بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

للأصل ـ ما هذا لفظه :

« والمراد به هنا : المعنى الأوّل أعني : القاعدة ، فالمعنى القاعدة المحرّرة في البراءة أو البراءة دون الدليل ، لعدم ملائمته للمقام ؛ فإن البحث هنا عن مدلوله لا نفسه ودون الاستصحاب وإن كان من جملة أدلّته لاختلاف مدارك المسألتين وأقوالهم فيهما ودون الرّاجح ؛ إذ المراد به المظنون أو المقطوع به ولا يسمى أصلا في عرفهم. ولا خفاء في أن البراءة إن قيست إلى الواقع فقد لا يكون ظنّ بها ، وإن قيست إلى الظاهر فهي مقطوع بها » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال قدس‌سره ـ في مقام آخر بعد ذكر الاستصحاب من أدلة البراءة ـ ما هذا لفظه : « ولا يخفى أن هذا الدليل أخصّ من المدعى ؛ إذ بين مورد الاستصحاب ومورد أصل البراءة عموم من وجه لجريان الاستصحاب في غير البراءة ، وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدّم براءة كمن علم بوقوع جنابة وغسل عمّا في الذمّة منه وشك في المتأخر ؛ فإن قضيّة أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين (٢) واللبث في المساجد ، وقراءة العزائم عليه ، مع أنه لا معنى حينئذ للاستصحاب » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٥١.

(٢) المسجد الحرام والمسجد النبوي في المدينة كما هو ظاهر.

(٣) المصدر السابق : ٣٥٢.

٣٨١

وذكر بعض الأفاضل ـ بعد الجزم بالتخلّف وكون النسبة العموم من وجه ـ : « أنه يتخلّف البراءة في مسألة القضاء ؛ فإن مقتضى البراءة عدم وجوبه ، ومقتضى استصحاب التكليف الثابت أوّلا وجوبه » (١). انتهى كلامه.

ويظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره جواز إرادة غير القاعدة أيضا فراجع « القوانين ». والتحقيق ما عرفت إلاّ أن ما ذكره الفاضلان لعدم جواز إرادة الاستصحاب من جهة اختلاف النسبة ، كما ترى ؛ فإنا لا نتصور جريان البراءة فيما ليس له حالة سابقة.

أمّا ما ذكره في « الفصول » مثالا لمورد التخلّف فيتوجّه عليه : أن العلم الإجمالي بوجود الجنابة والغسل ، والشك في التّقدم والتأخر مع احتمال الجنابة السابقة أيضا كما هو لازم ما فرضه من حيث إنّ قصد الغسل عما في الذمّة مع الالتفات يوجب العلم بتقدّم الجنابة المعلومة مع عدم احتمال الجنابة السابقة.

وحاصله : عدم العلم بالحالة السابقة إن لم يمنع من التمسّك بالبراءة بالنّسبة إلى الجواز في المسجدين واللبث في سائر المساجد ، لم يمنع من استصحابها وعدم الحرمة الأزليّة ، غاية ما هناك تعارض أصالة عدم تقدّم كلّ من الحالتين بأصالة عدم تقدّم الأخرى ، وإن منع منه ؛ نظرا إلى العلم بحدوث التكليف بالحرمة بالنّسبة إليهما من العلم بحصول الجنابة ، والمفروض الشّك في ارتفاعها منع من

__________________

(١) لم نعثر عليه عجالة.

٣٨٢

استصحابها أيضا. وبالجملة : لم يعلم وجه لتخلّف استصحاب البراءة من أصل البراءة في المقام.

