بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ فلا ينافي ما ذكرنا أيضا.

نعم ، ما سمعنا منه مرارا : من ارتفاع الوهن المذكور بعمل جمع من الأصحاب بالعمومات الموهونة في بعض أفراده ، قد يناقش فيه ولكنّه لا تعلّق له بالمقام ، بل متعلّق بالجبر بالظّنّ الغير المعتبر.

(٧٩) قوله قدس‌سره : ( لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩٨ )

التفرقة بين حجّيّة القياس وكونه مرجّحا أم لا؟

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده المحقّق قدس‌سره : من الاستدلال للتّرجيح بالقياس على ما ذهب إليه بعض الأصحاب ومال إليه السيّد في « المناهل » (١) يرجع إلى الكلّيّة المسلّمة بينهم : من لزوم التّرجيح بكلّ ما يوجب رجحان أحد المتعارضين على صاحبه. وما ذكره أخيرا يرجع إلى بيان الفرق بين جعل الشّيء حجّة وجعله مرجّحا. والفرق بينهما ظاهر على تقدير تسليم اختصاص دليل المنع بجعل القياس حجّة ودليلا في المسألة.

وإنّما الكلام في الاختصاص المذكور فإنه إن سلّم عدم قياس الإجماع

__________________

(١) لم نعثر عليه في المناهل وانظر مفاتيح الاصول : ٧١٦.

٣٢١

على العنوان الأعمّ ـ مع أنّه في حيّز المنع كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : « وفيه نظر » ـ (١) لا نسلّم اختصاص الأخبار المانعة بجعله دليلا وحجّة في المسألة فإنّ المنهي بها استعمال القياس في الدّين والاستناد إليه في استنباط الأحكام الشّرعيّة ولا ريب في رجوع التّرجيح إلى العنوان المنهيّ عنه ؛ ضرورة استناد الحكم التّعييني في مقابل التّخيير والمنع عن الأخذ بالمرجوح ، أو الأصل في المسألة ، أو الاحتياط فيها ، كلّ على مذهبه إلى الرّجحان فالفرق المذكور لا يجدي شيئا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما أفاده المحقّق قدس‌سره بقوله : « والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظّن منه » (٢) يرجع إلى إثبات الصّغرى لكلّيّة الكبرى المسلّمة بينهم ، لا إلى جعل الظّن الحاصل منه جزءا للمقتضي.

نعم ، لا إشكال في كونه سببا لحدوث عنوان الرّاجح والمرجوح في الخبر الموافق له والمخالف له. فإن كان المراد من جزء المقتضي في « الكتاب » هذا المعنى كان مستقيما ؛ لكنّة خلاف ظاهره فإنّه يأبى عن الحمل المذكور قوله : « مع أنّ مقتضى الاستناد في التّرجيح به ... إلى آخره » (٣).

نعم ، لو كان المراد من المقتضي في « الكتاب » العلّة التّامّة كما يدلّ عليه

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٩٨.

(٢) معارج الاصول الباب « ٩ ـ الإجتهاد ، المسألة الخامسة » : ٢٦٢ ( تحقيق محمّد حسين الرضوي ».

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٩٨.

٣٢٢

قوله قدس‌سره في مقام الفرق بين الدّليل والمرجّح : « والفرق بين المرجّح والدّليل ليس إلاّ أنّ الدّليل مقتض ... إلى آخره » (١) صحّ ما أفاده قدس‌سره بعد جعل عنوان المحرّم مطلق استعمال القياس في الدّين ، هذا على القول بحجيّة الأخبار سندا ودلالة من باب الظّن النّوعي كما هو المشهور بين أهل الظّنون الخاصّة ، وعليه مبنى كلام المحقّق قدس‌سره.

وأمّا على القول بحجيّة الظّن المطلق في الأحكام الشّرعيّة ـ بناء على دوران الحجيّة مدار الظّن الشّخصي الفعليّ بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة الواقعيّة ـ كما هو المشهور بين أهل الظّنون المطلقة ؛ فيكون القياس تمام العلّة والحجّة المستقلّة ، أو جزء العلّة على تقدير كونه علّة تامّة للظّن من غير أن يكون مدخل للمنضمّ إليه في حصوله ، أو جزء العلّة على تقدير استناد حصول الظّن إليهما ؛ لأنّ الحجّة والدّليل في المسألة على هذا القول وصف الظّن ، ومن هنا لا يمكن تحقّق التّعارض على هذا القول.

