بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

قال قدس‌سره ـ في عداد الوجوه الّتي ذكرها في قبال القائلين بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام ؛ نظرا إلى أن نتيجة دليل الانسداد بنفسها أو بضميمة بطلان التّرجيح من غير مرجّح إطلاق حجيّة الظّن ـ ما هذا لفظه :

« الخامس : أنّه بعد البناء على حجيّة الظّن في الجملة على سبيل القضيّة المهملة كما قضت به المقدّمات الثّلاث المذكورة إذا دار الأمر فيه بين حجيّة جميع الظّنون أو الظّنون الخاصّة من دون مرجّح لأحد الوجهين لزم البناء على حجيّة الجميع ، لتساوي الظّنون إذن في نظر العقل وبطلان التّرجيح من غير مرجّح قاض بالتّعميم.

وأمّا إذا كان البعض من تلك الظّنون مقطوعا بحجيّته على فرض حجيّة الظّن في الجملة دون البعض الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم بالحجيّة دون الباقي ؛ فإنّه القدر اللاّزم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ؛ إذ حكم العقل بحجيّة الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجيّة الجميع [ كذلك ](١) ، بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح فلا يصح له تعيين البعض للحكم بالحجيّة دون البعض من دون ظهور مرجّح عنده فيتعيّن عليه الحكم بحجيّة الكلّ بعد القطع بعدم المناص عن الرّجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم إنّما يجيء حينئذ من جهة الجهل بالواقع ، ولا يجري ذلك عند دوران الأمر بين الأخصّ والأعمّ على نحو ما هو المفروض في المقام ؛ لثبوت حجيّة الأخصّ حينئذ على التّقديرين ، فبعد ثبوت حجيّة الظن في الجملة لا كلام إذن في حجيّة

__________________

(١) أضفناها من متن الهداية.

٤١

الأخصّ ، وإنّما التّأمّل في حجيّة الباقي حينئذ. فكيف يسوغ للعقل [ في مقام الجهل ](١) أن يحكم بجواز الرّجوع إلى الباقي مع الاكتفاء بتلك الظّنون في استعلام الأحكام؟ إذ المفروض كون حجيّة الأخصّ حينئذ مقطوعا بها عند العقل وحجيّة الباقي مشكوكة ، بل الضّرورة العقليّة قاضية بترجيح الأخصّ والاقتصار عليه في مقام الجهل حتّى يتبيّن له حجيّة غيره من الظّنون.

فإن قلت : إنّ الظّنون الخاصّة لا معيار لها حتّى يؤخذ بها على مقتضى التّعيين المفروض لحصول الخلاف في خصوصيّاتها ، ودوران الأمر بين الأخذ بالكلّ والبعض المبهم لا ينفع في المقام ؛ لوضوح عدم إمكان الرّجوع إلى المبهم. والمفروض أنّه لا دليل على شيء من خصوص الظّنون ليكون مرجعا بالخصوص فيلزم الحكم بحجيّة الجميع ؛ لانتفاء المرجّح عندنا.

قلت : لا بدّ في حكم العقل حينئذ من الأخذ بأخصّ الوجوه ممّا اتّفق عليه أهل الظنون الخاصّة ؛ بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونه بناء على القول المذكور إن اكتفي به في دفع الضّرورة ويترك الباقي ممّا وقع الخلاف فيه [ على القول المذكور ](٢) فلا يثبت بالقضيّة المهملة [ الحاكمة بحجيّة الظن ](٣) حينئذ ما يزيد على ذلك. وإن لم يكتف بالقدر المعلوم لاستنباط الأحكام أخذ بالأخصّ بعده أخذا بمقتضى المقدّمات المذكورة وجريا على مفاد الدّليل المذكور بعينه بالنّسبة إلى ما بعده ، فإن لم يكشف أيضا أخذ بالأخصّ بعده لعين ما ذكر إلى أن يدفع به

__________________

(١) كذلك.

(٢) أضفناها من متن الهداية.

(٣) كذلك.

٤٢

الضّرورة ويترك الباقي بعد ذلك ، هذا إذا كانت الظّنون متداخلة.

وأمّا إذا كانت متبائنة بأن كان أرباب الظنون الخاصّة مختلفين من غير أن يكون هناك ظنّ متّفق عليه بينهم ، أو كان ولم يكن وافيا بالأحكام كان اللاّزم الحكم بحجيّة جميع تلك الظّنون ؛ لدوران البعض المحكوم بحجيّته قطعا بين تلك الظّنون ، ولا ترجيح بينها فيجب الأخذ بجميعها من غير أن يسري إلى غيرها » (١).

إلى أن قال :

فإن قلت : إنّ المرجّح للأخذ بالبعض إنّما هو الأخذ بالمتيقّن بعد إثبات حجيّة الظّن في الجملة ، وإذا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة انتفى المرجّح المذكور فلا قاضي إذن بترجيح البعض ، بل يساوي تلك الأبعاض وغيرها من الظّنون لوقوع الخلاف في الجميع.

قلت : إنّ هناك درجتين لتسرية الحجيّة إلى الظّنون :

إحداهما : أن يحكم بحجيّة تلك الأبعاض الخاصّة بعد العلم بحجيّة الظّن في الجملة ودوران الحجّة بين جميع تلك الأبعاض وبعضها ؛ نظرا إلى انتفاء التّرجيح بين تلك الأبعاض وعدم المناص عن العمل.

