بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

التّقريران ، وترتفع الثّمرة المقصودة المترتبة عليهما في المقام ؛ فإنّ حكم الشّارع المنكشف من إنشاء العقل بقاعدة التّلازم تابع لحكم العقل من حيث العموم والخصوص ، بخلاف حكمه الابتدائي وإن أدركه العقل ؛ فإنّه تابع لما هو المناط والموضوع له في نظر الشّارع ، كما أنّه تابع له من حيث المناط والكيفيّة.

فإذا كان حكم العقل بوجوب العمل بالظّن من حيث كونه كاشفا عن الواقع ومرآة له ، فلا محالة يكون حكم الشارع المنكشف عن حكم العقل بوجوب العمل بالظّن بعنوان الطّريقيّة والمرآتيّة ، فيكون إيجاب الشارع له كإيجاب العقل حكما غيريّا إرشاديّا ، إذن العنوان الّذي أوجب حكم العقل به تابع للواقع ، فلا يصحّ إلاّ للطّلب الغيري.

وهذا بخلاف حكمه الناشئ من المفسدة في الفعل أو المصلحة فيه ؛ فإنّه وإن كان إرشاديّا دائما لعدم تصوّر الطّلب المولويّ من العقل ، إلاّ أنّه مستتبع لطلب مولويّ من الشارع وكاشف عنه لقاعدة التّلازم بين الحكمين في المورد القابل للطّلب المولويّ ، فليس في المقام انفكاك لحكم الشارع عن العقل ، بل حكم الشّارع موجود على نحو حكم العقل إلاّ أن المورد لمّا لم يكن قابلا للطّلب المولوي من الشارع فلا محالة يكون حكم الشارع أيضا إرشاديّا غيريّا ، بل الحكم الشّرعي المستكشف على تقرير الكشف أيضا لا يكون إلاّ غيريّا. ومن هنا حكمنا سابقا : باتّحاد عنوان وجوب العمل بالظّن على التّقريرين ، وهذا بخلاف حكمه المستكشف عن التّحسين والتقبيح العقليّين.

ثمّ لو أريد من القاعدة كون حكم العقل الإنشائي كاشفا عن حكم شرعيّ مولويّ ، لصحّ الحكم بالانفكاك في المقام. فالمقام نظير حكم العقل بوجوب

٢١

الإطاعة وحرمة المعصية الكاشف عن حكم الشارع بهما ؛ فإنّ عنوان الإطاعة وإن كان حسنا ذاتا في حكم العقل وليس حسنه من جهة وجود مصلحة في فعل الواجب الّذي ينطبق عليه الإطاعة إذا أتي به بداعي امتثال أمر الشّارع ، بل ربّما يكون وجود المصلحة في الفعل متقوّمة بالعنوان المذكور كما في التّعبديّات ، إلاّ أنّه ليس قابلا لتعلّق الإرادة المولويّة به من الشّارع ، في قبال الإرادة المولويّة المتعلّقة بالفعل من الشّارع بحيث يكون للشّارع مثلا في الواجبات إرادتان حتميّتان مولويّتان ، إحداهما : تعلّقت بذات الواجب. والثّانية : تعلّقت بفعل المأمور به ؛ من حيث كونه مأمورا به إذا أتي به بداعي امتثال أمر الشّارع الذي هو معنى الإطاعة المتأخّرة عن الأمر.

ومن هنا لا يمكن إرادتها من الأوامر المتعلّقة بالأفعال ؛ ضرورة لزوم التّسلسل على تقدير كون الأمر المتعلّق بإطاعة الأوامر المولويّة الشّرعيّة الصّادرة من الشّارع أمرا مولويّا فالإطاعة وإن كانت حسنا ذاتا إلاّ أنّها غير قابلة لتعلّق الأمر المولويّ بها للزوم التسلسل. ومن هنا قيّدنا التلازم بين حسن الفعل ووجوبه شرعا بالوجوب المولوي بما إذا كان المورد قابلا ، فانفكاك الطلب المولوي قد يكون من جهة كون الشّيء مطلوبا للغير في حكم العقل ، وقد يكون من جهة عدم قابليّة المحكوم به في الحكم العقليّ الإرشاديّ لتعلّق الخطاب المولوي به وإن كان حسنا ذاتا كما في الإطاعة. فالإطاعة وإن كانت واجبة بإرادة مستقلّة غير الإرادة المتعلّقة بفعل الواجبات ، إلاّ أنّها ليست مرادة بإرادة مولويّة في قبال الإرادة المتعلّقة بفعل الواجب ، فالإرادة المنفيّة بالنّسبة إلى الإطاعة في كلام شيخنا قدس‌سره :هي الإرادة المولويّة التّشريعيّة لا مطلق الإرادة ؛ ضرورة عدم كون الأمر

٢٢

الإرشادي منسلخا عن معنى الطّلب والوجوب فيكون إخبارا كما توهّمه جمع من أفاضل معاصرينا أو قارب عصرنا.

