بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

يظهر لمن راجع كلماتهم في بحث الاجتهاد ـ إلاّ أن الحكم بخروج تحصيل العلم بالحكم عن الاجتهاد مطلقا حتى في النّظريّات محلّ تأمّل وكلام مذكور في بابه. ومن هنا قال شيخنا قدس‌سره : « وقد يقيّد بالاجتهادي » (١) فقد جعل مطلقه مقيّدا به ، إلاّ أن يحمل على المهملة فيوافق ما في « الفوائد ».

والذي يقتضيه التحقيق في المقام : أن الشخص من حيث كونه مستنبطا للحكم يسمّى مجتهدا وإن كان الحكم المستنبط ظاهريّا. ومن حيث كونه عالما بالحكم يسمّى فقيها من غير فرق بين كون المعلوم حكما ظاهريا أو واقعيا والخطب في ذلك سهل.

بيان عدم لزوم مطابقة الحكم الظاهري

للحكم الواقعي

ثم إنه ظهر مما ذكرنا ـ في بيان حقيقة الحكم الواقعي والظاهري ـ : أن ثبوت الحكم الظاهري في موضوعه ، لا يعتبر فيه مطابقته للحكم الواقعي المتحقّق في نفس الأمر. كيف! وهو مستحيل عقلا. كيف! واعتبار المطابقة يوجب ارتفاع الحكم الظاهري وهو أمر ظاهر ، فالحكم الظاهري قد يطابق الحكم الواقعي وقد يخالفه ، فعند الجهل بالحكم الواقعي يكون هناك حكمان باعتبار نفس الواقع من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٠.

٣٦١

حيث هو مجرّدا عن جميع الملاحظات ، وباعتبار الجهل بهذا الحكم الأوّلي فيمكن أن يكون شيء حراما في الواقع وحلالا في الظاهر ، كما يمكن عكس ذلك ، فقد يكون شيء حراما في الواقع وواجبا في الظاهر كعكسه.

فإذن يقع الإشكال في أنه كيف يمكن اجتماع الحكمين المتنافيين؟ فإن لحاظ التجريد عن العلم والشك والظن في عروض الحكم الواقعي لا يوجب انتفاء الحكم الواقعي في صورة الشك مثلا ؛ لأن المفروض عدم ملاحظته ، لا ملاحظة عدمه وإلاّ كان ثبوته مشروطا بالعلم به وهو مع كونه خلفا محالا ، محال من جهة لزوم الدور الظاهر على ما عرفت الإشارة إليه.

وأشكل من ذلك ؛ ما اتّفقت عليه مقالتهم ظاهرا في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي : من أن الممتنع على القول به : هو اجتماع الفعليّين من الوجوب والتحريم لا الفعلي والشأني. ومن هنا حكموا بصحّة صلاة الجاهل بموضوع الغصب في الدار المغصوبة واللباس المغصوب إتّفاقا ، بل الجاهل بالحكم والحرمة مع القصور ، بل ناسيهما إلاّ العلامة قدس‌سره في الناسي هذا.

وقد يذب عن الإشكال المذكور في المقام بوجوه :

الجواب الأوّل عن التناقض

الأوّل : ما سبق إلى بعض الأوهام : من كون الحكم الواقعي عبارة عن شأنية الحكم وليس حكما حقيقة. فإن شئت قلت : إن الموجود في حق الجاهل جهة

٣٦٢

الحكم وهي المصلحة والمفسدة لا الإنشاء ، فلا ينافي تعلق الإنشاء بالجاهل على الخلاف لعدم اجتماع الحكمين حقيقة. وبمثل ذلك يقال في دفع الإشكال عما بنوا عليه الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنهي من عدم المضادة بين الفعلي والواقعي.

وأنت خبير بفساد هذا الوجه ؛ لأن الذي يتعلّق به العلم تارة ، والظن أخرى ، والشك ثالثة ، ليس الحكم بهذا المعنى. وأيضا لم يؤمر السفراء بتبليغ هذا المعنى إلى الخلق وكذلك ليس المعنى المذكور ومدلول الخطابات الواقعة الصادرة من الشارع.