وأمّا ما ذكره بعض الأفاضل : من مورد التخلّف في مسألة القضاء فلم يعلم له محصّل أيضا ؛ لأنه على القول بكون القضاء بالفرض الجديد كما هو مبنى الرّجوع إلى أصالة البراءة كما يجري أصالة البراءة عن القضاء عند الشك في الفوت ، كذلك يجري استصحاب البراءة الأزليّة عن التكليف بالقضاء لفرض الشك في أصل حدوثه بالفرض ؛ فيستصحب عدمه من غير فرق بين العلم بالفوت في الجملة ، وتردّد الغائب بين الأقلّ والأكثر وعدم العلم به كما هو الظاهر بما فرضه ، هذا على القول بكون القضاء بالفرض الجديد.

وأمّا على القول بكونه بالفرض الأوّل فيجري أصالة الاشتغال بالنسبة إلى خارج الوقت عند الشك كما يجري بالنسبة إلى الإتيان عند الشك في الإتيان في بعض أجزاء الوقت إلاّ أن يتمسّك بقاعدة الشك بعد خروج الوقت ولا دخل لها بأصل البراءة كما هو ظاهر.

وبالجملة : لا إشكال في عدم انفكاك البراءة عن الحالة السابقة ، وإن لم يجر الاستصحاب في مورد جريان البراءة وكذا العكس على ما عرفت شرح القول فيه وستعرفه.

٣٨٣

البحث عن حكم الشك في المقام أصولي أم لا؟

الثاني (١) : أن البحث عن حكم الشك في المقام هل هو بحث عن المسألة الأصوليّة أو الفقهيّة أو المباديء الأحكامية؟ وجوه ، لكلّ وجه ، أوجهها عند شيخنا قدس‌سره : الأوّل ؛ نظرا إلى أنه الأوفق بتعريف الأصول : بأنه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وإلى أنه لا حظّ للعامي فيه ، وهذا من خواصّ المسألة الأصوليّة ؛ فإنّها لمّا مهدت للاستنباط لم يكن حظّ لغير المستنبط فيها ، وإلى عنوانه في علم الأصول وذكره في عداد الأدلّة العقليّة ، فلا فرق فيما ذكر بين الاستناد في البراءة أو الاحتياط إلى حكم العقل بهما أو إلى النقل.

وربّما يرجّح الثاني ؛ نظرا إلى أن التكلّم في هذه المسألة نظير التكلّم في سائر القواعد الفقهيّة المستفادة من الأدلّة كقاعدة نفي الجرح ، والضّرر ، والتسلّط ، واليد ، وأشباهها ، وإن استفيدت من الأدلّة بإعمال المسائل الأصوليّة كما هو الشأن في استنباط جميع المسائل الفرعيّة ، هذا كله بناء على كونها قاعدة ظاهريّة سواء كان مدركها العقل أو النقل.

أمّا بناء على كون اعتبارها من باب الظن ، فالتكلّم فيها نظير التكلّم في الاستصحاب من باب الظّن وسيجيء شرح القول فيه في الجزء الثالث من

__________________

(١) أي : الأمر الثاني من الأمور التي أراد التنبيه عليها.

٣٨٤

التعليقة (١) كما أنك ستقف على كون مختاره في باب الاستصحاب (٢) ربّما ينافي ما أفاده في المقام في مجلس البحث.

دفع إشكال في المقام

الثالث : أنه قد يستشكل في جعل البراءة والاشتغال العقليّين من الأدلّة العقليّة أو الأحكام الظاهريّة الثابتة للشاك ؛ لأن الذي يحكم به العقل في باب البراءة هو مجرّد قبح العقاب من غير بيان. ومعلوم أنّ هذا لا دخل له بالحكم الشرعي ، وحكمه بعدم الوجوب ظاهرا على تقدير تسليمه ليس حكما بالحكم الشرعي ؛ ضرورة أنّ الحكم الشرعي هو الوجوب لا عدمه ، وإلاّ لزم جعل الأحكام الشرعية عشرة لا خمسة ، وجه اللزوم كوجه بطلان التالي أظهر من أن يحتاج إلى البيان. والترخيص المطلق اللازم لنفي الوجوب ليس من الأحكام الشرعيّة أيضا.