طاعة الأمر الإرشادي لا توجب ثوابا ولا مخالفته عقابا

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ إيجاب الشّارع للعمل بالظّن في زمان الانسداد المستكشف من حكم العقل إنشاء أو إدراكا وإن كان غيريّا تبعيّا بنحو من الغيريّة لا يترتّب على موافقته من حيث إنها موافقة ، أثر من الثّواب زائدا على ما يترتّب على إطاعة الأوامر الواقعيّة عند مصادفة الظّن للواقع ولا على مخالفته من حيث إنّها مخالفة عقاب غير العقاب المترتّب على مخالفة الحكم الإلزامي على تقدير المصادفة ، نظير إيجاب الشّارع للإطاعة في الشّرعيّات ؛ حيث إنّه لا يترتّب على موافقته من حيث إنّها موافقته ولا على مخالفته بالحيثيّة المذكورة شيء من الثّواب والعقاب ؛ حيث إنّه ممحّض في الإرشاد من غير فرق بينه من حيث استكشافه من حكم العقل بوجوبها ، وبينه من حيث وروده في الشّرع كتابا وسنّة ، ونظير حكم العقل والشّرع بوجوب التّوبة على العاصي إلاّ أنّه ليس من مراتب الإطاعة وأنحائها وشؤونها وكيفيّاتها كما هو المصرّح به في كلام شيخنا قدس‌سره في هذا المقام بقوله : « فكذلك كيفيّة الإطاعة وأنّه يكفي فيها تحصيل الظّن بمراد الشّارع في مقام ... إلى آخر ما أفاده » (١).

ضرورة أنّه لو كان الأمر كما أفاده قدس‌سره لزم الحكم بترتّب الثّواب والعقاب

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٦.

٢٣

على نفس العمل بالظّن وتركه وإن لم يترتّب على موافقة الأمر المتعلّق به ولا على مخالفته شيء من الثّواب والعقاب كما يلتزم به بالنّسبة إلى الإطاعة والمعصية.

اللهم إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره : أنّ سلوك الظن والعمل به عند مصادفته للواقع يترتّب عليه آثار إطاعة الأوامر الواقعيّة من غير أن يترتّب على موافقة نفس الأمر المتعلّق به بعنوان الطّريقيّة شيء ، فالعنوان الّذي يترتّب عليه الآثار ، إطاعة الأوامر الواقعيّة المستكشفة بالظّن ، فالعمل بالظّن بهذا العنوان له آثار وأمّا الأمر المتعلّق به فلا أثر له من حيث هو فسلوك الظن إطاعة للأوامر الواقعيّة في الجملة.

فإذن يصحّ أن يقال : إنّ إطاعة الأوامر الواقعيّة قد تكون مع العلم بها ، وقد تكون مع الظّن بها ، فهي مع الظن بها نحو من الإطاعة فليس الغرض جعل سلوك الظّن بقول مطلق من مراتب الإطاعة حتّى يتوجّه عليه المناقشة المذكورة.

نعم ، لا بدّ أن يلاحظ الشّارع في أمره بسلوك الطّريق الظّني ـ مع التمكّن من تحصيل العلم ـ بالواقع ما يتدارك به ما يفوت من الواقع من العمل به ، لا أن يحدث في الفعل الّذي قام على وجوبه مثلا مصلحة حتّى يرجع إلى التّصويب ، أو أن يكون في العمل به وسلوكه مصلحة حتّى يشكل الفرق بينه وبين التّصويب عند التّأمّل ، على ما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة.

ومن هنا أبطلنا القول باختصاص حجيّة الظّن بالطّريق بعد تسليم العلم الإجمالي بجعله فيما علّقناه على الأمر المتقدّم ، كما أبطلنا القول باقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء في مسألة الإجزاء.

هذا غاية ما يقال في شرح كلماته قدس‌سره في هذا المقام وعليك بالتّأمّل فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول والإذعان.

٢٤

(٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذين التّقريرين مشتركان في الدّلالة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٦٧ )

أقول : لمّا كان من الخصوصيات الّتي يتكلّم فيها من حيث عموم النّتيجة لها الموارد والمسائل الفقهيّة الّتي يحتمل فيها الحكم الإلزامي من أوّل الفقه إلى آخره ، أراد بما أفاده قدس‌سره : بيان كون النّتيجة عامّة بالنّسبة إليها على التّقريرين ، فينحصر التّكلم فيها من حيث العموم وعدمه ، على الأسباب والمراتب من حيث كون العموم من جهة الموارد أمرا مفروغا عنه على كلّ تقرير ، وإن كان الدّال عليه على تقرير الكشف الإجماع ، وعلى تقرير الحكومة العقل ؛ من حيث وجود مناط حكمه بالنّسبة إلى كلّ مورد ، وكلّ مسألة من غير فرق بينهما.

وإن كان لازم هذا البيان كما ترى ، كون النّتيجة على الكشف غير عامّة بالنّسبة إلى الموارد بالنّظر إلى نفس التّقرير من غير ضمّ الإجماع إليه.

وظاهر العبارة عند إثبات الدّلالة على العموم أوّلا : كون الدّلالة على العموم مستندة إلى نفس المقدّمات من غير ضمّ شيء آخر إليها. فربّما يحكم بالتّدافع بين العبارتين بهذه الملاحظة ، إلاّ أنّه لا ينظر إلى هذه المناقشات بعد وضوح المراد وقيام القرينة الظّاهرة عليه.

