بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

(٥٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الجواب عن الثّاني : أمّا أوّلا ؛ فبمنع الشّهرة والإجماع ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٤٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده مبنيّ على ما استفاده من كلام المستدلّ من ادّعائه ذهاب المشهور أو نقل الإجماع على كون نتيجة دليل الانسداد مختصّة بالمسائل الفرعيّة.

فيورد عليه : بأنّ المسألة من المستحدثات فدعوى الشّهرة كنقل الإجماع

__________________

(١) قال الفاضل الجليل رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لا يخفى أن المستدل تمسّك بالشهرة والإجماع المنقول على عدم حجّيّة الظن في مسائل أصول الفقه إلزاما على الخصم.

ولا يدفعه منع الإجماع ، وكون دعواه مساوقة لدعوى الشهرة ؛ فإن الشهرة ، بل دعواها يكفي المستدل في مقام الإلزام.

وليت شعري كيف يصحّ كون دعوى الإجماع مساوقة لدعوى الشهرة سندا لمنع الشهرة ، مع أن ما ذكر يدفع حصول الإجماع على ما زعموه لا وقوع نقل الإجماع الذي هو مبني الإستدلال.

وأيضا : إن كون المسألة في المستحدثات ينافي كونها مشهورة أو مجمعا عليها لو أريد الشهرة بين الكل ، أو أريد إجماع الكل ، أمّا لو أريد بهما بالنسبة بمن بعد حدوث التكلّم فيها فلا ، كما تراهم يقولون : « المشهور بين المتأخرين كذا وإجماع المتأخّرين على كذا » فافهم ). إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ١٦٧.

٢٠١

في غير محلّها ، فهما مساويان ومساوقان من حيث القطع بخطأ المدّعي وليس الأمر كما ذكر ، بل المستدلّ يدّعي أنّ الظّن في المسألة الأصوليّة كالظّن في المسألة الاعتقاديّة عند المشهور يلحق بالقياس. ومن هنا قالوا : إنّ هذا أصل ولا يمكن إثباته بالخبر.

وهذا لا تعلّق له ببيان قضيّة مقدّمات الانسداد وإنّها حجيّة الظّن مطلقا أو في خصوص الفروع حتّى يتوجّه عليه : كون المسألة من المستحدثات فلا معنى لنقل الإجماع فيها بعد عدم وجودها في كلماتهم ، كما أنّه لا معنى لدعوى الشّهرة.

وهذه الدّعوى من المستدلّ وإن كانت فاسدة من جهات أخر مذكورة في « الكتاب » إلاّ أنّها غير ما أفاده في المقام.

ثمّ إنّ مرجع ما أفاده في الجواب ثانيا ؛ إلى منع حصول الظّن من الشّهرة في المقام بعدم حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ حيث أنّ استناد المشهور إلى عدم وجدان دليل قضى بحجيّة الظّنون الخاصّة يقتضي بحجيّتها في الأصول أيضا. وأين هذا من الشّهرة القائمة على كون الظّن في المسألة كالقياس؟

وممّا ذكرنا تظهر المناقشة فيما أفاده ثالثا ؛ فإنّ مراد المستدلّ ليس تعلّق الظّن بمفاد الدّليل العقلي بل حصول الظّن من الشّهرة بكون الظّن في المسألة الأصوليّة محرّم العمل كالقياس على ما عرفت فلا يتوجّه عليه ما أفاده أصلا.

كما أنّه يظهر ممّا ذكرنا في المقام وفي مسألة المانع والممنوع : المناقشة في باقي الأجوبة.

٢٠٢

والّذي يقتضيه التّحقيق بعد تسليم الشّهرة ونقل الإجماع الجواب بما عرفت القول فيه في مسألة المانع والممنوع : من عدم إمكان شمول دليل الانسداد على تقدير التّعميم لهذا الظّن ، لا لمجرّد لزوم كون الشّمول لغوا ولا لمجرّد كون الحاصل على هذا التّقدير عدم الحجيّة وهو خلاف الفرض وإن كان كلّ منهما محذورا مستقلاّ من حيث إنّ شمول الدّليل لهما موجب لعدم شموله لهما فإنّهما ظنّ في المسألة الأصوليّة ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال على ما عرفت مفصّلا. وقد اختار قدس‌سره هذا الجواب وارتضاه بعد ما عرضته عليه في مجلس المذاكرة.

