بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

الواقع الغير الصّادق على ما نهى الشارع عنه المنطبق على ما يقابله ، فيكون سلوكه ممنوعا في حكم العقل.

فظهر ممّا ذكرنا كلّه : أنّ توجيه ما أفاده الشّيخ المحقّق المحشّي وأخوه قدس‌سرهما من الوجه في التّفصي عن خروج ما علم عدم اعتباره مطلقا ، ليس منحصرا في أن يجعل النّهي عنه حتّى في زمان الانسداد كاشفا عن وجود مفسدة في سلوكه غالبة على مصلحة إدراك الواقع أحيانا على تقدير مطابقته له ، أو عن وجود مصلحة فيما قابله لجبر مفسدة فوت الواقع على التّقدير المزبور ، بل يمكن توجيهه على تقدير حمل النّهي على الطّريقيّة أيضا كما عرفته فافهم.

(٤١) قوله قدس‌سره : ( وحاصله : أنّ النّهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٢٨ )

وجه رجوع ما أفاده الى التخصّص والخروج الموضوعي

أقول : قد عرفت الإشارة إلى رجوع ما أفاده إلى التّخصّص والخروج الموضوعي أيضا.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت ممّا قدّمناه في تصحيح سلوك الأمارة في حال الإنفتاح التفصّي عن وجوه الإشكال كلّها بهذا الوجه ، وإن لم يخرج المصنّف عن عهدة ذلك هناك حين قراءتنا عليه الكتاب ، فلذا عدل عنه إلى المصلحة في الأمر بالسلوك وزاد لفظ « الأمر » وعلى ذلك كان عليه أن يعدل أيضا إلى المصلحة في النهي ههنا ، إلاّ أنه قبل أن يصل إلى هنا بحثه ، قضى نحبه وفاز إلى روح وريحان وجنّة ورضوان ». انتهى. أنظر درر الفوائد : ١٦٤.

١٦١

والوجه فيه : أنّ حكم العقل بلزوم اتّباع الظّن في زمان الانسداد إنّما هو من جهة كونه أقرب إلى إدراك مصلحة الواقع من مقابله مع سلامته عن مزاحمة المفسدة الغالبة ؛ ضرورة أنّ المصلحة المزاحمة لا توجب تكليفا فعليّا على المكلّف وإن كان من شأنها الاقتضاء لو لا المزاحمة ، فالظّن الفاقد للجهة المذكورة والعنوان المزبور من حيث فرض المزاحمة فيه من جهة كشف النّهي الصّادر عن الشارع عنه ، خارج موضوعا عن العنوان التّقييدي الّذي لحقه حكم العقل بوجوب الاتّباع.

إذ كما أنّ أمر الشارع بالعمل بالظّن في زمان الانفتاح من حيث ملاحظة المصلحة المتداركة لمفسدة فوت الواقع ـ على تقدير مخالفته له ـ ليس تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل به من حيث الطّريقيّة في ذلك الزّمان ، بل تخصّصا ؛ من جهة كون حكمه عليه بالحرمة مبنيّا على ما يترتّب عليه من الوقوع في مفسدة فوت الواقع أحيانا مع تمكّن المكلّف من الفرار عنها بتحصيل العلم بالواقع. فإذا فرض هناك ظنّ ليس في العمل به على تقدير الخطأ هذه الجهة جاز العمل به في نظر العقل ولم يكن فيه تخصيص في حكمه بالحرمة أصلا ؛ ضرورة عدم لزوم الاحتراز عن المفسدة المتداركة.

كذلك نهيه عن العمل ببعض الظّنون في زمان الانسداد من جهة ملاحظة مفسدة غالبة على مصلحة الواقع على تقدير المصادفة أو وجود مصلحة في مقابله غالبة على مفسدة مخالفة الواقع ، ليس تخصيصا في حكم العقل بوجوب العمل بالظّن بالملاحظة المذكورة أصلا.

