بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

ريب فيه ؛ لكونه ظهورا مستندا إلى اللّفظ حقيقة ، وإن استند إلى مجموع الألفاظ ؛ لعدم الفرق في بناء أهل اللّسان والعرف بينهما أصلا على ما فصّل مستقصى في محلّه.

وأمّا الاستدلال بدليل الانسداد للتّعدي والتّسرية بناء على قيام الظّن الغير الثّابت حجيّته على التّرجيح بكلّ ما يوجبه ولو بحسب المرجّحات الخارجيّة بناء على الإغماض عمّا عرفت من الدّليل عليه فهو محلّ نظر ومناقشة.

فإنّه إذا كان ظاهر الأخبار التّرجيح بأمور مخصوصة ولم تدلّ على مناط مشترك كما هو المفروض ، فإن فرض انسداد باب العلم بتشخيص تلك الأمور والظّن الخاصّ به استقام تشخيصها بالظّن المطلق المتعلّق بها كالظّن بالمشهور رواية أو الأعدليّة أو المخالفة للعامّة إلى غير ذلك.

وأمّا الظّن بالحكم الفرعيّ المطابق لأحد المتعارضين فليس ظنّا بما ثبت التّرجيح به وليس من أطراف العلم الإجمالي أيضا بالفرض حتّى يرجع إلى الظّن بكونه ممّا جوّز التّرجيح به ، فكيف يتمسّك بدليل الانسداد لإثبات اعتباره في لزوم التّرجيح بما قام عليه من الظّن الخارجي؟

فإن شئت قلت : إن التمسّك بدليل الانسداد في هذه المسألة الأصوليّة الخاصّة كالتمسّك به في سائر المسائل موقوف على العلم الإجمالي بالتّكليف بالتّرجيح بأمور غير معلومة بالتفصيل ، ولا مظنونة بالظّن الخاصّ مع كون المرجّح

٣٤١

الخارجي من أطرافه بحيث لا يكون هناك قدر متيقّن ، وليس في المقام علم إجماليّ على الوجه المذكور ؛ إذ التّرجيح بالمرجّحات المنصوصة لا إشكال ولا خلاف فيه.

مضافا إلى كونه متيقّنا على كلّ تقدير مع مساعدة العرف وأهل اللّسان على لزوم التّرجيح ببعضها كتقديم الأظهر على الظّاهر ، وبعد وضعها لا نسلم العلم الإجمالي بلزوم التّرجيح بشيء آخر. مع أنه لو فرض وجوده كان المرجحات الداخلية الغير المنصوصة وما يرجع إلى الاعتضاد متيقّنا بالنسبة إلى الترجيح بالمرجح الخارجي.

فإن شئت قلت : إن أمر المعلوم بالإجمال على تقدير التسليم المزبور مردد بين الأقل والأكثر ، فلا يمنع من الرجوع إلى إطلاقات التخيير بالنسبة إلى المرجح الخارجي.

وبعبارة أخرى : الحكم باعتبار الظن بلزوم الترجيح بكلّ مزيّة حتّى المرجّح الخارجي موقوف على ثبوت التّكليف بالتّرجيح بغير ما تيقّن التّرجيح به وهو في حيّز المنع ، فإن سلّم إطلاق لأخبار التّخيير فيحكم بمقتضاه ، وإلاّ فيؤخذ بالرّاجح لا من جهة ثبوت التّرجيح بالظّن الخارجي من جهة دليل الانسداد بل من جهة كونه متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير. ولا فرق في ذلك بين أن يكون هناك أصل أو عموم يرجع إليه على تقدير عدم وجود الرّاجح من الخبرين أولا كما هو واضح.

٣٤٢

هذا إذا فرض الفراغ عن اعتبار المتعارضين في الجملة بعد التّعارض وحجيّتهما وتردّد الأمر فيما هو الحجّة بين الرّاجح أو هو مع المرجوح على سبيل التّخيير كما هو المختار ومقتضى الأخبار والفتاوى في غالب الأعصار.

