بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

المعرفة الغير العلميّة ، وإن كان لزوم الدّور غير متوقّف على كفاية التّقليد الغير المفيد للعلم على المقدّمة المذكورة في كلامه كما هو ظاهر ؛ فإنّ لزومه على القول باكتفاء التّقليد في الأصول ، إنّما هو من حيث توقّف جواز التّقليد على ثبوت الشّرع ، الّذي فرض توقّفه عليه من غير دخل لتوقّف معرفة الصّلاة وأعدادها ، لكنّه ظاهر فيما استظهره شيخنا قدس‌سره منه ؛ فلا بدّ أن يكون مراده من المعرفة بالنّسبة إلى الصّلاة هي المعرفة الغير الجزميّة الحاصلة من التّقليد من حيث قيام الدّليل الشّرعي على كفايته.

وظاهر كلامه في إثبات العفو ـ بقوله : « لأني لم أجد أحدا من الطائفة ، ولا من الأئمّة ، قطع موالاة من يسمع قولهم ، واعتقد مثل اعتقادهم ، ... إلى آخره » (١) ـ كون محلّ الإثبات هو التّقليد المفيد للجزم ، لكن لا بدّ من حمل كلامه على ما استظهره شيخنا قدس‌سره لشهادة مجموع كلماته في المقام فيما ذكره في بحث حجيّة الأخبار ؛ فإنّه ذكر ـ بعد ما حكى عنه في « الكتاب » ـ ما هذا لفظه :

« على أنّ من أشاروا إليهم لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدّليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين ؛ لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعة ليس يقف حصول المعرفة على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٢.

٣٠١

حصولها » (١). انتهى ما أردنا نقله.

وهو كما ترى ، صريح في كون المراد من المقلّد في كلامه : هو المقلّد الغير الجازم ، فلا بدّ أن يكون المراد من الاعتقاد في كلامه ، الأعمّ من الظّني. بل يمكن أن يقال : إنّ مراده من الاعتقاد هو إظهار العقائد الحقّة من جهة التّقليد. بل يمكن أن يقال : إن كلامه هذا ظاهر بنفسه فيما ذكر من حيث ظهور المماثلة المذكورة في كلامه في ذلك فافهم.

أمّا المناقشات فإنّه يرد عليه :

أوّلا : أنّ المعتبر ـ بمقتضى ما عرفت من الأخبار وغيرها ـ هو الاعتقاد الجزمي بالعقائد الحقّة. نعم ، في ترتيب آثار الكفر على الشّاك المظهر للحقّ عن تقليد كلام ، مبنيّ على ثبوت الواسطة [ و ] قد عرفت بعض الكلام فيه. وهو لا تعلّق له بالمقام ؛ من كفاية التّقليد في تحقّق الإيمان.

وثانيا : أنّه بعد البناء على كفاية مجرّد إظهار الحقّ ولو عن تقليد في تحقّق الإيمان مع الشّك ، أو الظّن في مقام الوضع ، لا دليل على وجوب النّظر والاستدلال مستقلاّ بل لا دليل على وجوب تحصيل العلم واليقين بالوجوب النّفسي المستقلّ ؛ فإنّ وجوب تحصيل العلم إنّما هو من حيث توقّف حصول المعرفة المعتبرة في تحقّق الإيمان على العلم. فإذا قيل بكفاية مجرّد إظهار الحقّ في تحقّق الإيمان

__________________

(١) عدّة الاصول : ج ١ / ١٣٢.

٣٠٢

فيسقط وجوب تحصيل العلم. كما أنّا نقول بسقوط النّظر والاستدلال بعد حصول العلم من التّقليد ؛ من حيث إنّ اعتبار النّظر إنّما هو من جهة توقّف حصول العلم غالبا عليه ، فإذا حصل التّوصّل بغيره أحيانا فيسقط وجوبه.

وثالثا : أنّه بعد البناء على وجوب تحصيل المعرفة العلميّة لا دليل على العفو عنه بعد البناء على إمكانه ، والإغماض عمّا قيل من عدم إمكانه ؛ من حيث كونه منافيا للّطف الواجب على الحكيم تعالى ، بل منافيا لغرضه من جعل التّكليف ، وبعث الرسل ، وإنزال الكتب ؛ من جهة كون العفو الحتمي عن المعصية موجبا للإقدام عليها من غالب النّفوس الضّعيفة ؛ فإنّ عدم قطع المعاشرة لا يدلّ على ما استظهره ؛ لأنّه أعمّ من ذلك ، لم لا يكون من جهة حمل كلام من قال بمثل قولهم ، على كونه معتقدا جازما؟ ولو من جهة طريقيّة كلامه إليه بالنّظر إلى ظهوره.

