا بدّ له من مرجّح ، وإلاّ استحال وجوده ، من غير فرق بين الشارع وغيره.

إلاّ أنّ الشارع لا يختار بالنّظر إلى الحكمة والعصمة إلاّ المرجّحات العقلائية لا أنّه يمتنع اختيار غيره ذاتا ؛ لأنّ الحكمة والعصمة لا يوجب سلب الاختيار كما هو بديهيّ.

وغيره قد يختار ما لا يكون مرجّحا عقلانيا وبعد وجود المرجّح بهذا المعنى للفعل من أيّ فاعل كان سواء في الأفعال ، أو الأحكام لو رجّح الفاعل المختار الفعل على التّرك أو العكس من غير مرجّح عقلائي ، فعل فعلا قبيحا عند العقلاء يوجب ذمّ فاعله عندهم ، فالمورد للقبح غير المورد للاستحالة. فإذا لم يكن للفعل الممكن مرجّح أصلا فهو محال لا قبيح ، وإذا كان له مرجّح لا يجوّز العقلاء

٨٢

اختيار الفعل لأجله ، فهو قبيح لا محال.

فمراده قدس‌سره من أنّ الأوّل محال لا قبيح ، والثّاني قبيح لا محال : إنّما هو فيما إذا فرض عدم المرجّح للأوّل أصلا ورأسا وفرض عدم المرجّح العقلائي مع فرض وجود المرجّح في الجملة للثّاني ، وهو أمر واضح لمن له أدنى تأمّل في كلامه قدس‌سره (١) فالاعتراض عليه كما عن بعض أهل العصر ناش عن القصور.

__________________

(١) أقول : وللمحقق الإصفهاني كلام شريف في نهايته لا بأس بذكره في المقام : قال :

تحقيق المقام : إن الترجيح موضوعه الفعل الإرادي ، وثبوت الإرادة فيه مفروغ عنه ، وإلاّ لكان ترجّحا بلا مرجّح وهو مساوق للمعلول بلا علة ، وامتناعه بديهي لا يختلف فيه أحد ، ففي الموضوع الإرادي قالوا بقبحه تارة وبإمتناعه أخرى.

بيانه : إن الأشاعرة بنوا على خلوّ أفعال الله تعالى التكوينيّة والتشريعيّة عن الغايات الذاتيّة والعرضيّة وعن الحكم والمصالح الواقعيّة ؛ نظرا إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ؛ لإمكان الإرادة الجزافيّة ؛ تمسّكا منهم بأمثلة جزئيّة مذكورة في الكتب الكلاميّة ، بل الأصوليّة ، ونفيا منهم للحسن والقبح بالكليّة.

فالفعل الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد ، فلا يلزم المعلول بلا علة وحيث لا حسن ولا قبح ، فلا يتّصف مثل هذا الفعل ـ الخالي عن الغاية والغرض بالذات وبالعرض ـ بكونه قبيحا.

وأجاب الحكماء ـ بعد إثبات الحسن والقبح عقلا في كلية أفعال الله تعالى والعباد ـ : بأن الفعل الخالي عن الغاية والغرض قبيح من كل عاقل ، وبأن تجويز الإرادة الجزافيّة يؤول إلى تجويز الترجح بلا مرجّح ؛ لأن الإرادة من الممكنات فتعلّقها بأحد الأمرين دون تعلّق إرادة أخرى بالآخر إمّا بإرادة أخرى ، فيدور أو يتسلسل وإمّا بلا إرادة وبلا جهة موجبة لتعلقها بهذا دون ذاك ، كان معناه حدوث الإرادة بلا سبب وهو عين الترجّح بلا مرجّح وخروج الممكن

٨٣

ثمّ إنّ شرح القول فيما يتعلّق بالمقام وإن كان موكولا إلى الفنّ الأعلى وهو « فنّ التكلّم » مع أنّه لا يحسن ممّن هو مثلي في عدم الإحاطة بالفنّ المذكور ، إلاّ أنّه لا بأس بصرف الكلام إليه وذكر بعض ما يوجب البصيرة لمن كان عاريا عن الفنّ فنقول :

اختلف المتكلّمون بعد اتّفاقهم على استحالة التّرجيح بلا مرجّح بالمعنى الّذي عرفته من ترجيح أحد المتساويين من طرفي الممكن على الآخر بلا سبب من الخارج ، فيلزم أن يوجد بلا سبب أو يعدم كذلك ـ الّذي قضت ضرورة العقول على استحالته في الممكنات ـ وإلاّ خرجت عن الإمكان إلى الوجوب ، أو

__________________

عن إمكانه بلا موجب.

فبالإضافة إلى نفس الفعل وإن كان ترجيحا بلا مرجّح ، إلاّ أنّه بالإضافة إلى إرادته ترجّح بلا مرجّح.