وأمّا إذا لم يفرض ذلك تعيّن الرّجوع إلى عموم ، أو إطلاق ، أو أصل على تقدير عدمهما لا يخالف مقتضى المتعارضين بناء على حجيّة الأخبار وغيرها من باب الطّريقيّة كما هو المختار وعليه المشهور والمدار عندهم ، لا السّببيّة المحضة الّتي يقتضي الحكم بالتّخيير بين المتعارضين مطلقا بحكم العقل على ما عرفت مفصّلا ، من غير فرق بين وجود المرجّح وعدمه.

هذا ما يقتضيه التّحقيق الّذي سلكه شيخنا قدس‌سره أيضا في باب التّعارض في خاتمة « الكتاب » ، ولا بدّ أن ينزل تحريره في المقام عليه وإن لم يخل عن تمحّل وتكلّف.

فحكمه برعاية الاحتياط بالأخذ بالمظنون والراجح من الخبرين بقوله :« وبالجملة : فلا ينبغي ترك الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التّخيير » (١) لا بدّ أن ينزّل على الفراغ عن حجيّة أحد المتعارضين مع عدم الإطلاق لأخبار التّخيير.

كما أنّ حكمه بالرّجوع إلى الأصول فيما طابق الاحتياط ، احتياطا وإشكاله

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٩.

٣٤٣

فيما كان نافيا أو مثبتا مع عدم إمكان الاحتياط ، لا بدّ أن ينزّل على ما ذكرنا أخيرا :من عدم الفراغ عن حجّيّة أحد المتعارضين كما يشير إليه قوله : « والدّليل على هذا الإطلاق مشكل خصوصا لو كان الظّن المقابل من الشّهرة المحقّقة » (١).

وإن كان مقتضى التّحقيق عدم الإشكال في الرّجوع إلى الأصل مطلقا فيما لم يخالف مقتضى المتعارضين. هذا ما يقتضيه تحقيق المقام عاجلا وعليك بالتّأمّل فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول.

خاتمة : مشتملة على أمرين ؛

لا بدّ من الفحص التامّ عن المرجّحات الخارجيّة

الأوّل : أنّه كما لا يجوز إجراء حكم التّعادل إلاّ بعد الفحص التّام عن المرجّحات المنصوصة في أخبار العلاج ، كذلك لا يجوز إجراؤه إلاّ بعد الفحص التّام عن المرجّحات الخارجيّة بعد البناء على لزوم التّرجيح بها على ما عرفت وجهه ؛ لوجوب الفحص عن الحجيّة الشّرعيّة والطريق إلى الأحكام من غير فرق بين الفحص عن أصل وجود الدّليل أو الفحص عمّا يجب الأخذ به فعلا مع وجود الدّليلين المتعارضين. وكما لا يجوز الرّجوع إلى الأصول العمليّة عند الشّك في أصل وجود الدّليل قبل الفحص ، كذلك لا يجوز الرّجوع إلى أصالة عدم مزيّة أحد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٩.

٣٤٤

المتعارضين على الآخر قبل الفحص.

وأمّا بعد الفحص التّام فإن احتمل المزيّة والمرجّح الخارجي في كلّ منهما فلا إشكال في إجراء حكم التّعادل ؛ لأنّه في معنى التّعادل حقيقة وإن احتمل وجود المرجّح بالنّسبة إلى أحدهما بالخصوص دون الآخر فيمكن القول بلزوم الأخذ به وإن لم يكن ظنّا ؛ نظرا إلى الكليّة المستفادة ممّا عرفت : من الأخبار العلاجيّة من دوران التّرجيح مدار عدم ريب في أحد المتعارضين موجود في الآخر ، وكذلك الحكم فيما لو وجد الاحتمال في كلّ منهما ، ولكن كان وجود المرجّح في أحدهما مظنونا وفي الآخر مشكوكا أو موهوما ؛ فإنّه يجب الأخذ بما ظنّ وجود المرجّح فيه ؛ نظرا إلى الكليّة المذكورة كما هو واضح. ولا فرق في ذلك كلّه بين المرجّحات الدّاخليّة والخارجيّة.

