بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

العقل لا يحكم إلا بلزوم دفع الضرر

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على جعل الوجه الثّاني في قبال الوجه الأوّل ؛ بمعنى أنّه على تقدير الإغماض عن كفاية مطلق الظّن في التّرجيح من حيث كونه أقرب إلى الحجيّة يحكم بلزوم التّرجيح به من حيث كونه أقرب إلى إدراك مصلحة الواقع.

وبالجملة : هذه الحيثيّة غير حيثيية مجرّد الأقربيّة إلى الحجيّة وإن كانتا متلازمتين في زعم المستدلّ.

ثمّ إنّ الوجه في عدم إفادته لزوم التّقديم ، بل أولويّته هو ما عرفت الكلام فيه مرارا : من أنّ العقل لا يحكم بلزوم إدراك المصالح الواقعيّة في باب الإطاعة ، وأنّ العنوان الملزم عنده لإطاعة مطلق أوامر الموالي على العبيد دفع الضّرر والعقوبة والمؤاخذة وإن حكم بإدراكها على وجه الرّجحان والأولويّة ؛ نظرا إلى إيجابه تكميل النّفس الموجب للوصول إلى الدّرجات العالية والتّهيّؤ للإفاضات القدسيّة.

وأمّا الوجه في مشابهته للتّرجيح بالقوّة والضّعف بعد الإغماض عمّا ذكره أوّلا ، فهو ظاهر ؛ حيث إنّ مناطه على الأقربيّة بملاحظة الاعتبارين ، فلا بدّ أن يلاحظ مرتبة ما ظنّ اعتباره مع مرتبة ما شك في اعتباره مثلا ، فربّما يكون الظّن

__________________

على تقدير المخالفة كافيا فإحراز نفسها أولى ». حاشية رحمة الله على الفرائد المحشىّ : ١٤٢

٦١

الحاصل من مشكوك الاعتبار في المسائل التي قام عليها أقوى وأقرب من الظّن الحاصل من مظنون الاعتبار في المسائل الّتي قام عليها بعد الملاحظتين ، فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما ذكر ـ ما توجّه على التّرجيح بالوجه الثّاني.

ثمّ إنّ المراد من استبعاد فرض التّسوية بالنّسبة إلى جميع الظّنون الموجودة في المسائل الفقهيّة واستحالته بحسب العادة بعد الاختلاف التّام بين الأسباب والموارد بالنّسبة إلى المفروض ، وإلاّ فلم يتوهّم أحد أنّ فرض المحال محال فلا تغفل هذا.

مضافا إلى ما أفاده قدس‌سره في الاعتراض بقوله : « مع أنّ اللاّزم على هذا إلى آخر ما أفاده » (١) ؛ ضرورة لزومه بعد البناء على ملاحظة الأقربيّة من جهة التّدارك على تقدير الخطأ بعد اختلاف الظّنون القائمة من الجهة الّتي ذكرها قدس‌سره ، بل اختلافها من جهة أخرى ـ غير مذكور في كلامه ـ وهي القوّة والضّعف ، فافهم.

(١٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٧ )

في ان مطلق الظّنّ لا يصلح للتّرجيح وتعيين النتيجة المهملة

أقول : العمدة في الاعتراض على هذا الوجه ما أفاده ثانيا ؛ لأنّ ما أفاده أوّلا مضافا إلى رجوعه إلى منع الاطّراد كما هو واضح غير نقيّ عن الإشكال ؛ لإمكان أن يقول الخصم بأنّا لا نقول : بأنّ كلّما ظنّ اعتباره لا بدّ أن يكون مظنون الاعتبار

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٧٧.

٦٢

مطلقا ، فكلّما تحقّق هذا العنوان في ضمن مطلق أو مقيّد نقول بكونه متعيّنا من المهملة. مضافا إلى إمكان دعوى كون الخبر الجامع للشّروط الخمسة ممّا يظنّ اعتباره مطلقا. اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره ممّا أفاده عدم كفاية ما ظنّ اعتباره من الأمارات فتدبّر.

فإذن لا بدّ من صرف العنان إلى بيان ما أفاده من الاعتراض الثّاني ، فنقول ـ في توضيح عدم الدّليل على كون مطلق الظّن معيّنا للمهملة ومرجّحا لما قام عليه على غيره من الظّنون ـ :

إنّ الدّليل على اعتبار الظّن على سبيل الإطلاق أو الإهمال منحصر في المقام على ما هو مقتضى الفرض بدليل الانسداد ولا يخلو الأمر فيه :

إمّا أن يجري في خصوص الفروع ويحكم بعد إهمال النّتيجة فيها بحجيّة مطلق الظّن في تعيينها ـ كما هو المفروض في محلّ البحث ـ أو يجري في خصوص الأصول.

وإمّا أن يجري في مطلق الأحكام الشّرعيّة بالمعنى الأعمّ من الفرعيّة والأصوليّة والواقعيّة والظّاهريّة.

وإمّا أن يجري في كلّ منهما مستقلاّ فيجري تارة في الفروع ، وأخرى في الأصول.