وبالجملة : القول بالحكم الواقعي الثابت في حقّ جميع المكلّفين المختلفين بالعلم والظّن والشك مجرد المصلحة والمفسدة ، فاسد جدا.

ولعلّ المصوّبة لا ينكرون ثبوت هذا المعنى أيضا كما عرفت الإشارة إليه في الجزء الأوّل من التعليقة.

الجواب الثاني عن التناقض

الثاني : ما وقفنا عليه في كلمات بعض من قارب عصرنا واشتهر وتداول في ألسنة طلبة عصرنا من التّصرف في الحكم الظاهري ، عكس الوجه الأوّل الرّاجع إلى التصرّف في الحكم الواقعي وهو : كونه عبارة عن مجرّد المعذوريّة في مخالفة الواقع ، فهو إخبار حقيقة عن المعذوريّة وتوسعة للمكلّفين في عدم تعين تحصيل الواقع عليهم. ويزيدك وضوحا كون الأوامر المتعلقة بالطرق إرشاديّا صرفا ، وأن

٣٦٣

السالك منها يصل إلى الواقع غالبا ، وأنه معذور في مخالفته على تقدير خطأ الطريق فهي إخبار حقيقة عن هذا المعنى ، لا أن يكون لها جهة إلزام ومولوية بحيث يكون في موردها مصلحة ملزمة لجعل الحكم.

وهو ـ كما ترى ـ كسابقه ؛ فإن القول بكون جعل الحكم الظاهري راجعا إلى المعذوريّة مطلقا كما ترى. فكيف يحمل الخطاب الوارد في باب الاستصحاب بحرمة النقض على المعذوريّة الصرفة وكذلك الخطاب الوجوبي في باب الاحتياط عليها وكذلك الخطاب المتعلق بوجوب العمل بالطرق الشرعية؟

نعم ، لا ننكر كون حكم العقل في باب البراءة راجعا إلى المعذورية لا أن يكون الأمر كذلك مطلقا.

وأمّا حديث كون الخطاب المتعلق بالطريق إرشاديا فهو أجنبي عن المقام ، لما بيّنّا في مسألة امتناع اجتماع الحكمين من عدم الفرق بين الإرشادي وغيره. نعم ، من جعل الطلب الإرشادي إخبارا صرفا بصورة الإنشاء ، كبعض أفاضل مقاربي عصرنا في ظاهر كلامه في « الفصول » تبعا لظاهر أخيه المحقّق المحشّي قدس‌سرهما فهو مستريح عن توجّه هذا الإشكال في الجملة ؛ لكن المبنى فاسد عندنا على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.

٣٦٤

الجواب الثالث عن التناقض

الثالث : ما عرفت الإشارة إليه في طي الإشكال : من أن الحكم الواقعي لم يتعلّق بالموضوع النّفس الأمري بملاحظة عمومه وشموله لحالتي العلم بالحكم والجهل به. كيف! وهما متأخّران من مرتبة الجعل ، ولذا لا يمكن اعتبارهما فيه ، فلا يمكن ملاحظة العموم والإطلاق بالنّسبة إليهما ، بل إنّما هو متعلّق به بالحيثيّة التجريديّة عن جميع الاعتبارات والملاحظات المتأخّرة عن جعله حتى ملاحظة العموم والإطلاق ، فلا يصحّ أن يقال : إنه يعرض الموضوع بعنوان لا بشرط ، والحكم الظاهري يعرضه بعنوان بشرط شيء فيجتمعان عند الجهل ، فإن كانا متوافقين فيؤكّد الحكم الواقعي بالحكم الظاهري ، وإن كانا متخالفين فيؤول إلى اجتماع الضدّين كما هو مبنى الإشكال.

فالموجود وإن كان حكمين في صورة الجهل ، إلاّ أن كل حكم موجود في موضوعه ، وليس موضوع الحكم الظاهري من جزئيّات موضوع الحكم الواقعي وأفراده حتى يتصادقا ؛ لما عرفت : من استحالة ذلك.

غاية ما هناك : تحقّق الحكم الظاهري في مورد وجود الحكم الواقعي في موضوعه ، فيؤول إلى الاجتماع الموردي المجوّز بالإتّفاق لا المصداق الممنوع عند المحقّقين ، هذه غاية ما يقال في تقريب هذا الوجه.