حكم التعارض بين المرجّحات المنصوصة والخارجيّة

الثّاني : أنّه لو وقع التّعارض بين المرجّحات المنصوصة والخارجيّة بوجود المرجّح المنصوص في أحد المتعارضين ، والخارجي في الآخر ؛ فإن كان الوجه في التّرجيح بالمرجّحات الخارجيّة والتّعدي عن المنصوصة إليها الكليّة المستفادة من الأخبار ، فلا إشكال في لزوم الأخذ بما هو الأقوى منهما في النّظر ؛ من جهة حصول الظّن الفعلي منه لعدم التّرتيب بينهما على هذا التّقدير.

إذن حكم التّعارض بينهما حينئذ حكم التعارض بين المرجّحات

٣٤٥

المنصوصة ، وإن لم يكن هناك قوّة ؛ فيجب إجراء حكم التّعادل ؛ لعدم المزيّة بالفرض كما هو الشّأن فيما وقع التّعارض بين المرجّحات المنصوصة وإن كان الوجه في التّرجيح بها دليل الانسداد بالبيان الّذي عرفته وتقدّم ضعفه ، فلا إشكال في لزوم الأخذ بالمرجّح المنصوص على ما نبّهناك عليه سابقا من لزوم رعاية التّرتيب على هذا التّقدير.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم : حكم ما لو وقع التّعارض بين المرجّحات الخارجيّة ؛ فإنّه على تقدير قوّة لبعضها يلزم الأخذ بالخبر الموافق لهذا البعض. وعلى تقدير عدم القوّة يرجع إلى حكم التّكافؤ والتّعادل (١).

هذا آخر ما أردنا إيراده في سلك التّحرير ويتلوه الجزء الثّاني من التّعليقة

__________________

(١) قال الأصولي الجليل الملا رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لقد أجاد فيما أفاد إلاّ انه فرض التعارض بين المرجحات المنصوصة وهذا إنّما يحصل مع عدم الترتيب وتقديم بعضها على بعض.

وبالجملة : إذا كانت في العرض وليس الأمر كذلك بل هي بالترتيب لا عبرة بالمتأخّر مع وجود المتقدّم فكيف يقع التعارض بينها؟

ولعلّه أراد به التسوية فيها وليس هو التعارض بل هو التعادل. أو أراد حصول المتقدّم في أحدهما والمتأخّر في الآخر فيؤخذ بالأقوى وهو المتقدّم ويقرّبه ان التقريب لما هو كذلك ». أنظر الفرائد المحشّى : ١٨٩.

٣٤٦

إن شاء الله تعالى (١) والحمد لله أوّلا وآخرا وله الشّكر ظاهرا وباطنا وصلّى الله على نبيّه محمّد خاتم أنبيائه ورسله وآله الطّيبين الطّاهرين المعصومين حجج الله على الخلائق أجمعين ولعنة الله على أعدائهم من الأوّلين والآخرين.

وقد وقع الفراغ عن تحرير ما أردناه في شعبان المعظّم سنة سبع وثلاثمائة بعد الألف وكان تحريره على يد العبد أحمد التّفرشي (٢).

__________________

(١) إلى هنا إنتهت نسخة البحر المطبوعة في هامش الفرائد في طهران سنة ١٣٧٦ ه‍.

(*) وقد وقع الفراغ من تصحيح هذا الجزء ومقابلته وتحقيقه بما تيسّر في سلخ شهر شعبان المعظّم سنة ١٤٢٨ ه‍ ق وقد أعدنا النظر فيه ثانية وعلّقنا عليه ما تيسّر من كلمات الأعلام وكان الفراغ من ذلك في سحر ليلة الأحد ٢٤ من ذي القعدة سنة ١٤٢٩ ه‍ في جوار كريمة أهل البيت عليهم‌السلام عمّتنا الطاهرة السيّدة المعصومة عليها‌السلام بقم المقدّسة. صانها الله جلّ جلاله عن حوادث آخر الزمان. وعجّل اللهمّ لوليك الفرج والنصر والعافية واجعله في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السيّد محمّد حسن نجل السيّد علي الموسوى.

