بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

١
٢

٣
٤

* التنبيه الثاني :

نتيجة دليل الإنسداد قضيّة مهملة أو كلّيّة

* التنبيه الثالث :

لو حصل الظن بالحكم من امارة متعلّقة بألفاظ الدليل

* التنبيه الرابع :

عدم كفاية الظن بالإمتثال في مقام التطبيق

* التنبيه الخامس :

هل يعتبر الظن في أصول الدّين؟

* التنبيه السادس :

في جابريّة الظنّ وكأسريّته ومرجّحيّته لو لم يكن حجّة

٥
٦

* التنبيه الثاني

نتيجة دليل الإنسداد قضية مهملة أو كلّيّة؟

(١) قوله قدس‌سره : ( الأمر الثّاني : وهو أهمّ الأمور في هذا الباب أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٦٣ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

وليعلم ان الإطلاق والإهمال يلاحظان :

تارة : بالنسبة إلى أسباب الظنّ وهي الأمارات المفيدة له.

وأخرى : بالنسبة : إلى موارده من المسائل الفرعيّة والأصوليّة.

وثالثة : بالنسبة إلى أشخاصه من المجتهد والمقلّد.

ورابعة : بالنسبة إلى أوقاته ممّا بعد زمان الفحص وما قبله.

وخامسة : بالنسبة إلى مراتبه من الظنّ الإطمئناني وما دونه.

وهذه الجهات كلّها محلّ كلام ، إلاّ أنّ المقصود بالبحث في عنوان هذا الأمر إنّما هو الإهمال والإطلاق من الجهة الأولى أعنى : بالنسبة الى أسباب الظنّ.

وتظهر الثمرة :

في الإحتياج إلى توسيط شيء من المقدّمات المعمّمة لتتميم العمل بالظن في المسائل الفرعيّة ـ من مقدّمة عدم الكفاية ، أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، أو الإجماع المركّب أو غير ذلك ـ على الإهمال وعدم الإحتياج إليه على الإطلاق والكلّيّة ). انتهى.

تعليقة على معالم الأصول للسيّد القزويني : ج ٥ / ٣٢٩.

٧

عدم حجّيّة مطلق الظّنّ في غير الأحكام الإلزاميّة

أقول : عنوان المسألة في الإهمال والكليّة من حيث خصوص الأسباب مع أنّه يتكلّم قدس‌سره بعد ذلك فيهما من حيث الموارد والمراتب أيضا ، لعلّه من جهة كون البحث في المسألة من حيث الأسباب هو المقصود الأهمّ المذكور في كلمات أكثر المتعرّضين للمسألة ، وإلاّ فلا خصوصيّة للأسباب قطعا.

نعم ، هنا كلام آخر في عموم النّتيجة لغير الأحكام الإلزاميّة ، لم أر التّعرض له في كلماتهم. لكنّك قد عرفت سابقا : أنّ تقرير الدّليل على ما في كتب القوم المتداول في ألسنتهم بوجوه وعبارات مختلفة ، لا يقتضي حجيّة الظّن بالنّسبة إلى غير الأحكام الإلزاميّة قطعا من غير فرق بين تقرير الحكومة والكشف ؛ لأنّ العلم بالواجبات والمحرّمات وبناء التّكليف بالنّسبة إليهما ، وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية ، وعدم وجوب الاحتياط ، أو ما يوافقه من الأصول ؛ من جهة لزوم الحرج ، لا يقتضي حجيّة الظّن بالنّسبة إلى الاستحباب والكراهة ، فضلا عن الإباحة.

بل لو دار الأمر في جزئية شيء للعبادة مع العلم برجحانه ، وقامت الأمارة على استحبابه ، لا يمكن الحكم بمقتضاها وترتيب آثار المستحب على الفعل المفروض. اللهمّ إلاّ أن يتشبّث بذيل الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل كما قيل ، أو الأولويّة كما زعم ، وهما كما ترى.