نعم ، هو جنس لما عدا الحرام من الأحكام الأربعة. ومنه يظهر : تطرّق الإشكال إلى جعل البراءة من الأحكام الظاهريّة إذا استندت إلى الشرع أيضا بالنسبة إلى أكثر أخبارها ؛ فإن مساقه مساق حكم العقل كحديث الرفع وأشباهه ممّا يكون ظاهرا في نفي المؤاخذة ؛ فإن الظاهر منه تأكيد حكم العقل بذلك ، هذا

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٧.

٣٨٥

بالنّسبة إلى حكم العقل في باب البراءة.

وأما حكمه بالاشتغال ؛ فلأن مبناه كما عرفت الإشارة إليه مرارا وستعرف الكلام فيه تفصيلا على وجوب دفع الضّرر المحتمل. ومن المعلوم أن حكمه بذلك إرشاديّ محض لا يستتبع حكما شرعيّا في الواقعة ، لا واقعيّا ولا ظاهريا ، بل الأمر كذلك في حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون أو المقطوع فضلا عن المحتمل على ما أسمعناك في محلّه.

ومنه يظهر الكلام فيما لو استند فيه إلى الشرع أيضا ؛ فإن مساق أخباره بأسرها مساق حكم العقل على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط. اللهمّ إلاّ أن يقال : كفاية هذا المقدار في جعل الاشتغال من الأصول الظاهرية ؛ فإنه أيضا نحو من الحكم بالوجوب وإن لم يكن طلبا شرعيّا مولويا ، فبقي الإشكال بالنسبة إلى البراءة.

فإن قلت : إنا نفرض الكلام فيما لو دار الأمر بين الوجوب والإباحة فإذا نفي الوجوب بالأصل المذكور ثبتت الإباحة من جهة الدوران المفروض وهي من الأحكام الشرعيّة ، وهكذا في دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب ونحوه.

قلت ـ مضافا إلى عدم اختصاص محل الكلام بدوران الأمر بين الحكمين ـ : إنه مبنيّ على جواز إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل ؛ ضرورة تضادّ الأحكام بأسرها وهو ممنوع عندنا على ما عرفت الإشارة إليه ، وستعرف الكلام فيه مفصّلا : من عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة من غير فرق بين

٣٨٦

الاستصحاب وغيره من الأصول هذا.

ويمكن الذبّ عن الإشكال المذكور : بأن العقل يحكم في موارد البراءة من جهة حكمه بقبح العقاب من دون بيان بعدم الحرج في الفعل والترك وجواز كل منهما وهذا المعنى مساوق للإباحة الظاهريّة ، ولا ينافيه العلم الإجمالي بكون حكم الواقعة في نفس الأمر غير الإباحة في بعض الموارد ، كما لا ينافي العلم المزبور الحكم بالإباحة الشرعيّة الظاهرية في ذلك الموارد فتأمل.

في الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة

الرابع (١) : أن الوجه في عنوانهم أصالة الإباحة مستقلاّ في قبال أصالة البراءة والفرق بينهما وإن كان مذكورا في محلّه ، وتقدّمت الإشارة إليه في الجزء الأوّل من التعليقة ، إلاّ أنا نشير إلى جملة من وجوه الفرق في المقام أيضا :

منها : أن أصالة الإباحة في مقام نفي احتمال التحريم ، وأصالة البراءة في مقام نفي احتمال الوجوب.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث حكم العقل ، وفي أصالة البراءة من حيث حكم الشرع.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث الحكم الواقعي ، وفي أصالة

__________________

(١) أي : الأمر الرابع من الأمور التي أراد التنبيه عليها.

٣٨٧

البراءة من حيث الحكم الظاهري.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث الحكم الشرعي الظاهري ، وفي أصالة البراءة من حيث الحكم بمجرّد نفي المؤاخذة والعقاب من غير أن يستتبع حكما شرعيّا ولو في مرحلة الظّاهر. إلى غير ذلك مما ذكروه من وجوه الفرق بينهما. والحقّ ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا في الجزء الأوّل من التعليقة من كون أصالة الإباحة قسما من أصالة البراءة.