٣٤٧
٣٤٨

المقصد الثالث :

في الشك

٣٤٩
٣٥٠

المقصد الثالث :

في الشك

(٨٨) قوله قدس‌سره : ( قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشّرعي العملي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٩ )

في الفرق بين العلم والظّنّ بحسب الجعل وغيره إجمالا

أقول : قد أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة (١) : وجه التقييد بالالتفات والحصر في الثّلاثة ، وإلقاء (٢) الوهم ، وكون اعتبار العلم بالنّسبة إلى الحكم المترتّب على متعلّقه ذاتيّا ككشفه عن متعلّقه وطريقيّته إليه واستحالة تعلّق الجعل مطلقا به ، سواء كان من الشّرع والعقل ، وإقامة البرهان على ذلك ، وفساد توهّم من ذهب إلى الخلاف غفلة عن حقيقة الحال ، أو فتح باب الاعتراض ذاهلا عن المراد ،

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢ حجرية.

(٢) كذا في النسختين والصحيح : الغاء ـ وسوف يتكرّر منه ذلك وقد لا ننبّه عليه لوضوحه فلتكن على ذكر منه.

٣٥١

وأن الظّن سواء كان شخصيّا ، أو نوعيّا يشارك العلم في الكشف والطريقيّة الذاتيّة بحسبه.

وأنّه يمكن أن يعتبر من حيث كونه كاشفا عن متعلّقه وطريقا إليه في الشّرعيّات ، وأنّه يفارق العلم من هذه الحيثيّة ، وأنّه ليس لازم الاعتبار بذاته ، ولا تمنع الاعتبار كذلك ، فيفارق الشك أيضا ، وأن الحكم بوقوع اعتباره وحجيّته في الشّرعيات يتبع قيام الدّليل على الوقوع شرعا ، أو عقلا ، والآخر خرج عن الإمكان إلى الوجوب وهو خلف محال.

وأنه في مورد الشك في قيام الدّليل على الوقوع يبنى على عدمه ، وأنه لا شك في وقوعه في الجملة في الشّرعيّات ، والتّأمل في الأصل الثانوي الذي جرى في لسان جمع ممن قارب عصرنا ، أو عاصرناه : من لزوم البناء على الوقوع في الحكم الفقهي ، أو الطريق ، أو هما معا ، إلاّ ما خرج.

كما أنا أسمعناك هناك : امتناع طريقة الشّك وكشفه عن المشكوك ، وإلاّ خرج عن كونه شكّا ، مضافا إلى لزوم الطريقيّة إلى المتنافيين والمتناقضين ذاتا ، وامتناع اعتباره من الحيثية المذكورة بعد فرض فقدانها بالذات. وفساد توهّم بعض من عاصرناه خلاف ذلك ، وأن مرجع اعتبار الاستصحاب إلى اعتبار احتمال الحالة السّابقة ، وكذا مرجع أصالة الحلّيّة في الأشياء إلى اعتبار احتمال الحلّيّة وترجيحه على احتمال الحرمة.

وهكذا الأمر في الطّرق التعبّديّة غفلة عن المراد عن كون المستحيل في

٣٥٢

الشك اعتباره من حيث كونه طريقا وكاشفا لا مطلق ترتّب الحكم عليه ، وإلاّ فما ذكرنا بعد الالتفات من الواضحات الملحقة بالبديهيّات الأوّليّة.

وكيف يتصوّر عروض الحكم الشرعي للشك من حيث كونه طريقا وكاشفا مع امتناع وجود الحيثية المذكورة فيه؟ وعدم صلاحيّته لملاحظته بهذا الاعتبار لعدم وجدانه له وامتناع تأثير جعل الشاعر فيه كما هو ظاهر.

وأن كلا من الأوصاف الثلاثة قابل لتعلّق الحكم لمورده ويصير موضوعا للحكم ويشارك من هذه الجهة والحيثية مع الآخر ، وإن تفارقت من الحيثيّة التي عرفت الإشارة إليها.

وإلى ذلك أشار قدس‌سره بقوله : « وأما الشك فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل أن يعتبر ؛ يعني لا يعقل أن يعتبر طريقا إلى متعلّقه وكاشفا عنه ، فلو ورد في مورده حكم ... الى آخره » (١) يعني بذلك : تعلّق الحكم بالمشكوك من حيث كون الشك مأخوذا فيه.