[ ثانيهما ](٢) : أن يتسرّى إلى جميع الظّنون منها ومن غيرها. ومن البيّن أنّ العقل حين جهالته ودوران الأمر عنده بين الوجهين إنّما يأخذ بالأخصّ ، فإنّ

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٩ ـ ٣٧١.

(٢) أضفناها من متن الهداية.

٤٣

المهملة إنّما تكون كليّة على قدر ما قام الدّليل القاطع عليه دون ما يزيد عليه » (١). وساق الكلام إلى أن قال :

« فإن قلت : إن تمّ ما ذكر من البيان فإنّما يتمّ لو لم يعارض الظّن الخاصّ غيره من الظّنون ، وأمّا مع المعارضة ورجحان الظّن الآخر فلا يتمّ ذلك ؛ لدوران الأمر حينئذ بين الأخذ بأحد الظّنين فيتوقّف الرجّحان على ثبوت المرجّح بالدّليل ، ولا يجري فيه الأخذ بالأخصّ ، ولا اتّفاق على الأخذ بالظّن الخاصّ حينئذ ليتمّ الوجه المذكور ، فيتساوى الجميع حينئذ في الحجيّة ، وقضيّة بطلان التّرجيح بلا مرجّح هو حجيّة الكلّ حسبما قرّروه ، ولا بدّ حينئذ من الأخذ بالأقوى على ما يقتضيه قاعدة التّعارض.

قلت : [ لمّا ](٢) يكن تلك الظّنون حجّة مع الخلوّ عن المعارض حسبما ذكر فمع وجوده لا تكون حجّة بالأولى ، فلا يعقل إذا معارضة لما هو حجّة عندنا » (٣).

إلى أن قال :

« إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه على ما قررّنا يكون بين القول بحجيّة الظّنون الخاصّة ومطلق الظّن عموم مطلق كما هو أحد الوجهين المتقدّمتين في أوّل المسألة ، فكلّ ظنّ يقول بحجيّته من يقول بحجيّة الظّنون الخاصّة يقول بحجيّة القائل بحجيّة مطلق الظّن (٤) إلاّ أن يقوم عنده دليل على خلافه دون العكس

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٧١.

(٢) أضفناها من متن الهداية.

(٣) نفس المصدر : ٣٧٢.

(٤) وفي متن الهداية العبارة هكذا : فكل من يقول بحجية مطلق الظن ، يقول بحجية الظنون

٤٤

وبذلك يتم المطلوب ؛ إذ بعد تسليم حجيّة الخبر في الصّورة المفروضة لا دليل على حجيّة الشّهرة حتّى يعارض بها تلك الحجّة المسلّمة فضلا عن ترجيحها عليها ، فإنّ الحكم بالتّرجيح فرع الحجيّة ، فإذا كانت منتفية لعدم قيام الدّليل عليها لم يعقل التّرجيح ويتمّ ما قررّناه ، فإنّ الفريقين متّفقان حينئذ على حجيّة الخبر وجواز العمل به في نفسه لو لا المعارض الأقوى ، إلاّ أنّ القائل بحجيّة مطلق الظّن يقول حينئذ بوجود المعارض ، فلا يجوز عنده العمل بالخبر من تلك الجهة وإنّما يتمّ له تلك الدّعوى على فرض إثباته.

وقد عرفت : أنّه لا دليل عليه حينئذ فتعيّن العمل بالخبر ، هذا غاية ما يمكن تقريره في تصحيح هذا الوجه ولا يخلو عن تأمّل » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وما أفاده في بيان الصّغرى وتشخيص مصداق المتيقّن اعتباره من الظّنون ـ سيّما ما أفاده في جعل مطلق أفراد الظّنون الخاصّة مع اختلاف أهله فيها من أفراده ، وكون النّسبة بين القولين عموم مطلق ، مع أنّ القائلين بالظّنون الخاصّة لا يعتبرون في اعتبارها حصول الظّن الفعلي منها في خصوصيّات مسائل الفقه ـ وكذا ما أفاده في مسألة التّعارض وإن كان محلّ المناقشة والنّظر ، ولذا حكم بعدم خلوّه عن التّأمّل ، إلاّ أنّ ما أفاده من انصراف المهملة الثّابت حجيّتها بدليل الانسداد إلى خصوص ما كان أولى بالاعتبار من الظّنون ـ على تقدير الكفاية في

__________________

الخاصة الا أن يقوم عنده دليل على خلافه ... إلى آخره. أنظر الهداية : ج ٣ / ٣٧٣.

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٧٣ ـ ٣٦٩.

٤٥

استعلام الأحكام المعلومة بالإجمال والرّجوع إلى أصالة الحرمة بالنّسبة إلى غيره من الظّنون ـ في كمال الاستقامة والجودة كما ستقف عليه ، بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها عند التّحقيق.

وقد عرفت : الفرق بين كون الشّيء أولى بالاعتبار والقدر المتيقّن من بين الظّنون ، وكونه معلوم الحجيّة في نفسه مع قطع النّظر عن ملاحظة غيره فيكون من الظّنون الخاصّة المعتبر انسداد باب العلم بها في الحكم بحجيّة الظّن على الإهمال أو الإطلاق من جهة دليل الانسداد المقصود بالبحث في المقام.