فإن شئت قلت : إنّ حكم العقل بحجيّة الظّن وإنّه كالعلم في زمان الانسداد وإن تعلّق بالمسألة الأصوليّة لا يمكن أن يجعل دليلا على عدم حجيّة مطلق الظّن في المسألة الأصوليّة.

نعم ، لو قام هناك ظنّ على عدم حجيّة ظنّ خاصّ أمكن جعله دليلا على عدم حجيّة ذلك الظّن المقوم عليه من حيث شمول الدّليل للقائم كما تقدّم تفصيل القول فيه في مسألة المانع والممنوع.

* * *

٢٠٣

* التنبيه الرابع

عدم كفاية الظن بالإمتثال في مقام التطبيق

(٥٧) قوله قدس‌سره : ( فظهر اندفاع توهّم : أنّه إذا بني على الامتثال الظّني ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥١ )

دفع جملة من التوهّمات في المقام

أقول : ونظير التّوهّم المذكور الّذي توهّمه بعض المتأخّرين ويستفاد من كلام المحقّق القميّ قدس‌سره في « القوانين » ما توهّمه بعض في ردّ تمسّكه للاحتياط في مسألة « الأقلّ والأكثر » عند الشّك في الجزئيّة والشّرطيّة بقاعدة « الشّغل » : بأنّ تحصيل البراءة اليقينيّة بفعل ما شك مدخليّته في العبادة شطرا أو شرطا ، غير ممكن في العبادات بعد فرض ثبوت أكثر إجزائها وشرائطها بالأدلّة الظّنية ؛ ضرورة كون النّتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها.

وما توهّمه آخر في ردّ اعتبار حصول الظّن بصدور الخبر على تقدير الحكم بحجيّته من جهة دليل الانسداد كما بنى عليه غير واحد من المتأخّرين : بأنّ

٢٠٤

حصول الظّن الشّخصي بصدور الخبر لا يترتّب عليه حصول البراءة الظّنية بعد فرض عدم اعتبار الظّن الشّخصي بجهة صدور الخبر ودلالته ، فأيّ فائدة في اعتبار حصول الظّن الشّخصي بالصّدور مع عدم حصول الظّن بالواقع منه من جهة إعمال الأصول اللّفظيّة وغيرها ممّا لا يعتبر في اعتبار حصول الظّن الشّخصي؟إلى غير ذلك ممّا توهّم في نظائر المقام.

والجواب عن الكلّ ما أفاده قدس‌سره وحاصله : أنّه لا ريب في أنّه إذا تعدّد الظّن في جهات القياس ومقدّماته فلا محالة يتعدّد احتمال الخطأ في النّتيجة بتعدّد الظّن فإذا قام الدّليل القطعيّ على عدم الاعتناء بالخطأ من جهة بعض الاحتمالات : إمّا من العقل كما في المقام ، وإمّا من الشّرع كما في مسألة الظّهور اللّفظي وأنّ المكلّف معذور من جهته على تقدير عدم مصادفته للواقع لم يلزم منه عدم الاعتناء باحتمال الخطأ من جهة غيره من الاحتمالات المتطرّقة في المقدّمات وإلغائها بالمرّة كما يحكم به ضرورة العقل ، وبعد فرض التّعدّد ، ففي المقام إذن ظنّ المكلّف ببراءة ذمّته من حيث تعيّن الحكم الشّرعي الكلّي ؛ إمّا من جهة تعلّق الظّن به ابتداء أو ثانيا وبالعرض ؛ من جهة تعلّقه باعتبار ما قام عليه ممّا لا يفيد الظّن به في خصوصيّات المقامات فهو معذور من هذه الجهة بحكم العقل المستقلّ بمعنى أنّه إذا لم يصادف الظّن للواقع لم يكن معاقبا من جهته بل كان مأجورا تفضّلا ؛ نظرا إلى ما دلّ على ثبوت الأجر للمخطئ في الاجتهاد.