نعم ، هذا الاحتمال لا يجري في حقّ الأئمّة ( صلوات الله عليهم ) ؛ لانكشاف الواقعيّات لهم وعدم إمكان جعل الحكم الظّاهري في حقّهم.

فلا بدّ أن يقال : إنّ عدم قطع المعاشرة عن الأئمّة عليهم‌السلام كما يحتمل أن يكون من جهة علمهم بشكّهم في الواقع على ما يقوله الشّيخ ، كذلك يحتمل أن يكون من جهة علمهم بعلمهم ؛ فلا يكون دليلا على العفو على ما استظهره قدس‌سره ، بل يعلم : أنّ سكوت العلماء وعدم ردعهم للعوام ؛ وعدم قطع المعاشرة معهم ، لا بدّ من أن يكون من جهة الحمل المذكور. وكذا معاملة الأئمّة معهم معاملة المؤمنين ؛ إنّما هو من جهة علمهم بعلمهم بالحقّ وإن لم يستندوا إلى دليل وبرهان.

٣٠٣

فإنّه بعد حصول المعرفة العلميّة ، يسقط النّظر والاستدلال ؛ إذ لا محلّ له بعد حصولها وكون المقصود منه التوصّل إليها على ما عرفت ؛ إذ على تقدير علمهم بشكّهم ، وكون النّظر واجبا نفسيّا مستقلاّ ، أو كون تحصيل العلم واجبا كذلك من غير توقّف حصول الإيمان على حصوله ، لا يجوز السّكوت قطعا من باب إرشاد الجاهل إلى حكم الله تعالى ، وإن لم يكن مغريا على ما ذكره قدس‌سره من حيث كون العامي جاهلا بمسألة قبح الإغراء ، الّتي هي مسألة أصوليّة (١).

فإنّ دليل وجوب إرشاد الجاهل بالحكم الشّرعي العامل على خلافه ليس منحصرا في قبح إغراء الجاهل ، بل الدّليل العامّ الجاري في جميع الموارد هو حكم العقل من باب وجوب اللّطف ولزوم نقض الغرض من تشريع الأحكام. ولو عمّم المعروف والمنكر بالنّسبة إلى ما كان معروفا ومنكرا بحسب الواقع ونفس الأمر ، ولو كان الفاعل جاهلا بهما ، لجاز التّمسّك بما دلّ على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من الأدلّة الأربعة.

ومن هنا وقع التمسّك به في « الكتاب » من شيخنا قدس‌سره في المقام ، وإن كان الأولى تحرير المقام بما عرفت. كما أنّ الأولى بل المتعيّن : تحرير وجه سكوت الأئمّة عليهم‌السلام بما عرفت ، لا بما في « الكتاب » ؛ لأنّه لا يخلو عن مناقشة ظاهرة لمن راجع إلى ما أفاده في وجهه وما ذكرنا.

__________________

(١) في كونها أصوليّة كلام الا ان يريد به أصول الكلام.

٣٠٤

فإن شئت قلت : إنّ علم المقلّد الغير الجازم في مسألة اعتقاديّة حقّة بعدم وجوب تحصيل العلم عليه مستندا إلى سكوت الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء ، وعدم قطعهم المعاشرة معهم ، وأنّه لولاه لوجب عليهم الرّدع وترك المعاشرة ، فيلزم على تقدير الوجوب مع هذا الفرض الإغراء بالجهل ، وإن كان منافيا لفرض تقليده في الأصول كلّها ، إلاّ أنّ دليل وجوب تعليم الجاهل ليس منحصرا في قاعدة قبح الإغراء بالجهل.

هذا كلّه فيما لو كان مراد الشّيخ قدس‌سره من المقلّد هو الغير الجازم منه كما استظهرناه. وأمّا لو أريد منه الجازم منه فيستدلّ على عدم قطع المعاشرة على ما اخترناه في المسألة من عدم وجوب النّظر إلاّ من باب المقدّمة فيسقط عند حصول العلم والمعرفة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ المقلّد للحقّ على أقسام : فإن لم يكن جازما ، لم يكن إشكال في عدم ترتيب حكم المؤمن عليه سواء كان ملتفتا بوجوب تحصيل العلم عليه ، أو غافلا ذاهلا عنه. غاية الأمر كونه عاصيا على تقدير الالتفات بجميع أقسامه. وفي جريان حكم الكفر عليه مطلقا بحسب الآثار الدّنيوية ، كلام عرفته.