٣٦٥

وأنت خبير بفساده أيضا ؛ لأن عروض الحكم الواقعي لفعل المكلّف الذي هو الموضوع للأحكام الشرعية ولحوقه به وإن كان لذاته من حيث هي هي لحوقا أوّليّا حتى أنه لا يلاحظ فيه جهة اللابشرطية القسمية والعموم ، لما ذكر في الجواب : من عدم كون الحالتين في مرتبة الحكم الواقعي وموضوعه إلاّ أنه لا شبهة في عروض الحكم الظاهري لفعل المكلف أيضا وإن كان بواسطة الجهل أو الظن.

ومن الواضح البيّن عدم تعدّد معروض الحكمين في الوجود الخارجي بحيث كان معروض الحكم الواقعي موجودا ومعروض الحكم الظاهري موجودا آخر مغايرين في الخارج ، وإن كان المعروضان متمايزين مفهوما وفي الذهن ، ومدار الإمكان والاستحالة على تعدّد موضوع الحكمين في الخارج ووحدته فيه ، لا مجرّد تغايرهما مفهوما.

كيف! والغصب والصلاة لا إشكال في تغايرهما بحسب المفهوم ، فالاجتماع الموردي المتوهّم كالصّلاة والنّظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة ، أو الوضوء ، والغسل ، والنّظر إليهما في حالهما ، أجنبيّ عن المقام ؛ لأن الفعلين في الاجتماع الموردي متمايزان في الخارج ، مضافا إلى اختلافهما مفهوما وليس هناك فعل واحد مصداق لهما فهذا الوجه أيضا لا محصّل له أصلا ، وإن كان ربّما يجري في لسان شيخنا قدس‌سره لدفع الإشكال في مجلس البحث.

٣٦٦

الجواب الرّابع

الرابع : ما أشرنا إليه أيضا في طي تقرير الإشكال : من كون وجود الحكم الظاهري مشروطا بموافقته للواقع فعند المخالفة له ليس هناك إلاّ حكم واحد وإن كان المكلّف مأمورا بالبناء على الموافقة وترتيب آثار الواقع دائما ما لم ينكشف الخلاف.

وقد عرفت الإشارة إلى ضعف هذا الوجه أيضا ، وأنه لا يمكن اعتبار موافقة الواقع في الحكم الظاهري. كيف! ولازمه ثبوت الحكم الظاهري مع العلم بوجود الشرط وهو الموافقة وهو محال وخلف ؛ لأن المعتبر في موضوع الحكم الظاهري الجهل بالواقع ، وافقه أو خالفه فافهم.

الجواب الخامس

الخامس : ما قد يتوهّم ، أو يقال في المقام ، وفي مسألة اجتماع الحكم الفعلي مع الحكم الواقعي على الخلاف في مسألة اجتماع الأمر والنهي : من أن استحالة اجتماع الحكمين إنّما هي من جهة عدم إمكان امتثالهما وعجز المكلّف عنه ، فإذا كان أحدهما واقعيا لم ينجّز التكليف به والآخر فعليّا أو ظاهريّا لم يجب امتثال الحكم الواقعي فيهما ، فلا مانع من اجتماعهما ، ومن هنا ذكر غير واحد حتى صاحب « المعالم » : أن الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام وليس هذا إلاّ من جهة كون الحرام مسقطا للواجب ، وأنه لا يقصد منه الامتثال عن المكلّف هذا.

٣٦٧

وأنت خبير بفساد هذا الوجه أيضا ؛ لابتنائه على عدم التّضاد بين الأحكام بالنظر إلى أنفسها وهو بديهي البطلان ، مضافا إلى اتّفاق كلمتهم عليه. والاستشهاد باجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام ، فإن أراد ذات الواجب فلا ينفع في المقام أصلا ، وإن أراد الواجب المتّصف بالوصف فيمتنع اجتماعه مع الحرام ؛ لأن الحيثيّة التوصّليّة إنّما تفيد في سقوط الخطاب بفعل الحرام من حيث حصول الغرض به وارتفاع موضوع الخطاب معه لا في تعلّق الخطاب بالحرام.