ثمّ على تقدير إجرائه في الأصول مستقلاّ على هذا الفرض قد يجري في الأحكام الأصوليّة بقول مطلق ، وقد يجري في الحكم الأصوليّ الثّابت بإجراء دليل الانسداد في الفروع.

٦٣

أمّا الوجه الأوّل : وهو إجراؤه في خصوص الفروع والحكم بعد إهمال النّتيجة فيها بكون مطلق الظّن مرجّحا ومعيّنا للمهملة.

ففيه : أنّ قضيّة المقدّمات الجارية في الفروع على تقدير الكشف ، حجيّة الظّن في خصوص الأحكام الفرعيّة ؛ ضرورة أنّ بقاء التّكليف بها مع فرض عدم الطّريق لها لا يقتضي في حكم العقل بوجوب نصب الشّارع طريقا إلى غيرهما ممّا لم يفرض تعلّق التّكليف بها كما هو المفروض.

نعم ، مقتضى حكم العقل على تقرير الحكومة ـ حسبما عرفت مرارا ـ عدم الفرق بين الظّن في المسألة الفرعيّة والأصوليّة لعموم مناط الحكم في نظره بين المسألتين هذا.

مع أنّه على فرض التّعميم لا يعقل الحكم بإهمال النّتيجة في الفروع وإطلاقها في الأصول كما هو واضح.

وقد اعترف غير واحد ممّن زعم كون مطلق الظّن معيّنا بما ذكرنا من كون نتيجة المقدّمات الجارية في الفروع ، حجيّة الظّن على سبيل الإهمال في خصوص الفروع من دون اقتضاء لها لحجيّة الظّن في الأصول أصلا لا على سبيل الإهمال ، ولا الإطلاق على ما عرفت بيانه ، إلاّ أنّهم ذكروا : أنّا لا نحتاج إلى إثبات اعتبار الظّن وحجيّته في المقام حتّى نطالب بدليله ، منهم : المحقّق المحشّي قدس‌سره فيما تقدّم من كلامه بشرحه في الأمر الأوّل. وقد نقله شيخنا قدس‌سره في المقام ملخّصا بإسقاط بعض ما لا يخلّ بمرامه.

وتوضيحه على وجه الاختصار :

أنّه إذا فرض إهمال النّتيجة في الفروع وأريد تعميمها بقضيّة بطلان التّرجيح

٦٤

بلا مرجّح كما هو المفروض الّذي يحكم به العقل كليّة فلا محالة لا يحكم العقل بالتّعميم ، إلاّ بعد عدم وجدان المرجّح ، فكما أنّه يحكم بالتّعميم بعد عدم وجدان الرّجحان ، كذلك يحكم بلزوم التّرجيح بعد وجدانه لا أنّه لا يحكم بالتّعميم بعد وجدانه ويسكت عن لزوم الأخذ بالرّاجح وتبقى النّتيجة على حالها من الإهمال ، وإلاّ لم يحكم بحجيّة الظّن أصلا لما عرفت من ابتنائه على لزوم الأخذ بالرّاجح.

فإن قلت : إنّ مظنون الاعتبار من الأمارات القائمة في المسائل الفقهيّة ليس براجح ، فقد كابرت الوجدان.

وإن قلت : إنّه راجح إلاّ أنّ العقل لا يرجّح المشكوك والموهوم عليه حتّى يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ، بل إنّما يحكم بالتّسوية بينهما ، فهو مخالف لحكم العقل الضّروري بقبح التّسوية بين الرّاجح والمرجوح ، وإلاّ لم يكن ثمّة حاجة في التشبّث بذيل القاعدة المذكورة في التّعميم.

وإن قلت : إنّه راجح ولا يحكم العقل بترجيح غيره عليه ولا بالتّسوية بينه وبين غيره ، ولكنّه لا يحكم بترجيحه على غيره ، بل هو واقف عن الحكم رأسا ، وإنّما يستكشف بملاحظة المقدّمات عن حجيّة الظّن في الجملة على سبيل الإهمال ولا يحكم بشيء آخر أصلا ، فهو مناف لقضيّة صريح العقل بلزوم ترجيح الرّاجح على المرجوح الّذي كان عليه المدار في حكمه بحجيّة الظّن بعد ملاحظة مقدّمات دليل الانسداد ، فلم يبق إلاّ حكمه بلزوم تقديم المظنون على المشكوك في مقام الحيرة والجهالة ، كما أنّه يحكم بلزوم تقديم المشكوك على الموهوم على تقدير وجوب التّعدي عن المظنون من جهة عدم كفايته.

وهذا معنى ما أفاده الشّيخ المحقّق المتقدّم ذكره بعد الاعتراف بلزوم إقامة

٦٥

الدّليل على التّرجيح بمطلق الظّن : من أنّ الدّليل عليه هو الدّليل العقلي المذكور ؛ حيث إنّه بعد استكشافه عن حجيّة الظّن على سبيل الإهمال إن وجد الحجيّة متساوية بالنّظر إلى الظّنون فيحكم بحجيّة الكلّ من جهة بطلان التّرجيح بلا مرجّح ، وأمّا إذا وجدها مختلفة فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك والموهوم كما أنّه يقدّم المشكوك على الموهوم.