وإن كان جازما ، لم يكن إشكال في إيمانه وعدم عصيانه أصلا. غاية الأمر كونه متجرّيا لو اعتقد وجوب النّظر عليه شرطا ، أو نفسا وكان مطلقا بحسب اعتقاده الباطل بما يقتضيه اعتقاده.

وهذا هو المراد من الاستدراك بقوله قدس‌سره في « الكتاب » : « اللهم إلاّ أن يفهم

٣٠٥

هذا الشّخص منها كون النّظر والاستدلال واجبا ... إلى آخره » (١) فيكون على تقدير اعتقاده خلاف الواقع ، مكلّفا في زعمه بالنّظر ، وكون تركه عصيانا في حقّه.

نعم ، على تقدير استفادته ذلك من الآيات والأخبار اعتمادا على الظّهور اللّفظي يكون مكلّفا في الظّاهر بالنّظر والاستدلال.

وإن كان التّحقيق عندنا : كون المخالف للحكم الظّاهري متجرّيا ، فيكون استحقاقه المؤاخذة مبنيّا على استحقاق المتجرّي ، وإن كان الحكم الظّاهري مخالفا للواقع ـ كما في الفرض ، على ما عرفت : من كون وجوب النّظر من المقدّمات العقليّة الغالبيّة ـ فيسقط بعد حصول العلم والمعرفة بغيره ، كما هو المفروض. خلافا لمن زعم استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الظّاهري من حيث هو.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٤.

٣٠٦

* التنبيه السادس :

في كون الظن جابرا أو موهنا أو مرجّحا

(٧٦) قوله قدس‌سره : ( ومجمل القول في ذلك : أنّه كما يكون الأصل في الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٨٥ )

أقول : لا إشكال فيما أفاده من عدم الفرق في قضيّة الأصل الأوّلي في الظّن بين جعله حجّة مستقلّة أو موجبا لحجيّة ما لا يكون معتبرا في نفسه لولاه ، أو موجبا لسقوط ما يكون معتبرا في نفسه من الاعتبار ، أو موجبا لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى مع الشّك في ترتيب هذه الآثار والأحكام عليه ؛ لأنّ كلاّ من هذه يلازم الالتزام والتّدين بحكم لم يعلم ثبوته من الشارع.

ومن هنا يستدلّ بما ورد في شأن القياس وأشباهه ، على عدم جواز ترتيب شيء من الآثار المذكورة عليه ، ويجعل حاكما وشارحا لما دلّ على حجيّة المجبور مثلا فيما كان مدلوله حجيّة الخبر المظنون الصّدور مثلا ، ولو حصل الظّن من الخارج.

ويفرّق بينه وبين الظّن المشكوك الاعتبار ؛ حيث إنّ دليل اعتبار الخبر

٣٠٧

المظنون الصّدور مطلقا ولو حصل الظّن بصدوره من غير صفات الرّاوي ، يوجب العلم بجواز التّدين بالخبر المظنون صدوره بواسطة مطابقته للأمارة الخارجيّة.

وهذا بخلاف ما لو حصل الظّن بصدوره بواسطة القياس وأشباهه ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب إلقائه وكون مستعمله خارجا عن الدّين ، وأنّ أوّل من قاس إبليس ، مفسّر وشارح لدليل اعتبار الخبر المظنون الصّدور مطلقا. وأنّ اعتباره مقيّد بما إذا حصل الظّن بصدوره من غير القياس ، ولا يمكن عكس ذلك بجعل دليل اعتبار الخبر المظنون الصّدور حاكما على دليل حرمة القياس وأنّ المراد منه جعله حجّة مستقلّة ، لا ما يعمّه وجعله موجبا لتحقّق موضوع الحجّة بالوجدان ؛ لعدم الفرق بين الأمرين في صدق موضوع استعمال القياس ، وما هو المناط في حرمته.

وأمّا ما ربّما يتوهّم ـ : من أنّ جعله جابرا راجع إلى توسيطه لوجود قيد وجداني ، فالعمل حقيقة على المجبور لا بالقياس. وهذا بخلاف جعله حجّة ؛ فإنّ العمل عليه حقيقة ـ ففاسد جدّا.

وإلاّ أمكن أن يقال ـ علي القول بحجيّة الظّن مطلقا فيما حصل الظّن من القياس ـ : إنّ العمل ليس بالقياس بل بالظّن الحاصل منه وجدانا وقهرا ، وهو كما ترى.