ومما ذكرنا يظهر : الفرق بين أصالة الحلّ وأصالة البراءة أيضا ؛ فإنّها من أقسام أصالة البراءة أيضا. والفرق بينها وأصالة الإباحة : أنها تستعمل في مقابل احتمال الحرمة في الشبهات الموضوعيّة ، وأصالة الإباحة تستعمل في قبال احتمال الحرمة في الشبهات الحكميّة فتدبّر.

* * *

٣٨٨

* المقام الأوّل :

في البراءة والاشتغال والتخيير

* الموضع الأوّل :

« الشك في نفس التكليف »

وفيه مطالب :

* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة

٣٨٩
٣٩٠

* الموضع الأوّل :

الشك في نفس التكليف

(٩١) قوله قدس‌سره : ( وصور الاشتباه كثيرة وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٧ )

أقول : أما كثرة صور الاشتباه ؛ فلأن الدوران بين التحريم وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة على ما عرفت الإشارة إليه ، قد يعتبر ثنائيّا كالتحريم والإباحة ، أو التحريم والكراهة ، أو التحريم والاستحباب ، وقد يعتبر ثلاثيّا وصوره أيضا ثلاثة ، وقد يعتبر رباعيّا وله صورة واحدة ، وكذلك دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم من الأحكام الثلاثة الباقية.

ولمّا كان المقصود بالبحث في جميع صور الدوران التي عرفتها ، معرفة حالها من حيث البناء على البراءة ونفي الحكم الإلزامي في مرحلة الظاهر والبناء على وجوب الاحتياط ورعاية احتمال الحكم الإلزامي ، لم يجعل لكلّ صورة عنوانا مستقلا ؛ لعدم الفرق بينها من الجهة المقصودة بالبحث ؛ وإن كان بينها فرق من جهة أخرى كما في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة مثلا ، أو دوران الأمر

٣٩١

بين الوجوب والاستحباب ؛ فإنه لو فرض هناك حكم مترتب على مطلق مرجوحية الفعل ترتّب على الأوّل ، كما أنّه لو فرض هناك حكم مترتّب على مطلق رجحانه ترتّب في الثاني ؛ لكون كل منهما معلوما بالفرض وإن لم يثبت بالبراءة عن التحريم الكراهة في الأول ، وبالبراءة عن الوجوب الاستحباب في الثاني ؛ فيجمع بين ترتّب آثار القدر المشترك في الصورتين ونفي الخصوصيتين فيهما.

وأمّا ما أفاده بقوله : « وهذا مبني ... الى آخره » (١) فهو غير محصّل المراد ؛ فإن ما أفاده من اختصاص التكليف بالإلزام ، إن أراد منه الاختصاص عند العلماء فقد اتفقوا على تعميمه بالنسبة إلى جميع الأحكام الخمسة حتى الإباحة.

وإن أراد منه الاختصاص بحسب اللغة والعرف العام فهو مبنيّ على كون الحكم في المقام مترتّبا في جميع الأدلّة اللفظيّة كتابا وسنة على لفظ التكليف.

وهو وإن كان كذلك بالنسبة إلى بعض الآيات وجملة من الأخبار التي ستمرّ عليك ، إلاّ أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق ولا ينفع كون لفظ التكليف واقعا في موضوع البعض ، وإن كان الظاهر من لفظ الكلفة في اللغة والعرف الإلزام ، فعلا أو تركا. مع أنه لا حاجة إلى هذا الظهور عند التحقيق ؛ لأن المشتمل على لفظ التكليف ظاهر في الإلزام لاقترانه في أكثره بما يكون دليلا عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨.

٣٩٢

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (١) ونحوه؟ فإنه بقرينة لفظ « الوسع » ظاهر في نفي التكليف الإلزامي كما هو ظاهر.