أو يقرّر الدّليل بوجه آخر ـ قد عرفته في طيّ كلماتنا السّابقة ـ : وهو

٨

إجراؤه في جميع الأحكام من حيث تعلّق غرض الشّارع بحفظها وإبقائها ببقاء الشّريعة ، وهذا لا فرق فيه بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها من الأحكام ، فإن تمّ فهو ، وإلاّ أشكل الأمر على القائلين بحجيّة الظّن من جهة دليل الانسداد المعروف ، أو لزوم دفع الضّرر ونحوهما ممّا أقاموه لحجيّة الظّن المطلق ، فليكن هذا في ذكر منك لعلّه ينفعك فيما بعد.

ثمّ إنّ المراد من الإهمال في المقام من أيّ جهة يبحث عنها من حيث الإهمال ، ليس ما يتوهّم من عدم العلم بالعنوان الّذي يحكم به العقل ، بل المراد منه العنوان المعيّن الّذي يجامع العموم والخصوص في قبال العنوان الّذي ينطبق على العموم يقينا أو الخصوص كذلك. كيف! وحكم العقل ولو كان بمعنى الإدراك لا يجامع المهملة بالمعنى المعروف ، ألا ترى أنّه على الكشف يحكم بإهمال النّتيجة؟كما ستقف عليه.

والمراد به : أنّه يحكم العقل بأنّه يجب على الشّارع جعل ما به الكفاية في الاستنباط من الأمارات الظّنية فإن كان ما به الكفاية متعدّدا لا يحكم بوجوب جعل الجميع وإن كان محتملا كما لا يحكم بوجوب جعل بعض الخصوصيات ليس إلاّ ، وإن كان البعض متيقّنا فالمقابل للمهملة أعمّ من القضيّة العامّة الحقيقيّة الّتي هي معيّنة في ضمن الجميع ، والخاصّة المنطبقة على بعض معيّن.

نعم ، لو كان عقد المسألة من حيث عموم النّتيجة وعدمها ، دخل القسم الثّاني في الثّاني. ومن هنا قد عبّر قدس‌سره عن مقابل المهملة ، بالمطلقة تارة وبالكليّة أخرى ، وبالمعيّنة ثالثة ، كما ستقف عليه.

وليكن هذا في ذكر منك ؛ فإنّ كلام شيخنا قدس‌سره في هذا الأمر لا يخلو عن

٩

تشويش واضطراب على ما في « الكتاب » مع كثير اهتمامه بشأنه.

وإن كان المراد واضحا سيّما بعد ما نسمعك من البيانات الّتي سمعناها منه قدس‌سره مرارا في مجلس البحث وغيره ، وقد كان بانيا على تغيير عبارة الكتاب في « الأمر الثّاني » (١) في كثير من مواضعه ، وقد دعي فأجاب قبله « جزاه الله عن الدّين وأهله وعنّا خير الجزاء وأسكنه بحبوحات جنانه وحشره الله مع محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ».

(٢) قوله قدس‌سره : ( والتّحقيق : أنّه لا إشكال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٤ )

دليل الانسداد قد يقرّر في كلّ مسألة

وقد يقرّر في مجموع المسائل

أقول : قد يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة يحتمل فيها الحكم الإلزامي في نفسها من دون ملاحظة انضمامها بسائر المسائل التي فرض فيها العلم الإجمالي بأحكام إلزاميّة كثيرة تبلغ حدّ الشّبهة المحصورة سواء كان الشّك فيها في التّكليف ، أو المكلّف به ، مع إمكان الاحتياط في كلّ واحد منهما ، أو لا معه ، مع وجود الحالة السّابقة في كلّ واحد ؛ بحيث يلاحظ في حكمه ، أو لا معه.

وقد يجري في مجموع المسائل الّتي علم بوجود الأحكام الإلزاميّة فيها وإن لم يكن كلّ مسألة من دون ملاحظة الانضمام موردا للعلم الإجمالي بالتّكليف الإلزامي ، فإن جرى على الوجه الأوّل فلا إشكال في عدم الفرق وعموم النتيجة

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٣.

١٠

بحسب كلّ خصوصيّة تفرض.

أمّا بحسب المورد وخصوصيّة المسائل ؛ فواضح لا يحتاج إلى البيان ؛ لأنّ المفروض جريان الدّليل في كلّ مورد ومسألة.