نعم ، الفرق بينهما من وجه لا ينافي ما ذكرنا : من عدم لزوم التّخصيص على

١٦٢

كلّ تقدير ؛ حيث إنّ حكم الشّارع بالعمل بالظّن في زمان الانفتاح يرجع إلى التّرخيص في الأخذ به والعمل عليه ، في قبال تحصيل العلم الّذي كان متعيّنا عليه في حكم العقل لو لا ترخيص الشارع الكاشف عن المصلحة المتداركة ، فيجوز له تحصيل العلم ورفع موضوع حكم الشارع بجواز العمل بالظّن.

وأمّا حكمه بترك سلوك الظّن ، فليس بعنوان التّرخيص وتجويز ترك العمل به ، بل بعنوان العزيمة والإيجاب ؛ حيث إنّه لا يتميّز عند المكلّف مورد خطأ الأمارة عن مورد صوابها ، فأخذه بما يقابلها ليس فيه محذور أصلا على تقدير خطأ الأمارة وصوابها.

أمّا على الأوّل فلإدراك الواقع ؛ لأنّ المفروض خطأ الظّن. وأمّا على الثّاني فلفرض وجود المصلحة المتداركة وهذا بخلاف أخذه بالظّن المنهيّ عنه ؛ فإنّه على تقدير الخطأ ليس هناك ما يتدارك به مفسدة فوت الواقع. ومن هنا صار الأخذ به حراما.

وأمّا العمل بالظّن في زمن الانفتاح فلا يمكن أن يصير واجبا تعيينيّا ؛ لأنّه يوجب الإعراض عن نفس الواقع حيث إنّ المفروض تمكّن المكلّف عن تحصيله.

فإن شئت قلت : إنّه كما لا يجوز للشارع النّهي عن العمل بالعلم بعد حصوله ، كذلك لا يجوز له النّهي عن تحصيله بعد فرض إرادة الواقع عن المكلّف.

وهذا مع وضوحه وعدم السترة فيه قد يناقش فيه ـ من جهة ما أسمعناك مرارا في طيّ كلماتنا السّابقة ـ : من أنّ العلّة الباعثة لحكم العقل بوجوب إطاعة المولى فيما أمر به أو نهى عنه ، ليست إلاّ دفع خوف المؤاخذة والعقوبة المترتّبة على المخالفة ، فالباعث المحرّك للإطاعة هو دفع الضّرر المترتّب على المخالفة ،

١٦٣

وأمّا إدراك الجهة الباعثة على أمر المولى والعنوان الّذي أوجب عليه إيجاب الفعل على العباد الّتي يعبّر عنها بالمصلحة ، أو اللّطف ، أو القرب ، أو غير ذلك من الغايات ، فليست موجبة في حكم العقل بوجوب الإطاعة بحيث يكون المطلوب في حكمه بوجوبها التّوصل إلى تلك الغايات ، فإذا كان الموجب لحكم العقل بوجوب الإطاعة هو ما ذكرنا من دفع العقاب ، وإسقاط التكليف ، وتحصيل فراغ الذّمّة ، فيكون حكمه بتعيين الإطاعة الظّنيّة فيما دار الأمر بينها وبين غيرها من الإطاعة الشّكيّة والوهميّة من جهة كون الأولى أقرب إلى إسقاط التّكليف ، وتحصيل الفراغ فحديث إدراكه المصلحة الكامنة في نفس الأفعال ، أو في العنوانات العارضة عليها أجنبيّ عن المقام لا تعلّق له به أصلا هذا.