وأظنّ أنّه لا يختلط عليك الأمر بعد هذا البيان أصلا ، ولا تقع في شبهة من اشتبه عليه أمر هذا المعيّن بالظّن الخاصّ. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالجهة الأولى.

وأمّا الجهة الثّانية : وهو بيان مصداق هذا المفهوم وتشخيصه وتميزه من بين الظّنون التي علم بوجود المهملة فيها فهو في غاية الإشكال. وقد عرفت التّأمّل فيما أفاده الشّيخ المحقّق المحشّي قدس‌سره : من جعل مطلق ما قيل باعتباره من باب الظّن الخاصّ من مصاديقه.

والميزان في مصداق المتيقّن بقول مطلق وبالنّسبة إلى جميع الأمارات الظّنية ـ الّذي توصف بالحقيقي في لسان شيخنا قدس‌سره ـ أن يكون هناك ظنّ لم يحتمل أحد عدم اعتباره على تقدير حجيّة ظنّ عند الشّارع بخلاف غيره من الظّنون ، ولا يبعد أن يكون الخبر الصّحيح الجامع للشّروط الّتي ذكرها شيخنا قدس‌سره من مصاديقه ؛ إذ لم يقل أحد ممّن قال بحجيّة الظّن في الشّرعيّات في قبال من قال بحرمة العمل بالظّن مطلقا وانفتاح باب العلم بالأحكام الشّرعيّة ، بل قبح جعله على الشّارع كما

٤٦

عرفته عن ابن قبة بعدم حجيّته وحجيّة غيره وإن كان القائل بالتعدّي عنه وتعميم الحجيّة بالنّسبة إليه وغيره كثيرا ولو سأل عن حاله عن كلّ فريق منهم لقال بحجيّته ، ويعتبر في جعله مصداقا : أن لا يكون هناك إجماع بسيط على حجّيّته ، ولا دليلا قطعيّا آخر ، أو منهيّا إلى القطع يقتضي بحجيّته ، وإلاّ دخل في الظّن الخاصّ وخرج عن مفروض البحث كما هو ظاهر.

وأشكل منه : تحصيل المتيقّن بالإضافة ، بحيث يرجع إليه على تقدير عدم وجود المتيقّن الحقيقي ؛ وهو الخبر الجامع للشّروط الخمسة فيما بأيدينا من الأخبار ، أو عدم كفايته في استعلام الأحكام بالمعنى المتقدّم على تقدير وجوده ؛ لأنّه كلّما انتفى أحد الشّرائط احتمل كون غيره حجة دون الفاقد.

ومن هنا يظهر النّظر فيما قد يقال : من أنّ المتيقّن بالإضافة بالنّسبة إلى غير الخبر الجامع للشّروط الخمسة ، الخبر الجامع للشّروط الأربعة والمتيقّن بعده بالنّسبة إلي تمام غيره ، الخبر الجامع للشّروط الثّلاثة وهكذا.

وبالجملة : تطبيق هذين المفهومين على الجزئيّات الخارجيّة والأمارات الظنّية لا يخلو عن إشكال ، وليكن هذا في ذكر منك.

وأمّا الجهة الثّالثة : وهو كون المتيقّن بقسميه كلّ في محلّه ومعيّنا للمهملة على تقدير وجوده وكفايته بمعنى لزوم الاقتصار عليه وعدم جواز الأخذ بغيره لأصالة الحرمة ، فقد عرفت : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بل لا ينبغي التّكلم فيه ؛ لأنّه من القضايا الّتي قياساتها معها ؛ ضرورة انصراف المهملة إليه بالمعنى الّذي عرفته على تقدير وجوده ، فلا يحتاج إذن إلى النّقض والإبرام والأسئلة والأجوبة المذكورة

٤٧

في كلام المحقّق المحشّي (١) المتقدّم ذكره ، وإن كان كثير منها متعلّقا بالتّكلم في الصّغرى حقيقة دون الكبرى ، هذا كلّه بالنّسبة إلى الأسباب.

وأمّا بالنّسبة إلى المراتب فالظّاهر عدم وجود هذا المعيّن بالنّسبة إليها ؛ لأنّ جعل الضّعيف لخصوصيّة يراها الشّارع فيه أمر ممكن واقع عند أهل الظّنون الخاصّة فإنّ الأمارات الّتي ذهبوا إلى حجيّتها ليست أقوى ظنّا ممّا حكموا بعدم حجيّته. ألا ترى أن الشّهرة العظيمة أقوى ظنّا من غالب الأمارات الّتي حكموا بحجيّتها من باب الظّن الخاصّ؟ مع أنّها غير معتبرة عند المشهور.

(٩) قوله قدس‌سره : ( ولا يتوهّم : أنّ هذا المقدار المتيقّن من (٢) الظّنون الخاصّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هنا توهّمين :

أحدهما : ما عرفت الإشارة إليه مع فساده : من كون المراد من هذا المعيّن ما علم حجيّته بالخصوص وبالنّظر إلى نفسه من غير دخل لدليل الانسداد فيه ، وهو يرجع على ما عرفت إلى اشتباه هذا المتيقّن بما علم اعتباره بنفسه.