وأمّا بحسب الأسباب ؛ فلأنّه وإن أمكن اجتماع أسباب متعدّدة للظّن في مسألة إلاّ أنّه لمّا كانت نتيجة المقدّمات ـ على ما أسمعناك مرارا وستسمعه ـ حجيّة الظّن الشّخصي ، ولا يعدل عنه إلى الظّن النّوعي إلاّ بعد فرض انسداد بابه ، ولا يمكن تأثير كلّ واحد في حدوث ظنّ بالنّسبة إلى مسألة شخصيّة ؛ ضرورة استحالة اجتماع الأمثال كالأضداد ، وإن حدثت من اجتماعها المرتبة القويّة من الظّن الّتي هي شخص واحد حقيقة ، وإن كانت واجدة للمرتبة الضّعيفة بمعنى وجدانها لذاتها ، لا وجدانها لها بحدّها ، وإلاّ لرجع إلى اجتماع المثلين ، وهذا معنى وجدان القويّ للضّعيف ، لا ما يتوهّم من كون الضّعيف موجودا في ضمن القويّ ومعه بوصفه كما هو واضح ، فلا محالة لا يتحقّق اجتماعهما بوصف السّبب الفعلي للظّن فلم يتعدّد السّبب حقيقة وإنّما تعدّد المقتضيات والعلل النّاقصة.

فإن شئت قلت : الحجّة الظّن الشخصي والفعلي الموجود في المسائل ولا يمكن تعدّده في المسألة الشخصيّة فإذا لم يتعدّد كان الدّليل على تقرير الكشف أيضا قاضيا بحجيّته كتقرير الحكومة على ما يقتضيه قضيّة الانحصار ، فالمستكشف على تقرير الكشف وإن كان جعل ما به الكفاية إلاّ أنّه إذا فرض الانحصار فلا محالة ينطبق على ما هو الموجود ، فكلّ سبب وجد في المسألة وأثر في وجود الظّن فهو حجّة لا محالة.

ومن هنا يعلم أنّه على هذا التّقدير لا مناص من لزوم إشكال خروج القياس

١١

إذا فرض استناد حصول الظّن به مستقلاّ بل فرض دخله في السّبب ؛ بمعنى كونه جزءا له ولا يأبى كلام شيخنا قدس‌سره فيما أفاده بقوله : « وعلى التّقدير الثّاني ، أعني :كون القضيّة كليّة ، فكيف توجيه خروج القياس؟ ... إلى آخره » (١) لهذا الفرض ؛ فإن النّتيجة كليّة عامّة فيه أيضا ، فإنّ المفروض الحكم بحجيّة كلّ ظنّ من أيّ سبب حصل في المسألة. فإذا حصل من القياس فكيف يمكن الحكم بعدم حجيّته؟ مع أنّ الفرض حصول الظّن منه.

والقول بانفتاح باب العلم في المسألة بملاحظة الدّليل القطعيّ القائم على عدم حجيّته ، يرجع إلى ما ذكروه في التّفصيّ عن الإشكال من جهة خروجه فافهم.

وأمّا بحسب المرتبة وعدم الفرق بين القويّ والضّعيف ، فلما عرفت من استحالة اجتماعهما.

نعم ، يمكن أن يقال ـ بناء على الفرق بينهما فيما سيجيء من القسم الثّاني ـ :

أنّه لا بدّ أوّلا فيما أمكن تحصيل القويّ ، وإن لم يمكن تحصيله فالضّعيف حجّة وهذا كما ترى ، لا يرجع إلى الفرق بينهما بقول مطلق بمعنى عدم حجيّة الضّعيف رأسا وإن رجع إلى الفرق بينهما في الجملة ، وعدم حجيّة الضّعيف عند التّمكن من تحصيل القويّ في المسألة فافهم واغتنم.

ثمّ إنّه قدس‌سره استظهر هذا الوجه ممّا أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » في بعض كلماته ، فإنّها وإن كانت مختلفة مضطربة في بيان هذا المرام لكن بعضها ظاهر فيما أسنده إليه كما ستقف عليه ، ولا يأبى من القول بذلك. فإنّه ممّن شيّد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٣.