فإن شئت قلت : إنّه لا فرق في صدق مناط الحرمة بين جعل القياس تمام العلّة أو جزئها هذا ، ولعلّه نتكلّم في شرح هذا بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

٣٠٨

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أنّ قضيّة الأصل الأوّلي عدم جواز التّديّن والالتزام بمقتضى الظّن مطلقا ، فكلّما حكمنا بترتّب شيء من الآثار المذكورة عليه ؛ فلا بدّ من أن يستند إلى قيام دليل عليه من جانب الشّارع أن يرجع حقيقة إلى عدم التّديّن بمقتضاه فيخرج عن موضوع الحرمة حقيقة ، مثلا إذا قيل بحجيّة شيء بشرط عدم قيام الظّن على خلافه ، وفرض في مورد وجود هذه الأمارة المعلّقة قيام ما شك في اعتباره من الظّنون على خلافها فإنّه يحكم بعدم حجيّتها حينئذ استنادا إلى دليل حجيّتها ؛ نظرا إلى التّعليق المعتبر فيه ، لا إلى الظّن القائم على خلافها حقيقة.

ومثله ما لو فرض التّعليق في أصل إفادتها الظّن نوعا أو شخصا بعدم قيام الظّن على خلافها مع إناطة اعتبارها بإفادة الظن ، بل ربّما يكون أمره أظهر. ففي مورد وجود هذا الظّن لا يعمل به أصلا ، وإنّما يعمل بالأصل في المسألة الفرعيّة من جهة عدم وجود الدّليل فيها ؛ نظرا إلى التّعليق المذكور بقسميه.

نعم ، هنا كلام ؛ في أنّه كيف يجامع ما سلكه قدس‌سره من تأسيس الأصل في المقامات الثّلاثة ، مع ما يسلكه بعد ذلك ـ عند الاستدلال على التّرجيح بالظّن من قاعدة الاشتغال ـ وأنّ مقتضى الأصل وجوب الأخذ بالرّاجح من المتعارضين؟وسنتكلّم فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ تحقيق الكلام في المقامات الثّلاثة ، أعني : الجبر والوهن والتّرجيح بالظّن الغير المعتبر بقسميه ؛ إنّما هو من جهة وضوح حكم الظّن المعتبر بالنّسبة

٣٠٩

إليها ؛ فإنّ في مورد وجود الظّن المعتبر يعمل به وإن كان هناك ما يوجد ضعف في اعتباره بحيث لا يعمل به بدون الجابر ، وإن كان العمل والاستناد حقيقة بالظّن المعتبر من دون مدخليّة الأمارة الضّعيفة إلاّ فيما كان حاكيا عن حالها كالظّن المعتبر الحاكي عن إرادة المفهوم من التّعليق بالوصف مثلا فيما قلنا بإشعاره بالمفهوم وعدم ظهوره فيه

وكذلك يوجب الوهن بدون تأمّل فيما كان اعتباره مشروطا بحصول الظّن منه ، أو بعدم قيام الظّن على الخلاف ؛ فإنّه أولى ممّا حكم بعدم اعتباره من جهة الأصل. كما أنّه مبنيّ على ملاحظة التّرجيح بينه وبين ما كان اعتباره على وجه الإطلاق.

وأمّا التّرجيح بالظّن المعتبر فهو خارج عن عنوان التّرجيح ، إن كان المأخوذ فيه عدم اعتبار المزيّة. وإلاّ فالحكم فيه ـ أي : لزوم التّرجيح به ـ لما كان مسلّما [ و ] لم يكن هناك كلام فيه ، خصّ الكلام بالظّن الغير المعتبر ، فتدبّر.

٣١٠

(٧٧) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا لا ينبغي التّأمّل في عدم انجبار قصور الدّلالة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٨٦ )

الظن الخارجي لا يوجب جبر قصور الدلالة

أقول : قد عرفت الكلام عند البحث في حجيّة الظّن المتعلّق بالألفاظ من حيث الخصوص فيما هو المناط والمدار في حجيّة الظّواهر ، وأنّه ليس التعبّد المطلق ولا المقيّد ، لا من جانب الشّارع ولا من جانب العقلاء وأهل اللّسان ، ولا الظّن الشّخصي بالمراد كيفما اتّفق ولو حصل من غير اللّفظ ، أو حصل من خصوص اللّفظ ، ولا الظّن النّوعي ، والشّأني المطلق ، ولا المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف كيفما كان ، بل على ظهور الكلام عرفا في المراد ولو بملاحظة القرائن الخارجيّة المعتبرة عند أهل اللّسان ، فضلا عن القرائن الدّاخليّة المعتبرة عندهم.