ولكن يدفعه : أنّ الموجب لإيجاب العقل إطاعة أمر المولى والباعث على حكمه الإلزامي في باب الإطاعة ، وإن كان هو دفع العقاب وإسقاط التّكليف وتحصيل الفراغ ، ولا يحكم بوجوب تحصيل أزيد من ذلك ممّا كان داعيا لإطاعة الأجراء ، أو الأحرار ، إلاّ أنّ إدراك مصلحة الواقع لمّا استحال انفكاكه عقلا عن إدراك الواقع ، كما أنّ إدراك الواقع يستحيل انفكاكه في حكم العقل عن سقوط العقاب وفراغ الذّمّة مع فرض العلم يتعلّق الخطاب من الشارع ، فيصحّ أن يقال : إن حكم العقل بوجوب الأخذ بالظّن في زمان الانسداد إنّما هو من جهة إدراك مصلحة الواقع ظنّا ، المستلزم للظّن بالبراءة عقلا ، فلا تنافي إذن بين ما ذكرنا في هذا المقام في بيان وجه التّخصص والخروج الموضوعي لما تعلّق النّهي به من الظّنون في زمان الانسداد ، وما أسمعناك في كلماتنا السّابقة في وجه حكم العقل بوجوب الإطاعة فتدبّر.

١٦٤

لا يقال : ما ذكرته من المفسدة الغالبة محتمل في غير ما ورد النّهي عنه بالخصوص من الظّنون فلا يستقلّ العقل بحجيّته ، فيعود الإشكال من كون خروج بعض الظّنون موجبا لتوقّف العقل عن الحكم بوجوب الأخذ بجميعها فيكون في هذا كرّ على ما فرّ.

لأنّا نقول : مجرّد احتمال وجود المزاحمات لا يوجب وقوف العقل عن حكمه الإنشائي وإنّما الموجب له علمه بها لا مجرّد احتمالها ؛ لأنّ الأمر مع هذا الاحتمال أيضا دائر بين الإطاعة الظّنيّة والشّكيّة والوهميّة بحسب اختلاف مراتب الاحتمال قوّة وضعفا.

نعم ، لو فرض كون وجود المفسدة الغالبة مظنونا دخل في مسألة الظّن المانع والممنوع ، وستقف على حكمها فيما سيأتي ، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه أصلا ، قد نبّهنا عليه غير مرّة.

وممّا ذكرنا تعرف استقامة ما أفاده قدس‌سره في الجواب عن السّؤال بتطرّق احتمال المفسدة في كلّ ظنّ ، فلا يستقلّ العقل في الحكم بحجيّته فيعود المحذور بقوله : « نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل ... إلى آخره » (١).

(٤٢) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يقال : إنّ النّواهي اللّفظيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الاستدراك المذكور مبنيّ على الإغماض عن الوجه السّابع ، وانحصار المصحح للنّهي في زمان الانسداد في ملاحظة المفسدة والمصلحة وإن كانت الطّريقيّة ملحوظة أيضا ؛ ضرورة عدم استقامته مع صحّة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٨.

١٦٥

النّهي على وجه الطّريقيّة أيضا هذا.

وقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّه إذا بني على التّصرّف في أكثر الأخبار الظّاهرة في ابتناء النّهي على الطّريقيّة الصّرفة من جهة وجود الصّارف العقلي ، فلا يتعيّن حملها على زمان الانفتاح ؛ لإمكان التّصرف فيها على وجه لا ينافي حكم العقل مع شمولها للزّمانين ، كما هو الظّاهر منها بأنّ المقصود منها الإرشاد إلى غلبة خلاف الواقع في القياس ، وبيان هذا الأمر المخفيّ وإن لم يكن علّة النّهي منحصرة فيها بل مركّبة منها ومن ملاحظة المفسدة كما نطقت به سائر الأخبار ، ففيه نوع من الجمع بين الأخبار مع إبقائها على ظاهرها وهو شمولها للزّمانين هذا.