وما هو المراد من الحكم الواقعي والظاهري وتحقيق مجاري الأصول ، وأن المأخوذ في موضوعاتها الشك ، أو العنوان المنطبق عليه في الجملة ، والإشارة إلى خلاف بعض من قارب عصرنا أو عاصرناه في « فصوله » في معنى الحكم الواقعي والظاهري إلى غير ذلك مما فصّلنا لك القول فيه ثمة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ٢ / ١٠.

٣٥٣

ولكن نعيد الكلام في تحقيق الحكم الواقعي والظاهري ، ونجدّده فيه لما هو المقصود بالبحث في المقام ، ولعلّنا نشير ضمنا إلى بعض ما طوينا ذكره في الجزء الأوّل من التعليقة.

في تحقيق الحكم الظاهري والواقعي

فنقول : أمّا الحكم الواقعي فالمراد به هو الحكم المجعول للموضوعات بالملاحظة الأولية. وبعبارة أخرى : الحكم المجعول لها جعلا أوّليّا. وبعبارة ثالثة : هو الحكم المجعول لها من دون ملاحظة الجهل بحكمها الأوّلي المجعول لها وإن لو حظ في عروضه لها وتعلّقه بها سائر الاعتبارات والأوصاف كالحضر ، والسفر ، والصّحّة ، والمرض ، ووجدان الماء ، وفقدانه إلى غير ذلك ، فالأحكام الثابتة لذوي الأعذار والموضوعات الاضطرارية أحكام واقعية.

بل وإن لو حظت في عروضه لها العلم بالموضوع ، أو الظّنّ به ، أو الشك فيه ، بحيث لا يكون مع قطع النظر عن هذه لها حكم بحيث يكون المجعول بملاحظتها مجعولا أوّليّا لها ، أو كان ولكن لم يكن من سنخها ، أو وإن كان من سنخها بالنسبة إلى غير العلم على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.

وأمّا الحكم الظاهري فهو المجعول للموضوعات من حيث الجهل وعدم العلم بالحكم المجعول لها أوّلا وبالذّات ، سواء لو حظ فيه الظّنّ به شخصا ، أو نوعا ، أو الشك فيه بالمعنى المقابل للظّنّ وهو التّسوية ، كما هو الملحوظ في موارد

٣٥٤

التخيير وشكوك الصلاة في ركعاتها ، أو أفعالها بالمعنى الأعم من الأقوال.

أو الشك بالمعنى اللّغوي وهو خلاف اليقين على ما في « القاموس » ، كما هو الملحوظ في الاستصحاب بناء على القول به من باب الأخبار ، على ما ستقف على تفصيل القول فيه.

أو العنوان المنطبق على الشك بالمعنى الأعم في الجملة ، كما هو الملحوظ في موارد وجوب الاحتياط عقلا وشرعا ، وموارد البراءة العقليّة والشرعيّة على ما ستقف عليه عن قريب : من إناطة الاحتياط باحتمال العقاب لا الشك وإناطة البراءة بعدم وصول البيان الكافي من الشرع وإن كان ظنّا معتبرا ، بل أصلا من الأصول الشرعيّة كالاستصحاب وإن كان في إناطتها بهذا المعنى كلام بالنسبة إلى البراءة الشرعية ، أو منع في الجملة ، ولو بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية : بدعوى كون المناط فيها هو عدم العلم بالحكم الإلزامي فينطبق على الشك بالمعنى الأعم كما في موارد الاستصحاب ، وستقف على ما هو المختار من المسلكين عن قريب.

فقد ظهر مما ذكرنا : أن الحكم الثابت بمقتضى الأدلّة الظّنّيّة المعتبرة شرعا والأمارات الشرعيّة حكم ظاهري على مذهب أهل الصّواب من المخطّئة كما اتّفقت عليه كلمة علماء الإمامية ، بل يكون الأمر كذلك عند العامّة أيضا بالنسبة إلى الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية ، بل على الأحكام فيما كان الدّالّ عليها ظواهر الكتاب والسنّة كما عرفت البحث فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.