نعم ، على القول بكون نتيجة مقدّمات دليل الانسداد حجيّة الظّن في خصوص الطّريق والمسألة الأصوليّة أو كونها حجيّة الظّنّ في المسألتين يمكن فرض التّعارض بين الأمارتين من غير اعتبار حصول الظّن منهما.

وعليه يمكن فرض التّرجيح بالقياس المفيد للظّن في المسألة الفرعيّة على

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

٣٢٣

طبق إحدى الأمارتين كالقول بحجيّة المتعارضين من باب الظّن الخاصّ على ما يظهر من القائل بحجيّة الظّن في الطّريق من التّرجيح بما كان من مظنون الحجيّة من المتعارضين مفيدا للظّن بالمسألة الفرعيّة على ما عرفت في الأمر الأوّل ، وإن كان القول به على مقالتهم لا يساعد عليه الدّليل.

وبالجملة : لا إشكال في عدم جواز التّرجيح بالقياس وأشباهه فيما يتصوّر التّرجيح به ، بل يمكن دعوى الإجماع عليه. ويكفي دليلا على استمرار سيرة الأصحاب في باب التّرجيح أصولا وفروعا عند تعارض الأخبار وسائر الأمارات المعتبرة ، وأمّا عنوان بعض الأصحاب للقياس في الأصول والتّعرض لأقسامه ؛ فإنّما هو لتميزه وتحقيق حقيقته والفرق بين ما يحكم بحجيّته عند الخاصّة كالمنصوص العلّة الّذي يرجع إلى دلالة اللّفظ ، والمنقّح العلّة على وجه القطع وبين ما لا يحكم بحجيّته عندهم وما وقع الكلام فيه كالقياس بطريق أولى وإن كان المشهور بينهم المنع عن العمل به.

٣٢٤

(٨٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا القسم الآخر : وهو الظّن الغير المعتبر لأجل بقائه تحت الأصل (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩٩ )

الترجيح بالظن غير المعتبر من جهة الأصل

أقول : لا يخفى عليك أنّ الكلام في التّرجيح بالظّن الغير المعتبر من جهة الأصل الأوّلي إنّما هو فيما لم يحكم بحجيّته مع إمكان الحكم بها بالنّسبة إليه كما هو المفروض بالنّسبة إلى الوهن والجبر به ؛ فالتّرجيح بالمزايا الدّاخليّة المتقوّمة بالمتعارضين خارج عن محلّ البحث ، وإنّما يقع الكلام فيه في بحث التّعارض.

فالبحث في المقام إنّما هو في المرجّح الخارجي الموجب للظّن بالصّدور ، أو جهته ، أو إرادة حكم الله من أحد المتعارضين ، ومن هنا جعل الأقسام في المقام ثلاثة ، على خلاف ما صنعه في باب التّعارض من جعلها أربعة ؛ بجعل المرجّح المضموني قسما رابعا في قبال الأقسام المذكورة في المقام.

فإنّ الكلام في باب التّعارض في مطلق التّرجيح ، وفي المقام في التّرجيح بالظّن الموجود في المسألة الفرعيّة على طبق أحد المتعارضين ؛ فلا بدّ أن يكون مرجّحا مضمونيّا لا محالة ، غاية الأمر : أنّه قد يحصل منه الظّن بصدور أحد المتعارضين ، وقد يحصل منه الظّن بجهة صدور أحدهما ، وقد يظنّ منه إرادة

__________________

(*) كذا وفي الكتاب : تحت أصالة حرمة العمل.

٣٢٥

الظّاهر من أحدهما على وجه التّفصيل ، وقد يظنّ منه أحد الأمور المذكورة على سبيل الإجمال ، فيقوى به إحدى جهات أحد المتعارضين على سبيل الإجمال.