وقد يتفصّى عن المناقشة المذكورة : بأنّ ظهور الأخبار في حصر علّة النّهي في الطّريقيّة وكثرة الخطأ في العمل بالعقول الظّنيّة ، أقوى من ظهورها في العموم ، فارتكاب التّخصيص أولى من التّصرّف في الحصر ، مضافا إلى ما ذكر في محلّه :من أنّ ارتكاب التّخصيص في العام عند دوران الأمر بينه وبين ارتكاب خلاف ظاهر آخر أوهن.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّها ظاهرة في القضيّة الطّبيعيّة الآبية عن التّخصيص ، ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام في رواية أبان بن تغلب « يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس وإن السّنة إذا قيست محق الدّين » (١) وإلى قوله عليه‌السلام في رواية أخرى : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (٢) وغيرهما؟ فهل يجوز حملها على زمان الانفتاح؟

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٣٠٠ باب « الجراحات والقتل بين النساء » ـ ح ١ ، وعنه الوسائل :ج ٢٩ / ٣٥٢ باب « ان دية أعضاء الرجل والمرأة سواء » ـ ح ١.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة : ٣٢٤ باب «٣١» ـ ح ٩ ، عنه مستدرك الوسائل : ح ١٧ / ٢٦٢

١٦٦

حاشا ثمّ حاشا فلا بدّ من الالتزام بأنّ اللاّزم المذكور وهو كون العمل بالقياس في معرض خلاف الواقع ، لا ينفك عن العمل به وإن كان الملحوظ في نهي الشارع هو مع شيء آخر وهو اشتمال سلوكه على مفسدة غالبة كما يكشف عنه سائر الأخبار فافهم.

(٤٣) قوله قدس‌سره : ( الوجه السّابع : هو أنّ خصوصيّة القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٩ )

الوجه السابع من وجوه التفصّي المزبور

أقول : ما أفاده في كمال الوضوح لمن راجع أخبار الباب ، كما أنّ كون عنوان حكم العقل بحجيّة الظّن وتقديمه على الشّك والوهم ليس من حيث كونه ظنّا بل من حيث كونه غالب المطابقة والإيصال بالنّسبة إلى الواقع من الواضحات الّتي لا يحتاج إلى البيان.

فإذا فرض انكشاف فقد العنوان المزبور بالنّسبة إلى القياس وأشباهه بملاحظة الأخبار الكاشفة عن حالهما فلا محالة يحكم بخروجهما موضوعا عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، فلا يلزم هناك تخصيص أصلا.

ومن هنا يحكم بعدم حجيّة جملة من الظّنون الّتي علمت غلبة مخالفتها بالنّسبة إلى الأحكام الشّرعيّة كالقرعة ، والاستخارة ، والرّمل ، والنّوم ، وظنّ غير أهل الخبرة ، ونحوها ، فإنّها بأسرها خارجة موضوعا عن حكم العقل.

ثمّ إنّ رفع اليد عن الواقع أحيانا وفي بعض الموارد والقضايا من جهة حفظ

__________________

باب « عدم جواز القضاء والحكم بالرأي » ـ ح ٢٥.

١٦٧

أكثر الوقائع عند الدّوران ، لما كان حسنا في حكم العقل نظير ارتكاب أقلّ القبيحين عند الدّوران فلا محالة يجوّز العقل نهي الشارع عن العمل بجميع جزئيّات الأمارة المخالفة للواقع كثيرا ، ولو بالنّسبة إلى الجزئي الّذي يظنّ كونه مطابقا للواقع من جهة الظّن بكون موارد المخالفة غير ما حصل الظّن فيه من الأمارة كما فيما ذكره من المثال في « الكتاب ».

فلا يتوهّم : أنّ ملاحظة هذا المعنى نوع من ملاحظة المصلحة في النّهي كمصلحة التّسهيل فيرجع هذا الوجه إلى سابقه ؛ حيث إنّ ملاحظة حفظ الواقع في موارد الأمارة المنهيّ عنها عين الطّريقيّة كما لا يخفى.