١٢

أساس حجيّة الظّن المطلق في الأزمنة المتأخّرة وأحكمه ، وإن سبقه إلى ذلك شيخه وأستاذه الفريد المحقّق الأستاذ البهبهاني المؤسّس لهذا القانون حقيقة ، وفاقا لشريكه في التّلمّذ السيّد السّند المير سيّد علي صاحب « الرّياض » ؛ فإنّه قد أفرد رسالة في هذه المسألة ، وأشرح (١) القول فيه. وتبعهم جماعة ممّن تأخّر من تلامذتهم وغيرهم إلا أنّي لم أر مثل المحقّق القمّي قدس‌سره ( وقدّس الله أسرارهم ) في الإصرار وتكثير القول فيها ، بل قد لا يأبى بعض كلماته من القول بحجّية مطلق الظّن في زمان انفتاح باب العلم ؛ حيث إنّه ذكر في مطاوي كلماته : أنّه لمّا كان دفع الضّرر المظنون واجبا ودفع المحتمل منه غير واجب بحكم العقل ، قلنا بحجيّة مطلق الظّن من أوّل الأمر أيضا ـ إلى ـ في زمان انفتاح باب العلم ).

فإنّه زعم أنّ مبنى وجوب تحصيل العلم في المسألة عند التّمكّن هو خصوص حكم العقل من جهة حكمه بوجوب دفع الضّرر المحتمل الّذي منعه. وإن ذكرنا في مطاوي كلماتنا السّابقة : أنّ لزوم دفع الضّرر المحتمل الأخروي ممّا يحكم به ضرورة العقل ، وهو مبنى وجوب النّظر في المعجزة ، بل مبنى وجوب شكر المنعم ، المبتنى عليه وجوب معرفته في وجه.

مضافا إلى عدم انحصار دليل وجوب تحصيل العلم في القاعدة المذكورة ، بل هو ممّا قضت به الأدلّة الثّلاثة على وجه الارتياب في دلالتها بل الكتاب والسّنة مشحونان منه كما هو ظاهر لمن راجع إليهما ، إلاّ أنّي لا أظنّ أنّ هذا الكلام ممّا يعتقد به قدس‌سره ، بل ذكره وجها في المسألة ، فإنّ القول بذلك خلاف الإجماع يقينا ،

__________________

(١) كذا والصحيح : « وأطال في شرح القول فيها ».

١٣

وهو أجلّ شأنا من أن يخفى عليه الإجماع.

بل قد عرفت : كون الكتاب والسّنة مشحونين به وهما بمنظر ومسمع منه قدس‌سره وتنزيل تمام ما ورد في ذلك على الأصول ، مع أنّ جملة منها صريحة في الفروع ، كما ترى.

بل سيجيء : أنّ ما استظهره شيخنا قدس‌سره في المقام وإن ساعده بعض كلماته ، إلاّ أنّ اعتقاده بذلك ومصيره إليه محلّ تأمّل.

فإنّه وأن أبطل الرّجوع إلى البراءة لعدم الدّليل عليه بعد قيام الظّن بخلافه فالرجوع إليها مشروط بعدم قيام الظن فهو مانع عنها ، كما أبطل وجوب الاحتياط أيضا بعدم المقتضي ؛ فإنّ العلم الإجمالي وإن بلغ حدّ الشّبهة المحصورة لا يؤثّر في وجوب الاحتياط عنده ، فهما كما ترى ظاهران فيما استظهره منه قدس‌سره.

إلاّ أنّ لازم هذا القول : أنّه لو فرض انفتاح باب العلم في جميع المسائل إلاّ في مسألة شخصيّة ، لحكم بحجيّة الظن المطلق فيها وإن لم تكن ثمرة غيره بين هذا الوجه والوجه الثّاني بناء على الحكومة إلاّ بالملاحظة عند التّحقيق في زمان الانسداد إلاّ فيما عرفت من التّعميم من حيث المرتبة على الوجه الّذي عرفته على هذا الوجه ، وعدم التّعميم على الوجه المذكور على الوجه الثّاني.