وأمّا إذا ظنّ بانطباق ما عيّنه بالظّن الّذي يسمّى بالظّنّ في الموضوع

٢٠٥

الصّرف والخارجي ، فلا يكون معذورا من جهته بمعنى أنّه لو لم يصادف الواقع استحقّ العقاب على مخالفته ، بل التّحقيق بثبوت الاستحقاق على تقدير المصادفة أيضا ، لكن لا على الواقع لفرض المصادفة بل على التزامه وتديّنه.

بل التّحقيق : استحقاقه العقاب من جهتين على هذا التّقدير على القول بحرمة التّجري ، بل من جهات على تقدير القول باستحقاق العقاب على مخالفة الأصول الظّاهريّة الّتي أمر بالرّجوع إليها في الفرض على تقدير عدم اعتبار الظّن كما هو المفروض ، لما عرفت : من أنّ الاعتبار من الجهة الأولى لا يلازم الاعتبار من الجهة الثّانية إذا لم يحكم العقل بكفاية الظّن بالبراءة والسّقوط مطلقا ، بل إنّما حكم بكفايته في مقام تشخيص الحكم الكلّي المنسدّ فيه باب العلم.

إمكان إقامة الدليل على حجّيّة مطلق الظّنّ

في الموضوعات وعدمه

ثمّ إنّ الكلام إلى هنا في بيان أنّ اعتبار الظّن في الحكم الكلّي الإلهي الصّادر من الشّارع سواء كان بالدّليل العقلي أو الشّرعي لا يلازمه اعتباره في الموضوع الخارجي المنطبق عليه الحكم ، بل لا بدّ فيه من تحصيل العلم إن أمكن ، أو الاحتياط في تحصيله كما أنّه إذا فرض اعتباره في الموضوع الخارجي من جهة قيام دليل خاصّ عليه في بعض الموارد لم يلازم اعتباره في الحكم ولا في

٢٠٦

موضوع آخر غيره فلا ملازمة من الجانبين.

وهنا كلام آخر ـ غير ما وقع الكلام فيه من قضيّة توهّم التّلازم المتوهّم ـ :وهو أنّه هل قام دليل آخر على اعتبار مطلق الظّن في مطلق الموضوعات الخارجيّة إلاّ ما خرج بالدّليل أم لا؟

الّذي يقتضيه التّحقيق أن يقال : إنّه لا يظنّ بأحد القول بذلك ، بل لو ادّعى أحد الإجماع على عدم اعتبار مطلق الظّن في مطلق الموضوعات لكان صادقا مصدّقا ، فهل يمكن مع ذلك إجراء دليل الانسداد في خصوص الموضوعات بقول مطلق أم لا؟

الّذي يقتضيه التّحقيق أن يقال : إنّه لا معنى لإجرائه في مطلق الموضوعات لعدم تماميّة مقدّماته ؛ لعدم إمكان دعوى انسداد باب العلم بعد عدم انحصار سببه في أمور خاصّة ولا انسداد باب الظّن الخاصّ ولا المخالفة الكثيرة من الرّجوع إلى الأصل بعد فرض عدم كون جميعها واقعة للمكلّف ولا وجود العلم الإجمالي في الوقائع إلى غير ذلك.

نعم ، ربّما يجري على لسان شيخنا اعتبار الظّن الاطمئناني بقول مطلق في جميع موارده وكونه ملحقا بالعلم حكما بل موضوعا. لكنّك قد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه إن كان المراد ظاهره. نعم ، قد أصرّ على ذلك بعض مشايخنا قدس‌سره في

٢٠٧

« جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام » (١).

ولعمري إنّه من غرائب الكلام وإن أوهمه ظاهر كلام بعض الأعلام ، بل كلام شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم في مسألة حجيّة الأخبار.

ثمّ إذا عرفت فساد توهّم القول بحجيّة مطلق الظّن في مطلق الموضوعات الخارجيّة فهل قام هناك شيء من دليل الانسداد أو غيره على اعتبار مطلق الظّن في بعض الموضوعات الخارجيّة أم لا؟

وملخّص القول فيه : أنّه ادّعى بعض المحقّقين (٢) الإجماع على اعتبار الظّن في الأمور المستقبلة ، وهذا الكلام بإطلاقه لا معنى لأن يكون مرادا. نعم ، هو مستقيم في الجملة.