ومن هنا حكم قدس‌سره في باب التّعارض برجوع المرجّح المضموني إلى المرجّح الدّاخلي ، وإن فرّق بينهما بالإجمال والتّفصيل ؛ وإن كان ظاهر كلامه بعد ذلك في المقام ، بل صريحه : عدم التّلازم بينهما وهو الحقّ إن كان المراد الكشف القطعي ؛ وإن كان الظّني فلا نمنعه ، إلاّ أنّ الكلام في اعتبار هذا الكشف إذا تعلّق بالدّلالة من حيث التّرجيح ؛ فإنّ مقتضى القواعد الحكم بإجمال المتعارضين المتكافئين من حيث الظّهور اللّفظي إذا انحصر وجهة التّصرف في الدّلالة وإن كان أحدهما موافقا للظّن الخارجي على القول باعتبارهما من حيث الظّن النّوعي المطلق بالمعنى الّذي عرفته ؛ إذ على سائر الأقوال لا يتصوّر التّعارض بينهما مع وجود الظّن الشّخصي الخارجي على طبق أحدهما بالضّرورة كما صرّح به في « الكتاب ».

اللهم إلاّ أن يستفاد ممّا ورد في باب العلاج لزوم التّرجيح به فتأمّل وانتظر لتمام الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع من التّعليقة.

٣٢٦

(٨١) قوله قدس‌سره : ( وأمّا المقام الثّاني فتفصيل القول فيه : أنّ أصالة عدم التّقيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٢ )

أقول : الكلام في التّرجيح بالظّن الخارجي من حيث جهة الصّدور مفروض فيما إذا انحصر التّصرف فيها بحيث كان كلّ من الصّدور والدّلالة مفروغا عنه ؛ ولو بأن يكونا قطعيّين. فيعلم إجمالا بأنّ أحد المتعارضين صدر لغير بيان حكم الله الواقعي من تقيّة أو غيرها كما هو مفروض الكلام في التّرجيح من حيث الصّدور والدّلالة ، فعلى هذا لا إشكال في الحكم بتساقط الأصل من الطّرفين إن كان مبناه التّعبّد واستصحاب عدم حدوث ما يوجب التّقيّة ونحوها.

بل الحقّ عدم جريان الأصلين مع العلم الإجمالي المفروض ـ كما ستقف على شرح القول فيه في محلّه ـ كما أنّه لا إشكال في عدم جريانهما على القول بإناطة اعتبار الأصل بحصول الظّن الشّخصي من نفس ظهور حال المتكلّم ، كعدم الإشكال في عدم جريان ما يخالف الظّن الخارجي على القول بإناطة اعتباره بحصول الظّن الشّخصي في مورده أو بعدم الظّن على الخلاف.

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( لأنّا نفهم ممّا ورد في ترجيح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المعطوف عليه قوله : « لأجل الحاجة إليه » (١) الرّاجع إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص هذه المسألة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٢.

٣٢٧

وما أفاده في المعطوف في غاية الإشكال ؛ فإنّ صريح الأخبار التّرجيح بمخالفة العامّة ووجوب الأخذ بالخبر المخالف للقوم ، لا الحكم بطرحهما بحيث كان الظّن مرجعا فتدبّر.

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( في المقام الثّالث : وهو ترجيح السّند بمطلق الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٣ )

جواز ترجيح ما لم يقطع بصدوره من الأخبار بمطلق الظن

أقول : حقّ العبارة أن يذكر بدل السّند ، الصّدور. فكأنّه قدس‌سره لا حظ في هذا التّعبير مورد المرجّح بحسب الغالب لا مورد الرجحان.

ثمّ إنّ ما أفاده بقوله : « إذ الكلام فيه أيضا مفروض فيما إذا لم نقل بحجيّة الظّن المطلق » (١).

محلّ مناقشة ؛ إذ القول بحجيّة الظّن المطلق وإن كان يجامع القول بحجيّة بعض الظّنون من حيث الخصوص مع عدم كفايته في الفقه كالأخبار المصحّحة بالعدلين ، إلاّ أنّ في مورد وجود الظّن الخاص لا معنى لتوهّم حجيّة الظّن المطلق بدليل الانسداد ؛ إذ الانسداد إذا كان علة ، يدور الحكم مداره وجودا وعدما. وهذا مع غاية وضوحه قد مضى الكلام في توضيحه في مطاوي كلماتنا السّابقة فراجع إليها.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٣.

٣٢٨

ثمّ إنّ الكلام في ترجيح الصّدور بالظّن الخارجي مفروض فيما إذا انحصر التّصرف فيه ؛ بحيث كان كلّ من جهتي الصّدور والدّلالة مفروغا بأن كانا قطعيّين على ما عرفت الإشارة إليه في التّرجيح به من حيث جهة الصّدور أو الدّلالة ، فإذا كان صدور أحدهما مظنونا بالظّن الشّخصي يكون صدور الآخر موهوما لا محالة على ما فرضنا.