وأمّا التّعميم من جهتي الأسباب والموارد فثابت على تقرير الحكومة أيضا كما ستقف عليه ، ولا أظن التزامه بهذا اللاّزم وإن لم يكن بعيدا كلّ البعد من طريقته.

ثمّ إنّ ظهور الوجه من صاحبي « الزّبدة » (١) و « المعالم » (٢) من جهة

__________________

(١) زبدة الأصول : ٩٢ ، تحقيق فارس حسّون.

١٤

استنادهما في إبطال البراءة بعدم حصول الظن منها في مقابل خبر العادل وهذا كما ترى ، لا فرق فيه بين ملاحظة الانضمام والانفراد ، فيلزمهما القول بحجيّة الخبر لو فرض انفتاح باب العلم في غالب المسائل أيضا.

وإن لم يظنّ التزامهما به إذا كان استندا في الحجيّة إلى دليل الانسداد ، وإن كانا قائلين به من جهة سائر ما أقاموه على حجيّة الخبر ، بل يلزمهما القول بحجيّة مطلق الظن كذلك ؛ نظرا إلى اقتضاء دليل الانسداد الّذي أقاموه لإثبات حجيّة الخبر بخصوصه لحجيّة مطلق الظّن من غير خصوصيّة للخبر ، وإن لم يعتقدا هذا الاقتضاء فذهبا إلى حجيّة الخبر بخصوصه مستندين إلى هذا الدّليل المقتضي لحجيّة غيره ، هذا.

لكنك قد عرفت : أنّ استظهار هذا الوجه منهما ليس مبنيّا على اقتضاء دليلهما لحجيّة مطلق الظّن ، بل على تقدير قصر الاقتضاء في الخبر صحّ الاستظهار المذكور أيضا هذا.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره للتّعميم من جميع الجهات والخصوصيّات على هذا الوجه بقوله : « وهذا ثابت بالإجماع والعقل » (١).

قد يناقش فيه : من حيث التمسّك بالإجماع في المسألة ، مع أنّه شنّع على المتمسّك به في ردّ القول بتخصيص نتيجة الدّليل بالظّن في الطّريق بكون المسألة عقليّة مستحدثة ، فكيف يدّعي الإجماع فيها؟

__________________

(٢)معالم الأصول : ١٩٢ ط جماعة المدرّسين.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٤.

١٥

وقد يدفع المناقشة : بأنّ الغرض من الإجماع في كلامه ليس الإجماع الاصطلاحي بل معناه اللّغوي وهو الاتفاق ، فيكون المراد اتّفاق العقلاء لا خصوص المتشرّعة. بل يمكن أن يقال : إنّه ليس في مقام الاستدلال بل غرضه كون التّعميم أمرا مسلّما فتأمل.

ثمّ المراد ليس الاطلاع الحسّي على حصول الاتّفاق حتّى يتوجّه عليه : بأنّ المسألة من المستحدثات. كيف! وأكثرهم ذهبوا إلى حجيّة الظّنون الخاصّة في الأحكام ، بل المراد الحدس بأنّ المسألة كذلك عندهم قطعا على تقدير ذهابهم إلى حجيّة الظّن المطلق وإجرائهم له في كلّ مسألة ، فتأمل.

بطلان إجراء دليل الإنسداد في كل مسألة

ثمّ إنّ لازم إجراء الدّليل في كلّ مسألة وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّه لا ريب في بطلانه ؛ فإنّ اعتبار الأصول ـ حسبما عرفت وتعرفه ـ ليس مشروطا بحصول الظّن منها ، أو قيام الظن الغير المعتبر على خلافها من غير فرق بين الخبر وغيره ، كما أنّه لا إشكال في وجوب الاحتياط في مفروض البحث بالنّظر إلى قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل الّتي هي مبنى وجوب الاحتياط في جميع موارد وجوبه فيجب البناء عليه لو لا ما عرفت ممّا أقاموه على عدم وجوبه في خصوص المقام.

والقول : بأنّ المفروض ملاحظة كلّ مسألة مستقلّة من دون أن يلاحظ انضمامها بغيرها من المسائل فلا مقتضي لوجوب الاحتياط على هذه الملاحظة ؛ فإنّ العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة إنّما هو في مجموع الوقائع لا في كلّ واقعة.