ثانيهما : ما أشار إليه قدس‌سره : من كون المراد من الظّن الخاصّ أعمّ ممّا علم اعتباره بنفسه لقيام دليل ناظر إليه ابتداء بعنوانه الخاص وممّا يرجع أمر الاعتبار بالأخرة إليه ، ولو كان من جهة كونه أولى بالاعتبار من محتملات مدلول الدّليل وقدرا متيقّنا منها.

__________________

(١) الشيخ محمّد تقي الاصفهاني صاحب الهداية.

(٢) كذا وفي الكتاب : المقدار المتيقّن حينئذ من الظنون ... إلى آخره.

٤٨

وهذا ليس في الوهن كالأوّل ؛ إذ معنى تردّد المهملة بين المطلقة الكليّة والجزئيّة المعيّنة المقيّدة إلى دوران الأمر بين كون الحجّة في حكم الشارع مطلق الظّن ، أو الظّن الخاصّ ولو كان مقيّدا بزمان الانسداد ؛ لأنّه لو لا احتمال مدخليّة السّبب الخاصّ في مدلول دليل الانسداد لم يكن معنى للإهمال.

فالإهمال إنّما هو من جهة احتمال اعتبار الشّارع الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ ، وليس الغرض من المعيّن إلاّ إثبات هذا المعنى ، فإذا عيّن فيصير الحاصل من دليل الانسداد بضميمة المعيّن حجيّة الظّنّ الحاصل من السّبب الخاص في زمان الانسداد.

ومنه يعلم : أنّ هذا التّوهّم جار بالنّسبة إلى جميع المعيّنات ولا اختصاص له بتيقّن الاعتبار كما هو واضح ، ومن هنا تمسّك في « المعالم » لحجيّة الخبر بدليل الانسداد (١) ، مع أنّه من أهل الظّنون الخاصّة ؛ نظرا إلى صرف نتيجة دليل الانسداد إلى الظّن القوي المنحصر في زعمه في خبر العادل الّذي ذكره.

ولكن يرد عليه : أنّ المراد من الظّن الخاصّ في كلماتهم وألسنتهم ما كان نظر الدّليل المثبت له أوّلا ، إلى السّبب من غير فرق بين اعتبار الظّن الشّخصي منه في الموارد الجزئية وعدمه ، كما هو المشاهد الواقع في الظّنون الخاصّة ؛ فإنّ اعتبارها ـ عند التّحقيق وأكثر المحقّقين ـ على هذا الوجه لا ما انصرف الدّليل إليه ولو بضميمة مقدّمة خارجيّة والدّليل الانسداد كما عرفت تحقيقه واعترف به المتوهّم ؛ إذ لا يثبت أوّلا اعتبار المتيقّن اعتباره على تقرير الكشف ، إلاّ بملاحظة

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٩٢.

٤٩

كونه متيقّنا من المهملة.

فاعتباره إنّما هو بالنّظر الثّانوي ، وعدّ صاحب « المعالم » وأضرابه من أهل الظّنون الخاصّة خبر العادل منها ، ليس من جهة تمسّكهم بدليل الانسداد ، بل لتمسّكهم في مسألة حجيّة الخبر بوجوه أخر اقتضت حجيّة الخبر بعنوانه الخاصّ ابتداء.

فإذا كان نظر الدّليل المثبت لحجيّة الظّن إلى وصف الظّن ، وإن انصرف إلى نوع منه بالملاحظة الثّانويّة هو الظّن المطلق ؛ من غير فرق بين أن يكون الدّال عليه الكتاب أو السّنة أو الإجماع أو العقل سواء كان على الأخير دليل الانسداد أو غيره كوجوب دفع الضّرر المظنون ونحوه ، ومن هنا تمسّك المحقّق القمّي قدس‌سره لحجيّة الظّن المطلق بآية النّبأ وأمثالها.

وإن كان نظره إلى السّبب الخاصّ من غير أن يستفاد منه اعتبار إطلاق اعتبار الظّن فهو ظنّ خاص. فعلى ما ذكرنا القائل باختصاص نتيجة دليل الانسداد بالظّن القوي الاطمئناني ، أو ما ظنّ اعتباره من الأمارات من أهل الظّنون المطلقة لا الظّنون الخاصّة وإن كانوا من أهل الظّنون الخاصّة بالمعنى اللّغوي والعرفي بالنّسبة إلى القائل بحجيّة الظّن بالمعنى الأعمّ ممّا قالوا به ؛ فإنّ الإطلاق والخصوصيّة أمران إضافيّان.

ومن هنا عدّ بعض من قال باختصاص النّتيجة بخصوص الظّن في المسألة الأصوليّة ، في عداد أهل الظّنون الخاصّة ، في قبال القول بحجيّة الظّن مطلقا من غير فرق بين تعلّقه بالمسألة الأصوليّة أو الفرعيّة.

فقد تقرّر ممّا ذكرنا أنّ هنا وجهين :

٥٠

أحدهما : إناطة الاختصاص والإطلاق بالسّبب الخاص وعدمه مطلقا من غير فرق بين أن يكون الاختصاص ذاتيّا أوّليّا أو عرضيّا ثانويّا ، وهذا هو الّذي بنى عليه المتوهّم ويساعده العرف العامّ واللّغة.