كيف! والضدّيّة بين الحكمين لا تعلّق له بالتّعبديّة والتوصّليّة ومن خالف في ذلك في ظاهر كلامه ، فلا بد من أن يصرف عنه أو يحكم بخطأه في القول ؛ لأن ما ذكرنا من الأمور الواضحة عند ذوي الأفهام المستقيمة. هذه غاية ما قيل أو يقال في دفع الإشكال.

وقد عرفت : عدم تماميّتها بأسرها ، وقد طال البحث بيني وبين شيخنا قدس‌سره في مجلس المذاكرة في الإشكال المذكور في هذا المقام ومسألة اجتماع الأمر والنهي ولم يحصل لي من إفاداته ما يدفع به الإشكال عن نفسي وزعمت أنّه ممّا لاذبّ عنه ؛ فلعلّك تهدى إلى وجه دفعه.

ولكنّي أسألك التأمّل في هذا المقام ، وعدم المسارعة فيه ، وأن لا تسلك سبيل طلبة عصرنا من الإيراد على كل ما يسمعونه من غير تأمّل في موضوع القضيّة ومحمولها ، وإلاّ فالسّهو والخطأ بمنزلة الطبيعة الثانية لغير الإنسان الكامل الذي عصمه الله منهما أو من يحذو حذوه من المعصومين. ولقد صار من المثل : كم

٣٦٨

ترك الأوّل للآخر ، مع أني معترف بقصور الباع في العلم ، فلعلّه اختفى عليّ جهات المسألة في الموضعين.

وممّا ذكرنا كله يظهر لك المراد من قوله قدس‌سره : « لا لعدم اتّحاد الموضوع » (١) وقوله : « ألا ترى أنه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التّتن المشكوك حكمه هي الإباحة بين كون حكم شرب التّتن في نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة » (٢) وما يوجّه به.

ثمّ إنّك قد عرفت مما ذكرنا كلّه : أنّ تقابل الشكّ والظّن وإن اقتضى كون المراد بالشك ما يقوم بالاحتمالين المتساويين إلاّ أن المراد به في مجاري الأصول ليس خصوص ذلك يقينا.

ومن هنا قال قدس‌سره : « ثم إنّ الظّن (٣) المعتبر حكمه حكم الشك » (٤) بمعنى : أن الموضوع في دليل الأصل ما يعمّهما وينطبق عليهما من غير فرق.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

(٣) كذا وفي الكتاب : الظنّ غير المعتبر ... إلى آخره وهو الصحيح.

(٤) المصدر السابق : ج ٢ / ١١.

٣٦٩

(٨٩) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا : من تأخّر مرتبة الحكم الظاهري ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ١١ )

أقسام الأصل والدليل وبيان النسبة بينهما

أقول : توضيح القول في النّسبة بين الأصل والدليل وأنّها من التعارض أو غيره ، يحتاج إلى بسط في المقال ، وإن كان محلّ ذكره مسألة تعارض الأدّلة ؛ إلاّ أن تعرّض شيخنا لها في المقام ، الجأني إلى التكلّم فيها فنقول ـ بعون الله وتوفيقه ودلالة أوليائه ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ـ :

__________________

(١) قال الأصوليّ المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه ـ مع ما عرفت من فساد المبنى حيث أن شيئا من القطع والظن والشك ليس موضوعا للأحكام فيهذا الباب وانما الموضوع هو العلم حتى فى الأصول فإن وجوب الاحتياط الذى هو التنجيز التام أثر العلم الإجمالى والتنجيز أيضا كذلك فإن حرمة المخالفة القطعية أثر العلم وعدم وجوب الاحتياط أثر العجز وعدم الترجيح إنّما هو لعدم المرجّح ـ :

ان ارتفاع الموضوع ليس متفرعا على الترتب وإنّما هو لكون الدليل العلمي مزيلا للشك مع أن المقيّد يستلزم المطلق لا انه يباينه ، وما يرى من عدم المعارضة بين الأصل والدليل فإنما هو لإختلاف المحمول والموضوع معا فليس حكم الحرام الواقعى حال الجهل هو الإباحة وإنّما يعبّر عن المعذوريّة بها فلا نسبة بين الأصل والدليل ولا تعارض ولا تخصيص ولا تخصّص » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٦.