__________________

(١) قال الشيخ موسى التبريزي قدس‌سره :

« فيه نوع من المسامحة ؛ إذ لا دلالة للتقرير الأوّل على العموم بحسب الموارد إلاّ بواسطة الإجماع الذي إدّعاه ، فالأولى أن يقال :

إن العموم بحسب الموارد ثابت بالنسبة إلى التقريرين ، أمّا الأوّل فبالإجماع وأمّا الثاني فبإستقلال العقل ». أوثق الوسائل ـ أنظر الفرائد المحشّى : ١٣٩.

٢٥

نعم ، هنا شيء ينبغي التّنبيه عليه والإشارة إليه وهو : أنّ الّذي يقتضيه التّحقيق والتّأمّل التّام في المقام استناد عموم النّتيجة على الكشف إلى نفس المقدّمات أيضا ، وحكم العقل به من غير ملاحظة الإجماع أصلا (١) ؛ حيث أنّ مناط إدراك العقل لجعل الشّارع الظن طريقا للتكاليف الواقعيّة والأحكام الإلزاميّة ـ بملاحظة ما مرّت الإشارة إليه من المقدّمات عند بيان تقرير الكشف ـ موجود بالنّسبة إلى جميع أطراف الشّبهة من أوّل الفقه إلى آخره من غير خصوصيّة لبعض المشتبهات في حكم العقل على سبيل القطع واليقين ، فلا حاجة إلى التمسّك بالإجماع في المقام جزما. مضافا إلى ما في التّمسك به من الإشكال الّذي عرفته ، فلو أبدل التّمسك بالإجماع بالتّمسك بنفس حكم العقل لم يرد إشكال التّدافع بين العبارتين أيضا كما هو ظاهر.

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

( يمكن دفع الإعتراض بإن المسألة عقليّة لا يدخلها الإجماع بأن العقل على تقرير الكشف بملاحظة المقدّمات يقطع بأن الشارع مع وجود هذه المقدّمات جعل الظنّ في الجملة حجّة من غير إدراكه أمرا زائدا على ذلك ، والإجماع أثبت في الجملة تعميم هذا الحكم الإدراكي للعقل ، فما أدركه العقل أمر ، وما أثبته الإجماع أمر آخر ، والمدّعى له جزءان يثبت جزء منه بالعقل وجزء بالإجماع والمنشيء هو الشارع ، فمسألة اعتبار الظن في الجملة عقليّة بمعنى إدراكه إيّاه ومسألة تعميمه بحسب الموارد شرعيّة والمسألتان غيران ). إنتهى. أنظر الفرائد المحشى : ١٣٩.

٢٦

(٤) قوله قدس‌سره : ( أمّا التّقرير الثّاني : فهو يقتضي التّعميم والكلّية من حيث الأسباب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٧ )

في التعميم من حيث الأسباب والمراتب

أقول : بعد الحكم بعموم النّتيجة بالنّسبة إلى الموارد على التّقريرين ، أراد التكلّم في عمومها بالنّسبة إلى الأسباب والمراتب على كلّ من التّقريرين ، على سبيل الفهرست والإجمال ، ثمّ بيان الحقّ من التّقريرين حتّى يشرح القول فيه بعد ذلك.

ولمّا كان عنوان حكم العقل على تقرير الحكومة ـ على ما عرفت الكلام فيه ـ مرادا في الحكم بوجوب العمل بالظن ، أمرا راجعا إلى نفس صفة الظن وقائما به من غير دخل للسّبب فيه أصلا ، وهو القرب إلى الواقع ، والكشف الظّني عنه الّذي هو ذاتيّ للظّن ، في قبال الشّك والوهم اللّذين لا قرب فيهما ولا كشف لهما أصلا ، فلا محالة يحكم بعدم الفرق بين الأسباب ، وهو معنى عموم النّتيجة بالنّسبة إليها.

ومن هنا ذكرنا المناقشة فيما سيجيء فيما أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره عند التّخلص عن إشكال خروج القياس : « من أنّ العقل يحكم بحجيّة الأدلّة الظنّيّة دون مطلق الظّن النّفس الأمري » (١) وإن أمكن توجيهه بتنزيله على الكشف ، كما ستعرف الإشارة إليه.

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨.

٢٧

ولمّا كان القرب إلى الواقع الّذي عرفت كونه مناطا في حكم العقل على هذا التّقرير مقولا بالتّشكيك ومختلفا غاية الاختلاف وله مراتب كثيرة ودرجات عديدة ؛ حتّى أنّ بعض مراتبه يشتبه بالشّك من جهة خفائه ، وبعض مراتبه يشتبه بالعلم من جهة وضوحه وظهوره ، وهو الظّنّ القويّ الاطمئناني المتاخم بالعلم ـ حتّى قيل : إنّه علم ، مسامحة. كما عرفته من كلام شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ، بل حقيقة ، كما عرفته من كلام شيخنا ( طيّب الله رمسه ) في « الجواهر » (١) ـ فلا محالة يحكم العقل بحجيّة القويّ منه على تقدير كفايته ، وعدم جواز الأخذ بغيره من المراتب. كما أنّه يحكم بحجيّة مطلق الظن على تقدير عدم كفايته وعدم جواز الأخذ بالظّنون النّوعيّة ، إلاّ على تقدير انسداد بابه وعدم وجود مقدار كاف منه في الفقه.