فإن قلت : إنّك ارتكبت التّرجيح بلا مرجّح في تقديم المظنون فقد غلطت غلطا ظاهرا فالنّتيجة وإن كانت مهملة مردّدة بالنظر الأوّلي ، إلاّ أنّها متعيّنة في المظنون بالنّظرة الثّانية هذا ملخّص ما يقال في توضيح المقام.

ولكنّك خبير بأنّه قياس مغالطيّ خال عن التّحقيق ، فإنّه راجع عند التّأمّل إلى الالتزام بلزوم إقامة البرهان على التّرجيح بمطلق الظّن على ما عرفت من الشّيخ المتقدّم : من الاستدلال عليه بحكم العقل القاضي بحجيّة الظّن ، فهو راجع عند التّأمّل إلى إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة الّتي هي مسألة أصوليّة ؛ ضرورة أنّه لو لم يرجع إليه فلنا أن نختار الشّق الأخير ، فإنّك قد عرفت ـ عند الاستدلال على حجيّة مطلق الظّن بقاعدتي قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ولزوم ترجيح الرّاجح على المرجوح ـ : أنّ العقل إنّما يحكم باللّزوم فيما دار الأمر بعد ثبوت لزوم التّرجيح بمقدّمات الانسداد بين ترجيح الراجح أو المرجوح ، وإلاّ فلا يحكم بشيء منهما ، بل يقف عن الحكم ، ومن هنا حكمنا : بأنّه لا بدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد ، لا أن يكون دليلا مستقلاّ بحجيّة الظّن في قباله كما هو مبنى استدلالهم به.

فيرد عليه ما ستعرفه : من عدم تماميّة المقدّمات في المسألة الأصوليّة أوّلا ؛

٦٦

وكون النّتيجة مهملة على تقدير تسليم التّماميّة ثانيا ؛ ضرورة عدم اختلاف نتيجة المقدّمات بحسب اختلاف المسائل.

فإن شئت قلت : إنّ النّتيجة إن كانت مهملة فلا معنى لجعل مطلق الظّن معيّنا ومرجّحا وإن كانت مطلقة فكذلك ؛ ضرورة حصول العلم القطعي بحجيّة مطلق الظّن في الفروع فلا ترديد حتّى يكون موردا للتّرجيح ، فالتّرجيح بمطلق الظّن ساقط على كلّ من تقديري الإهمال والإطلاق. ومنه يظهر فساد توهّم : أنّه على الإطلاق لا معنى لمنع التّرجيح بمطلق الظّن.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : فساد ما توهّمه غير واحد بعد تسليم ما ذكرنا من أنّ المقام مقام التّرجيح لا الحجيّة ؛ فإنّا لا نعني من كون الشّيء حجّة إلاّ الاعتماد عليه والاتّكال إليه في تشخيص الحكم الإلهي المشتبه عندنا من غير فرق بين الحكم الفرعي والأصولي المشتبه ، فكما إذا علم إجمالا بحكم فرعيّ في بعض الوقائع فظن أنّه الحكم الإلزامي مثلا لا يمكن البناء على الحكم الإلزامي من جهة الظّن به ، إلاّ بعد قيام الدّليل على حجيّته ، كذلك إذا علم إجمالا بحكم أصولي فتردّد عندنا أمره أنّه خصوص المظنون ، أو المشكوك ، أو الموهوم ، أو الأعمّ ، لا يمكن البناء على أنّه خصوص المظنون إلاّ بعد إقامة البرهان على حجيّة الظّن ، فلا معنى لجعل المقام من موارد التّرجيح.

وبالجملة : تعيين الحكم الإلهي المشتبه بالظّن عين جعله حجّة من غير فرق بين الحكم الفرعي والأصولي.

وأمّا التّرجيح فالمراد به في كلماتهم تقديم أحد الدّليلين على الآخر لرجحان له عليه ، وأين هذا من المقام؟

٦٧

وإن أطلق التّرجيح وأريد به المعنى الأعمّ من تعيين أحد الاحتمالين بالظّن ، أو تقديم أحد الدّليلين المتعارضين على الآخر لمزيّة له عليه وإن لم يكن خصوص الظّن بالنّظر إلى المعنى اللّغوي ، أو العرفي ، أو المسامحيّ ، فلا يمنع منه ، لكنّه لا يوجب شيئا أصلا هذا.

مع أنّ التّرجيح بمعناه المعروف من دون قيام دليل عليه محرّم بالأدلّة الأربعة ؛ لأنّه موجب لاستناد الحكم التّعييني إلى الشارع من دون دليل هذا.

وإن شئت قلت : إنّ رجحان الظّن على الشّك والوهم وإن كان وجدانيّا ، إلاّ أنّ رجحان المظنون على المشكوك في نظر الشارع مطلقا حتّى يوجب عليه جعله دون مشكوك الاعتبار فليس معلوما ، وإلاّ لم يكن اعتباره مشكوكا.