وقد يستظهر من كلام ثاني الشّهيدين في باب « الشّياع الظّني » القول بحجيّته مطلقا ؛ نظرا إلى كون الظّن الحاصل منه أقوى من الظّن الحاصل من البيّنة العادلة في غالب مواردها (٣) ، وقد عرفت المناقشة فيه في مطاوي ما قدّمنا لك عند الكلام في الظّنون الخاصّة.

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٤٠ / ٥٥ ، وكذا ج ٢٢ / ١٥٤ وج ٣٦ / ٢٣١ إلى غير ذلك من المواضع.

(٢) الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية ولم نجده عاجلا في الهداية ، وأنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٢ / ١٣٦.

(٣) أنظر مسالك الأفهام : ج ١٣ / ٣٥٤.

٢٠٨

ويظهر من شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » في هذا المقام إمكان إجراء دليل الانسداد في جملة من الموضوعات كالضّرر والعدالة والنّسب والوقف وأشباهها من الموضوعات المتعلّقة للأحكام الكثيرة مع فرض انسداد باب العلم في غالب مواردها ، فالرّجوع إلى الأصل يوجب طرح تلك الأحكام ، ومن هنا يعتبر الظّن عندهم في باب الضّرر والنّسب. ومن هنا يكتفى بظنّ السّيادة والإلحاق بالهاشم في باب الخمس وغيره.

وما أفاده قدس‌سره وإن كان مسلّما مستقيما في الجملة إلاّ أنّه بإطلاقه محلّ مناقشة.

توضيح ذلك : أنّ الظّن في باب الضّرر وإن كان حجّة اتّفاقا وعليه العمل من العلماء والعقلاء في أمور معادهم ومعاشهم ، والحكمة فيه وإن كانت انسداد باب العلم في غالب موارده ، إلاّ أنّه يمكن منع جريان شبه دليل الانسداد فيه ؛ لأنّ جميع الوقائع الّتي يظنّ الضّرر فيها لا يتّفق عادة واقعة للمكلّف دفعة واحدة بحيث يصير محلاّ لابتلائه حتّى يلزم من الرّجوع إلى الأصل طرح الخطاب المتوجّه إلى المكلّف منجّزا على ما هو المناط والمدار في منع الرّجوع إلى الأصل في الشّبهة المحصورة كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه.

وأمّا القول باعتبار مطلق الظّن في باب العدالة والنّسب والوقف وأشباهها بحيث يكون حجّة حتّى في مقابل المدّعي خلافها ، فلم يدلّ عليه دليل بل ربّما يكون القول به بإطلاقه حتّى في مقابل المدّعي والمتصرّف خلاف الإجماع.

نعم ، لا إشكال في اعتبار بعض الأمارات شرعا في باب النّسب كالفراش

٢٠٩

فإنّه كالبيّنة والإقرار في هذا الباب وإن لم يحصل الظّن الشّخصي منه ، وهذا لا دخل له بحجيّة مطلق الظّن في باب النّسب.

وهذا مثل القول بحجيّة الظّن في دخول الوقت أو الشّهر في الجملة لمن كان متعذّرا من الفحص ، أو القبلة لمن كان متحيّرا في الجملة ، وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى ؛ فإنّ اعتبار الفراش من باب الظّن الخاصّ لا الظّن المطلق وبالجملة القول بحجيّة مطلق الظّن في بعض الموضوعات مطلقا كما في باب الضّرر أو في الجملة ممّا لا نمنعه ، لكنّه لا دخل له بحجيّة مطلق الظّن في مطلق الموضوعات ، فالمرجع فيها الأمارات المعتبرة بقول مطلق كالبيّنة ونحوها ومع فقدها فالمرجع الأصول العمليّة ولا يلزم من الرّجوع إليها محذور أصلا.

ومن هنا لا يجب الفحص عن الموضوعات المشتبهة فافهم وليكن هذا في ذكر منك عسى ينفعك في كثير من الموارد.