٣٥٥

ولذا ذكروا : أن المستنتج من البرهان المعروف الذي يترتّبه (١) المجتهدون هو العلم بالحكم الظاهري ، ووجّهوا به أخذ العلم بالحكم في تعريف الفقه ـ في دفع الإيراد عليه بكون أكثر مباديه ظنّيّة ـ : بأن المراد بالحكم أعم من الظاهري والواقعي فلا ينافي أخذ العلم في حد الفقه.

وإلى ذلك يشير قوله قدس‌سره بعد ذلك : « ولذا اشتهر أن علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانيّة وهي : هذا ما أدّى إليه ظنّي. وكبرى برهانية وهي : كلّما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي. فإن الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري » (٢) ؛ فإن صريحه كون الحكم الظاهري أعم من مفاد الأصول.

وإن كان ربّما يوهم قوله قبل ذلك في بيان الفرق بين الأصل والدليل كون الحكم الظاهري مختصّا بمفاد الأصل ، كظاهر ما يتراءى منه ذلك في باب الاستصحاب.

ومن هنا قيل : إن للحكم الظّاهري إطلاقين عنده أعمّ وأخص. ولكن المتأمّل يشهد بأن مراده ليس تخصيص مطلق الحكم الظاهري بمفاد الأصل ، بل تخصّص ما لا يلاحظ في تعلّقه بالموضوع المجهول الحكم الكشف الظنّي عن الواقع ولكن الأمر في ذلك سهل.

__________________

(١) كذا والصحيح : يرتّبه.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ / ١٣.

٣٥٦

أمّا إطلاق الحكم الظاهري على الفعلي المنجّز سواء كان واقعيّا تنجّز بالعلم أو ظاهريّا بالمعنى الذي عرفته ، والواقعي على الثاني الغير المنجّز فلم نقف عليه إلاّ في كلام بعض الأفاضل مقاربي عصرنا في « فصوله » وقد تقدّم نقله في الجزء الأوّل من التعليقة.

في انقسام الحكم الظاهري إلى الشأني والفعلي

ثم إن الحكم الواقعي ـ بالمعنى الذي عرفت ـ كما ينقسم إلى الشأني والفعلي ـ بالنّظر إلى حكم العقل بوجوب إطاعته وتنجّزه على المكلّف وترتّب الآثار عليه وحكمه بكونه معذورا في مخالفته على تقدير ثبوته في نفس الأمر لا أن يكون هناك إنشاءان وحكمان من الشارع أحدهما : الحكم الشأني. ثانيهما :الفعلي ، كما قد يتوهّم ، أو توهّم ـ كذلك الحكم الظاهري ينقسم إلى الشّأني والفعلي ؛ فإن ثبوته في موضوعه لا تعلّق له بعلم المكلّف به.

فإذا علم المكلّف به تنجّز في حقّه كوجوب تصديق العادل مثلا ؛ فإنه ربّما يكون هذا الحكم ثابتا ولا يعلم به المجتهد ، أو وجوب تقليد الأعلم مثلا ؛ فإنه ربّما يكون ثابتا ولا يعلم به المجتهد ولا العامي ، ولكن مجرّد ثبوته النفس الأمري بل الفعلي لا يكفي في ترتّب الآثار عليه إلاّ بعد الاستناد إليه في العمل ، فإذا فرض كون فعل حراما في الواقع فإذا استند العامي في ارتكابه إلى رأي من يفتي بجوازه مع جواز تقليده في حقّه يكون معذورا ، وإلاّ فلا.

٣٥٧

ولا ينافي ما ذكرنا من وجود القسمين للحكم الظاهري ما اتّفقت عليه كلمتهم من التصويب في الأحكام الظاهرية في الجملة. ألا ترى أن الخبرين المتعارضين المتساويين من جميع الجهات إذا أخذ مجتهد بأحدهما وآخر بالآخر يكون مفاد المأخوذ مع الاختلاف حكما ظاهريّا للآخذ؟ وكذا في دوران الأمر بين الحرمة الوجوب مع تساوي الاحتمالين ، وهكذا.