ثانيهما : إناطة الاختصاص والإطلاق بالاختصاص الذّاتي وعدمه وهو الّذي بنى عليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ، وهذا هو المراد من كلامه المتقدّم لا ما يتوهّمه المتوهّم ، وإن كانت العبارة قاصرة في إفادة المراد في ابتداء النّظر.

فالمراد أنّ الظّن الخاصّ ما ثبت اعتباره بغير دليل الانسداد ممّا كان نظره إلى السّبب الخاصّ ابتداء لا الأعمّ منه وممّا انصرف إليه الدّليل بملاحظة خارجيّة كما هو المفروض في المقام ، فليس المراد أنّ كلّما ثبت اعتباره بغير دليل الانسداد فهو ظنّ خاصّ وإن كان مقتضاه حجيّة الظّن على الإطلاق.

وممّا ذكرنا يظهر : الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل عقيب ما عرفت من الكلام ؛ فإنّ الوجه فيه عدم الجزم بإناطة الاختصاص والإطلاق في كلماتهم بالوجه الثّاني واحتمال كون المراد الوجه الأوّل وليكن ما ذكرنا في حفظ منك ، حتى لا تسلك من غير الطّريق في فهم عبارة « الكتاب » وهو الحافظ عن الخطأ ونسأله أن يحفظنا عن الخطأ في القول والعمل.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللاّزم في كلّ واحد ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٧٢ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره من التّعليل لكون القوّة معيّنة مبنيّ على ما تقدّم المناقشة فيه ؛ من عدم بطلان الاحتياط بعدم العلم الإجمالي بالتكاليف ، إلاّ في الجملة بقدر ما يندفع به الحرج والعسر الشّديد ، فيتعيّن بحكم العقل مخالفته

٥١

فيما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه ، يعني احتمال الوجوب والتّحريم في كمال البعد من جهة قيام الظّن القوي الاطمئناني على عدم الوجوب والتّحريم ، فيقتص عليه في مخالفة الاحتياط ويراعى مقتضى العلم الإجمالي في باقي المحتملات ممّا ظنّ فيه بالتّكليف مطلقا أو شكّ فيه ، أو ظنّ عدمه ، إذا لم يبلغ مرتبة الاطمئنان.

وقد عرفت : أنّ الكلام في إطلاق النّتيجة وإهمالها بعد الفراغ عن ثبوت أصلها والكلام المذكور مبنيّ على ما عرفت مرارا على عدم ثبوتها ، فالأولى بل المتعيّن أن يعلّل ذلك : بأنّ حكم العقل الإدراكي على تقدير تسليمه كما هو مبنى البحث عن المعيّنات بالنّسبة إلى الظّن وكونه حجّة عند الشّارع إنّما هو من جهة كونه أقرب إلى الواقع من الشّك والوهم ، فإذا كان المدرك مردّدا بين المطلقة والجزئيّة بحسب المرتبة وكان هذا المناط العقلي موجودا في الأقوى على الوجه الأتمّ والأكمل ـ والمفروض كفايته في الفقه ـ فلا محالة يستكشف حجيّته ويحكم بوجوب الاقتصار عليه ، بضميمة أصالة حرمة العمل بغير العلم.

وإلى هذا الوجه يشير كلامه قدس‌سره فيما سيجيء عند الاعتراض على هذا المعيّن.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك : أنّ هذا المعيّن ناظر إلى التّعيين بحسب المرتبة ولا دخل له بالأسباب أصلا ؛ ضرورة أن الظّن الأقوى لا يستند دائما إلى أمارة معيّنة ؛ لأنّ ما يحصل الظّن الأقوى منه بالنّسبة إلى مورد لا يلزم حصول هذه المرتبة منه بالنّسبة إلى مورد آخر ، والمفروض عدم إناطة الحجيّة بالظّن النّوعي ، حتّى يقال : إنّ في الأمارات ما يكون أقوى نوعا من غيرها كالخبر الصّحيح الأعلائي

٥٢

والشّهرة المحقّقة العظيمة مثلا.

(١١) قوله قدس‌سره : ( ورجحان كونه بدلا عن الواقع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ رجحان البدليّة عن الواقع بمعنى تدارك ما فات عن الواقع من المصلحة بسلوك الأمارة ، أعني : ظنّ اعتبارها إنّما هو فيما تعلّق الظّن باعتبارها على وجه يلزم تدارك الواقع في حكم العقل من سلوك المؤدّي إلى خلاف الواقع ، كما إذا ظنّ بحجيّتها حتّى في زمان انفتاح باب العلم بالواقع وقلنا بأنّ جعلها في هذا الزّمان يكشف عن وجود المصلحة المتداركة بقول مطلق حتّى بالنّسبة إلى زمان الانسداد.