ثمّ من الواضحات كون الكلام في حجيّة الظّن في باب الضّرر متوقّفا على تعلّق الحكم الشّرعي بالضّرر الواقعي لا بخوفه ، وإلاّ لم يكن معنى الكلام في اعتباره ؛ لأنّ صدق الخوف مع الشّك وجداني ، فضلا عن الظّن بالضّرر ، فلو قيل بتعلّق الحكم في باب التّيمم والإفطار ـ كما هو مقتضى بعض الأخبار وذهب إليه بعض الأصحاب ـ بموضوع الخوف ، لحق الحكم مع الشّك في الضّرر أيضا ولا دخل له بمسألة حجيّة الظّن في باب الضّرر أصلا ، كما أشار إليه في « الكتاب ».

* * *

٢١٠

* التنبيه الخامس :

في اعتبار الظنّ في اصول الدين

(٥٨) قوله قدس‌سره : ( أحدهما : ما وجب على المكلّف الاعتقاد والتّديّن به ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٥٥٥ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ظاهر ما أفاده في المقام بل صريحه كون التّصديق العلمي مغايرا للاعتقاد ، ومن هنا جعله مقدّمة وجوديّة له تارة ومقدّمة وجوبيّة له أخرى ، وهو الّذي يظهر من غير واحد منهم : المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » في بيان حقيقة الإيمان بالنّسبة إلى القلب والجوارح حيث قال ما هذا لفظه :

« قيل إنّه فعل القلب فقط. وقيل : إنّه فعل الجوارح. وقيل : إنّه فعلهما معا. وذهب إلى الأوّل المحقّق الطّوسي في بعض أقواله ، وجماعة من أصحابنا والأشاعرة.

والتّحقيق : أنّه لا يكفي فيه مجرّد حصول العلم بل لا بدّ من عقد القلب على مقتضاه وجعله دينا له وعازما على الإقرار به في غير حال الضّرورة والخوف ، بشرط أن لا يظهر منه ما يدلّ على الكفر.

٢١١

والحاصل : أنّ محض العلم لا يكفي وإلاّ لزم إيمان المعاندين من الكفار الّذين كانوا يجحدون ما استيقنت به أنفسهم ، كما نطقت به الآيات » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وربّما يستدلّ على كون الاعتقاد الّذي هو عبارة عن عقد القلب مغايرا للتّصديق العلمي وزائدا عليه ومنفكّا عنه بجملة من الرّوايات مثل قوله عليه‌السلام :« فرض اللّسان القول والتّعبير عن القلب بما عقد عليه وأقرّ به » (٢) الحديث.

وما رواه الزّبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام. « وأمّا ما فرض على القلب من الإيمان والإقرار والمعرفة والعقد » (٣) الحديث وفي آخره : « وذلك ما فرض الله عزّ وجلّ على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الإيمان » (٤).

فإنّ ظاهره كون المعرفة مغايرة لعقد القلب كما هو مقتضى العطف وحمله على التّفسير والبيان كما يقتضيه ذيل الرّواية حيث اقتصر على ذكر المعرفة فقط ، خلاف الظّاهر إلى غير ذلك ممّا يستظهر منه كون الإيمان والاعتقاد غير مجرّد

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ٢ / ١٧٨.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٥ باب « في ان الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٥ / ١٦٤ باب « الفروض على الجوارح ووجوب القيام بها » ـ ح ١ ، وفيه :فرض الله على اللسان ... إلى آخره.

(٣) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٤ نفس الباب السابق ـ ح ١.

(٤) نفس المصدر السابق.

٢١٢

العلم والقطع بالمعارف.

وقد استدلّ قدس‌سره عليه في مجلس البحث ـ بعد الإصرار على تغايرهما ـ :بأنّهما لو كانا متّحدين لم يمكن تعلّق الوجوب بالاعتقاد وصيرورته معروضا له ؛ لأنّ الاعتقاد بمعنى العلم من الأوصاف الاضطراريّة بعد حصول المقدّمات لا الأفعال ، فلا يعقل أن يعرضها الوجوب فيكون المطلوب حقيقة هو مقدّمات تحصيله الّتي هي من قبيل الأفعال الاختياريّة ، وهو خلاف ظاهر جميع كلماتهم ، بل خلاف ظاهر الآيات والأخبار الواردة في باب الإيمان والمعرفة ، فلا بدّ من أن يلتزم بكون الاعتقاد أمرا اختياريّا وفعلا للقلب غير مجرّد التّصديق العلمي حتّى يمكن اتّصافه بالوجوب ويقع في حيّز أمر الشارع.