١٦

فاسد جدّا ؛ ضرورة أنّ عدم الملاحظة لا يوجب تغيير الواقع ؛ ضرورة وجود العلم الإجمالي فيما بأيدينا من الوقائع وملاحظة كلّ واقعة مستقلاّ لا يوجب الحكم بالبراءة ، وإلاّ أمكن سلوكه في جميع موارد وجوب الاحتياط ، فالثّمرة إنّما تظهر فيما لو فرض انفتاح باب العلم في الغالب لا في مفروض المقام. هذا كلّه فيما لو أجري الدّليل على الوجه الأوّل.

وإن أجري على الوجه الثّاني ؛ فالحكم باقتضائه للتّعميم من جميع الجهات والخصوصيات ، أو التّعيين كذلك وإثبات الحجيّة معيّنا في ضمن بعض الأشخاص والنّفي عن غيره بالنّسبة إلى كلّ خصوصيّة ، أو التّعميم من بعض الجهات والتّعيين من آخر ، أو الإهمال كذلك ، لا يستقيم بمجرّده ، بل لا بدّ من أن يلاحظ أنّه يقرّر على وجه الكشف ، أو الحكومة ، وإلاّ فالنّتيجة من دون أن يلاحظ أحد الأمرين ؛ هي حجيّة الظن في الجملة فتأمّل.

وعليه يحمل قوله : « وهذا المقدار لا يثبت إلاّ وجوب العمل بالظّن في الجملة » (١) من دون تعميم بحسب الأسباب ، ولا بحسب الموارد ، ولا بحسب مرتبة الظن.

فالمراد بقوله : « في الجملة » أعمّ من المهملة حتّى لا ينافي حكمه بالتّعميم من بعض الجهات المذكورة على التّقريرين كالموارد ، فإنّه وإن استند في ذلك إلى الإجماع على تقرير الكشف فلا يكون النّتيجة عامّة مع قطع النّظر عنه ، إلاّ أنّه لا بدّ من أن يحمل العبارة على ما ذكرنا ، ومع ذلك كلّه لا يخلو عن مناقشة ظاهرة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٥.

١٧

بيان المراد من تقرير الكشف وتقرير الحكومة

وعلى كلّ تقدير إذا أجري الدّليل في مجموع الوقائع والمسائل فلا يخلو الأمر : إمّا أن يقرّر على وجه الكشف ، أو الحكومة.

والمراد بالأوّل : أن يستكشف العقل بملاحظة بقاء التّكليف بالمشتبهات وانسداد باب العلم والظّن الخاصّ ، وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول وعدم وجوب الاحتياط فيها بانضمام الحكم : بأنّ التكليف بلا طريق لا معنى له ، وأن جعل غير الظن في الفرض نقض للغرض ؛ من حيث كونه أقرب إلى الواقع من غيره وغالب الإيصال بالنّسبة إليه ، بل لا قرب في غيره من الشّك والوهم عن كون الظن حجّة عند الشّارع وأنّه أمر بسلوكه.

وبالثّاني : أن يحكم العقل حكما إنشائيّا بوجوب سلوك الظن الشخصي بالحيثيّة المذكورة بعد فرض دوران الأمر بينه وبين غيره بملاحظة المقدّمات الّتي عرفتها عند تقرير دليل الانسداد من غير أن يوجب شيئا على الشّارع أوّلا ، فالعنوان والموضوع الأوّلي في حكم العقل وإن كان واحدا إدراكا وإنشاء وهو :كون الظن أقرب إلى الواقع ، إلاّ أنّ الفرق بالإدراك والإنشاء.

ولا يتوهّم : أنّه بناء على قاعدة التّلازم يستكشف عن حكم الشارع بحجيّة الظّن على تقدير الحكومة أيضا فيتحد التقريران ؛ ضرورة ثبوت الفرق بين كون المدرك أولا حكم الشارع بحجيّة الظن وكونه مستكشفا عن الحكم الإنشائي للعقل وإلاّ ارتفع الفرق بينهما في جميع الموارد ؛ إذ بناء على الملازمة يكون حكم

١٨

العقل في جميع موارد حكمه كاشفا عن حكم الشارع على طبقه.