فعلم ممّا ذكرنا : أن محل النّزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية والغرض ، لا الخالي عن الغرض العقلائي ؛ فإنه لم يقع نزاع في إمكانه.

كما علم أن القبح بأي نظر ، وأن الإمتناع بأي لحاظ ؛ فإنه قبيح بالنظر إلى خلوّه عن الحكمة والمصلحة وممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب ، غاية الأمر إن الموجب في إرادته تعالى منحصر في الحكمة والمصلحة ، لا مطلق الغرض.

كما علم انه لا فرق بين التكوين والتشريع في شيء من الإمتناع والقبح ، وإن كان ظاهر شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره إختصاص الإمتناع بمورد التكوين ، والقبح بمورد التشريع ، مع ان كل تكوين وتشريع بلا غاية قبيح وكل إرادة بلا سبب محال ، ولك إرجاع كلامه إلى ما ذكرناه كما عن بعض أجلّة تلامذته قدس‌سرهما. [ يريد به المحقق الآشتياني في هذا البحث ]. أنظر نهاية الدراية : ج ٦ / ٣٢٦.

٨٤

الامتناع ، وهو خلف في استحالة التّرجيح بلا مرجّح ، بمعنى اختيار الفاعل المؤثّر المختار أحد طرفي ما يقدر عليه من الفعل والتّرك من دون داع ومرجّح له ، وعدمها ، فذهب الأشاعرة إلى الثّاني زعما منهم أنّ الفاعل إذا كان مختارا فيرجّح بإرادته وميله أيّ مقدور شاء.

واستدلّوا عليه : بالوجدان ؛ حيث إنّ العطشان والجائع والهارب من السّبع يختار أحد القدحين والرّغيفين والطّريقين ، مع فرض المساواة من جميع الجهات الّتي لها دخل في التّرجيح. فيعلم من ذلك : أنّ اختيار أحد طرفي الممكن لا يتوقّف على مرجّح خارجيّ.

والعدليّة من الإماميّة والمعتزلة إلى الثّاني لما عرفت : من قضاء ضرورة العقل بعدم تعلّق الاختيار بأحد طرفي الممكن من دون داع وسبب ، فلو وجد لوجد بلا سبب. وهذا معنى رجوع التّرجيح بلا مرجّح إلى التّرجّح بلا مرجح.

وأمّا ما زعمه الأشاعرة ففاسد جدّا :

أمّا أوّلا : فلمنع تحقّق التّساوي من جميع الجهات فيما مثّلوا به وأمثاله ، ومجرّد الفرض لا يوجب تحقّق المفروض في الخارج ، والمدار عليه لا على فرضه كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّا نختار بعد التّسليم عدم اختيار أحدهما ، ومجرّد دعواه لا يفيد في شيء.

وأمّا ثالثا : فلأنّه يرجع إلى الإذعان بلزوم المرجّح ، وإن كان هو الإرادة فليتوجّه عليه : أنّ نسبة الإرادة إلى المقدورين إذا كانت على نهج واحد ومتساوية بالنّظر إلى ذات المؤثّر والفاعل فاتّصافه بإحداهما دون الأخرى إن استند إلى

٨٥

إرادة أخرى : بأن يريد أن يريد الفعل أو التّرك ، فهو ـ مع كونه ظاهر البطلان بالوجدان ؛ حيث إنّا نرى بالوجدان أنّا نرتكب الفعل بإرادته من دون إرادة هذه الإرادة بالبداهة ـ مستلزم للتّسلسل ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى الإرادة الأخرى التي صارت علّة للإرادة المقارنة للفعل وهكذا.

فإن التزموا بالتّوقف على إرادة أخرى وهكذا. فيلزم ما ذكرنا من التّسلسل في الأمور المجتمعة المترتّبة وإن لم يلتزموا به ، فأيّ فرق بين الإرادتين؟

وإن لم يستند إلى إرادة أخرى ومرجّح خارجيّ ـ كما هو المفروض ـ فيلزم ترجيح أحد المتساويين بالنّسبة إلى الإرادة على الآخر بلا سبب وداع. وهذا ما يقوله العدليّة من رجوع التّرجيح بلا مرجّح ، إلى التّرجّح بلا مرجّح.

وقد عرفت : أنّه لا فرق في ذلك بين كون الممكن المقدور إيجاد جسم أو فعل أو حكم من غير فرق بين الإلزام وغيره ، فالموجب إذا لم يكن هناك سبب ومرجّح لإيجابه يستحيل صدوره منه ، كما في سائر الأفعال. فالتّشريعيّات من الحيثيّة الّتي ذكرنا كالتكوينيّات ، بل منها بهذا اللحاظ والاعتبار كما هو ظاهر ، وهكذا الكلام بالنّسبة إلى ترجيح المرجوح على الرّاجح أو التّسوية بينهما ؛ فإنّه إذا كان بلا داع وسبب أصلا استحال قطعا ، وإذا فرض وجود الدّاعي والسّبب ولم يكن ممّا يجعله العقلاء داعيا وسببا فيحكم بالقبح في كلّ من الثّلاثة.