لا يقال : إنّ العلم وإن لم يكن مقدورا بالذّات إلاّ أنّه مقدور بالواسطة ومعلوم أنّ القدرة الّتي هي مناط صحّة التّكليف ومداره هو الأعمّ وإلاّ لارتفع أكثر التّكاليف إن لم يرتفع كلّها وهو كما ترى.

مغايرة الإعتقاد للعلم

لأنّا نقول : ما ذكر من إناطة التّكليف بالقدرة بالمعنى الأعمّ وإن كان أمرا مسلّما مفروغا عنه ، إلاّ أنّ متعلّق المقدور بالواسطة لا بدّ من أن يكون من مقولة الأفعال بالمعنى الأعمّ من فعل القلب والجوارح ولا يجدي تعلّقها بالصّفة ، فإنّ المكلّف به حقيقة حينئذ هو الأسباب. ولو تعلّق في ظاهر القضيّة اللّفظيّة

٢١٣

بالأوصاف فلا بدّ من صرفها ؛ ضرورة انحصار متعلّق الأحكام الشّرعيّة في أفعال المكلّفين وبالجملة الاعتقاد يغاير العلم.

ومن هنا حكم في الشّرع كتابا وسنّة بكفر من لم يعتقد بالحقّ وإن كان عالما به سواء كان مصرّا في ترك الاعتقاد أو لا ، هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره ـ مضافا إلى منافاته لما سيجيء من كلامه من الإشكال في منع حجيّة الخبر في الأصول بقوله قدس‌سره « ولكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظّن من الخبر ... إلى آخره » (١) ؛ إذ لا فرق بين الظّن والعلم في الحكم المذكور كما هو ظاهر ـ :

بأنّا كلّما نتأمّل لا نعقل الاعتقاد أمرا زائدا على التّصديق الحاصل في القلب ولا نرى فيه بعد التّصديق العلمي شيئا آخر أصلا يعبّر عنه بالاعتقاد وفعل القلب. فالتّصديق المذكور عين عقد القلب على المعلوم لا تغاير بينهما أصلا ؛ فإن كان اختياريّا فهو أيضا اختياريّ وإن كان اضطراريّا فهو أيضا اضطراري ، فإن كان من فعل القلب فهو أيضا من أفعاله وإن كان من الأوصاف فهو أيضا من الأوصاف.

فظهر من ذلك : اندفاع ما أفاده قدس‌سره : من أنّه لو كانا متّحدين لم يمكن تعلّق الوجوب بالاعتقاد وصيرورته معروضا له على ما هو المطلوب في العقائد أوّلا وبالذّات ؛ لأنّ التّصديق كما هو الحقّ المعروف عبارة عن فعل القلب ، فإن فرض

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٥٧.

٢١٤

اختياريّا ابتداء وبالذّات كما قد يتوهّم فلا إشكال ؛ لأنّ الفعل الّذي يعتبر تعلّق التّكليف به أعمّ من أن يكون من أفعال القلب أو الجوارح وإن فرض اضطراريّا كما هو الحقّ وعليه المحقّقون من كون جميع الإدراكات اضطراريّا فكذلك ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ويصحّ تعلّق التّكليف به سواء كان من أفعال القلب أو الجوارح.

وبالجملة : تعلّق الأمر والتّكليف بالعلم والتّصديق ممّا لا مجال لإنكاره فإن كان العلم من الأفعال فهو وإن كان انفعالا للقلب ، فلا بدّ من إرجاع الأمر به إلى الأمر بمقدّماته ، وليس فيه إلاّ مخالفة ظاهر كلماتهم ، وهي ممّا لا يوجب رفع اليد عمّا قضت به الضّرورة : من عدم تعلّق التّكليف بما لا يكون من مقولة الفعل ، فالاستدلال على كون العلم مغايرا للاعتقاد من حيث تعلّق التّكليف به محلّ نظر بل منع.