٣٧٠

الدليل المقابل للأصل ؛ إمّا أن يكون علميّا أو ظنيّا منوطا بوصفه أو نوعه مطلقا أو مقيّدا. وكذا الأصل المقابل له ؛ إمّا أن يكون من الأصول الشرعيّة المحضة كالاستصحاب ، أو العقليّة كذلك كأصل التخيير في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، أو من الأصول الشرعيّة والعقليّة بمعنى وجود الجهتين له كأصل البراءة وأصل الاحتياط ، بناء على عدم إناطة حكم الشارع بهما بما هو المناط في حكم العقل بهما ؛ بأن يكون ما ورد فيهما في الشرعيّات مؤكّدا محضا لحكم العقل بهما ؛ فإن حكم العقل بالبراءة منوط بقبح العقاب من دون وصول بيان من الشارع إلى المكلّف ، ولو بالطّرق الظنيّة المعتبرة ، بل بأصل من الأصول الشرعيّة ، على ما ستقف على تفصيل القول فيه.

وحكم الشارع بالإباحة الظاهريّة ؛ يمكن أن يكون مترتّبا على عدم العلم بالحرمة الواقعيّة كما هو المستظهر من أخبارها على ما ستقف عليه. وكذلك حكم العقل بوجوب الاحتياط في موارده ، مبنيّ على احتمال العقاب. وأما حكم الشارع به فيمكن أن يكون منوطا على الجهل بالواقع ، كما ربّما يدّعى ظهوره من أخباره ، بل ادّعى ذلك حسبما يقع الكلام فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

فإن كان الدليل المقابل ، علميّا ومفيدا للعلم بالحكم الواقعي ؛ فلا إشكال في وروده على الأصل وارتفاع موضوعه به حسّا حقيقة من غير فرق بين أقسام الأصل ؛ ضرورة اشتراطه مطلقا بعدم العلم بالخلاف ، بل بعدم العلم مطلقا سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له كما هو ظاهر لا سترة فيه أصلا.

٣٧١

وإن كان ظنّا معتبرا ؛ فإن كان الأصل المقابل أصلا عقليا محضا أو كان له جهة عقليّة فلا إشكال في وروده عليه أيضا ورفع موضوعه به ؛ ضرورة ارتفاع التسوية التي أنيط به التخيير العقلي بالظن المعتبر وارتفاع احتمال العقاب الذي أنيط به وجوب الاحتياط في حكم العقل به أيضا وتحقّق البيان المعتبر عدمه في حكم العقل بالبراءة بالظنّ المعتبر.

وهذا هو المراد بقوله قدس‌سره : « وأمّا الأدلّة العقلية القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنّية واضح ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وإن كان أصلا شرعيّا كالاستصحاب ـ بناء على القول به من باب التعبّد والأخبار ، وأمّا على القول باعتباره من باب الظنّ فيخرج من الأصول كالتخيير الشرعي بين المتعادلين ؛ فإنه لا دخل له بالأصل أيضا وإن كان مدركه الأخبار على ما عرفت الكلام فيه في الجزء الأوّل من التعليقة ، وإليه أشار بقوله بعد ذلك :« وأمّا التّخيير فهو أصل عقلي لا غير » (٢) ومنه يظهر : فساد إيراد من لا خبرة له عليه ـ أو كان له جهة شرعية كالبراءة والاحتياط ففيه وجوه ، بل أقوال :

أحدها : كون الدليل واردا عليه أيضا ورافعا لموضوعه كما يظهر من كلمات جماعة من المتأخرين ؛ نظرا إلى أن المراد من عدم العلم بالحكم ـ المأخوذ في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.

٣٧٢

موضوع الأصول ـ هو عدم العلم به واقعا وظاهرا إلى كونه غير معلوم مطلقا بحسب الجعل الأوّلي والثانوي.

وبعبارة أخرى : المعتبر في مجاري الأصول ، الجهل بالحكم الشرعي حدوثا وبقاء بجميع مراتبه وبعبارة ثالثة : ما يكون مجهولا مطلقا ، فلو علم به من حيث قيام الظّن المعتبر به ، خرج عن كونه مجهولا بهذا العنوان وإن كان مجهولا بحسب بعض مراتبه ، وهو ثبوته في نفس الأمر وفي ذات الموضوع من حيث هي.