وقد خرجنا عمّا يقتضيه وضع التّعليقة بل الفنّ ، هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالوجه الأوّل وهو إجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ليس إلاّ.

وأمّا الكلام فيما يتعلّق بالوجه الثّاني وهو إجراء دليل الانسداد في خصوص المسائل الأصوليّة فقد عرفت شرحه في الأمر الأوّل ، وأنّه فاسد من

٨٦

وجوه عرفتها ، وعلى تقديره لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ لأنّ النّتيجة على تقدير الإجراء في خصوص الأصول اعتبار الظّن المتعلّق بحجيّة شيء وإن لم يكن مفيدا للظّن أصلا.

مضافا إلى أنّه يتوجّه عليه : أنّه على تقدير الكشف وإهمال النّتيجة ـ كما هو المفروض ـ لا معنى للحكم بحجيّة مظنون الاعتبار مطلقا أيضا ، بل اللاّزم الحكم بحجيّة ما ظنّ اعتباره في الجملة ؛ نظرا إلى ما عرفت : من عدم إمكان الفرق في النّتيجة من حيث الإهمال والإطلاق بحسب الأصول والفروع ، فالمستكشف من المقدّمات إيجاب الشارع للعمل بالظّن في المسألة الأصوليّة في الجملة لا مطلقا.

لكنّك قد عرفت : أنّ هذا لا تعلّق له بالمقام وهو ترجيح المهملة في الفروع بمطلق الظّن بالاعتبار.

وأمّا الكلام في الوجه الثّالث وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشّرعيّة من الأصوليّة والفرعيّة ، فهو وإن كان فاسدا أيضا بالنّظر إلى ما أسمعناك في الأمر الأوّل ؛ حيث أنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالأصول على تقدير تسليمه سواء كان في ضمن العلم الإجمالي بالفروع أم لا ، لا يقتضي حجيّة الظّن المتعلّق بها أصلا ؛ نظرا إلى عدم قيام الدّليل على بطلان الاحتياط فيها أصلا ، إلاّ أنّ النتيجة على تقدير الكشف أيضا حجّيّة الظّن على سبيل الإجمال والإهمال في المسألتين ، فلا معنى إذن للحكم باعتبار مطلق الظن المتعلّق بالمسألة الأصوليّة.

مضافا إلى أنّ مقتضى دليل الانسداد الجاري في الأصول في ضمن مطلق الأحكام الشّرعيّة هو اعتبار خصوص ما لا يفيد الظّن بالواقع ؛ لأنّ اعتبار ما يفيد الظّن بالواقع قد علم من حيث تعلّق الدّليل بالفروع كما هو ظاهر ، وأين هذا من

٨٧

تعيين المهملة بالظّن؟ هذا بعض الكلام في الوجه الثّالث.

وأمّا الكلام في الوجه الرّابع وهو إجراء دليل الانسداد في كلّ من الأصول والفروع مستقلاّ ، فقد عرفت : أنّه يقع في موضعين :

أحدهما : فيما جرى في الحكم الأصولي بقول مطلق.

ثانيهما : فيما جرى في الحكم الأصولي الثّابت بإجراء دليل الانسداد في الحكم الفرعي.

أمّا الموضع الأوّل فقد علم حكمه ممّا ذكرنا من الكلام على الوجوه المتقدّمة ، وأنّه لا يثبت به على تقدير الإغماض عمّا يرد عليه ، إلاّ خصوص الظّن المتعلّق باعتبار ما لا يفيد الظّن بالواقع ، وأين هذا من حجيّة الظّن المتعلّق بالمسألة الأصوليّة على الإطلاق ومن تعيين المهملة في الفروع بالظّن؟

حيث إنّك قد عرفت مرارا : أنّ نتيجة المقدّمات حجيّة الظّن الشخصي ليس إلاّ ، وأمّا الموضع الثّاني ؛ فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى عدم تماميّة المقدّمات بالنّسبة إلى الحكم الأصلي ولو في مفروض المقام ؛ حيث إنّه لا دليل على بطلان الاحتياط بالجمع بين جميع محتملات الشبهة من لزوم الحرج وغيره ، ودعوى قيام الإجماع عليه كما ترى ، كدعوى دوران الأمر في كلّ ظنّ بين الوجوب والتّحريم ؛ نظرا إلى حرمة العمل به على تقدير عدم حجيّته في حكم الشارع لما أسمعناك مرارا : من أنّ الحرمة التّشريعيّة لا تمنع من الاحتياط ؛ لارتفاع موضوعها بالاحتياط كما هو ظاهر ، فلا يجتمعان موضوعا حتّى يمنع من جريان الاحتياط ـ :