والمدار إنّما هو في الرّجحان بالمعنى المذكور عند الشارع لا في وجداننا ؛ فإنّ المفروض تقرير المقدّمات على وجه الكشف لا الحكومة ، ولو حكم العقل ولو بالملاحظة الثّانويّة بكون الظّن بما هو ظنّ موجب للرجحان والتّقديم في نظر الشارع فلا محالة يحكم بإطلاق الحجيّة على تقرير الكشف أيضا. وهو ـ مع كونه خلاف الفرض ـ موجب لسقوط التّرجيح بالظّن رأسا ، كما أنّه على تقرير الحكومة المقتضي للحكم بحجيّة مطلق الظّن على ما عرفت ، لا مورد للتّرجيح ؛ إذ هو فرع الإهمال الغير المجامع مع الإطلاق ، فلا تغترّ إذن بما ذكروه : من أنّ المورد مورد التّرجيح ، والغرض إنّما هو متعلّق به والدليل عليه هو الدّليل العقلي المذكور.

٦٨

في انه على تقرير الحكومة لا فرق بين مظنون الإعتبار وغيره

ثمّ إنّ مفروض البحث على ما عرفت إنّما هو على تقرير الكشف ، وأمّا على الحكومة فقد عرفت : أنّه لا فرق بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه بالنّظر إلى هذه العنوانات ولا أثر لها في حكمه أصلا.

نعم ، يمكن فرض حكمه بلزوم تقديم المظنون على تقرير الحكومة لو فرض تساوي الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة دائما بالقوّة والضّعف وفرض إيجاب الظّن بالاعتبار ، لصيرورة الإطاعة من جهة سلوكه أقوى وأتمّ في نظر العقل.

فإنّك قد عرفت : أنّ الحجّة في حكم العقل هو الظّن الأقوى البالغ حدّ الاطمئنان ليس إلاّ على تقدير كفايته ، لكنّه مجرّد فرض قد عرفت الكلام عليه. وكيف كان الكلام إنّما هو على تقرير الكشف وإهمال النّتيجة.

وأمّا على تقرير الحكومة فقد عرفت : أنّ العقل قاض بحجيّة الظّن الأقوى من أي سبب حصل ، فإذا فرض كون مشكوك الاعتبار أقوى ظنّا من مظنون الاعتبار فيحكم العقل بتقديمه ، فتقديم مظنون الاعتبار على إطلاقه ـ كما يزعمه القائل به ـ لا معنى له على كلّ تقرير ، من غير فرق بين تقرير الكشف كما يظهر ممّا ذكره المحقّق المحشّي بقوله : « كان ذلك أقرب إلى الحجيّة » (١) ؛ حيث أنّه ظاهر في وجود حجيّة شرعيّة واقعيّة ؛ إذ على تقرير الحكومة لا معنى لما ذكره إلاّ على

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٥.

٦٩

تأويل أو تقرير الحكومة كما يظهر من قوله « نظرا إلى حصول القوّة » (١) لتلك الجملة حيث إنّ مرجحيّة القوة إنّما هي على تقرير الحكومة على ما عرفت.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من الاعتراض الثّالث بقوله : « مع أن الظّن المفروض إنّما قام على حجيّة بعض الظّنون في الواقع ... إلى آخره » (٢).

فهو يشبه الاعتراض الأوّل في توجّه المناقشة إليه ؛ حيث إنّ قيام الظّن على حجيّة بعض الظّنون بقول مطلق من غير فرق بين زماني الانفتاح والانسداد في معنى قيام الظّن على تعيين المهملة ؛ لأنّه يظنّ منه أنّ الشارع اعتبر الظّن المظنون في زمان الانسداد فهو مثل قيام ظنّ على اعتبار بعض الظّنون في خصوص زمان الانسداد ، فيظنّ أنّ المظنون مراد من المهملة.

فإن أريد من قيام الظّن على تعيين المهملة هذا المعنى فهو حاصل ، وإن أريد الزّائد عليه فلا دليل عليه أصلا ؛ فإنّ مقتضى ما ذكروه على تقدير تسليمه كون الظّن بالاعتبار معيّنا لا يكون الظّن القائم على عنوان تعيين المهملة معيّنا كما هو واضح. ومن هنا أمر بالتّأمّل فيما أفاده قدس‌سره.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا كلّه : فساد ما أورده جمع ممّن قال بحجيّة الظّنون الخاصّة على القائل بحجيّة الظّن المطلق مثل المحقّق القمّي قدس‌سره من باب الإلزام ؛ من أنّه على تقدير تسليم تماميّة المقدّمات واقتضائها لحجيّة الظّن على الإطلاق يتعيّن العمل بخصوص المظنون من الأمارات القائمة على المسائل الفقهيّة دون

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٣ / ٣٦٣.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٠.