وهذا كما ترى وعرفت تفصيل القول فيه ، يفارق الوجوه المذكورة حتّى الظّن النّوعي المطلق. ومن هنا بنينا على إيجاب كثرة الاستعمال وكثرة التّخصيص بحسب بعض مراتبهما ، الإجمال ، وسلب الظّهور ، والشّهرة في المجاز التّوقف والإجمال عند المشهور ، وكذا تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة ، وهكذا الأمر في كلّ ما كان الكلام محفوفا بما يصلح صارفا وقرينة ؛ فإنّه يعدّ مجملا عند العرف ، لا ظاهرا.

وافتراق هذا المناط مع غير الظّن النّوعي المطلق ظاهر ، وكذا معه ؛ إن أريد

٣١١

منه : الإطلاق حتّى بالنّسبة إلى ما عرفت ممّا يوجب رفع الظّهور العرفي. وأمّا إن أريد منه : الإطلاق بالنّسبة إلى خصوص الظّنون الغير المعتبرة القائمة من الخارج على إرادة ما يقتضيه اللّفظ من الظّهور بحسب وضعه الشّخصي ، أو النّوعي ، فيمكن انطباقه على ما عرفت من المناط ؛ فإنّه يرجع حقيقة إلى البرزخ بين الظّن النّوعي المطلق بإطلاقه والمقيّد في مقابله. ولا بدّ أن يحمل كلامه قدس‌سره في « الكتاب » عليه ؛ لئلاّ يخالف ما بنى عليه الأمر في حجيّة الظّواهر فيما تقدّم من كلامه. وإليه يشير قوله : « لا مجرّد الظّن بمطابقة مدلولها » (١) ؛ فإنّه اعتبر ظهور الكلام عرفا في المراد بنفسه في قبال مطلق الظّن بالمراد فينطبق على ما ذكرنا. نعم ، حقّ التّحرير في المقام بدل قوله : « فالكلام إن كان ظاهرا ... إلى آخره » (٢) أن يذكر : فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه ، ولو بمعونة القرائن المعتبرة ؛ إذ حمل التّخصيص بالقرائن الدّاخليّة على المثال وإن كان ممكنا لكنّه بعيد عن مساق العبارة.

وبما ذكرنا يظهر : أنّ ما تكرّر ذكره في « الرّياض » واشتهر بين تلامذته ممّن قارب عصرنا : من انجبار قصور الدّلالة بعمل الأصحاب وفتاويهم ، أو بفهمهم كما يظهر من جماعة ممّن فصّل بين الشّهرة الاستنادية وغيرها ، مبنيّ على ما عرفت من الوجوه في إناطة حجيّة الظّواهر ، وإن كان الانجبار بمجرّد العمل بإطلاقه لو

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٦.

(٢) ـ نفس المصدر ج ١ / ٥٨٧.

٣١٢

كان مرادهم أضعف من القول بالانجبار بالفهم من حيث كونه كاشفا ظنّا عن قرينته بخلاف مجرّد العمل ؛ فإنّه قد لا يوجب الظّن بالمراد من اللّفظ أصلا ، كما أشار إليه في « الكتاب ».

وأمّا ما اشتهر بين الأصحاب بل لا يبعد ذهاب المشهور إليه : من انجبار ضعف سند الخبر بعمل الأصحاب به واستنادهم إليه ، فلم يعلم له مستند يصحّ الاعتماد إليه والرّكون إليه.

فإنّه إن كان من جهة قيام الإجماع على حجيّته بالخصوص كما ادّعاه فقيه عصره في « كشفه » (١) فلم يثبت إلاّ منه. وغاية ما هناك ذهاب المشهور إليه ، كما يستفاد ممّا أفاده ثاني الشّهيدين في « المسالك » (٢). نعم ، يمكن استفادته من كلام المحقّق قدس‌سره في بحث حجيّة أخبار الآحاد فراجع إليه.

وإن كان من جهة استفادة حجيته بالخصوص ممّا دلّ على التّرجيح بالشّهرة من المقبولة وغيرها ؛ نظرا إلى فحواه من حيث إنّ إيجابها الأخذ بالخبر الموافق لها عند التّعارض ، يدلّ على الأخذ به عند سلامته بالفحوى.