وأمّا إذا لم يتعلّق الظّن باعتبارها على الوجه المزبور ؛ بأن تعلّق باعتبارها في خصوص زمان الانسداد ، أو تعلّق باعتبارها على وجه الإطلاق ، وقلنا بأنّه لا يلزم في حكم العقل وجود المصلحة المتداركة ، إلاّ بالنّسبة إلى زمان الانفتاح لعدم استناد فوت الواقع إلى الأمارة المفروضة بالنّسبة إلى زمان الانسداد ؛ فإنّه يكفي في التّرجيح بالنّسبة إلى زمان الانسداد كونه أغلب مطابقة في نظر الشّارع من سائر الأمارات ، فلا يلزم من الظّن بالاعتبار رجحان البدليّة ولو من جهة احتمال ما ذكرنا ، فإنّه يكفي في نفي الملازمة ولو جعل الوجه في الترجيح أقربيّة احتمال التدارك فيما ظنّ اعتباره بالنّسبة إلى ما شك اعتباره أو ظنّ عدمه ؛ نظرا إلى أنّ ما ظنّ اعتباره بالخصوص إنّما هو من القسم الأوّل ؛ لأنّ اعتبار الأمارة من حيث الخصوص في خصوص زمان الانسداد مجرّد فرض غير واقع ، كما أنّ التّفكيك في المرجّح لجعل الأمارة الواحدة بالنّسبة إلى الزّمانين في كمال البعد ، أو جعل الوجه : أنّ مظنون الاعتبار من حيث كونه مشتملا على المصلحة المتداركة ظنّا أو

٥٣

أغلب مطابقة من سائر الأمارات كذلك ، حيث إنّ المرجّح لتخصيصها لا يخلو من أحد الأمرين ، لكان أوفق ، فتأمّل.

(١٢) قوله قدس‌سره : ( ونظير ذلك ممّا* لو تعلّق غرض المريض بدواء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّه لا بدّ أن يكون الدّواء المتعلّق بالغرض ذا أصناف وأقسام كالمسهل ؛ ضرورة أنّه إذا لم يكن كذلك لم يمكن تعلّق الظّنّين بالنّسبة إلى موضوعين ، فإذا فرض تعلّق الغرض بالأيارج (١) مثلا فظنّ كونه المعجون الفلاني فلا محالة يظنّ بعدم كون غيره الأيارج وإن أمكن الظّن بكونه بدلا عنه في الخواصّ والآثار ، وهذا أمر واضح لا سترة فيه تعلّق الغرض بالتّنبيه عليه وإلاّ فليس ممّا يعتنى بشأنه.

(١٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ البعض المظنون الحجيّة قد يعلم بالتّفصيل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

الظن تفصيلي وإجمالي

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من كون متعلّق الظّن قد يكون أمرا مفصّلا ممتازا في الخارج ، وقد يكون مجملا مردّدا بين أمرين ، أو أمور ، فيتّصف الظّن بالتّفصيل

__________________

(*) كذا وفي الكتاب : ونظير ذلك ما لو تعلّق ... إلى آخره.

(١) قال الشيخ الرئيس في قانونه : « الأيارج هو أسم للمسهل المصلح ، هذا تأويله. وتفسيره الدواء الالهي ... وإنما يقال للمسهل دواء إلهي لأن عمل المسهل أمر إلهي ، مسلم من قوى طبيعته. أنظر القانون ج ٣ / ٣٤٠.

٥٤

والإجمال بالاعتبارين كالعلم أمر واضح لا سترة فيه أصلا كوضوح ما أفاده في بيان مصداق الظّن الإجمالي ، حيث إنّه بعد العلم الإجمالي بجعل الظّن ؛ نظرا إلى دليل الانسداد حيث إنّه فرض إهمال نتيجته والظّن التّفصيلي بعدم اعتبار جملة من الأمارات حتّى في زمان الانسداد وكونها ملحقة بالقياس حكما أو موضوعا ، يظن بأنّ الحجّة في غيرها كلاّ أو بعضا ، فيكون البعض اللاّبشرط مظنون الاعتبار لا محالة هذا.

وقد عرفت من كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره فرض القسمين أي : الإجمال والتّفصيل بالنّسبة إلى المعيّن الأوّل أيضا كما فرضهما بالنّسبة إلى هذا المعيّن حيث إنّه يمكن أن يقال ـ بعد فرض عدم العلم التّفصيلي بما تيقّن اعتباره من الأمارات ـ : إنّا نعلم إجمالا بأنّ فيما قيل باعتباره من حيث الخصوص على اختلاف أنواعه وأقسامه واختلاف الأصحاب فيه ، ما يكون أولى بالاعتبار بالنّسبة إلى غيره فيكون الأخذ بتمام أطراف هذا المتيقّن المعلوم بالإجمال وهو جميع ما قيل باعتباره من حيث الخصوص متعيّنا في نظر العقل بالنّسبة إلى ما يكون خارجا من أطرافه هذا.

ولكنّك خبير : بأنّ تصوير ما أفاده في غاية الإشكال حيث إن اختلافهم إن كان راجعا إلى الظّنون المتداخلة ؛ بأن كان ممّا اتّفق عليه الكلّ ، كالخبر الجامع للشّروط الخمسة الّذي تعرّض له شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فهو معلوم تفصيلا فيما لم يبلغ اتّفاقهم مبلغ الإجماع ، وإلاّ كان من الظّنون الخاصّة على ما أسمعناك سابقا وإن رجع إلى الظّنون المتباينة : بأن ذهب كلّ فريق إلى حجّيّة ما ينكره الفريق الآخر ، فليس متيقّن معلوم بالإجمال.