أنّ النّتيجة هو اعتبار الظّن بتعيين المهملة في الفروع على سبيل الإجمال

٨٨

والإهمال ، لا اعتبارها على الوجه الكلّي والإطلاق كما اعتقده الجماعة ؛ نظرا إلى ما عرفت : من عدم الفرق في نتيجة المقدّمات من حيث الإطلاق بين ما يجري فيه من الحكم الفرعي والأصلي.

نعم ، سيأتي في كلام شيخنا قدس‌سره ـ بعد البناء على ما ذكرنا من عدم استقامة تعيين المهملة بمطلق الظّن ـ صحّة تعيينها بالظّن في مواضع وستسمع منّا ما يتعلّق به ( إن شاء الله تعالى ).

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كلّه : بطلان تعيين المهملة بمطلق الظّن الّذي هو أحد المعيّنات عندهم هذا.

وقد رأينا في كلام بعض التمسّك في المسألة إلى تعيين المهملة بمطلق الظّن بكون مظنون الاعتبار متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى غيره.

وهو كما ترى ـ مضافا إلى منافاته لما ذكروه من عدّه في قبال متيقّن الاعتبار ـ لا محصّل له أصلا.

فإنّه إن أريد أنّ جميع أفراده متيقّن الاعتبار حقيقة مع اختلافها اختلافا فاحشا ، فهو كما ترى.

وإن أريد أنّ فيما ظنّ اعتباره من الأمارات يوجد ما هو المتيقّن حقيقة ، فإن كان معلوما بالتّفصيل فلا تعلّق له باعتبار مطلق الظّن في تعيين المهملة ، وإن كان معلوما بالإجمال بحيث كان جميع ما ظنّ اعتباره من أطرافه لا أن يكون مردّدا بين خصوص الأخبار أو طوائف منها ، مع أنّه في حيّز المنع.

فيتوجّه عليه : ما أسمعناك في ردّ ما يتعلّق بالفرض من كلام الشّيخ المحقّق

٨٩

المحشّي قدس‌سره فراجع.

وإن أريد أنّه متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى غيره وبالإضافة إليه فهو مبنيّ على تساوي جميع أفراد المظنون الاعتبار من حيث المرتبة ، أو عدم كفاية ما تيقن اعتباره حقيقة أو بالإضافة منها كبعض الأخبار أو طائفة منها ، ودون إثباتهما خرط القتاد.

ثمّ إنّه لا إشكال على القول بجواز تعيين المهملة بمطلق الظّن سواء تعلّق بالحجيّة إثباتا أو نفيا في لزوم إلقاء ما ظنّ عدم اعتباره من الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة ، وإنّ الكلام فيه ليس مبنيّا على مسألة المانع والممنوع.

نعم ، لا بدّ على هذا من التمسّك فيما شك في اعتباره من الظّنون بالأصل على ما عرفت : من عدم نفي الظّن بحجيّة أمارة حجيّة غيرها.

نعم ، لو بني على عدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة رأسا لم يكن فرق بين الموهوم وغيره فلو كان معيّن آخر فيرجع فيه وفي المشكوك بل في بعض المظنون إلى الأصل ، كما أنّه على القول بجواز تعيين المهملة بالظّن في الجملة يرجع في غير ما عيّن بالظّن إلى الأصل أيضا ، من غير فرق.

فالكلام في مسألة المانع والممنوع مبنيّ على تقرير الحكومة وتعميم النّتيجة بالنّسبة إلى الأصل والفرع ، على ما بنينا عليه كما نبّه عليه شيخنا قدس‌سره في أوّل هذا الأمر الثّاني وسننبّه عليه في مسألة المانع والممنوع فافهم ولا تغفل.

(٢٠) قوله قدس‌سره : ( وفي حكمه ما لو عيّن بعض الظّنون لأجل الظّن بعدم حجيّة ما سواه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٨٦ )

٩٠

في حكم الأولويّة والإستقراء الظّنيين

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من الإلحاق الحكمي ممّا لا إشكال فيه وقد عرفت بعض الكلام فيه إنّما البحث في المقام في بيان صغرى هذا القسم ، فنقول :

أمّا الأولويّة الاعتباريّة المذكورة في كلماتهم في عداد أقسام القياس المراد بها في كلماتهم : كون المناط المستنبط في الأصل ظنّا غير مستند إلى ظهور لفظ الشارع فيه أقوى وآكد في الفرع.