ففيه ـ مضافا إلى ما في الفحوى بل الأولويّة الاعتباريّة إن ادّعيت ـ : أنّ المراد من الشّهرة ممّا دلّ على التّرجيح بها في الشّهرة من حيث الرّواية ـ على

__________________

(١) الشيخ الاكبر الشيخ جعفر في كشف الغطاء : ٣٨.

(٢) مسالك الافهام في شرح شرائع الاسلام : ج ٦ / ١٥٦.

٣١٣

ما أسمعناك عند الكلام على حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص ـ على ما يستفاد من كلام بعض ونسب إلى الشّهيد قدس‌سره.

نعم ، التّرجيح بالشّهرة من حيث الفتوى ثابت عندنا لا من حيث هي بالخصوص ، بل من جهة اندراجها تحت الكلّيّة المستفادة ممّا ورد في باب العلاج ، على ما ستقف عليه من لزوم التّرجيح بكلّ مزيّة من غير فرق بين الشّهرة وغيرها.

وإن كان من جهة استفادته من منطوق آية النّبأ بناء على إرادة المعنى الأعمّ من التّبيّن العلمي ، أو الظّني ، أو خصوص الاطمئناني من التّبيّن في الآية ؛ نظرا إلى حصول الاطمئنان منها.

ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت في محلّه من عدم إمكان إرادة المعنى الأعمّ مطلقا من حيث منافاته لمورد الآية ، وإلى ما عرفت ثمّة : من أنّ مقتضاها حجيّة مطلق الظّن ، أو خصوص الاطمئناني منه من أيّ سبب حصل ؛ نظرا إلى كون وجوب التّبيّن شرطيّا ـ : أنّه على التّقدير المزبور لا بدّ من الحكم بحجيّة كلّ خبر ظنّ بصدوره أو حصل الاطمئنان به من أمارة أخرى غير الشّهرة ، فيبقى سؤال الفرق ؛ فإنّهم لا يقولون بالتّعميم.

وإن كان من جهة استفادته ممّا دلّ على حجيّة خبر الثّقة بناء على حمله على ما يظنّ صدوره أو يطمئنّ به ولو حصل الاطمئنان بواسطة استناد المشهور وعملهم بصرفه عن ظهوره في الموضوعيّة ، وأن المعتبر خصوص الاطمئنان الحاصل من صفة الرّاوي.

٣١٤

ففيه ـ مضافا إلى منافاته لاشتراط الإيمان في الرّاوي عند غير واحد منهم بل المشهور ؛ ضرورة حصول الاطمئنان المذكور من خبر غير الإماميّ الموثّق ولو في الجملة ـ : أنّه لا بدّ على التّقدير المذكور من القول بعدم الفرق بين الشّهرة وغيرها من الأمارات الموجبة لحصول مثل الظّن الحاصل من الشّهرة ، وهم لا يقولون به على ما عرفت. هذا كلّه في الشّهرة الاستناديّة.

وأمّا مجرّد فتوى المشهور على طبق الخبر من دون العلم باستنادهم إليه فضلا عن العلم بعدم استنادهم إليه ؛ فالأمر أشكل على تقدير ذهابهم إلى انجبار ضعف الخبر سندا بها على ما زعم.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : عدم دليل على انجبار ضعف السّند بالشّهرة كعدم انجبار قصور الدّلالة بها من غير فرق بين أقسام الشّهرة في الموضعين.

(٧٨) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو كان حجيّته ـ سواء كان من باب الظّن النّوعي أو من باب التّعبّد ـ مقيّدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩١ )

الظن القياسي هل يصلح موهنا أم لا؟

أقول : ويلحق بصورة تقييد الحجّيّة على الوجهين ما إذا أنيطت حجيّة الأمارة المقابلة بالقياس بالظّن الفعلي مع فرض عدم حصول الظّن منها بمصادمة القياس ؛ فإنّ الوجه في الوهن بالقياس وأشباهه ممّا قام الدّليل القطعي على عدم

٣١٥

اعتباره بالخصوص ـ فيما قلنا بتقيّد حجيّة الأمارات بعدم قيام الظّن على خلافها ـ جار بعينه فيما لو قلنا باشتراط اعتبارها بالظّن الفعلي ؛ فإنّ الوجه في التّوقّف في الصّورة الأولى عدم تحقّق العنوان المعتبر في الحجيّة ، وإن كان المانع منه وجود القياس على الخلاف في المسألة الفرعيّة.

وليس هذا عملا بالقياس حقيقة حتّى يمنع عنه ما دلّ على إلقائه ؛ ضرورة كونه أمرا قهريّا وجدانيّا لا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا حتّى يتعلّق به المنع الشّرعي.