وأمّا الحكم بكفر جماعة ممّن كانوا عالمين بالحقّ كفرعون وأضرابه ، فليس من جهة عدم اعتقادهم مع علمهم بالحقّ ، بل من جهة إنكارهم للحقّ وعدم التزامهم به. إذن الإيمان ليس مجرّد الاعتقاد ؛ ضرورة اعتبار أمر آخر وراءه فيه.

نعم ، لا إشكال في أنّ هنا شيئا آخر وراء العلم ، وهو الرّضا وطيب النّفس في مقابل الاستنكاف والاستكبار القلبي ، وقد اعتبر الرّضا والتّسليم في رواية

٢١٥

الزّبيري (١) بعد الإقرار والمعرفة وعقد القلب وهو ظاهر قوله عليه‌السلام في بعض الأدعية : « رضيت بالله ربّا وبالقرآن كتابا وبالكعبة قبلة » (٢).

لكنّ الظّاهر عدم إرادة التّسليم والرّضا من الاعتقاد في كلامه قدس‌سره وإن كان لا يأباه ما أفاده في مجلس المذاكرة ، بل ربّما يصرّح به في خلال إفاداته ، مع أنّ القول باعتبار ذلك في الإيمان خلاف ظاهر أكثر الأخبار الواردة في تفسير الإيمان كما ستقف عليه ممّا ذكره قدس‌سره بعد ذلك.

نعم ، لا إشكال في اعتباره في بعض مراتب الإيمان وعدم تحقّقه بدون الرّضا والتّسليم ؛ حيث إنّه ذو مراتب ودرجات كثيرة لا يوجد بعضها إلاّ في الخصّيصين من الأولياء والمرسلين والصّديقين.

وأمّا اعتباره في الإيمان بقول مطلق في مقابل الكفر الموجب للخلود في النّار والأحكام الدّنيويّة والآثار البرزخيّة ، فلا يظنّ القول به من أحد فضلا عن مثله العديم في عصره بل غالب الأعصار.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من المناقشة فيما أفاده من مغايرة العلم للاعتقاد لا تعلّق له بما أفاده في بيان تقسيم العقائد إلى القسمين ؛ فإنّه صحيح لا محيص عنه أصلا ،

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٤ باب « في ان الايمان مبثوث في جوارح البدن كلها » ـ ح ١.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٥٢٥ باب « القول عند الإصباح والإمساء » ـ ح ١٢ ، عنه الوسائل :ج ٦ / ٤٦٣ باب « استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة : بعد كل صلاة » ـ ح ١.

٢١٦

فيقال علي المناقشة المزبورة :

إنّ ما يكون من مقولة الاعتقاديّات لا يخلو إمّا أن يجب تحصيل معرفته أولا يجب ، بل إن حصلت المعرفة حصل الاعتقاد قهرا ووجب الالتزام والتّدين بمقتضاه وإن لم يحصل فلا يجب تحصيل المعرفة الظّنّية ولا التّدين بمقتضاها لو فرض حصولها ، كما لم يجب تحصيل المعرفة العلميّة ، بل على تقدير حصول المعرفة الظّنية يحرم التّديّن والالتزام بها لما دلّ على حرمة التّدين بغير العلم.

ثمّ إنّه يعلم ممّا ذكرنا كلّه : فساد ما قيل أو يقال : من أنّ هنا شيئا آخر معتبرا في الإيمان غير مجرّد العلم وهو الحبّ في قبال العناد والعزم على الإقرار وغير ذلك ، فإنّ اعتبار هذه الأمور في الإيمان على القول به لا تعلّق له بمغايرة العلم للاعتقاد وإن عقد القلب بشيء غير العلم به فإنّ وجود أمور قلبيّة غير العلم سواء اعتبرت في الإيمان أو بعض مراتبه أو لا ، ممّا لا ننكره أصلا.

كما أنّه يظهر منه فساد الاستشهاد بالآيات والأخبار الظّاهرة في اعتبار القول والإقرار زائدا على الاعتقاد في الإيمان والإيجاب الإنكار والجحود للكفر مثل قوله تعالى : (الّذين يقولون آمنّا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم) (١) وقوله

__________________

(١) الحجرات : ١٤ والصحيح : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

٢١٧

تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ) (١) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الّتي ستمرّ عليك.