فالأقسام المتصوّرة في « الكتاب » إنّما هي بالنّسبة إلى أدلّة الصّدور والحكم بتصديق المتعارضين ، فلا يتوجّه : أنّ الظّن بصدور أحد المتعارضين بالظّن الشّخصي لا ينافي الظّن بصدور الآخر كذلك ؛ إذ ربّما يقع التّعارض بين القطعيّين من حيث الصدور كالآيتين والمتواترين لفظا.

ومنه ينقدح استقامة ما أفاده قدس‌سره : من عدم إمكان التّرجيح بالظّن الخارجي إلاّ على القول بحجيّة المتعارضين من باب الظّن النّوعي بصدورهما.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره : من أنّ مقتضى الأصل الأوّل في الظّن عدم التّرجيح به ، كما أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم حجيّته (١) قد عرفت توضيح القول فيه.

إنّما الكلام في المقام في الجمع بين الأصل المذكور ، والأصل الّذي تمسّك به للتّرجيح بالظّن الخارجي وهو الوجه الأوّل الّذي يرجع إلى تقريرين :

أحدهما : قاعدة الاشتغال ؛ نظرا إلى رجوع الشّك في المقام بعد فرض عدم

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٦٠٤.

٣٢٩

الإطلاق للأخبار الحاكمة بالتّخيير إلى دوران الأمر بين التّخيير والتّعيين ، والمشهور المختار الرّجوع فيه إلى قاعدة الاشتغال ، لا البراءة.

ثانيهما : الأصل الأوّلي في الظّن ؛ من حيث إن الشّك يرجع بالأخرة إلى الشّك في حجيّة المرجوح فعلا وإن كان أصل حجيّته الشّأنيّة مفروغا عنها ، وإلاّ لم يقع التّعارض ولا فرق في الرّجوع إلى الأصل المذكور فيما يشك في حجيّته بين القسمين أصلا كما لا يخفى.

ولو قيل بالبراءة في مسألة الدّوران في المكلّف به الشّرعي في المسألة الفقهيّة لم يكن معنى للقول بها في المقام وأمثاله ؛ لرجوع الشّك فيه إلى الشّك في الطّريق.

فإنّه قد يقال : بعدم إمكان الجمع بين الأصلين فإنّ الشّك في مجرى الأصل الثّاني بكلا تقريره مسبّب عن الشّك في كون الظنّ الخارجي مرجّحا ومعيّنا عند الشّارع للرّاجح ، فإذا حكم الشّارع بعدم الاعتناء بهذا الشّك فيثبت في حكمه التّخيير بين الخبرين وجواز الأخذ بالمرجوح فعلا فيرفع الشّك الّذي هو مجرى الأصل الثّاني بكلا تقريريه بحكم الشّارع فلا مجرى له أصلا ، وهذا معنى عدم إمكان الجمع بينهما.

فإن شئت قلت : إنّ الشّك في حجيّة المرجوح فعلا واحتمال تعيّن الأخذ بالرّاجح مسبّب عن احتمال اعتبار الظّن الخارجي في مقام التّرجيح ، فإذا حكمنا بمقتضى الأصل الأوّلي في الظّن بإلقاء هذا الاحتمال وعدم الاعتناء به كما هو

٣٣٠

المفروض كان معناه عدم الالتفات إلى الشّك والاحتمال المذكورين ، ولازمه الحكم بحجيّة المرجوح فعلا ؛ فالأصل الأوّل حاكم على أصالة عدم حجيّة المرجوح ووارد على قاعدة الشّغل على تقدير جريانها في المقام أن التّحقيق كونه واردا على أصالة عدم حجيّة المرجوح أيضا لو كان الموضوع فيها عدم العلم بالحجيّة واقعا وظاهرا كما يقتضيه التّحقيق بالنّسبة إلى العقل الحاكم بالأصل المذكور ، بل بالنّسبة إلى الدّليل الشّرعي القائم عليه ؛ لاستبعاد الاختلاف بين موضوع الحكمين ؛ لعدم تصور الحكومة بالنّسبة إلى الأحكام العقليّة ؛ فإنّ مرجعها إلى التّخصيص بلسان التّفسير كما وقع التصريح به في غير موضع من « الكتاب ».