٥٥

ضرورة أنّ اختلافهم ليس راجعا إلى الاختلاف في تشخيص المتيقّن ، حتّى يقال : بأنّه راجع إلى الاختلاف في الخصوصيّة بعد الاتّفاق على القدر المشترك فيستكشف وجوده بين الخصوصيّات المختلفة ، بل راجع إلى ما اجتهدوا في حجيّته من حيث الخصوص فإن كان راجعا إلى الاختلاف في تعيّن القدر المشترك بعد كونه مسلّما بينهم فيستكشف من حجّيّته بالخصوص ، فيخرج عن محلّ الفرض إن بلغ مبلغ الإجماع ، وإلاّ فلا فائدة فيه أصلا ، إلاّ أن يحمل كلامه على مجرّد الفرض وإن كان متعلّقا بأمر محال حيث إنّ فرض المحال ليس محالا.

(١٤) قوله قدس‌سره : ( والّذي ينفع ، غير مسلّم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٤ )

أقول : المراد نفي التّسليم بالنّظر إليه على سبيل الإطلاق كالظّن بالاعتبار ، لا نفيه بالنّظر إليه في الجملة ، فإنّه يسلّم كونه مرجّحا كذلك كما ستقف على تفصيل القول فيه.

(١٥) قوله قدس‌سره : ( لكونه معلوم الحجيّة تفصيلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٤ )

أقول : المراد كونه كذلك بعد انضمام العلم بحجيّة الظّن في الجملة الّذي حصل من دليل الانسداد على تقرير الكشف لا كونه كذلك بالذّات وإلاّ خرج عن محلّ الفرض وهو ظاهر ، ومن هنا قد يقال : إنّ إطلاق المرجّح بمعنى المعيّن عليه لا ضير فيه فتدبّر.

(١٦) قوله قدس‌سره : ( مع أنّه لو كان بنفسه كثيرا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٥ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره :

تارة : بأنّه إذا فرض كفاية المتيقّن اعتباره من جهة كثرته فلا يسلّم العلم

٥٦

بطرو خلاف الظّواهر فيها إجمالا حتّى تكون من قبيل ظواهر الكتاب المعلوم عدم إرادة الظاهر منها فضلا عن تسليم العلم بأنّ صارفه في غيره لم لا يكون فيه. نعم ، لو كان فرض كفايته من جهة اشتماله على عمومات وإطلاقات شاملة لغالب المسائل الفقهيّة وكان هناك مخصّصات ومقيّدات كثيرة في غيره ممّا لم يبلغ تلك المرتبة أمكن دعوى العلم الإجمالي بطروّ خلاف الظّاهر فيه وكون الصّارف من غير جنسه والمفروض في كلامه قدس‌سره غير المفروض.

وأخرى : بأنّ فرض العلم الإجمالي المذكور لا يجامع كثيرة ما فرضه متيقّنا من بين الأمارات لأنّه كما صرّح به الخبر الجامع للشّروط الخمسة مع فرض حصول الظّن الفعلي منه بالحكم ؛ لأنّ النتيجة سواء فرضت مهملة أو كلّيّة حجيّة الظّن الشّخصي لا النّوعي ، فالمتيقّن اعتباره من الظّنون الشّخصيّة الخبر الجامع للشّروط الخمسة ومن المعلوم عدم إمكان حصول الظّن الفعلي منها مع فرض وجود العلم الإجمالي بوجود الصّارف له.

ومنه يعلم : أنّ اعتبار عدم الوهن بمعارضة شيء من الأمارات مستغني عنه ؛ إذ الكلام في الظّن الفعلي ومع الوهن من جهة المعارضة لا يحصل الظّن من الخبر فتأمل.

نعم ، لو كان المستكشف من دليل الانسداد حجيّة الظّنون النّوعية أمكن دعوى بقاء الخبر الجامع للشّروط الخمسة على إفادة الظّن النّوعي مع العلم الإجمالي المذكور ؛ ضرورة أنّه يجامع القطع بالصّدور فضلا عن الاطمئنان به كما في ظواهر الكتاب.

فلا يتوجّه إذن المناقشة الثّانية وإن كانت هذه الدّعوى فاسدة عندنا وعند

٥٧

شيخنا قدس‌سره ؛ نظرا إلى إيجاب العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظّاهر من العمومات والإطلاقات إجمالها إذا بلغ حدّ الشّبهة المحصورة كما هو المفروض ، فلا يبقى ظهور أصلا ، فكيف يدّعي حصول الظّن منها ولو نوعا؟

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره ممّا أفاده أنّ مجرّد كثرة الخبر الجامع للشّروط الخمسة لا يوجب الحكم بوجود المتيقّن الكافي نظرا إلى عدم بقائه على شرائط الحجيّة من جهة العلم الإجمالي الموجب للإجمال ، فالمنع يرجع حقيقة إلى وجود المتيقّن وصفا وإن كان ذاته موجودة كما هو ظاهر فتدبّر.

فلا بدّ إذن أن يتسرّى إلى المتيقّن بالإضافة على تقدير وجوده وكفايته.