٧٠

المشكوك والموهوم ؛ حيث إنّه إذا كان مقتضاها حجيّة الظّن على الإطلاق كان مقتضاها العمل بالظّن في تعيين الحجّة على الإطلاق أيضا ؛ إذ لا يعقل الانفكاك في اقتضاء الدّليل إطلاقا وتقييدا بحسب المسائل.

كلام الفاضل النراقي

قال الفاضل النّراقي في « المناهج » ـ في عداد الإيرادات على التمسّك بدليل الانسداد لإثبات حجيّة مطلق الظّن في الفروع من غير فرق بين مظنون الاعتبار وغيره ـ :

« ثانيهما : أنّه لو تم لما دلّ إلاّ على حجيّة المظنون حجيّته ؛ لأنّه جعل سدّ باب العلم مع بقاء التّكليف موجبا للعمل بالظّن وتعيين المناط في الأحكام أيضا مسألة فيجب العمل فيها بالظّن فيكون الحجّة الظّن الّذي دلّ دليل ظنّي على حجيّته لا كلّ ظنّ ، وجعل انسداد باب العلم في سائر المسائل موجبا للميل بالظّن فيها دون هذه المسألة تهافت » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، وإن كان ظاهرا في إجراء دليل الانسداد في تعيين الظّن الثّابت حجيّته مستقلاّ أو في ضمن إجرائه في الفروع ، إلاّ أنّه في كمال الغرابة ؛ فإنّه بعد تسليم اقتضاء المقدّمات لحجيّة مطلق الظّن في الفروع كما هو مبنى الاعتراض يحصل العلم بمناط الأحكام ، فأين انسداد باب العلم به؟

وعلى تقدير اقتضائها لحجيّة الظّن في الجملة ، لا بدّ أن يقول : بأنّ مقتضاها

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٦١.

٧١

في تعيين المناط العمل بالظّن في الجملة ؛ نظرا إلى ما ذكره من عدم اختلاف اقتضاء الدّليل بحسب المسائل.

نعم ، على تقرير الحكومة نقول باقتضائها لحجيّة مطلق الظّن المتعلّق بالمسائل الأصوليّة والفقهيّة على ما عرفت تحقيقه مرارا ، ولكنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ ضرورة اقتضائه لحجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ، ولو لم يحصل بما ظنّ حجيّة ظنّ في الفروع أصلا. وأين هذا من تعيين المهملة بالظّن؟

وكيف كان : لا ينبغي الإشكال في أنّ التّرجيح بمطلق الظّن لا معنى له من غير فرق بين القول بالإطلاق والإهمال وإن خالف فيه جمع منهم الفاضل النّراقي فيما عرفت من كلامه وفي غيره ؛ فإنّه قال أيضا ـ في موضع آخر ـ ما هذا لفظه :

« ورابعا : أنّه لم يعلم ما قصده بقوله : « فيجب العمل بالظّن » إن أراد أنّه يجب العمل بكلّ ظنّ فهو ممنوع ، وإن أراد أنّه يجب العمل بالظّن في الجملة ، فهو مسلّم ولا يفيد له.

فإن قيل : يثبت حجيّة الجميع بضمّ بطلان التّرجيح بلا مرجّح.

قلنا : لا شك أنّ للظّن عرضا عريضا فيتّصل أحد طرفيه بالعلم والآخر بالشّك ، وفي البين ظنون متفاوتة بعضها أقوى من بعض ، فكيف يكون ترجيح الأقوى ترجيحا بلا مرجّح؟

ألا ترى أنّ بعض أفراد الخبر المفيد للظّن أرجح من بعض كالصّحيح من غيره والحسن من الضّعيف؟

وأيضا الظّنون مختلفة حيث إنّ بعضها ممّا اشتهر القول بحجيّته وبعضها ممّا

٧٢

لم يقل بحجيّته إلاّ نادر ، ولا شك أنّ الأوّل أرجح.

وأيضا المرجّح موجود في طائفة من الأدلّة لوجود الأدلّة على لزوم العمل بها المذكورة في مظانّها. والقول : بأنّ أدلّتها لا تفيد إلاّ الظّن فهي مرجّحات ظنيّة صارت مرجّحة لهذه الظّنون ، مسلّم ولكن لا يلزم منه كون ترجيحها ظنيّا ؛ فإنّه لا تنافي بين كون الشّيء مفيدا للظّن بشيء ولم يكن منه وكان مرجّحا قطعيّا لآخر ؛ فإنّ كون الشّيء مرجّحا غير كونه واجب العمل. مع أنّ الثّابت من بطلان التّرجيح بلا مرجّح إنّما هو إذا لم يكن مرجّح أصلا لا قطعيّ ولا ظنّي.

وإن أريد أنّ ترجيحها ظنّ فهو فاسد ؛ فإنّ الطّرف الّذي فيه الأدلّة الظّنيّة أرجح قطعا على الطّرف الفاقد لها هذا كلّه ، مع أنّ اللاّزم من عدم المرجّح هو التّخيير دون الحكم بحجيّة الجميع » (١). انتهى ما أردنا نقله.