وتوهّم : عكس ذلك يجعل أصالة عدم حجيّة المرجوح أو القاعدة واردا على أصالة عدم التّرجيح بالظّن الخارجي.

فاسد جدّا ؛ لأنّ الشك فيها ليس مسبّبا عن الشّك في مجرى الأصلين ، بل الشّك فيه مسبّب عن الشّك في كونه مرجّحا ومعيّنا في نظر الشّارع ، وهذا بخلاف الشّك في مجرى الأصلين على ما عرفت. وتسبّب كلّ منهما عن الآخر أيضا غير معقول ؛ ضرورة استحالة كون الشّيء علّة لشيء ومعلولا له.

نعم ، تعيّن الأخذ بالرّاجح من المتعارضين وثبوته يستلزم مرجّحية الظّن الموجب للتّرجيح على سبيل الاستكشاف ، لكنّه ليس مختصّا بالمقام ، بل يجري بالنّسبة إلى كلّ علّة ومعلول ؛ لأنّه من قضيّة العليّة بين الشّيئين ؛ فإنّ العلم بعدم المعلول كاشف عن عدم علّته ، كما أنّ العلم بوجوده كاشف عن وجودها. وهذا مع وضوحه سيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى مشروحا في محلّه هذا.

٣٣١

دفع الإشكال والتنافي

وقد يدفع الإشكال ويرفع التّنافي المزبور بأنّ جريان القاعدة أو أصالة عدم حجيّة المرجوح من أحكام احتمال لزوم الأخذ بالظّن الخارجي في مقام التّرجيح واحتمال تعيّن الأخذ بالرّاجح من المتعارضين والأصل الأوّلي الجاري في الظّن الخارجي لا ينفى به إلاّ الحكم المترتّب شرعا على المحتمل ، وأمّا الحكم المترتّب على الاحتمال فلا ينفى به.

فإن شئت قلت : إنّ جواز الأخذ بالرّاجح إنّما هو من جهة كونه متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير ، لا من جهة البناء على مرجحيّة الظّن الخارجي. وعدم جواز الأخذ بالمرجوح أيضا ليس من جهة البناء على مرجحيّة الظّن الخارجي ، وإنّما هو من جهة احتمال عدم جواز الأخذ به فليس هنا بناء واعتناء بمرجّحيّة الظّن الخارجي حتى ينفيهما ما دلّ على عدم البناء والاعتناء عند الشّك في المرجّحيّة.

وبعبارة ثالثة : الأصل الأوّلي الجاري في الظّن لا يمكن أن يثبت خلاف مقتضاه ويجعل المشكوك حجّة ، فالحكم بحجيّة المرجوح فعلا إن كان من جهة إطلاق أخبار التّخيير فالمفروض جعلها في مقام الإهمال أو الإغماض عن إطلاقها ، وإن كان من جهة الأصل الجاري في الرّجحان فهو يرجع إلى ما ذكرنا :

٣٣٢

من جعل أصالة عدم الاعتناء بالظّن دليلا على اعتباره.

وبعبارة رابعة : المقام نظير ما لو علم إجمالا بحجيّة بعض الأمارات القائمة على المسائل الفقهيّة من حيث الخصوص ، أو من باب الظّن المطلق على تقدير إهمال النّتيجة ؛ فإنّ الأخذ بالمتيقّن منها على تقدير كفايته ، أو بالجميع من باب الاحتياط ، لا ينافي كون الأصل في الظّن عدم الحجيّة. فإذا كان الرّاجح متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير والمرجوح مشكوك الحجيّة ، لم يناف الحكم بتعيّن الأخذ بالرّاجح من حيث تيقّنه ، أو الاحتياط كون الأصل الأوّلي في الظّن عدم التّرجيح به.