ومن هنا وقع الخلاف في كون الحكم الإنشائي للعقل كاشفا عن حكم الشارع كما ذكر في محلّه. ولم يخالف أحد حتّى الأشاعرة في إدراك العقل لحكم الشارع في كثير من الموارد ، كما في المفاهيم والاستلزامات العقليّة كوجوب المقدّمة وحرمة الضّد ونحوهما.

وبالجملة : لا إشكال في فساد التّوهّم المذكور ، كما لا إشكال في فساد توهّم : كون حكم الشارع بحجيّة الظّن على الكشف ملازم لحكم العقل بها من جهة عكس قاعدة التّلازم فيتّحد التّقريران أيضا ؛ ضرورة أنّ محلّه في غير الإدراكات العقليّة فإنّ حكم العقل بمعنى تصديقه للشّارع لا يعقل استكشافه عن حكم الشارع بعد فرض كون المدرك له ابتداء العقل كما هو ظاهر فافهم.

مناقشة ما أفاده المصنّف في التقريرين

ثمّ إنّ قبح عقاب الشارع عند مخالفة الظّن للواقع في حكم العقل كحسن عقابه على مخالفة الواقع عند مصادفته له في حكم العقل مشترك بين التّقريرين ؛ فإنّهما من اللّوازم العقليّة لحجّيّة الظّنّ من غير فرق بين الإدراك والإنشاء. وبمثل ما ذكرنا ينبغي تحرير المراد من التّقريرين وبيان الفرق بينهما ، لا بما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » ؛ فإنّه من جهة خفاء دلالته على المراد ربّما يرد عليه بعض المناقشات ؛ فإنّ المراد من قوله في بيان تقرير الكشف : « وأنّه لا يعاقب على ترك واجب إذا ظنّ بعدم وجوبه » (١) بيان له بذكر اللاّزم العقلي الأعمّ حقيقة على ما عرفته ، فربما

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٥ وفيه : وانه لا يعاقبنا ... إلى آخره.

١٩

يناقش فيه من هذه الجهة.

كما أنّ المراد من قوله في بيان هذا التّقرير : « فحجيّة الظن على هذا التّقرير تعبّد شرعيّ كشف عنه العقل » (١) ليس التعبّد بمعنى عدم ملاحظة الطّريقيّة فيه. كيف! وقد عرفت كونها عنوانا للحكم في المقام على التّقريرين ، بل بالمعنى المراد منه في تعبّد الشارع بغير العلم المذكور في محلّه ، فالمراد منه : أمر الشّارع بالعمل بالظّن ابتداء بحيث كان الاستناد إلى أمره وإن كان مستكشفا من حكم العقل بمعنى الإدراك في قبال أمر العقل بالعمل به ابتداء وإن كان موردا لإمضاء الشارع.

كما أنّ المراد من قوله ـ في بيان تقرير الحكومة ـ : ( بمعنى حسن المعاقبة على تركه ) (٢) حسن العقاب على مخالفته الواقع المترتّبة على ترك العمل بالظن عند مصادفته للواقع فيرجع إلى بيانه بذكر اللازم الأعمّ حقيقة. كيف! وإرادة ظاهره ممّا لا معنى له ، وخلاف صريح ما أفاده بعد ذلك عن قريب : من كون الحكم العقلي المذكور إرشادّيا لا يترتّب على موافقته ومخالفته من حيث موافقته ومخالفته شيء.

كما أنّ المراد من قوله ـ بعد القضيّة المذكورة ـ : « وقبح المطالبة بأزيد منه » (٣) بيان اللاّزم حقيقة من جهة عدم وجود الأزيد بعد فرض بطلان وجوب الاحتياط كما هو ظاهر.

ثمّ إنّك قد عرفت من مطاوي ما ذكرنا : أنّ حكم العقل على تقرير الحكومة وإن كان كاشفا عن حكم الشّارع ، إلاّ أنّه لا تعلّق له بتقرير الكشف حتّى يتّجه

__________________

(١) نفس المصدر والصفحة بالذات.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٤٦٦.

(٣) نفس المصدر والصفحة بالذات.

٢٠