ثمّ إنّ هنا قسما ثالثا لما أفاده من القسمين للعقائد الحقّة ليس ممّا يجب التّديّن به ولو بعد العلم بثبوته من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباره به على سبيل الجزم واليقين ، وإن كان إنكاره بعد العلم بثبوته من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجبا للكفر من حيث رجوعه إلى إنكار النّبوة وتكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ تكذيبه ولو في أخباره العادية موجب للكفر قطعا ، وهو : ما يرجع إلى بيان أمور واقعيّة لا تعلّق لها بالدّين ، مثل بيان مبدأ خلق السّماء والأرض ، وحور العين والفصل بين كلّ سماء إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى بيان خلقة المخلوقات ؛ فإنّه ليس أمرا دينيّا اعتقاديّا بحيث يجب التّديّن به والإقرار به وإن لم يجز إنكاره بعد العلم بثبوته من صاحب الشّرع هذا.

وتوهّم : كون جميع ما بيّنه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدّين فاسد كما سننبّه عليه.

__________________

(١) البقرة : ١٣٦.

٢١٨

لو حصل الظنّ من الخبر

(٥٩) قوله قدس‌سره : ( لكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظّن من المخبر (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥٧ )

أقول : لا يخفى عليك ؛ انحصار الأمر فيما أفاده بعد البناء على اتّحاد الاعتقاد الظّني للظّن على ما عرفت تحقيقه ، وإلاّ فيوجد هنا وجه آخر أهمل ذكره في « الكتاب » بملاحظة تخيّل أمر الحصر فيما أفاده ، كما أنّ مبناه على كون وجوب الإظهار والإقرار من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على نفس المعتقد ، أي : الأمور الثّابتة الدّينيّة النّفس الأمريّة لا من الأحكام المترتّبة على خصوص الاعتقاد الجزمي بها ؛ ضرورة عدم قابليّتها لتعلّق الجعل الظّاهر بها على التّقدير المزبور.

وتوهّم : كون إظهار المخبر به ممّا يقتضيه نفس دليل وجوب التّعبد بخبر العادل فلا يحتاج إلى جعله من آثار المخبر به في نفس الأمر مع قطع النّظر عن الأخبار ، ومن هنا ورد الأمر البليغ بنقل الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهما‌السلام والحثّ على كتبها وإيداعها في الكتب حتّى ينتفع بها الغائبون ، بل المعدومون ومن في

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : « إذا حصل الظن من الخبر ... إلى آخره » وهو الصحيح ولعلّ ما وقع هنا من سهو قلم الناسخ والله العالم.

٢١٩

أصلاب الرّجال ـ كما ترى.

ضرورة أنّ مجرّد نقل الخبر من دون اعتقاد بثبوت مضمونه الّذي هو الموضوع في تلك الأخبار لا يفيد في مسألة حجيّة خبر الواحد في العقائد أصلا ؛ لأنّ مجرّد النّقل غير إظهار النّاقل الاعتقاد بثبوته ولو في مرحلة الظّاهر الّذي هو المقصود بالبحث في المقام.

ولأجل ما ذكرنا يناقش فيما أفاده قدس‌سره كما يظهر من قوله بعد ذلك أيضا : بأنّ الإقرار باللّسان وإن كان ممكنا مع الظّن الحاصل من الخبر ، بل مع الشّك ، بل مع القطع بالعدم أيضا ، إلاّ أنّ وجوبه مترتّب على الاعتقاد العلمي بالعقائد الحقّة كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : « فرض اللّسان التّعبير عمّا عقد عليه القلب » (١) الحديث. فلا يمكن ثبوته مع فرض زوال الاعتقاد المزبور هذا.

انقسام المعارف بالمعنى الأعم

وإن أردت تفصيل القول في المقام فاستمع لما يتلى عليك.

فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ : إنّ المعارف بالمعنى الأعمّ على قسمين :

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٥ باب « ان الايمان مبثوث على الجوارح » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٥ / ١٦٤ باب « الفروض على الجوارح » ـ ح ١ ، وفيه « وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقرّ به ... ».

٢٢٠