اللهمّ إلاّ أن يمنع وجوده ؛ نظرا إلى عدم ميزان يميّز به المتيقّن بالإضافة إلى غير المتيقّن الحقيقي من الأمارات الأخر ، ولأجله أمر قدس‌سره بالتّأمّل بعد الحكم بالتّسرية ، أو لما ستعرفه بعد ذلك من كلامه قدس‌سره.

(١٧) قوله قدس‌سره : ( ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّة له متعسّر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٥ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على كون المراد من هذا المرجّح إناطة التّرجيح بمطلق القوّة والضّعف الإضافيّين ؛ إذ كما أنّ أصل تشخيص مراتب الظّن في نفسها من جهة كثرتها وغموضها بالشّدّة والضّعف في غاية الإشكال ، كذلك تشخيص مرتبة الظّنّين الموجودين في المسألتين ، بل الإشكال في الثّاني ناش عن الإشكال في الأوّل عند التّحقيق.

وأمّا لو كان المراد إناطته بالقوّة البالغة حدّ الاطمئنان فلا يتوجّه عليه المناقشة المذكورة الرّاجعة إلى المنع الصّغروي كما اعترف به قدس‌سره فأورد عليه : أوّلا :بندرته بعد الحكم بكونه ملحقا بالعلم حكما بل موضوعا الّذي لم يعلم المراد منه

٥٨

فإنّ الإلحاق بالعلم الطّريقي حكما لم يعلم له وجه ، وبالموضوعي كذلك ، والإلحاق الموضوعي لا وجه له أصلا ، وإن قال به بعض مشايخنا قدس‌سره (١). اللهمّ إلاّ أن يراد الإلحاق الموضوعي بالمسامحة كما ذكره سابقا عند الكلام في حجيّة أخبار الآحاد بالخصوص ، وكيفما كان لا إشكال في انضباط هذه المرتبة.

وأمّا الإيراد عليه بالنّدرة ، فقد يناقش فيه أيضا : بمنع النّدرة لكثرة الظّنون الاطمئنانيّة في الفقه. فينحصر الإيراد الوارد فيما أفاده ثانيا ؛ بقوله : « مع أنّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المهملة محلّ منع ... إلى آخره » (٢) لأنّك قد عرفت سابقا : أنّ العقل لا يستكشف بالنّظر إلى مقدّمات الانسداد جعل خصوص الظّن الاطمئناني كما يحكم به على تقدير الحكومة. كيف! ولو كان كذلك لم يكن معنى للإهمال بالنّسبة إلى المرتبة ، بل النّتيجة كشفا أو حكومة مختصّة بالظّن الاطمئناني.

وبالجملة : لا مناص عن الإيراد الثّاني أصلا على ما عرفت الكلام فيه.

__________________

(١) الشيخ محمّد حسن النجفي في جواهره ، أنظر الجواهر : ج ٤٠ / ٥٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٧٥.

٥٩

(١٨) قوله قدس‌سره : ( مع أنّ الوجه الثّاني لا يفيد لزوم التّقديم ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٧٦ )

__________________

(١) قال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

« الظاهر أنه أراد الأولويّة الشأنيّة لا الفعليّة ، لأنّ الأولويّة الفعليّة إنّما تتصّور لو كان الأمر دائرا بين التخيير بين الأخذ بأبعاض الظنون وترجيح الظنّ المظنون الحجّيّة إذ لا ريب حينئذ في أولويّة الأخذ بهذا البعض المظنون الحجّيّة ، بل تفيد هذه الأولويّة لزوم التقديم بناء على لزوم الأخذ بالمعيّن في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

وأمّا إذا قلنا إنّ التخيير بين أبعاض الظنون خلاف الإجماع كما هو مفروض المتن ، فالأمر يدور في مسألتنا بين الأخذ بالظنون المظنون الحجّيّة فقط أو الأخذ بالجميع ، والمفروض أنه على تقدير عدم ثبوت الترجيح يحكم بالتعميم جزما وأنّ الظنّ القائم على الحجّيّة لم يثبت إعتباره فلا بد من الحكم بالتعميم فأين الأولويّة الفعلية؟! هذا.

ثم لا يخفى أن العبارة المذكورة لا تخلو عن حزازة وكان المناسب أن يقول :

« ففيه : ان الوجه الثاني مع انه لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته أن الترجيح ... إلى آخره » فتدبّر ». إنتهى. حاشية الفرائد تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٦٢١.

* وقال شيخ الكفاية رضوان الله تعالى عليه :

« وذلك لأنّ الإهتمام في المقام إنّما هو بحصول الفراغ والبراءة عن تبعة التكليف المعلوم بالإجمال لا بإحراز المصلحة ، مع أن التدارك على تقدير المخالفة إنّما هو على تقدير أن يكون الأمر بسلوك الأمارة لأجل المصلحة في سلوكها لا للمصلحة في نفسه ، وتصوّره لا يخلو عن غموض وإشكال ... إلى آخره » درر الفوائد : ١٥٦.

* وعلّق الفاضل الكرماني على كلمة المحقق الخراساني قائلا :

« أقول : إذا كان التكليف الذي يطلب الفراغ منه لأجل إحراز المصلحة فتحصيل الفراغ منه بإحرازها أولى من تحصيله بما لا يحصل به إحراز المصلحة ، وإذا كان تدارك المصلحة

٦٠