وهذا الكلام وإن لم يخل عن نقض وإبرام ، إلاّ أنّه غاية ما يخطر بالبال في دفع الإشكال وعليك بالتّأمّل فيه ؛ فإنّه غير نقيّ عن الإشكال ولم أقف على من تعرّض له ولدفعه إلاّ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في مجلس المذاكرة ببعض التّقريرات الّتي عرفتها وقد طال البحث بيني وبينه في هذا المقام ، ولعلّني أتكلّم فيه زيادة على ذلك في بحث التّعارض على ما يساعدنا التّوفيق من الّذي بيده ملكوت كلّ شيء وهو على كلّه قدير تعالى شأنه.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره في دفع توهّم عدم كلّية قاعدة الشّغل في المقام ـ نظرا إلى وقوع التّعارض أحيانا بين الاحتياط في المسألة الأصوليّة والمسألة الفرعيّة ، بل يحكم بترجيح الاحتياط في الثّانية على الأولى في المقام كما سبق التّنبيه عليه في معمّمات نتيجة دليل الانسداد على ما في « الكتاب » من بيان التّوهّم بقوله :

٣٣٣

« مدفوع بأنّ المفروض فيما نحن فيه عدم وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لو لا الظّن إلى آخر ما أفاده » (١) ـ وإن كان مستقيما ـ ولا يتوجّه عليه : أنّ البناء في المقام على إهمال أخبار التّخيير ، فكيف يتمسّك بإطلاقه لإبطال الأصل في المسألة الفرعيّة؟ لأنّ الإهمال المدّعى إنّما هو في قبال المرجّحات لا مطلقا ، ولا تنافي بين كون القضيّة المطلقة في مقام الإهمال من جهة والبيان من جهة أخرى كما هو واضح ـ إلاّ أنّ ما أفاده : من ترجيح الاحتياط في المسألة الفرعيّة على الاحتياط في المسألة الأصوليّة في بيان التّوهم مشيرا إلى ما أفاده قدس‌سره في معمّمات نتيجة دليل الانسداد قد عرفت الكلام فيه ثمّة وأنّ التّعارض لا يتصوّر بين الاحتياطين أصلا.

(٨٤) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظّن حاصل من نفس الخبر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٩ )

أقول : تعليلهم لتقديم النّاقل ؛ بأنّ التّأسيس أولى من التّأكيد وأنّ اهتمام الشّارع ببيان المحرّمات لا المباحات ، فيظنّ صدور الخبر المخالف للأصل وإن جامع ما أفاده في الاستدراك ، إلاّ أنّ تعليلهم لتقديم الخبر المقرّر الموافق للأصل باعتضاده بالأصل فيظنّ صدور الخبر الموافق له بناء على القول باعتباره من باب الظّن لا يجامعه ، وإلاّ أمكن أن يقال ـ في جميع موارد التّرجيح بالظّن الخارجي ـ :

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٧.

٣٣٤

إنّ الظّن حاصل من الخبر الموافق له (١) ، فافهم.

(٨٥) قوله قدس‌سره : ( ثمّ لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١٠ )

أقول : عدم وجوب العمل بما ظنّ اعتباره في مقابل الأصول العمليّة ما لم ينته إلى القطع كما هو المفروض ، بل عدم جوازه أمر واضح لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّه مقتضى الأصل الأوّلي المقرّر في الظّن.

وأمّا الاكتفاء به في مقابل التّخيير المرجع في المقام فلوجهين :

أحدهما : كون قضيّة الأخبار القاضية بالتّخيير قضيّة مهملة بالنّسبة إلى ما يظنّ التّرجيح به ، فيحكم بمقتضى ما عرفت في الوجه الأوّل بلزوم الأخذ بالرّاجح. اللهمّ إلاّ أن يقال ـ بعد فرض الإهمال ـ إنّ المرجع هو الرّاجع من المتعارضين بناء على الوجه المذكور ، وإن لم يكن هناك ما يوجب الظّن بمرجّحيّة

__________________

(١) قال العلاّمة الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« أقول : الخبر المقرر للأصل هو الخبر الذي كان مضمونه باقيا على حال العقل وليس الأصل شيئا في الخارج خارجا عن الخبر يعتضد الخبر به كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما وليس كون هذا الوصف داخليّا بأخفى من كون التأسيس داخليّا للخبر ، ومن الغريب أنه قدس‌سره سلّم كون إهتمام الشارع ببيان المحرّمات والواجبات وصفا داخليّا للخبر وأنكر أن يكون بقاء مضمون الخبر على حال العقل وصفا داخليّا له مع أنّ العكس أولى بالإذعان وأحقّ بالإيقان والله المستعان ». إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ١٨٧.

٣٣٥

الأمارة الخارجيّة فليس للظّن المذكور تأثير أصلا.