ولمّا لم يكن له مراتب مضبوطة بعد انتفاء القويّ حكمنا بحجيّة مطلق الظّن على هذا التّقدير ، وهذا معنى عموم النّتيجة وكلّيتها بالنّسبة إلى الأسباب على تقرير الحكومة ، واختصاصها بالظّن القوي الاطمئناني على هذا التّقرير ، وعدم شمولها لدونه من الظّن الضّعيف ، فلا إهمال في النّتيجة على هذا التّقرير بالنّسبة إلى جميع الخصوصيّات. غاية الأمر : أنّها عامّة كليّة بالنّسبة إلى الموارد والأسباب ، وخاصّة جزئيّة مقيّدة بالنّسبة إلى المراتب.

ومن هنا ذكر في « المعالم » في « مقام تخصيص النّتيجة بخبر العادل » : « أنّه إذا كان للظّن جهات متفاوتة في القوّة والضّعف ، فالعقل يحكم : بأنّ العدول من

__________________

(١) في مواضع من الجواهر منها : ج ٢٢ / ١٥٤ وج ٢١ / ٣٦٢.

٢٨

القويّ إلى الضّعيف قبيح. والظن الحاصل من خبر العادل أقوى الظنون ؛ فيجب الاقتصار عليه » (١) فإنّ هذا الكلام كما ترى ينطبق على ما ذكرنا وإن زعم بعض محشّيه : « أنّه منزّل على الكشف » (٢).

وبمثل ما عرفت ينبغي تحرير بيان عدم العموم بالنّسبة إلى المراتب على هذا التّقرير ، لا بمثل ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « إذ لا يلزم من بطلان كليّة العمل بالأصول التي هي طرق شرعيّة الخروج عنها بالكليّة ... إلى آخر ما أفاده » (٣).

إذ يرد عليه ـ بعد حمل الأصول في كلامه على خصوص أصالة الاحتياط من حيث تعدّدها بحسب أفرادها ومواردها ، لبطلان الرّجوع إلى غيرها رأسا حسبما صرّح به فيما تقدّم عند الكلام في ذكر مقدّمات الانسداد ، وإنّما استشكل سابقا هناك في بطلان خصوص الاحتياط رأسا ؛ من جهة عدم اقتضاء دليل نفي الحرج الذي تمسكوا به لبطلان وجوب الاحتياط ، إلاّ بطلانه في الجملة لا أصلا ورأسا ـ :

أنّ ما أفاده قدس‌سره كما ترى ، أرجع إلى المناقشة في تماميّة المقدّمات المنتجة لحجيّة الظّن ، ولا تعلّق له أصلا بالكلام في عموم النّتيجة وعدمه بعد الفراغ عن تماميّتها ، وكيف يجامع هذا الإشكال مع تقرير الحكومة بما عرفته من كلامه؟

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٩٣.

(٢) لم نعثر عليه عجالة عند الصالح المازندراني ولا التقي والسلطان ممّا كان بأيدينا من حواشي المعالم.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٧.

٢٩

وكيف يستقلّ العقل في الحكم بقبح إرادة الشّارع ما زاد على الإطاعة الظّنيّة مع عدم بطلان الاحتياط رأسا؟

مع أنّ الإطاعة الإجماليّة مقدّمة في نظر العقل على الإطاعة الظّنيّة ، فما أفاده قدس‌سره لا مساس له بالمقام أصلا ، حسبما اعترف به في مجلس البحث وغيره ، هذا كلّه على تقرير الحكومة.

وأمّا على تقرير الكشف ، فلا إشكال في إهمال النّتيجة وإجمالها بالمعنى الّذي عرفته بالنّسبة إلى كلّ من الجهتين بذاتها ، وبالنّظر إلى نفس المقدّمات من غير ضمّ شيء آخر إليها من الخارج ولو بحسب اللّحاظ ؛ فإنّ العنوان المدرك في حكم العقل على الكشف وإن كان قرب الظّن أيضا بالنّسبة إلى الشّك والوهم ، إلاّ أنّه يجوّز العقل وجود خصوصيّة لبعض أسباب الظن عند الشّارع يخصّص به اعتبار القرب الحاصل منه في نظر الشّارع.

ومن هنا حكم الشّارع باعتبار بعض الظّنون من حيث الخصوص في زمان الانفتاح ، وليس ذلك إلاّ من جهة خصوصيّة له في نظر الشّارع أوجب ترجيحه وليس الملحوظ مجرّد طريقيّته ، وإلاّ لما أمكن ترجيحه مع أنّه موجب لتفويت الواقع من دون تدارك وهو قبيح على ما عرفت شرح القول فيه عند التكلّم على قول ابن قبة.

كما أنّه يجوز اعتباره للظّن الضّعيف وطرح القوي من جهة الملاحظة المذكورة ، ومن ثمّ حكم في ذلك الزّمان باعتبار ما لا يكون أقوى من غيره نوعا بل أضعف ، فإذا جوّز الأمران فلا محالة لا يحكم بعموم النّتيجة من الجهتين ، بل يكون مهملة مردّدة بين الكلّ والبعض ، كما أنّها مردّدة بين القويّ والضّعيف.