وهذا الوجه كما ترى ، لا يساعد عليه الأدلّة الشرعيّة القائمة على الأصول ، خصوصا الاستصحاب ؛ فإنه وإن أمكن القول به بالنّسبة إلى بعض أدلّة البراءة كتابا وسنّة كما ستقف عليه ، إلاّ أنّه خلاف مدلول أكثرها كقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) وقوله : « كلّ شيء [ هو ] لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه » (٢) ونحوهما ممّا سيمرّ عليك وكيف كان لا إشكال في ضعف هذا الوجه.

ثانيها : كون الدليل الظنّي معارضا للأصل المذكور ومخصّصا له. وهذا الوجه يظهر من كلمات السيّد السند صاحب « الرياض » قدس‌سره فإنه كثيرا ما سلك هذا

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٢٠٨ ـ ح ٩٣٧ عنه وسائل الشيعة : ج ٦ / ٢٨٩ ، باب « جواز القنوت بغير العربية » ـ ح ٣.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ ـ باب النوادر ـ ح ٤٠ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الأنفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.

٣٧٣

المسلك في تقابل الدليل الظّنّي مع الأصل ، ويقول : يخرج عن الأصل بالدليل ، أو يخصّص الأصل بالدليل ، أو نرجّح الدليل على الأصل ، ونحوها من العبارات الظاهرة في ذلك.

وكلامه ـ وإن كان مطلقا شامل للأصل العقلي أيضا ، إلاّ أنه لظهور فساده ـ يحمل على مقابلته مع الأصل الشرعي ؛ ضرورة عدم تصوّر التعارض والتخصيص بالنسبة إلى الأصل العقلي.

ووجهه : ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (١) : من أنّ دليل الأصل يثبت مفاده في موضوع عدم العلم بالواقع ، سواء قام هناك الأمارة التي دلّ الدليل على حجيّتها كخبر العادل مثلا ، أم لا ؛ فإن اعتبار خبر العادل وإن كان علميّا كاعتبار الأصل ، إلاّ أنّ مفاده ليس علما وإلاّ خرج عن الدليل الظّني. فخبر العادل الدّالّ على حرمة بعض الموضوعات يدلّ على حرمته مع عدم العلم بحكمه الواقعي وما دلّ على أصالة الإباحة أيضا يدلّ على إباحته مع عدم العلم بحكمه الواقعي ، فكلّ منهما بالنّظر إلى دليل اعتباره يثبت حكما ظاهريّا على خلاف الآخر في الموضوع الواحد ، وهذا معنى تعارضهما.

وأمّا وجه ترجيح الدليل على الأصل وتخصيصه به ـ مع كون النسبة بين دليلهما العموم من وجه ـ : كون دليل الحرمة بمنزلة الخاص المطلق بالنّسبة إلى

__________________

(١) أنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

٣٧٤

دليل الأصل بملاحظة الإجماع القائم على عدم الفرق في حجيّة الخبر ووجوب الأخذ به بين وجود الأصل على خلافه وعدمه ؛ فإنه بعد قيامه لو عمل بدليل الأصل في مادّة التعارض ، لزم طرح الخبر في مورد سلامته للملازمة الثابتة بينهما بالفرض ؛ فيلزم طرح الخبر رأسا. هذا بخلاف ما لو علمنا بالخبر في مادّة التّعارض ؛ فإنه لا يلزم منه طرح الأصل في مادّة الافتراق ، فيصير الخبر بمنزلة الخاص المطلق ، والأصل بمنزلة العام المطلق. هذا معنى ما ذكرنا : من كون دليل الجزء بمنزلة الخاص بالنّسبة إلى دليل الأصل.

فإن شئت قلت : إن التعارض بينهما وإن كان العموم من وجه إلاّ أن دليل حجيّة الخبر أظهر دلالة من دليل اعتبار الأصل فيلزم العمل عليه في مادة التعارض وهذا معنى تخصيص الأصل بالدليل وترجيحه عليه.