وأمّا ما أفاده : من اختصاص الخلاف بين العلماء في البراءة والاحتياط بما هناك احتمال الإلزام (٢) ، فهو متعيّن ظاهرا وليس محلاّ للترديد ؛ إذ المستفاد من كلماتهم كأدلّة الطرفين نقلا وعقلا اختصاصه به كما يعلم من الرجوع إليها والتأمّل في أدلّة القولين ؛ لأن حكم العقل بالبراءة مبنيّ على قاعدة قبح العقاب من غير بيان ودفع العقاب المحتمل ، والأدلة النقلية أكثرها صريحة في ذلك وبعضها ظاهر فيه كما ستقف عليها ؛ لأنّ جملة من أخبار البراءة في بيان إثبات الطلق والحليّة في موارد احتمال النهي والأمر ، وأخرى : ظاهرة في نفي المؤاخذة والعقاب على ما لا يعلم ، وكذا أخبار الاحتياط ظاهرة في إثبات الحكم عند احتمال التهلكة ؛ فلا معنى مع ذلك لتعميم محل البحث.

فإن شئت قلت : بعد القطع بجواز كل من الفعل والترك لا يحتاج اختيار أحدهما إلى البناء على حكم خاصّ بل ينفى كل من الخصوصيّات المحتملة بالنّسبة إلى الأحكام المترتبة عليها بأصل العدم ، ففي دوران الأمر بين الاستحباب والإباحة مثلا يحكم بجواز الفعل قطعا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨.

٣٩٣

وأما الحكم المترتّب على خصوص الاستحباب فيفي بالأصل ، بل الحق نفي الإباحة الخاصّة أيضا بالأصل فيما فرض هناك حكم مترتّب عليها. نعم ، في دوران الأمر بين الاستحباب والكراهة التعبديّين ـ لو فرض في الشرعيّات ـ يمكن الحكم بجريان التخيير كدوران الأمر بين الوجوب والتحريم التعبّديين فتأمّل.

ولو قال عند عدم احتمال الحكم الإلزامي : حكمه يعلم من الرجوع إلى الأصول والقواعد بعد استظهار اختصاص النزاع في المسألة بما كان هناك احتمال الإلزام فعلا أو تركا ، أو فعلا وتركا ، كان أولى مما أفاده في تحرير المقام كما لا يخفى وجهه.

والمراد من المستحب والمكروه في العبارة هما باعتبار عنوانهما ، فلو أبدلهما بالاستحباب والكراهة كان أولى هذا.

ولكن ظاهر المحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » : تخصيص التكليف بالإلزام. ولذا خصّ محلّ الكلام بموارد وجود احتماله.

وقال في « الفصول » ـ بعد نقل ما عرفته عن « القوانين » ـ :

« ولعلّه ناظر إلى ما قيل : من أن التكليف مأخوذ من الكلفة ومعناه الإلقاء في المشقة ولا يصدق على غيرهما ، وضعفه ظاهر ؛ لأن ذلك معنى التكليف لغة. وأمّا

٣٩٤

في الاصطلاح فهو الأعم من ذلك » (١).

إلى أن قال :

« وكان المتداول في كلامهم استعمال أصل البراءة في نفي الوجوب ، وأصل الإباحة في نفي التحريم والكراهة ، والتعميم أولى بالمقام لصلوح اللفظ له بالمعنى الذي ذكرنا مع اشتراك الجميع في الأدلّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير : بأن تعميمه التكليف بحسب الاصطلاح وإن كان جيّدا ، إلاّ أنّ حكمه بتعميم العنوان لما يشمل غير الإلزام من جهة عموم أدلّة البراءة قد عرفت ما فيه ؛ نظرا إلى اختصاصها عقلا ونقلا بنفي الإلزام. نعم ، قد عرفت الإشارة إلى عدم الإشكال في نفي الاستحباب والكراهة والأحكام المترتّبة على عنوانهما ، لكنّه لا تعلّق له بأصل البراءة.