٣٠

وممّا ذكرنا يظهر : فساد ما توهّمه (١) بعض المعاصرين : من عموم النّتيجة على الكشف بالنّظر إلى الأسباب ، كما هو الحال على تقرير الحكومة ؛ نظرا إلى اتحاد مناط الحجيّة على التّقريرين مناقشا فيما أفاده شيخنا قدس‌سره من الفرق في النّتيجة بين التّقريرين من الجهتين وإهمالها على الكشف منهما.

(٥) قوله قدس‌سره : ( وإنّ التّقرير على وجه الكشف فاسد ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٦٨ )

تقرير الكشف فاسد من وجوه ثلاثة

أقول : قد عرفت : أنّ الحكم الإدراكي للعقل بحجيّة الظّن عند الشارع الّذي يرجع إليه تقرير الكشف مبنيّ على ضمّ مقدّمة أخرى إلى مقدّمات دليل الانسداد المعروفة المذكورة في كلماتهم وهي : قبح التّكليف من جانب الشّارع من دون نصب طريق له مع فرض انسداد باب العلم بالأحكام الإلزاميّة الإلهيّة في الوقائع المشتبهة ، وإلاّ فنفس المقدّمات المذكورة لا تنتج في حكم العقل نصب الشّارع للظّن.

فإذن يتوجّه عليه : أوّلا ؛ أنّ لزوم النّصب على الشّارع في حكم العقل بعد فرض بقاء التكليف ، إنّما هو فيما لم يكن هناك طريق يسلكه العقلاء في باب مطلق الأحكام الصّادرة من الموالي بالنّسبة إلى العبيد شارعا كان أو غيره ، ويحكم به العقل المستقلّ بعد القطع بعدم نصب طريق من جانب المولى ، والمفروض

__________________

(١) في الأصل : « فساد لما يتوهّمه » والصحيح ما أثبتناه.

٣١

استقلال العقل في الحكم بحجيّة الظّن في الموضوع الّذي دار الأمر بينه وبين غيره من الشّك والوهم كما فرض وجوده بالنّظر إلى مقدّمات دليل الانسداد المتقدّمة.

وثانيا : أنّ غاية ما يحكم به العقل بالنّظر إلى المقدّمة المفروضة ـ بعد الإغماض عمّا ذكر أوّلا ـ هو وجوب نصب الطّريق على الشّارع من غير فرق بين الظّن وغيره. وإيجابه نصب خصوص الظّن على الشّارع إنّما هو موقوف ومتفرّع على علمه بانتفاء ما يصلح للطّريقيّة في نظر الشّارع ممّا لا يدخل في عنوان الظن وجزمه بذلك حتّى يحكم بوجوب نصب خصوص الظّن على الشّارع من جهة الانحصار ، وأنّى له بذلك بعد تجويز نصب الشارع لما لا يفيد الظن أصلا من باب التّعبّد ؛ لما يرى فيه من المصلحة؟ كما هو المشاهد بالنّسبة إلى الأصول العمليّة الظّاهريّة ، أو نصبه لما يفيد الظّن شأنا لخصوصيّة فيه وإلقائه الظّن الشّخصي رأسا ، وليس ذلك ممّا يستحيله العقل بعد المشاهدة والوقوع في الشّرعيّات مع التّمكّن من تحصيل العلم بالواقع الّذي يكون أولى بالمراعات من زمان عجز تحصيل العلم بالواقع.

والقول : بأنّ نصب غير الظّن الشّخصي في زمان الانسداد بل في زمان الانفتاح وإن كان مجوّزا عند العقل ، إلا أنّ المانع من حكمه بوجوب نصب الظّن على الشارع علمه بنصب غير الظن في الشّرعيات ـ لا مجرّد احتماله حتّى يكون حكمه بالوجوب مشروطا بعلمه بعدم النّصب الّذي لا سبب له في الشّرعيّات بعد إمكانه عقلا ؛ إذ كما أنّ المانع من حكمه الإنشائي على تقرير الحكومة علمه بنصب غير الظّن لا مجرّد احتماله ـ وإلاّ توجّه المنع الّذي أورده بعض المحقّقين على دليل الانسداد : بأنّ انسداد باب العلم وبطلان الرّجوع إلى الأصول جوازا في

٣٢

بعض ووجوبا في آخر ، لا ينتج جعل الظّن وحجيّته ؛ لاحتمال نصب الشّارع غيره ـ كذلك المانع من حكمه الإدراكي على تقرير الكشف علمه بالنّصب لا مجرّد احتماله ؛ إذ الدّليل واحد والمقدّمات متّحدة لا يختلف الحال فيها بحسب الاختلاف التّقرير ـ فاسد جدّا ؛ لوضوح الفرق وفساد قياس الإدراك بالإنشاء.

ضرورة عدم إمكان دخل الأمر الواقعي النّفس الأمري في إنشاء العقل الّذي يرجع إلى وجدانه المترتّب على الموضوع الوجداني والعنوان التّحقيقي ، وهذا بخلاف الإدراك ؛ فإنّ المدرك وإن كان العقل ، إلاّ أنّ الحاكم المنشئ الشارع ، فيعتبر وجود المانع في علمه ، ولا يعتبر وجوده في وجدان العقل وعلمه كما هو الحال على تقرير الحكومة ، فكلّما احتمل نصب غير الظّن فيحتمل وجود المانع في وجدان الشّارع فلا يستقلّ بإدراك نصب الظّن.