وهذا الوجه كما ترى جار في الصّورة الثّانية أيضا ؛ فإنّ المفروض عدم حصول الظّن من الأمارة المقابلة بالقياس ولا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا ، بل ربّما يقال بكونه أولى بالجريان في الصّورة الأخيرة ؛ نظرا إلى إمكان القول بكشف ما دلّ على المنع عن القياس عن حال ما دلّ على تقييد اعتبار الأمارة بعدم قيام الظّن على الخلاف ، وأنّ المراد منه ليس مطلق الظّن على الخلاف ، بل الظّن الحاصل عليه من غير القياس.

وهذا بخلاف ما لو أنيط اعتبارها بحصول الظّن منها في خصوصيّات المسائل ؛ فإنّ عدم حصول الظّن من الأمارة في مورد قيام القياس على الخلاف أمر لا دخل للشّرع فيه أصلا فتأمّل.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : الفرق بين الوهن بالقياس وأشباهه وبين الجبر به فيما لو فرض إناطة حجيّة الأمارة بالظّن الشّخصي فيما لو فرض حصول الظّن منها

٣١٦

بواسطة القياس سواء فرض القياس تمام علّة الظّن أو جزء العلّة ؛ فإنّ العمل في الموضعين يرجع إلى العمل بالقياس حقيقة. وهذا بخلاف الوهن به في الصّورتين فإنّه ليس عملا بالقياس أصلا على ما عرفت.

ومن هنا نقول ـ على القول بحجيّة مطلق الظّن من جهة دليل الانسداد أو غيره ـ : أنّه كما لا يجوز العمل بالظّن القياسي إذا كان تمام علّة الظّن في المسألة ، كذلك لا يجوز العمل به إذا كان جزءا لها.

ثمّ إنّ هذا الّذي أفاده من التّوقف في العمل بالأمارة إذا كانت حجيّتها مشروطة بعدم قيام الظّن على الخلاف مع قيام القياس على الخلاف أحد الوجوه في المسألة.

وبقي هنا وجهان آخران تعرض لهما في « الكتاب » :

أحدهما : عدم الوهن به مطلقا من غير فرق بين أن يكون اعتبار الأمارة على وجه الاشتراط والتّقييد بحكم الشّارع أو بحكم العقل والعرف ويلحق به ما لو أنيط اعتبارها بالظّن الشّخصي على ما ذهب إليه القائل بحجيّة الظّن المطلق.

ثانيهما : التّفصيل بين ما كان الحاكم بالتّقييد أو اعتبار الظّن الشّخصي ، الشّرع وبين كون الحاكم باعتبار أحد الأمرين ، العقل أو العرف ، بعدم الوهن على الأوّل والوهن في الثّاني.

ووجه الأوّل ـ أي : عدم الوهن به مطلقا فيما لو كان الحاكم بالحجيّة

٣١٧

الشّارع ـ ظاهر ؛ فإنّ ما دلّ على النّهي عن القياس واستعماله في الشّرعيات ـ سيّما بملاحظة التّعليل المذكور فيه ـ شارح لما دلّ على التّقييد وحاكم عليه. وأنّ المراد من الظّن المعتبر عدمه في حجيّة الأمارة ، غير الظّن القياسي فيكون حجيّة الأمارة مقيّدة بالنّسبة إلى غير الظّن القياسي ، ومطلقة بالنّسبة إليه. وكذا لو كان المعتبر بحكم الشّارع الظّن الشّخصي ، وفرض المانع منه القياس ؛ فيحكم بإطلاق الحجيّة بالنّسبة إلى هذه الصّورة الخاصّة.

وأمّا لو كان الحاكم باعتبار أحد الأمرين العقل أو العرف ، فالوجه فيه : أنّه بعد تبيّن حال القياس ببيان الشّارع وكونه غالب المخالفة في الأحكام الشّرعيّة ، يكون الظّن الحاصل منه في نظر العقل والعرف بمنزلة الوهم. فلا يوهن به ما يفيد الظّن لولاه عند العقل والعرف ؛ نظرا إلى أنّ اعتبار وصف الظّن في حكمهما أو اعتبار عدم قيامه على خلاف الأمارة إنّما هو من حيث غلبة المطابقة للواقع على الأوّل ، ومصادمة القرب الشّخصي للنّوعي على الثّاني. والقرب موجود في الأمارة المخالفة للقياس وإن كان وصف الظّن منتفيا أو قائما على الخلاف. ومن هنا يقال بحجيّة الظّن النّوعي في الجملة على القول بحجيّة الظّن المطلق بدليل الانسداد أو غيره ؛ مع كون نتيجة الدّليل حجيّة الظّن الشّخصي على ما عرفت في محلّه.