ثمّ إنّ المراد من النصّ ـ المضاف إليه العدم والإجمال والتعارض في « الكتاب » ـ هو الدليل ، لا ما يرادف الحديث أو ما يقابل الظاهر كما يدل عليه تمثيله لإجماله وتعارضه بالآية الشريفة ، وهذا أمر ظاهر ، كما أن المراد من الإجمال في المقام أعمّ من الإجمال الاصطلاحي فيشمل الإهمال ونحوه.

ثمّ إن مثل القول بتواتر القراءات في الحكم بوقوع التعارض بين قراءتي

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٥١.

(٢) نفس المصدر : ٣٥١.

٣٩٥

التخفيف والتشديد (١) ، القول بجواز الاستدلال بكل قراءة وحجيّته على تقدير عدم تواترها على ما عرفت الكلام فيه في الجزء الأوّل من التعليقة (٢) عند البحث عن حجيّة ظواهر الكتاب ، فالحكم بالإجمال وجعل الآية مثالا لإجمال النص ، مبنيّ على عدم التواتر وعدم جواز الاستدلال وإلاّ فتدخل في تعارض النّصّين.

__________________

(١) كما في الآية ٢٢٢ من سورة البقرة.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٩٦.

٣٩٦

* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة

* المسألة الأولى : تحقّقها لفقدان النص

ـ قولان فى المسألة

١ ـ أدلة القول بالإباحة

٢ ـ أدلة القول بوجوب الإحتياط

٣٩٧
٣٩٨

المسألة الأولى :

« الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص »

الأقوال في المسألة :

(٩٢) قوله قدس‌سره : ( وربّما نسب إليهم أقوال أربعة ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٠ )

أقول : قد نسب الأقوال الأربعة إليهم الفريد البهبهاني قدس‌سره في « فوائده » (١) وظاهره بل صريحه كونها متمايزة مختلفة بحسب المعنى لا أن يكون اختلافها بمجرّد التعبير من جهة اختلاف ما ركنوا إليه من الأخبار الواردة مع عدم اختلاف بينها بحسب المعنى والمراد كما هو المستظهر منها عند شيخنا قدس‌سره والظاهر من كلمات الأخباريين عند التأمل.

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٢٤٠ ، والرسائل الأصوليّة : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

٣٩٩

(٩٣) قوله قدس‌سره : ( قيل : دلالتها واضحة. وفيه : أنها غير ظاهرة ؛ فإن حقيقة الإيتاء الإعطاء ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١ )

دلالة آية الإيتاء على أن حكم ما لا نصّ فيه

إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الإحتياط

أقول : ذكر في « الفصول » بعد عدّ الآية في عداد الآيات التي استدل بها على المدّعى ـ : أن دلالتها واضحة (١). ولم يذكر في تقريبها شيئا.

وأنت خبير بأن محتملات الآية كثيرة ، تدلّ على المدّعى على بعضها ولا تدلّ عليه على بعضها الآخر.

توضيح ذلك : (٢) أنه لا يخلو الأمر :

إمّا أن يراد من الموصول خصوص المال ، فيراد من نسبة التكليف إليه بدلالة الاقتضاء دفعه وإنفاقه ، أو يقدّر الدفع والإنفاق ؛ فالمعنى : أنه لا يكلّف الله تعالى نفسا إنفاق مال إلاّ إنفاق ما أعطاه من المال ، فإن كان ممّن وسّع الله عليه فيكلّف بالإنفاق من سعته ، وإن كان ممن ضيّق عليه في معيشته فلا يكلّف بالإنفاق أو يكلّف بقدر مقدوره. وهذا هو الظاهر من الآية بملاحظة السياق صدرا وذيلا

__________________

(١) لم نعثر عليه فى الفصول. نعم ، ذكره الفاضل النّراقي في المناهج : ٢١٠.

(٢) وأنظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٢٩٦.

٤٠٠