لا يقال : إنّ المانع احتمال النّصب على التّقريرين على زعم من يجعله مانعا وهو أمر وجدانيّ لا النّصب الواقعي حتّى يحكم بالفرق بين التّقريرين بما ذكر فالأمر بالأخرة يرجع إلى الوجدان على كلا التّقريرين.

لأنّا نقول : صلاحيّة الاحتمال للمنع إنّما هو من جهة كون المحتمل صالحا له ، فإذا حكم بعدم صلاحيّته على تقرير الحكومة فلا يعقل جعل نفس الاحتمال مانعا فتدبّر.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : فساد ما أورده بعض على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في الإيراد الثّاني على الكشف : بأنّ حكم العقل بحجيّة الظن لا يختلف الحال فيه بحسب التّقريرين ، فإن كان حاكما به في زمان الانسداد فيحكم به على التّقريرين ، وإن لم يكن حاكما به من جهة تجويز نصب غير الظّن الشّخصي في

٣٣

حكم العقل للشّارع وكون مجرّده مانعا عن حكمه فلا يحكم به على التّقريرين.

والّذي يظهر منه : أنّه لم يفرق بين التّقريرين ولم يفهم حقيقتهما فتخيل رجوعهما إلى الإنشاء ، أو لم يفرق في صلاحيّة منع الاحتمال بين الإنشاء والإدراك في وجه.

وبالجملة ؛ هذا الإيراد لا واقع له أصلا ، إلاّ أن يتشبّث بذيل الإجماع وادّعى قيامه على عدم نصب غير الظنّ في الشرعيّات في زمان الانسداد.

فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى منعه على وجه ينفع ـ : أنّ مرجع الإجماع المذكور عند التّأمّل بعد تسليمه إلى قيامه على حجيّة الظن عند الانسداد كما هو أحد الأدلّة عند جمع (١) ممّن ذهب إلى حجيّة الظن المطلق منهم : المحقّق القمي قدس‌سره على ما صرّح به في بعض كلماته ، ولا تعلّق له بدليل الانسداد ولا بالكشف والحكومة ، والكلام كلّه ؛ إنّما هو في نتيجة دليل الانسداد الّذي أقاموه لإثبات حجيّة الظن المطلق فلا مناسبة لذكر الإجماع في المقام.

ومن هنا أمر شيخنا قدس‌سره بالتّأمّل عقيب الاستدراك بقوله : « إلاّ أن يدّعى الإجماع على عدم نصب شيء آخر ... إلى آخره » (٢).

وثالثا : بأنّه لا يفيد في إثبات المدّعى للمستدلّ به وهو حجيّة مطلق الظّن إلا بعد عدم تماميّة المعيّنات الّتي ذكروها للمهملة وسيجيء تماميّة بعضها فتدبّر.

__________________

(١) منهم العلامة المحقق الفقيه الفاضل المير سيد علي الطباطبائي صاحب الرياض وخاله النّحرير الوحيد البهبهاني وتلميذه السيّد شارح الوافية ، أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٣٠.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٩.

٣٤

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكلام في صحّة تقرير الكشف وعدمها لا في إنتاجه لحجيّة مطلق الظّن فهذا الاعتراض لا توجّه له أصلا فتأمّل.

(٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا ثالثا : فلأنّه لو صحّ كون النّتيجة مهملة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٩ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ المصرّح به في كلامه ـ فيما سيجيء ـ استقامة تعيين المهملة بأمور كتيقّن الاعتبار ونحوه ، لا دخل للإجماع في تعيينها ، بل صحّة التّعميم بما لا دخل للإجماع فيه بحيث يرجع الأمر إلى التّمسّك بالإجماع على حجيّة الظّن في المقام حتّى يتوجّه عليه ـ مضافا إلى منعه ـ بأنّه لا تعلّق له بالدّليل العقلي أصلا.

ولو أبدل الوجه الثّالث بما ذكرنا ثالثا لكان أبعد من المناقشة ، وإن توجّه عليه أيضا : ما عرفت الإشارة إليه ؛ من عدم رجوعه إلى إبطال تقرير الكشف كالأوّلين الرّاجعين إليه حقيقة.

(٧) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧١ )

أقول : هذه عمدة المعمّمات الّتي ذكروها في المقام ، بل الصّحيح منها لما ستقف عليه من بطلان غيرها. لكنّه موقوف على ثبوت أمرين :

أحدهما : عدم المرجّح لبعض الظّنون على بعض فيتوقّف على استقصاء ما ذكروه مرجّحا ومعيّنا وإثبات عدم صلاحيّتها للتّعيين ، وأمّا مجرّد وجود احتمال المرجّح لبعضها بحسب الواقع في نظر الشّارع وإن لم نعلمه ، فيكفي ذلك مانعا عن التّعميم بما ذكر من الوجه ، وإن أبطلنا ما ذكروه معيّنا فلا إشكال في عدم صلاحيّته للمنع ؛ فإنّ هذا الاحتمال لو كان في بعض معيّن دون غيره فيدخل في بعض المعيّنات المذكورة لا محالة ؛ فإنّه يصير بهذه الملاحظة أولى بالاعتبار من غيره

٣٥

ولو كان في كلّ بعض ، أو في بعض معيّن واقعا ، غير معيّن عندنا بمعنى احتمال الخصوصيّة في بعض الأبعاض في الواقع مع كونه غير معيّن عندنا ، فلا يصلح مانعا للتّعميم بالمعمّم المذكور ؛ ضرورة مساواة هذا الاحتمال بالنّسبة إلى كلّ بعض فيؤول إلى عدم المرجّح والمعيّن حقيقة.