والاستقراء النّاقص المراد به في كلماتهم : إلحاق بعض جزئيّات الكلّي بأكثرها وأغلبها ممّا علم حالها من الخارج من حيث اشتمالها على الحكم المقصود والصّفة المطلوبة في الجزئي المردّد حاله من جهة الظّن بكون الحكم والصّفة المذكورين من عوارض نفس الكلّي الجامع المشترك بين الجزئيات.

فقد قيل بكونهما ممّا ظنّ بعدم اعتبارهما بالخصوص ؛ نظرا إلى وجود حرمة مناط القياس المنهيّ عنه في الشّريعة بالأدلّة القطعيّة فيهما ؛ لأنّ المناط في تحريمه استنباط مناط الحكم في الأصل ظنّا ، وإلحاق الفرع به من حيث وجود المناط الظّني فيه من غير فرق بين كونه في الفرع أقوى وآكد ، أو أضعف ، أو مساويا مع وجوده في الأصل ، كعدم الفرق بين استخراج المناط المذكور من ملاحظة جزئيّ أو جزئيّات.

ومن هنا استشكل المحقّق القميّ قدس‌سره مع قوله بحجيّة الظّن على الإطلاق فيهما ؛ من حيث الإشكال في خروجهما سيّما الأولويّة عن القياس المحرّم

٩١

موضوعا ؛ نظرا إلى ما عرفت ونفى شيخنا قدس‌سره البعد عن دخولهما تحت القياس المنهيّ عنه وقال في مقام التّرقي ـ : « بل النّهي عن العمل بالأولى منهما وارد في قضيّة أبان (١) ، المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة » (٢).

وأمّا الشّهرة المراد بها في كلماتهم ذهاب المعظم إلى فتوى من غير أن يعلم الخلاف والوفاق من غيرهم أو علم الخلاف فقد قيل : إنّها ممّا ظنّ عدم اعتبارها ؛ نظرا إلى قيام الشّهرة على عدم اعتبارها ؛ حيث إنّ المشهور عدم حجيّة الشّهرة هذا.

وقد ذكر شيخنا قدس‌سره في مجلس البحث بعد تضعيف هذا الوجه بما في « الكتاب » : أنّ الموجب للظّن بعدم اعتباره ، الظّن بشمول الإجماع المحقّق والمنقول في مسألة حرمة عمل المجتهد بفتوى الغير وتقليده له للعمل بالشّهرة ؛ حيث إنّه يظهر منه أنّه لا فرق في معقد هذا الإجماع بين أن يجعل المرجع فتوى واحد من العلماء أو اثنين أو ثلاث أو أكثر ما لم يبلغ مبلغ الإجماع المحقّق المفيد للقطع بالسّنّة.

كما أنّا نلتزم بذلك فيما نحكم بجوازه من تقليد العامي للمجتهد في الفروع النّظريّة فإنّه لا يتعيّن عليه تقليد مجتهد واحد ، بل يجوز له الاستناد إلى فتوى غير

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٢٢٩ باب « الرجل يقتل المرأة ... » ـ ح ٦ ، والفقيه : ج ٤ ص ١١٨ باب « الجراحات والقتل » ـ ح ٥٢٣٩ ، والتهذيب : ج ١٠ / ١٨٤ ـ ح ١٦ باب « القود بين الرجال والنساء » ، والوسائل : ج ٢٩ ص ٣٥٢ باب « ان دية أعضاء الرجل والمرأة سواء » ـ ح ١.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٧.

٩٢

واحد في المسألة إذا توافقت آراؤهم كما يجوز للمجتهد الاستناد في الفتوى إلى أدلّة متوافقة من حيث المضمون هذا.

وقد ضعّف قدس‌سره أمر الشّهرة بما عرفت شرح القول فيه : في مسألة حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص وهو في كمال الجودة والاستقامة. هذا بالنّسبة إلى ما أفاده في وجه التّوهم في « الكتاب ».

وأمّا ما أفاده في وجهه في مجلس البحث ، فقد ضعّفه بمنع حصول الظّن من الإجماع المذكور في باب التّقليد بذهاب غير واحد من المجمعين إلى حجيّتها من حيث الخصوص كالشّهيد قدس‌سره وأضرابه ، بل لم ير من تمسّك في المنع عن العمل بها إلى الإجماع المذكور ؛ فيحتمل قويّا أن يكون حكمها غير حكم فتوى المجتهد ولا أقلّ من الشّك في ذلك فيكون ممّا شك في اعتباره من حيث الخصوص فتدبّر.

وبالجملة : لا استبعاد في أن يكون حكم الشّهرة من حيث كونها كاشفة عن الواقع وأمارة عليه غير حكم فتوى المجتهد فيكون الرّجوع إليها نحوا من الاجتهاد فافهم.