نعم ، لو كان هناك سببان للظّن مع اختلاف مقتضاهما وكان القياس على طبق أحدهما فأوجب منع حصول الظّن من الأمارة المخالفة له ؛ فحصل الظّن من

٣١٨

السّبب الموافق له ، أمكن القول بحجيّة الظّن الحاصل من السّبب الموافق له ـ بناء على إناطة الحكم بالظّن الشّخصي ـ وكذا لو فرض منعه حصول الظّن من الأمارة القائمة على خلاف ما قيّد اعتباره بعدم قيام الظّن على الخلاف فتأمّل هذا.

وأمّا وجه التّفصيل : فيظهر ممّا ذكر من الوجه لإطلاق الوهن به وإطلاق عدم الوهن به ؛ فإنّ الحكومة إنّما تجري بالنّسبة إلى الأدلّة الشّرعيّة ، لا بالنّسبة إلى ما كان اعتباره في الشّرعيّات من جهة إمضاء حكم العقل ، أو العرف ؛ فإنّ حكم الشّارع بالنّسبة إليه يتبع حكم العقل أو العرف.

فإذا فرض إناطة حكم العقل مثلا بالظّن الشّخصي وفرض انتفائه في مورد وجود القياس على خلاف السّبب المفيد للظّن فيرتفع موضوع الحكم العقلي قهرا بالوجدان. وليس هذا عملا بالقياس حقيقة أصلا ؛ حتّى يمنع عنه ما دلّ على المنع عن العمل بالقياس واستعماله في الشّرعيات.

فإن شئت قلت : إنّ الممنوع بما دلّ على المنع من العمل ببعض الأمارات كالمثبت بما دلّ على وجوب العمل ببعضها فكما أنّ المثبت بالثّاني الآثار الشّرعيّة ، كذلك الممنوع بالأوّل هو خصوص الآثار الشّرعيّة المجعولة من قبل الشّارع. والمفروض أنّه ليس في مورد القياس على خلاف ما يعتبره العقل من الظّن أثر شرعيّ وحكم مجعول من الشّارع أصلا ، وإنّما الثّابت من قبله إمضاء الحكم العقلي اللاّحق لوصف الظّن المرتفع قهرا في مفروض البحث هذا.

والتّحقيق ما عرفت : من إطلاق عدم الوهن به ؛ نظرا إلى ما عرفت من وجود

٣١٩

مناط الحجيّة وعنوانها في مقابل القياس ، وإن لم يعبّر عنه بالظّن. فما دلّ على المنع عن القياس بالنّظر إلى تعليله قد يخرج الظّن القياسي موضوعا عن حكم العقل بحجيّة مطلق الظّن ، وقد يدخل غير الظّنّ الشّخصي موضوعا في حكم العقل فافهم وتأمّل ؛ فإنّ المقام لا يخلو عن غموض ، هذا كلّه بالنّسبة إلى ما قام دليل على عدم اعتباره بالخصوص.

وأمّا ما حكم بعدم حجيّته من الظّنون من جهة الأصل فلا إشكال في عدم وهنه لما كان اعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق أو التّعبّد كذلك ، كما أنّه لا إشكال في وهنه لما كان اعتباره على وجه التّقييد أو الاشتراط بحصول الظّن الشّخصي المرتفع بواسطة قيام الظّن على الخلاف كما ذكره في « الكتاب ».

وتوهّم جريان ما عرفت في القسم الأوّل في هذا القسم من الظّن بجعل دليل حرمته حاكما على ما دلّ على جعل الأمارة على وجه التّقييد أو الاشتراط قد عرفت فساده سابقا هذا.

وأمّا حكمهم بعدم حجيّة الخبر الصّحيح الّذي أعرض المشهور عنه ؛ فإنّما هو من جهة عدم استفادة العموم ممّا دلّ على حجيّته بحيث يشمل ما أعرض المشهور عنه فلا ينافي ما ذكرنا.

وأمّا ما بنى عليه شيخنا قدس‌سره ـ في غير موضع من كلماته وسمعنا منه مرارا في مجلس البحث ـ : من وهن كثرة التّخصيص لدلالة العمومات ؛ فإنّما هو من جهة إناطة ألفاظ العموم بالظّهور العرفي المرتفع مع كثرة التّخصيص ـ على ما أسمعناك

٣٢٠