ثانيهما : بطلان التّخيير ؛ بمعنى كون الحجّة بجعل الشّارع كلّ واحد من الظّنون والأمارات الكافية على سبيل التّخيير ، فيكون كلّ واحد حجّة على سبيل التّخيير والبدليّة ؛ إمّا تخييرا استمراريّا ، أو ابتدائيّا. والثّمرة بينهما ظاهرة ؛ إذ العقل الحاكم بوجوب نصب ما به الكفاية على الشّارع في الشّرعيّات لا يعيّن النّصب على الشّارع على سبيل التّعيين بعد حصول المقصود بالنّصب على سبيل التّخيير فيؤول الأمر بالأخرة إلى الإهمال حقيقة من هذه الجهة ، وليس مرجع التّخيير إلى التّرجيح حتّى يطالب المرجّح ، بل هو في مقابل التّرجيح كما هو ظاهر ، وإن كان اختيار المكلّف يستند إلى مرجّح لا محالة.

ضرورة استحالة تعلّق الإرادة بأحد المتساويين إلاّ أنّه لا يتوقّف على مرجّح شرعيّ ، بل يكفي له المرجّح النّفساني كما هو الشّأن في جميع موارد التّخيير في الأصول والفروع.

ومرجع التّخيير كما عرفت وإن كان إلى حجيّة جميع الظّنون أيضا ، إلاّ أن المدّعى حجيّة كلّ واحد تعيينا فما لم يبطل لم يثبت المدّعى ولم يتمّ المعمّم المذكور.

لكن يمكن إن يقال : إنّ احتمال التّخيير إنّما هو فيما فرض كفاية كلّ واحد من الظّنون على ما عرفت ، وإلاّ لم يحتمل ؛ لأنّ العقل إنّما حكم بوجوب نصب ما

٣٦

به الكفاية ، وفرض الكفاية بالنّسبة إلى كلّ واحد إنّما هو لوجود الجميع في غالب المسائل الفقهيّة بحيث يكون كلّ واحد سببا تامّا لحصول الظن منه على تقدير الاستناد إليه ؛ إذ لولاه يكون المحذور من الرّجوع إلى الأصول في مجاريها وهو لزوم مخالفة العلم الإجمالي الّذي أوجب حجيّة الظن فرارا عنه باقيا.

وهو مع أنّه مجرّد فرض غير واقع في الشّرعيّات ـ كما هو ظاهر لمن كان له اطلاع بالمسائل وموارد الأمارات مضافا إلى أنّ الحجّة الظّن الشّخصي ولا يمكن تعدّده حتّى يحكم بالتّخيير فتأمّل ـ متّحد بحسب الفائدة والثّمرة مع الحكم بحجيّة كل واحد جمعا.

إذ التّعارض لا يتصوّر على القول باختصاص النّتيجة بالظّن في المسألة الفرعيّة حتّى يقال : بأنّه يظهر الثّمرة بينهما في باب التّعارض ؛ فإنّ الأمارتين المتعاضدتين راجحتان على الأمارة الواحدة ، وليس مفروض البحث في مسألة تعارض الأمارات على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا ؛ حتّى يظهر الفرق بين التّخيير والتّعيين ؛ إذ المفروض موافقة الأمارات وجعل التّخيير بين كلّ مقدار من الأمارات الكافية فلا يلزم وجود كلّ واحد من الأمارات في الفقه كما ترى فتأمّل (١).

مع أنّ التّخيير في المقام على القول به نظير التّخيير الواقعي في المسألة

__________________

(١) الوجه فيه : عدم المانع من ذلك بعد فرض تقوّم ما به الكفاية به حسبما يفصح عنه مقالة القائلين بإهمال النتيجة ، مع ان مرجع الإشكالات المذكورة إلى الإشكال في تصوّر التخيير في المقام والكلام في أن إبطاله على تقدير تصوره ، مما يتوقف عليه تماميّة هذا المعمّم فتدبّر. منه دام ظله.

٣٧

الفرعيّة كما في الخصال (١) والقصر والتّمام في [ ال ] مواطن الأربع (٢) ، وليس كالتّخيير بين المتزاحمين ، أو التّخيير العذري الظّاهري بين الدّليلين المتعارضين ، أو الاحتمالين المتعارضين كدوران الأمر بين الوجوب والتّحريم ، فلا بدّ أن يكون كلّ واحد مشتملا على مصلحة تحصل به ما هو الغرض من التّكليف بغيره بحيث يكون غيره بعد إيجاده خاليا عن المصلحة. وأين يعلم به في الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة؟ فتأمّل (٣).

ثمّ إنّ مرجع ادّعاء الإجماع على بطلان التّخيير ؛ أنّ التّخيير على الوجه المرقوم بين الأمارات ممّا لا يقول به أحد من علمائنا القائلين بحجيّة الظّنون الخاصّة ، أو المطلقة ، بل لم يقل به أحد من علماء العامّة ولم يعهد من الشّارع في مورد من الموارد.