وهذا الوجه كما ترى ، وإن كان له وجه في باديء النظر وظاهره إلاّ أنه لا إشكال في ضعفه أيضا بعد التأمّل كما يظهر وجهه من بيان الوجه الثالث الذي اختاره شيخنا قدس‌سره.

٣٧٥

حكومة الدليل الظنّي على الأصل

ثالثها : ما جزم به قدس‌سره في « الكتاب » في هذا المقام بقوله : « ولكنّ التحقيق : أن دليل تلك الأمارة ... الى آخره » (١) وفي غيره من حكومة الدليل الظنّي بالنظر إلى دليل حجّيّته على الأصل الشرعي ؛ حيث إنه بمدلوله ناظر إلى دليل الأصل وشارح ومفسّر له ومبيّن لمقدار مدلوله ، فهو مقدّم عليه بالتقدّم الذاتي لا لمكان الترجيح والتخصيص فلا معارضة بينهما حقيقة أصلا.

توضيح ذلك : أن معنى حجيّة الخبر مثلا ووجوب البناء على صدقه وترتيب آثار الواقع عليه هو عدم الاعتناء باحتمال كذبه في إخباره الذي يراعى شرعا لو لا الحكم بحجيّته. ومن المعلوم أنّ نفي الاعتناء بالاحتمال المذكور شرعا راجع إلى إلقاء ما يقابل عند احتمال كذبه من الرجوع إلى الأصل بحكم الشارع وبعد إلقاء الوسائط يكون معنى حكم الشارع بحجّية الخبر في معنى رفع اليد عن الأصل ، وهذا معنى كونه شارحا له وناظرا إليه وهو ما ذكرنا من الحكومة. ومنه يظهر : فساد القول بالتعارض والترجيح والتخصيص في المقام.

ثمّ إن هذا الذي ذكرنا من حكومة الدليل الظّنيّ على الأصل الشرعي إنّما هو في الأصل الأعمّ. وأما إذا فرض هناك أصل أخصّ من دليل اعتبار الأمارة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.

٣٧٦

الظّنيّة ؛ بمعنى وجود الأمارة المفروضة في جميع موارد جريانه فلا معنى لحكومته على الأصل ، بل يتعيّن تخصيصه بالأصل. كما إذا قيل باعتبار الاستصحاب من باب الظّن في مقابل قاعدة الشك بعد الفراغ عن العمل ، أو بعد التجاوز عن المحلّ ، أو بعد خروج الوقت ـ بناء على القول باعتبارها من باب التعبّد الظاهري ـ أو في مقابل البناء على الأكثر عند الشك في الأخيرتين من الرباعيّة بناء على جريان الاستصحاب فيه على ما زعمه بعض أفاضل مقاربي عصرنا (١) في باب الاستصحاب (٢) كما سيجيء نقله في محله ؛ فإنه لا مناص عن تخصيص الاستصحاب بالأصلين.

وهذا لا يختصّ بالمقام بل هو جار بالنسبة إلى جميع ما يكون حاكما على أدلة الأحكام ، كدليل نفي الحرج والضرر وأشباههما ؛ فإنه لا معنى لحكومتها على ما يثبت خلافها في مورد الخاص ، فلو قام هناك دليل على ثبوت حكم حرجيّ في مورد ، أو ضرريّ كالتصرّف في مال الغير فيما يتوقّف حفظ النفس عليه ؛ فلا ينظر إلى كونه حرجيّا أو ضرريّا وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام وسنتكلّم في تمامه في الجزء الرابع من التعليقة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧١.

(٢) أنظر بحر الفوائد : ج ٣ / ٣٤.

٣٧٧

(٩٠) قوله قدس‌سره : ( واعلم أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة ... الى آخره ) ( ج ٢ / ١٣ )

أقول : الغرض ممّا أفاده : كون المقصود الأصلي بالبحث التكلّم عن حال الأصول الحكميّة ، أي : ما يجري في الشبهات الحكمية وإن جرت في الشبهات الموضوعيّة أيضا ، كالأصول الأربعة ؛ فإنها جارية في الشبهتين.