وبالجملة : ما ذكرنا مما لا إشكال فيه ؛ لأن القول بتوقّف ثبوت الحكم الظاهري في نفس الأمر على العلم بثبوته دوري ، كالقول باشتراط ثبوت الحكم الواقعي على العلم به كما صرّح به العلامة قدس‌سره في غير موضع من كتبه ؛ حيث إن العلم متأخّر عن المعلوم ، فكيف يتوقّف المعلوم عليه؟

ومن هنا ذكروا : أن اشتراط التكاليف بالعلم ليس على حد اشتراطها بالبلوغ ، والعقل ، والقدرة ؛ فإن المتوقّف على العلم تنجّز الخطابات الواقعية لا وجودها النفس الأمري ، بل ربّما نقول بعدم اشتراط التنجّز بالعلم أيضا فضلا عن الثبوت النفس الأمري ، فإن الجاهل الملتفت إذا ترك الفحص تنجّز عليه جميع الخطابات الواقعية أصولا وفروعا ، ولو عرض له الغفلة بعد الالتفات وترك الفحص.

٣٥٨

وجه تسمية الحكم الظاهري بالواقعي الثانوي

والفرق بين الدليل والأمارة

ثم إن الحكم الظاهري كما يسمّى ظاهريا بكونه معمولا به عند العجز عن تحصيل الواقع يسمّى واقعيا ثانويا أيضا.

أمّا الوجه في تسميته بالواقعي ؛ فلأنّ كل شيء فرض له ثبوت فله واقعية في موضوعه فهو واقعي بهذا المعنى. وأما توصيفه بالثانوي ؛ فمن حيث تأخّر موضوعه عن الواقعي بقول مطلق ، والواقع الموصوف بالأوّلي. وإليه أشار بقوله رحمه‌الله « ويطلق عليه الواقعي الثّانوي أيضا ... الى آخره » (١).

ويسمّى الدّال على الحكم الظاهري ـ الغير الملحوظ فيه الكشف الظنّي عن الواقع ـ أصلا. والدال على الحكم الواقعي ـ الكاشف عنه علما أو ظنا بحيث يكون الكشف الظنّي ملحوظا في اعتباره ـ دليلا.

وقد يطلق على الكاشف الظنّي أمارة أيضا. وقد يختصّ الأمارة بما يكون معتبرا من حيث الكشف الظنّي في الموضوعات الخارجية.

فالاستصحاب إذا كان مبناه على الظّنّ ، كما هو المشهور بين القدماء لا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ / ١٠.

٣٥٩

يكون أصلا بالمعنى المذكور ، وكذا البراءة إذا كان مبناها على الظنّ ، كما يظهر من الشيخ البهائي والشيخ حسن صاحب « المعالم » وغيرهما ( قدس الله أسرارهم ). ما أن الأوّل قد يسمّى بالدليل الفقاهتي : من حيث كونه موجبا للعلم بالحكم الظاهري والثاني قد يقيّد بالاجتهادي ؛ من حيث كونه موجبا للعلم ، أو الظنّ بالحكم الشرعي وهذان اصطلاحان على ما وقفنا عليه من الفاضل المازندراني (١) في شرح « الزبدة » وشايعه الأستاذ الأكمل الفريد البهبهاني في « فوائده » قال قدس‌سره في محكي « فوائده » الجديدة في الفائدة الأخيرة ما هذا لفظه :

« المجتهد والفقيه والمفتي والقاضي وحاكم الشرع المنصوب ، عبارة الآن عن شخص واحد ؛ لأنه بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة الواقعيّة يسمّى مجتهدا لما عرفت : من انسداد باب العلم ، وبالقياس إلى الأحكام الظاهريّة يسمّى فقيها لما عرفت من كونه عالما بها على سبيل اليقين » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

والمستفاد منه ـ كما ترى ـ كون الاجتهاد عنده عبارة عن : استفراغ الوسع في تحصيل خصوص الظنّ بالحكم الشرعي ، أو حصول ملكة ذلك ، فتحصيل العلم بالحكم من الدليل ، خارج عن حقيقة الاجتهاد عنده.

وهذا وإن كان مذهب غير واحد بل مذهب جميع العامّة وأكثر الخاصّة ـ كما

__________________

(١) الآخوند ملا محمّد صالح المازندراني قدس‌سره المتوفى سنة ١٠٨٦ ه‍.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤٩٩ ، الفائدة ٣٣ ، في تعريف المجتهد والفقيه.

٣٦٠