ضعف إلحاق الأولويّة والاستقراء الظنيّين بالقياس المحرّم

وأمّا الأولويّة والاستقراء فقد ضعّف القول بكونهما ملحقين بالقياس المحرّم موضوعا أو حكما وإن كانت الأولويّة داخلة في القياس موضوعا من دون شبهة بعمل غير واحد من الأصحاب بهما ؛ حيث إنّ عمدة الدّليل على حرمة العمل بالقياس ـ كما ستقف عليه في وجه خروجه عن تحت دليل الانسداد ـ الإجماع ، بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظّنون الخاصّة ، كثاني الشّهيدين في

٩٣

مسألة « ثبوت ولاية القاضي المنصوب » بالشّياع من حيث كون الظّن الحاصل منه أقوى من البيّنة وسبطه (١) صاحب « المعالم » في مسألة استحالة المتنجّسات (٢) ؛ فإنّه استدلّ على كونها مطهّرة بكونها أولى بحصول الطّهارة منها من استحالة النّجاسات.

وبعض المتأخّرين في مسألة حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص من جهة كون الظّن الحاصل منها ، أقوى من الظّن الحاصل من خبر العادل غالبا. وقد تقدّم تفصيله في مسألة الشّهرة إلى غير ذلك ، وإن كان عنوان الأولويّة عند بعضهم فيما عرفت : الفحوى ، بل الاستقراء قد تمسّك به أيضا غير واحد من أهل الظّنون الخاصّة.

فإنّا رأينا من جماعة منهم التمسّك في مسألة حجيّة البيّنة على الإطلاق في الموضوعات بالاستقراء ، وكذا تمسّكوا في مسألة حجيّة الاستصحاب في الشّك في الرّافع بقسميه بالاستقراء كما ستعرفه من شيخنا قدس‌سره في باب الاستصحاب إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كلماتهم.

ومنه يظهر : الوهن في دلالة رواية أبان على حرمة العمل بالأولويّة من حيث الخصوص ، مضافا إلى ما فيها من ضعف السّند (٣) ؛ حيث أنّه بعد عمل أهل

__________________

(١) صاحب المعالم رضي‌الله‌عنه هو ابن الشهيد الثاني وليس سبطا له ، وقد تكرّر هذا المعنى في هذا الكتاب من الميرزا الآشتياني قدس‌سره فلتكن على ذكر منه.

(٢) أنظر فقه المعالم : ٧٧٦.

(٣) السند صحيح لا إشكال فيه أصلا بل صحيح أعلائي وذلك لأن طريقه ـ على ما في

٩٤

الظّنون الخاصّة بل المطلقة بها لا يبقى ظنّ من الرّواية على حرمة العمل بها فلا تكون ممّا ظنّ بعدم اعتبارها هذا.

ولكن ما يستفاد منه المنع من العمل بالأولويّة من جهة كونها قياسا لا ينحصر في رواية أبان ، فإنّه ممّا دلّ عليه غير واحد من الأخبار كالوارد في « باب البول والمني » (١) في ردّ من زعم جواز العمل بالقياس : بأنّ البول أقذر من المني فيكون أولى بإيجاب الغسل وغيره ، فتدبّر.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره في الجواب بعد تسليم حصول الظّن من رواية أبان بقوله :( ولو فرض ذلك دخل الأولويّة فيما قام الدّليل على عدم اعتباره ... إلى آخر ما أفاده ) (٢) فيتوجّه عليه وجوه من الإشكالات :

منها : منع كون مطلق الخبر ولو كان من الضّعاف متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى الأولويّة.

ومنها : منع حجيّة متيقّن الاعتبار مطلقا في المسألة الأصوليّة على تقرير الكشف بإجراء المقدّمات في المسألة الفرعيّة ؛ حيث إنّ النّتيجة على التّقدير المذكور على ما عرفت مرارا حجيّة الظّن في المسألة الفقهيّة.

__________________

الكافي الشريف ـ : علي بن إبراهيم عن أبيه ، ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبان بن تغلب.

ولعلّ رميه بضعف السند سهو من القلم والله العالم.

(١) علل الشرايع : ج ١ / ٩٠ قطعة من الحديث ٥ ، عنه وسايل الشيعة : ج ٢ / ١٨٠ باب « وجوب الغسل من الجنابة و ... » ـ ح ٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٨.

٩٥

ومنها : عدم كفاية تيقّن اعتبار الرّواية بالنّسبة إلى الأولويّة ؛ حيث إنّ اعتبار المتيقّن بالإضافة مبنيّ على عدم وجود المتيقّن الحقيقي ولا الإضافي في المرتبة الأعلى أو عدم كفايتهما وأنّى له بإثبات ذلك؟

اللهم إلاّ أن يكون المراد وجود المانع من شمول دليل الانسداد للأولويّة ؛ من حيث إنّ دخولها تحت الدّليل موجب لخروجها عنه فلا بدّ أن يتشبّث بذيل أحد الوجهين الأوّلين.

ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل فيما أفاده ، فإنّ الوجه فيه تمام ما ذكرناه أو بعضه فافهم.

(٢١) قوله قدس‌سره : ( فاعلم أنّه قد يصحّ تعيينها بالظّن في مواضع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٨٨ )

الكلام في صحّة تعيين المهملة بمطلق الظن

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره في صحّة تعيين المهملة بالظّن في الجملة لا يخلو عن تشويش واضطراب في أوّل النّظر ، فلا بدّ من شرح القول في المقام حسبما يساعدنا التّوفيق والزّمان أوّلا ، ثمّ نشير إلى ما يتطرّق المناقشة إليه من كلامه ودفعها بقدر الإمكان.

فنقول : إذا فرض عدم وجود القدر المتيقّن بقسميه في الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة ، أو عدم كفايته على تقدير وجوده فلا بدّ في الحكم بحجيّة الظّن في تعيين المهملة الثّابتة بجريان دليل الانسداد في الأحكام الفرعيّة من إجراء دليل انسداد آخر في تعيين المهملة على تقرير الكشف ؛ نظرا إلى ما عرفت : من

٩٦

فساد القول بعدم الحاجة إلى إثبات حجيّة الظّن في تعيين المهملة ، وحصر الدّليل بالفرض في دليل الانسداد وتماميّة مقدّماته لما كانت ممنوعة عندنا على ما عرفت في مطاوي كلماتنا السّابقة ؛ من عدم قيام دليل على بطلان الاحتياط في المسائل الأصوليّة حتّى الإجماع ، إلاّ على بيان ستعرفه من شيخنا قدس‌سره في ردّ المعمّم الثّالث مع ما يتوجّه عليه ، فلا محالة لا بدّ أن يكون التكلم في هذه المسألة بإجراء دليل الانسداد مبنيّا على الإغماض عمّا ذكرنا وفرض تماميّة مقدّماته في المقام.

« في شقوق الظنون القائمة على المسألة الأصوليّة »

فنقول : إذا فرض إجراء الدّليل في تعيين المهملة في الفروع فلا محالة يكون النّتيجة الحاصلة منه حجية الظّن على سبيل الإجمال في تعيينها ؛ لأنّك قد عرفت مرارا عدم الفرق في نتيجة دليل الانسداد على تقرير الكشف بين المسائل الجارية فيها الدّليل المذكور من الفروع والأصول ، فإن كان الظّن القائم في هذه المسألة الأصوليّة واحدا وإن قام على الزّائد بقدر الكفاية ، فلا محالة يكون حجّة ومرجعا في تعيين المهملة لفرض الانحصار ، وإن كان متعدّدا :

فإن كان هناك قدر متيقّن حقيقيّ بين الأمارات القائمة في المسألة الأصوليّة مع قيامه على ما يكفي في استعلام الأحكام الفرعيّة المشتبهة بالمعنى الّذي عرفته مرارا فيجب الاقتصار على مورده ، ويرجع في مورد غيره إلى أصالة الحرمة على ما عرفت شرحه بالنّسبة إلى سلسلة الأمارات القائمة على المسائل الفرعيّة.

٩٧

وإن لم يكن متيقّن حقيقيّ بينهما ، أو كان ولم يقم على تعيين ما يكفي في استعلام الأحكام ، فلا محالة يتعدّى إلى ما يكون متيقّنا بعده ؛ فإن وجد وكان ما قام عليه كافيا فيقتصر عليه ، وإلاّ يتعدّى إلى ما دونه ممّا يكون متيقّنا بالنّسبة إلى غيره وهكذا.

فإن لم يكن هناك قدر متيقن أصلا ، أو كان ولم يكن ما قام عليه بقدر الكفاية والمفروض تعدّد الظّنون القائمة ، فإن لم يقم كلّ على طائفة كافية ، بل فرض الحاجة إلى جميع ما قامت عليه في استعلام الأحكام ؛ فلا إشكال في الحكم بحجيّة الكلّ لفرض الانحصار حقيقة ؛ لأنّ العقل إنّما يستكشف من المقدّمات في كلّ مسألة وجوب جعل ما به الكفاية على الشارع على ما عرفت سابقا.

وإن قام كلّ على طائفة كافية وفرض تمامها متساوية من حيث الظّن بالاعتبار مع اتحاد الظّنون من جميع الجهات أو الشّك فيه أو الوهم به ، فلا إشكال أيضا في الحكم بحجيّة الكلّ بضميمة بطلان التّرجيح بلا مرجّح فيستكشف من جعل الشارع جميع الظّنون القائمة في تعيين المهملة.