وأما الأصول الموضوعيّة الصّرفة أي : ما لا يجري إلاّ في الشبهات الموضوعيّة كأصالة الصحّة في فعل الغير ، وفي فعل النفس ، ونحوهما ـ بناء على اعتبارهما من باب التعبّد ـ فليست مقصودة بالبحث ؛ فإن وقع فيها كلام لمناسبة كيفيّة معارضتها مع الاستصحاب أو غيره ، فهو خارج عن المقصود.

فالحصر المدّعى في المقام إنّما هو بالإضافة إليه ، فلا ينقض بخروج ما لا يجري إلاّ في الموضوعات الخارجيّة عن الأصول الأربعة. فإن المقسم ـ على ما عرفت ـ هو المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي لا الأعمّ منه ومن الملتفت إلى الموضوع الخارجي.

ثمّ إن ما أفاده من حصر الأصول الحكميّة في الأربعة وكون الحصر عقليّا دائرا بين النفي والإثبات وبيان مجاري الأصول مناطها وإن كان محل النّقض والإبرام على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة (١) فلا نطيل بالإعادة ، إلاّ أن ما أفاده في المقام في بيان مجاري الأصول ، أسلم عن المناقشة

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٣.

٣٧٨

ممّا أفاده في الجزء الأوّل من « الكتاب » (١) في بيانها ، وإن لم يخل عن بعض المناقشات أيضا كالحكم بتعيّن الرّجوع إلى التخيير في جميع ما لا يمكن الاحتياط فيه ؛ إذ من مصاديقه دوران الأمر بين الحكمين الإلزاميّين وغيرهما كالوجوب والتحريم والإباحة مثلا مع اتّفاقهم فيه على الرجوع إلى البراءة كما ستقف على تفصيل القول فيه. والتفصّي عنه باعتبار ملاحظة الحيثيّة قد عرفته مع فساده في الجزء الأول من التعليقة (٢).

ثمّ إن المراد مما أفاده من تداخل موارد الأصول بقوله : « وقد ظهر ممّا ذكرنا : أن موارد الأصول قد تتداخل ... الى آخره » (٣).

ليس ما قد يسبق إلى بعض الأوهام : من جريان الأصلين في مورد واحد وإن لم يكونا متصادقين فيجري الاستصحاب في مورد جريان البراءة أو الاشتغال ، كيف! ويعتبر في مورد جريان الاستصحاب ترتّب الحكم على المشكوك ، وفي جريان سائر الأصول ترتب الحكم على الشك أو ما ينطبق عليه ، مع ذلك لا يمكن اجتماعه معها موردا بالمعنى المتوهّم.

بل المراد مجرّد جريان سائر الأصول فيما تفرض فيه الحالة السّابقة وإن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٥.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٤.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٤.

٣٧٩

اعتبر في جريانها عدم ترتب الحكم على المشكوك بل على الشك أو ما ينطبق عليه.

ثمّ إن هنا أمورا ينبغي التعرض لها تبعا لجمع من أفاضل المتأخرين :

المراد بأصل البراءة

الأوّل : أن المراد من أصل البراءة هل هو بمعنى القاعدة أو الدليل أو الاستصحاب أو الظاهر؟ وجوه ، أوجهها ـ على ما عرفته في معنى الأصل ومبنى البراءة وستعرفه أيضا ـ هو الأوّل ، من غير فرق بين ابتنائه على العقل أو النقل ، وإن صحّ حمل الدليل مقيّدا بالفقاهتي عليه على ما عرفته بالنظر إلى مدركه ، كما أنه يتعيّن إرادة الدليل أو الظاهر منه بناء على ابتنائه على الظّن كما هو ظاهر.

وأمّا الاستصحاب فلا يصحّ إرادته منه إلاّ على القول بالاستناد إليه في باب البراءة كما يظهر من جماعة في المقام وفي باب الاستصحاب حيث أنهم قسّموه باعتبار المستصحب إلى حال الشرع وإلى حال العقل وهو المسمّى بالبراءة الأصليّة.

لكنّه فاسد لما عرفت وستعرف : من فساد الاستناد إليه قطعا. وفي كلام غير واحد توجيه عدم إرادته بأن النسبة عموم من وجه من حيث جريان البراءة فيما ليس له حالة سابقة.

قال بعض أفاضل من قارب عصرنا في « فصوله » ـ بعد ذكر وجوه الأربعة

٣٨٠