ثانيهما : أنّ ذهابهم إلى الأخذ بالخبر الموافق للأمارة الخارجيّة وإن لم يصل إلى حدّ الإجماع إلاّ أنّه يوجب الوهن في إطلاقات التّخيير على تقدير تسليم كونها في مقام البيان والإطلاق ، من حيث إعراضهم عنه ؛ فيرجع بعد الوهن الحاصل في الإطلاقات ـ من جهة الإعراض ـ إلى الوجه الأوّل. والفرق بين الوجهين لا يكاد يخفى على من له أدنى تأمّل هذا.

وأمّا ما يقال في وجهه من أنّ المراد بالتّخيير في المقام : هو التّخيير الّذي يحكم به العقل ـ بناء على اعتبار المتعارضين من باب السّببيّة لا التّخيير الّذي حكم به الشّارع بمقتضى الأخبار الواردة في باب العلاج ؛ نظرا إلى أنّ حكم العقل بالتّخيير بين المتزاحمين إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك مزيّة لأحدهما على الآخر ـ ففاسد جدّا ؛ لأنّ الحكم العقلي بالتّخيير بين المتزاحمين إنّما هو من جهة تزاحم الجهة الموجبة لهما فلا يرفعه إلاّ أهميّة أحد المتزاحمين.

وأمّا مجرّد أقربيّة أحدهما بالنّسبة إلى الواقع فلا تعلّق له بما يوجب ثبوت الحكم لهما بل ربّما ينافيه.

وأمّا ما قرع سمعك ـ : من كون الرّجحان مانعا عن حكم العقل بالتّخيير ـ فإنّما هو بالنّسبة إلى التّخيير الظّاهري العقلي بين الاحتمالين ، الّذي هو من الأصول الأربعة لا التّخيير في المقام. والفرق بينهما ، مضافا إلى ظهوره سيجيء بيانه مشروحا في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.

٣٣٦

نعم ، يمكن أن يكون الوجه فيه ما يشير إليه بعد ذلك من دليل الانسداد الجاري في خصوص المقام بعد الفراغ عن الوجه الثّالث بقوله : « ولا بدّ من العمل به لأنّ التكليف بالتّرجيح بين المتعارضين ثابت ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وإن ناقشه بقوله : « ولكن لمانع أن يمنع وجوب التّرجيح ... إلى آخره » (٢) ولعلّنا نتكلّم في هذا الوجه بعد ذلك.

(٨٦) قوله قدس‌سره : ( فمنها : ما دلّ على التّرجيح بالأصدقيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١٠ )

أقول : لمّا كان الصّدق غير قابل للتّفصيل فلا بدّ أن يكون المراد من الأصدقيّة في الحديث هي الأقربيّة إلى الواقع ، وبعد إلقاء خصوصيّة الأقربيّة الحاصلة من صدق الرّاوي وكثرة مطابقة خبره للواقع ، يدلّ على لزوم التّرجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع من غير فرق بين المرجّح الدّاخلي والخارجي هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده : بأنّ ملكة الصّدق في الرّاوي كملكة العدالة يمكن أن يكون لها جهة موضوعيّة ، وإن كانت لها جهة طريقيّة دائما. فإذا حكم الشّارع بلزوم العمل بخبر الصّادق فلا يكون المراد منه إلاّ من كان له ملكة الصّدق ، لا من طابق خبره الواقع ؛ فإنّه غير قابل لتعلّق الجعل الشّرعي به. ولا من كان يظنّ

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٧.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٨.

٣٣٧

مطابقة خبره للواقع حتّى يدلّ على حجيّة الخبر المظنون مطابقته للواقع مطلقا ؛ فإذا كان الصّدق من الملكات فيمكن اعتبار القرب الحاصل منه كما يمكن اعتبار شدّته في التّرجيح فيكون حالها حال الأعدليّة فتأمّل.

وأشكل منه : ما أفاده في التّرجيح بالأوثقيّة للتّسرية بالنّسبة إلى المرجّحات الخارجيّة ، وإلا لدل ما دلّ على حجيّة خبر الثّقة على حجيّة كلّ ما يفيد مقدار الظّن الحاصل منه (١) ، فتدبّر.