فيعلم من ذلك : أنّ حكم الشّارع في المقام والمجعول عنده ليس كلّ واحد من الظّنون تخييرا ، وبعد بطلانه وعدم المرجّح بالفرض يعلم : أنّ المهملة عندنا منطبقة على القضيّة الكليّة العامّة عند الشّارع ، فيعلم بذلك : أنّ المجعول عند الشّارع جميع الأمارات وهذا معنى تعميم النّتيجة.

__________________

(١) يريد التخيير بين خصال الكفّارة.

(٢) التخيير بين القصر والتمام في المواطن الربعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة والحائر الحسيني على الثاوي به من الصلوات زنة عرش الله ومداد كلماته وما احصاه كتابه وأحاط به علمه.

(٣) الوجه في التأمّل : أن احتمال ذلك يكفي مانعا مضافا إلى إمكان تصوير ذلك في الأمارات. منه دام ظلّه العالي على مفارق الأنام.

٣٨

(٨) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : كون (١) بعض الظّنون متيقّنا بالنّسبة إلى الباقي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٢ )

تيقّن الإعتبار هل يصلح لرفع الإهمال وتغيير النتيجة أم لا؟

أقول : الكلام في هذا المعيّن قد يقع في مفهومه ، وقد يقع في مصداقه ، وقد يقع في وجه كونه معيّنا للمهملة وصارفا لها في ضمن ما تحقّق كونه من مصاديقه.

أمّا الكلام فيه من الجهة الأولى ، فملخصّه : أنّ المراد به : هو الأولى بالاعتبار بالنّسبة إلى غيره من الأمارات ، سواء اعتبر أولويّته بالنّسبة إلى جميع الأمارات وهو المسمّى عندهم بالمتيقّن الحقيقي والمتيقّن بقول مطلق ، أو بعض الأمارات ممّا هو دونه وهو المسمّى عندهم بالمتيقّن الإضافي. فالمتيقّن بقول مطلق وإن كان أمرا إضافيّا يعتبر في تصوّر مفهومه ملاحظة الغير ولو في القسم الأوّل ، إلاّ أنّه من جهة الامتياز بين القسمين منه سمّي الأوّل بالحقيقي والثّاني بالإضافي.

فالمتيقّن بحسب المفهوم كما ترى يرجع إلى قضيّة شرطيّة وثبوت الملازمة بين اعتبار غير ما فرض متيقّنا واعتبار ما فرض متيقّنا من دون عكس ، فكما يجامع ويتحقّق مع العلم باعتبار شيء من الأمارات في الشّرع ويصدق معه ، كذلك يصدق مع العلم بعدم اعتبار شيء من الأمارات في الشّرع على نهج واحد.

فإنّ نسبة الشّرطيّة إلى وجود الشّرط وعدمه على حدّ سواء فكما تصدق مع

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : الأوّل من هذه الأمور كون بعض ... إلى آخره.

٣٩

صدق الشّرط كذلك تصدق مع كذب الشّرط من غير فرق بين الأمرين.

فمعنى كون الشّيء أولى بالاعتبار من غيره : أنّه لو كان غيره معتبرا لزم اعتباره ، وأمّا لو كان هو معتبرا ، لم يلزم اعتبار غيره من غير فرق بين ثبوت اعتبار غيره وعدمه. فليس المراد من متيقّن الاعتبار : معلوم الاعتبار ؛ بأن يقوم هناك دليل قطعيّ على اعتباره ؛ إذ قد عرفت صدقه مع العلم بعدم اعتباره وعدم اعتبار غيره.

وبالجملة : وجود خصوصيّة في بعض الأمارات بحيث توجب الأولويّة بالاعتبار من غيره لا يلازم العلم بحجيّة غيره ولا بحجيّته في الشّرعيّات.

فما تخيّله بعض في المقام مناقشا فيما أفاده شيخنا قدس‌سره : من رجوع المتيقّن الاعتبار إلى معلوم الاعتبار ـ إذ لا يصير الظّن متيقّن الاعتبار إلاّ بعد قيام الدّليل القطعي على اعتباره فيدخل في الظّن الخاص ولا تعلّق له بالظّن المطلق ودليل الانسداد وقضيّة الإطلاق والإهمال حتّى يجعل معيّنا للمهملة ؛ إذ الظّن الخاصّ على تقدير وجوده وكفايته كما هو المفروض في المقام ، مانع عن دليل الانسداد. فكيف يجعل من مقتضياته ومعيّنا للمهملة الثّابتة به؟ ـ.

فاسد جدّا وهو كما ترى ، ناش عن الجهل بحقيقة كلماتهم ومرادهم من هذا اللّفظ.

مع أنّه ظاهر في ابتداء النّظر فيما ذكرنا مضافا إلى صراحة كلمات شيخنا قدس‌سره في غير موضع فيه ، وما أدري ما أجهله بما ذكره شيخه المحقّق المحشّي قدس‌سره في هذا المقام؟ فكأنّه لم يرجع إليه أصلا.

وقد أطال قدس‌سره الكلام في بيان هذا المرام وأوضحه غاية الإيضاح حيث

٤٠