وأنت بعد الإحاطة بما ذكرنا تعرف وجوه النّظر فيه ؛ فإنّك قد عرفت : أنّ رجحان المظنون على غيره في وجداننا وكذا اختلاف الظّنون من الحيثيّات التي ذكرها في وجداننا لا يوجب الرجحان في نظر الشارع وفي حكمه بحجيّة الظّن المستكشف من دليل الانسداد بحيث يحكم العقل به ؛ فإنّ مناط التّرجيح والتّعميم على تقرير الكشف إنّما هو في حكم الشارع.

كما أنّ ما ذكره : من أنّ اللاّزم من عدم المرجّح هو التّخيير ، لم يعلم له معنى محصّل ؛ فإنّ لازم عدم التّرجيح بين الدّليلين المتعارضين هو التّخيير عند المجتهدين ، لا أنّ لازم كلّ الاحتمالين ولو لم يكونا متنافيين التّخيير. نعم ، قد

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٥٨.

٧٣

عرفت احتمال التّخيير وإمكانه ، وأين هذا من كونه لازما لعدم التّرجيح؟ هذا.

مع منافاة ما أفاده في المقام لما ذكره في معنى القاعدة عند الاستدلال بها على حجيّة الظّن مطلقا من جانب القائل بها ، فإنّه بعد نقل كلام بعض المحقّقين الموردين على التمسّك بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وإثبات حجيّة الظّن ، وأنّ غاية ما يستفاد منه لزوم العمل بالرّاجح عند الدّوران في الجملة ، قال : « ويرد على الدّليل أيضا :

أمّا أوّلا ؛ فبأنّه إن أريد أنّه يقبح ترجيح المرجوح ويجب ترجيح الرّاجح مطلقا فهو ممنوع. وإن أريد أنّ ترجيح بعض المرجوحات قبيح فهو مسلّم ، ومن أين علم أنّ محلّ النّزاع منه؟

وأمّا ثانيا : فبأنّ غاية ما دلّ عليه الدّليل أنّ ما ظنّ وجوب فعله مثلا لكون فعله ذا صفة راجحة ، هي كونه مظنون الوجوب يجب ترجيح فعله. فنقول : إنّه يجب لو لم يشتمل تركه على صفة راجحة أخرى ، وإلاّ فلا يثبت إلاّ ترجيح الفعل إذا لم يكن في التّرك رجحان من جهة أخرى ، وأمّا إذا كان له مرجّح كأن يكون موافقا لمدلول خبر وإن لم يفد الظّن ، فلا شك أنّه حينئذ ذو صفة زائدة ليست في طرف الفعل فلا يقبح ترجيح التّرك ».

إلى أن قال :

« وأمّا ثالثا : فبأنّ ما اتّفق عليه العقلاء ويعاضده الدّليل هو قبح ترجيح ما علم مرجوحيّته في الواقع ، والكلام فيما نحن فيه فيما كان راجحا أو مرجوحا في نظر الظّان ولا يحكم العقل بقبح ترجيح ما كان مرجوحا في نظر شخص لجواز رجحانه في الواقع.

٧٤

والتّوضيح : أنّ الكلام في أنّ الشارع هل أوجب علينا الأخذ بالطّرف الرّاجح عندنا أم لا؟ ـ فإنّه معنى حجيّة الظّن ـ فنقول :

إذا كان شيء عندنا راجحا ولم يحتمل أن يكون مرجوحا في الواقع ، قبح من الشارع الأمر بأخذ المرجوح ، وإن احتملنا أن يكون مرجوحا بحسب الواقع فلا يقبح من العالم بالواقع الأمر بأخذ المرجوح عندنا ، فترجيح الشارع ما هو مرجوح عندنا ليس بقبيح على الإطلاق. ولذا ترى أنّه أمر بالأخذ بخلاف الرّاجح عندنا في كثير من الموارد ، فمن أين يعلم أنّ ما نحن فيه من الأوّل؟ » (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ ما أفاده قدس‌سره لا يجامع مع ما ذكره في المقام ، وممّا ذكرنا كلّه يظهر جودة ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ردّ الفاضل المتقدّم ذكره المورد على القائل بحجيّة مطلق الظّن إلزاما المعترض على نفسه بقوله : « وفيه : أنّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد مع فرض عدم المرجّح العمل بمطلق الظّنّ في الفروع ... إلى آخره » (٢).

وكذا ما أفاده قدس‌سره في فساد القلب بقوله : « وليس للمعترض القلب ... إلى آخره » (٣).

وأمّا ما أفاده في رد هذا المعترض بقوله : « أقول : لا يخفى أنّه ليس المراد من

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٦٠.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٢.

(٣) نفس المصدر.

٧٥

أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظّن ... إلى آخر ما أفاده قدس‌سره » (١).

فهو من أوضح الواضحات ضرورة ؛ أنّ الكلام في المقام في تعيين الحكم الشّرعي الأصولي المستكشف من مقدّمات الانسداد المتعلّق بالظّن على سبيل الإهمال والإجمال بالظّن ، وأنّ واجب العمل في حكم الشّارع خصوص مظنون الاعتبار أو الأعمّ منه ومن غيره.