وإن لم تكن متساوية بأن كان بعضها مظنون الاعتبار وبعضها مشكوكه وبعضها موهومه ، فإن كان الظّن القائم على حجيّة بعض الظّنون القائمة واحدا فيؤخذ به مطلقا ويحكم بحجيّة ما قام عليه في تعيين المتّبع.

وإن كان متعدّدا وقام كلّ على طائفة غير كافية فيحكم بحجيّة الكلّ ، وإن قام كلّ على طائفة كافية مع اختلاف الظّنون القائمة في هذه المرتبة من حيث تيقّن الاعتبار مطلقا ، أو بالإضافة مع فرض قيام مورده على حجيّة ما به الكفاية فيقتصر عليه.

٩٨

وإن فرض عدم الاختلاف من الجهة المذكورة ، فإن فرض التّسوية من حيث الظّن بالاعتبار على ما عرفت في هذه المرتبة أيضا فيحكم بحجيّة الكلّ ؛ نظرا إلى ما عرفت ، وإلاّ فلا بدّ من أن يسلك هذا المسلك إلى أن ينتهي إلى أحد المعيّنات أو المعمّمات المذكورة في الدّرجة الرّابعة أو الخامسة أو فوقهما من الدّرجات فافهم واغتنم.

وليكن هذا في ذكر منك فليته قدس‌سره حرّر المقام بما عرفت حتّى لا يتوجّه عليه شيء ؛ فإنّ ما حرّره كما ترى غير نقيّ عن المناقشات ، فلا بدّ أن يتكلّف لدفعها بعض التّكلّفات في توجيه العبارة ويلتزم بإرادة خلاف الظّواهر منها لينطبق على ما عرفت في تحرير المقام ، مع عدم وفاء التّوجيه بتطبيق تمام العبارات.

فإنّ ما أفاده قدس‌سره بقوله في ذيل الموضع الأوّل : « لكن هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجيّة الظّن بين كونه في المسائل الفرعيّة وكونه في المسائل الأصوليّة ... إلى آخره » (١) مبنيّ على عدم إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة الثّابتة بجريانه في الأحكام الفرعيّة وإرادة إثبات حجيّة الظّن في هذه المسألة الأصوليّة بنفس إجرائه في الفروع ليس إلاّ.

فالمراد من قوله ـ حينئذ في جواب الشّرط ـ : « فالقدر المتيقّن إنّما هو متيقّن بالنّسبة إلى الفروع لا غير » (٢) عدم وجود نفع وفائدة للمتيقّن من الأمارات القائمة على المسألة الأصوليّة بعد فرض قصر نتيجة دليل الانسداد الجاري في

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٩.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٤٨٩.

٩٩

الفروع بإثبات حجيّة الظّن في خصوص المسائل الفرعيّة وعدم إجراء دليل انسداد آخر في تعيين المهملة ؛ لأنّ وجود القدر المتيقن بين الأمارات القائمة في مسألة على ما عرفت إنّما ينفع فيما لو علم بحجيّة الظّن في تلك المسألة وإلاّ فوجوده كعدمه ، فالنّفي المتعلّق في كلامه بالمتيقّن في الأصول إنّما هو بالملاحظة المذكورة لا بالمتيقّن ذاتا.

ويشهد لما ذكرنا : من ابتناء ما أفاده على ملاحظة دليل الانسداد الجاري في الفروع ليس إلاّ قوله ـ بعد الفراغ عن حكم المواضع ـ : « وهل يلحق به كل ما قام المتيقّن على اعتباره ... إلى آخره » (١) فإنّه صريح فيما ذكرنا.

وما أفاده في الموضعين الآخرين : من الجزم بحجيّة الظّن فيهما على إجراء دليل إنسداد آخر في هذه المسألة الأصوليّة إلى تعيين المهملة.

وهذا وإن كان تفكيكا في بيان حكم المواضع ، لكنّه لا مناص عنه بعد صراحة العبارة غاية ما هناك عدم تعرّضه لحكم متيقّن الاعتبار من الأمارات القائمة على المسألة الأصوليّة ، لكنّه لمكان وضوحه لم يكن محتاجا إلى الذّكر والتّعرض.

لا يقال : كما أنّ التعرّض لحكم المتيقّن مستغن عنه ، على التّقدير المذكور ، كذلك التّعرض لحكمه على التّقدير الّذي ذكره مستغن عنه ؛ فإنّه على تقرير الكشف الّذي يكون البحث فيه لا إشكال في اختصاص نتيجة الدّليل الجاري في الفروع بالمسائل الفرعيّة.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩١.

١٠٠