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« أقول : الملكة ليست إلاّ الصفة المركوزة أو ركوزها فإذا كان الصدق غير قابل للتفضيل وكان المراد من الأصدقيّة في الحديث هو الأقربيّة إلى الواقع فمن له ملكة الأصدقيّة ليس ولا يكون إلاّ من له صفة ثابتة مركوزة فيه يكون بها خبره أقرب إلى الواقع من خبر غيره فإذا فرض إلغاء الخصوصيّة أنتج النتيجة المطلوبة ولا يقاس هذا على الأعدليّة فإن العدم قابلة للموضوعيّة نفسها وملكتها على ما هو المصطلح فيها على حدّ سواء بخلاف الصّداقة فإنّها غير قابلة للموضوعيّة ». إنتهى. أنظر الفوائد المحشّى : ١٨٧.

٣٣٨

(٨٧) قوله قدس‌سره : ( وممّا يستفاد منه المطلب على وجه الظّهور ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١١ )

كيفية إستفادة لزوم الترجيح بمطلق المزيّة في أخبار العلاج

أقول : ظهور تعليل تقديم المشهور من حيث الرّواية ـ المعروف بين الرّواة وأهل الرّواية ـ على الشّاذ الغير المعروف بينهم وترجيحه عليه ؛ من حيث انتفاء الرّيب الموجود فيه من حيث تفرّد بعض بروايته في المشهور ، وإن كان فيه ريب موجود في الشّاذ أيضا من جهة أخرى في إناطة التّرجيح بكلّ ما يوجب نفي الرّيب بالإضافة ؛ من حيث تقليل الاحتمال أو ضعفه ، أمر لا ينبغي الارتياب فيه أصلا ؛ من حيث رجوعه إلى التّعليل بالصّغرى فيدلّ على ثبوت كبرى مطويّة مفروغا عنها ؛ إذ لولاها لم يصحّ التّعليل والاستدلال هذا. مضافا إلى اقتضاء العلّة المنصوصة دوران الحكم مدارها من غير أن يكون مدخليّة لموردها.

ومنه ينقدح دفع جميع الإشكالات الواردة على أخبار العلاج وتعارض بعضها مع بعض من حيث تقديم بعض المرجّحات في بعضها وتأخيره ، أو العطف بالواو الظّاهر في الجمع والاقتصار في بعضها بذكر بعض المرجّحات إلى غير ذلك. فإنّه إذا كان مدار التّرجيح على ما عرفت لم يرد شيء منها كما هو ظاهر.

وقد عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة وسيأتي تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.

٣٣٩

نعم ، على القول بالاقتصار على المرجّحات المنصوصة لا مناص عن توجّه بعض الإشكالات كما هو واضح لمن له أدنى تأمّل ، وبهذا التقريب يستدلّ على المدّعى بتعليل تقديم المخالف للعامّة على الموافق لهم بكون الرّشد في خلافهم كما في أكثر الأخبار ، أو كونه صادرا بعنوان التّقيّة كما في بعض الأخبار ، بناء على حمله على مسألة التّعارض بقرينة الإجماع كرواية سماعة.

نعم ، ما دلّ على تقديم المخالف على الموافق من حيث التّعبّد أو من جهة مجرّد حسن المخالفة لا دلالة له على التّعدي أصلا.

ومنه يظهر : أنّ الأظهريّة المدّعاة في « الكتاب » لتعليل تقديم المخالف للعامّة على الموافق في الدّلالة على التّعدي حتّى بالنّسبة إلى دلالة تعليل تقديم المشهور على غيره ولا وجه لها في ظاهر النّظر لأنّ الوجه في دلالته على التسرية ما عرفته في تقريب دلالة تعليل المشهور على الشّاذ حرفا بحرف ، فكيف يكون أحدهما أظهر من حيث الدّلالة؟ بل الإنصاف أنّ دائرة التّرجيح بالنّظر إلى التّعليل المذكور أوسع منها بالنّظر إلى تعليل تقديم المخالف ؛ حيث إنّه لا يدلّ على التّرجيح بكلّ ما يوجب ضعف الاحتمال كما هو ظاهر.

ثمّ في كون الظّهور المستفاد من مجموع الرّوايات الواردة في باب العلاج في التّعدي والتّسرية حتّى بالنّسبة إلى المرجّحات الخارجيّة على تقدير الإغماض عن الظهورات المذكورة فيه كظهور كلّ واحد في لزوم الأخذ به ممّا لا

٣٤٠