وأمّا الكلام في أنّ الظّن بالاعتبار على فرض التّسوية بين الظّنون في حكم الشارع هل يصلح أن يكون داعيا ومرجّحا لاختيار المكلّف وميله وتعلّق إرادته بالمظنون الاعتبار أم لا ، فهو ليس كلاما في مسألة شرعيّة صالحة لأن يعنون في كلمات العلماء ويذكر في الكتب ، بل ليست صالحة لتكلّم العالم فيه ، بل هو كلام في أمر عاديّ خارج عن فنّ العلم.

والّذي أوقعه في هذا الخطأ ودعاه إلى حمل كلمات من ذهب إلى كون الظّنّ بالاعتبار مرجّحا للمهملة على ما ذكره ، ما رآه في كلام غير واحد منهم حسبما عرفت : من أنّ البحث في المقام في ترجيح مظنون الاعتبار من جهة قيام الظّنّ على اعتباره ، وأنّ الرّجحان به أمر وجدانيّ ، لا في جعله دليلا وحجّة على اعتبار مظنون الاعتبار حتّى يطالب بدليله ، فزعم أنّهم يريدون أن يجعلوا الظّن بالاعتبار داعيا ومرجّحا لاختيار المكلّف ، لا سببا ومرجّحا لإيجاب الشّارع العمل بخصوص مظنون الاعتبار سيّما بملاحظة قولهم في مقام ثبت هذا المطلب : أنّ كون

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٨٤.

٧٦

المرجّح ظنّا لا يلزم كون التّرجيح ظنّيّا (١). فوقع في هذا الوهم.

وإن كان منشأ اشتباه الأمر عليهم في المقام على ما عرفت تفصيل القول فيه أمر آخر ، وهو : اشتباه المرجّح الوجداني بالمرجّح الشّرعي ، وأنّ العقل إذا رأى اختلاف مراتب الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة من حيث الظّن بالاعتبار وعدمه ، فلا يحكم بالتّعميم من جهة قاعدة « بطلان التّرجيح بلا مرجّح » فافهم.

والأولى : نقل عين عبارته بتمامها قال قدس‌سره في « العوائد » :

« ولا يخفى أنّ هذا القائل خلط بين ترجيح الشّيء وتغليبه ولم يفهم الفرق بينهما ، ونحن لبيان المطلب نقدّم أوّلا مقدّمة ، ثمّ نجيب عن كلامه.

وهي : أنّه لا ريب في بطلان التّرجيح بلا مرجّح فإنّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعرف والعادة ، بل يقولون بامتناعه الذّاتي كالتّرجح بلا مرجّح.

والمراد بالتّرجيح بلا مرجّح. هو الكون مع أحد الطّرفين والميل إليه والأخذ به من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك فهو أمر آخر وراء ذلك.

ولنوضح ذلك بأمثلة فنقول : إذا أرسل سلطان مثلا عبدا إلى بلد وقرّر له أحكاما وطلبها منه ، ولم يعلم ذلك العبد تلك الأحكام ولكن أخبره عادل ؛ بأنّه طلب منه إكرام زيد وعمرو وبكر وخالد من غير نفي أحكام أخر ، وآخر ؛ بأنه طلب منه بناء دار ومسجد وقنطرة ورباط من دون نفي الغير ، وثالث ؛ بأنّه طلب منه استكتاب مصحف وكتاب وديوان كذلك ولم يكن له بدّ من العمل بأقوال هؤلاء كلاّ

__________________

(١) أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٥.

٧٧

أو بعضا ، ولكن لم يعلم أنّ أحكامه هل هي ما أخبر به الجميع ، أو واحدا ، أو اثنان.

فإن كان الجميع متساويين من جميع الوجوه فلو عمل بقول واحد معيّن منهم من حيث هو قوله كان ترجيحا بلا مرجّح وموردا للقبح. ولكن لو كان الظّن الحاصل من قول أحدهم أقوى ، أو ضمّ معه مكتوب متضمّن للأخذ بقوله من السّلطان أو الوزير من غير أن يفيد العلم ولا أن يكون دليل على حجيّة ذلك المكتوب ، فلو أخذ بقوله وعمل به ، لم يلزم ترجيح بلا مرجّح ولا قبح فيه عقلا ولا عرفا. نعم ، لا يجوز له الحكم بأنّ الواجب أخذه إلاّ مع حجّة عليه.

ومن هذا القبيل لو حضر طعامان عند أحد أحدهما ألذّ من الآخر فلو أكل هذا الشخص الألذ لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذّ ولكن لو حكم بلزوم أكله لا بدّ من تحقّق دليل عليه ولا يكفي مجرّد الألذّية. نعم ، لو كان أحدهما مضرّا يصحّ الحكم له باللّزوم.

ومن ذلك القبيل أيضا من أراد المسافرة إلى بلد كان له طريقان متساويان من جميع الوجوه ولكن سافر بعض أحبّائه من أحدهما فلو اختار هو أيضا المسافرة من ذلك الطّريق لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، ولكن لو حكم بتعيين هذا الطّريق للسّلوك احتاج إلى دليل.

وبالجملة : جميع الموارد كذلك ، والحكم بلا دليل غير التّرجيح بلا مرجّح ، وشتان ما بينهما. فالمرجّح غير الدّليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل والثّاني في مقام التّصديق والحكم.

وإذ عرفت تلك المقدّمة فنقول : ليس مراد المورد أنّه يجب العمل بالظّن المظنون حجيّته ، وأنّه الظّن الّذي يجب العمل به بعد سدّ باب العلم ، بل غرضه أنّ

٧٨

بعد ما يلزم على المكلّف ببقاء التّكليف وانسداد باب العلم بالظّن في الجملة ولا يعلم أنّه أي ظنّ لو عمل بالظّن المظنون حجيّته ، كما أنّ المسافر يسلك السّبيل الّذي سلكه رفقاؤه ما الضّرر فيه وأي نقص يلزم عليه.

فإن قلت : هو ترجيح بلا مرجّح ، فغلطت غلطا ظاهرا ، وإن كان غيره فبيّنه حتّى ننظر.

وثالثا (١) : نقول : إنّه يجب العمل بالظّن المظنون الحجيّة ؛ لأنّه كما أنّك تقول : يجب علينا في كلّ واقعة البناء على حكم ولعدم كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظّن ولا يلزم ترجيح بلا مرجّح ، مع أنّ تعيينك ليس إلاّ بالظّن ، فكذا نقول :إنّه بعد ما وجب علينا العمل بظنّ ولم نعلم تعيينه يجب علينا في تعيين هذا الظّن العمل بالظّن وكيف لا يلزم في الأوّل ترجيح بلا مرجّح ويقبح التّرجيح بالظّن ويلزم في الثّاني ولا يصحّ؟!. ولعمري إنّ هذا لشيء عجاب!!

وبتقرير آخر إن تقول (٢) : إنّ سدّ باب العلم وبقاء الأحكام وبطلان سائر الاحتمالات المذكورة بنفسها موجبة للعمل بكلّ ظنّ وأصالة حجيّته ، فبيّن لنا الملازمة حتّى نستفيد منك.

وإن تقول : إنّها موجبة للعمل بالظّن في الجملة ، ولكنّه غير متعيّن لنا بالطّريق العلمي ، فإن لم يكن سدّ باب العلم مستلزما للعمل بالظّن فلم أخذته في أصول دليلك؟

__________________

(١) عطف على ثانيا وأوّلا في كلام للفاضل المزبور لم يذكره صاحب البحر ها هنا إختصارا ، أنظر : ص ٣٩٥ من عوائد الأيّام.

(٢) كذا والصحيح : « إن تقل » وكذا في الّذي بعده فلاحظ.

٧٩

وإن كان ففي هذا المقام أيضا كلّفنا بالعمل بظنّ من الظّنون وباب العلم به منسدّ فاعمل فيه أيضا بالظّن واحكم بحجيّة كلّ ظنّ كان دليل ظنّي على حجيّته ، وهو الأخبار الواردة في الكتب المعتبرة من أصحابنا الّتي دلّت الشّهرة ، والإجماع المنقول ، ومفهوم الكتاب ، ومنطوق الأحاديث الغير المحصورة ، والقرائن المتكثّرة على حجيّتها كما بيّناه مفصّلا في « شرح تجريد الأصول » و « المناهج » (١) و « أساس الأحكام » و « مفتاح الأحكام ».

فإن قلت : الدّليل الظّني على حجيّة الأخبار لا ينفي حجيّة ظنّ آخر.

قلنا : نعم ، ولكن لا يكون حينئذ دليل على حجيّة ظن آخر إذ بعد ثبوت وجوب العمل بظنّ مظنون الحجيّة ينفتح باب الأحكام ولا يجري دليلك في ظنّ آخر ويبقى في تحت أصالة عدم الحجيّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأمّا التّفريع الّذي أفاده بقوله : « وممّا ذكرنا يظهر في آخر كلام البعض (٣) المتقدّم ذكره ... إلى آخره » (٤).

فهو وإن كان مستقيما بالمعنى الّذي عرفته فيقال : إنّ كون المرجّح أمرا وجدانيّا قطعيّا لا يقتضي كون التّرجيح من جهته عند الشارع قطعيّا ، بل قطعيّة

__________________

(١) أنظر مناهج الأحكام : ٢٥٦ ، المقصد الأوّل في الإجتهاد والتقليد ، مناهج في حجّيّة الظن في الأحكام.

(٢) عوائد الأيّام ، العائدة : ٤١ / ٣٩٦ ـ ٣٩٨.

(*) هو الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية على المعالم.

أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٢ ـ ٣٦٥ و ٣٩٤ ـ ٣٩٥ من الطبعة الحجريّة.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٦.

٨٠