وليس ما يقابل الأمارة المنهيّ عنها أمرا واحدا دائما حتّى يقال : بأنّ ارتفاع الظّن منها غالبا من جهة كثرة الخطأ يوجب حصول الظّن ممّا يقابلها ، مع أنّه لا يقدح فيما نحن فيه بصدده من القول بحرمة العمل به حتّى في مورد حصول الظّن منه.

(٤٤) قوله قدس‌سره : ( ألا ترى أنّه يصحّ أن يقول الشّارع : ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣١ )

توهّم التدافع بين كلامي المصنّف والجواب عنه

أقول : قد يتوهّم التّدافع بين ما أفاده وما ذكره قبل ذلك عن قريب بقوله :« فإنّ الظّن ليس كالعلم ... إلى آخره » (١) بل بينه وبين ما أفاده من أوّل « الكتاب » إلى هذا المقام مرارا : من عدم إمكان نهي الشارع عن العمل بالعلم ، فإنّ مقتضى ما أفاده في المقام إمكان نهي الشارع عن العمل بالعلم بإظهار عدم إرادة المعلوم عن

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٣٠.

١٦٨

العالم. ومقتضى ما ذكره سابقا : عدم إمكان ذلك كما هو قضيّة صريحة هذا (١).

ويمكن دفعه : بأنّ المراد ممّا أفاده سابقا : من عدم الجواز إنّما هو بالنّظر إلى الواقع والمكلّف الملتفت بأنّ الله ( تعالى ) يريد الواقع منه ومن كلّ أحد.

والمراد ممّا أفاده في المقام : إنّما هو بالنّسبة إلى المكلّف الّذي لم يلتفت إلى ما هو المركوز في العقول : من عدم جواز عدم إرادة الواقع منه ، وقد صرّح قدس‌سره بما يستفاد منه هذا التّفصيل في أوّل « الكتاب » في فروع اعتبار العلم فراجع هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده : من الفرق بين العلم والظّن ـ حيث لا يجوز تكليف المكلّف على خلاف مقتضى الأوّل واقعا ويجوز تكليفه على خلاف مقتضى الثّاني واقعا بإظهار عدم إرادة الواقع منه ـ :

بأنّه إن جوّز في حكم العقل إعراض الشارع عن الواقع في مادّة من المواد لأجل مصلحة ترجع إلى المكلّف فلا يفرّق فيه بين أن يعلم المكلّف بالواقع أو ظنّ به وإن لم يجوّزه فلا يفرق فيه أيضا بين أن يعلم به أو يظنّه حيث إنّ الظّن كالعلم في زمان الانسداد في نظر العقل حسبما صرّح به قدس‌سره في غير موضع من كلامه ، فالتّفصيل لا وجه له.

وأنت خبير بفساد المناقشة المذكورة ؛ لوضوح الفرق بين العلم والظّن في التّجويز المذكور ؛ لأنّ نهي الشارع عن العمل بالعلم يكون مناقضا لما جعله في الواقعة المعلومة وهذا بخلاف الظّن فإنّ النّهي عن العمل به لا يكون مناقضا لما جعله في الواقعة في نظر الظّان أصلا ، غاية ما هناك حكم العقل بحجيّة الظّن عند

__________________

(١) أنظر حاشية فرائد الأصول تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٦٤٧.

١٦٩

انسداد باب العلم كحكم الشارع بها عند الانفتاح ، وهذا لا يوجب اعتباره الذّاتي حتّى يمنع نهي الشارع عن العمل به كالعلم ، فالمراد من كون الظّن في زمان الانسداد كالعلم في حكم العقل كونه ملحقا به في الحجيّة من غير فرق بين خصوصيّاته لا كونه ملحقا به في كيفيّة الحجّيّة.

القطع غير قابل لتصرّف الشارع بخلاف الظّنّ

والحاصل أنّا ذكرنا غير مرّة : أنّه لا يجوز للشارع النّهي عن العمل بالعلم فيما يترتّب الحكم الشّرعي على المعلوم لرجوعه إلى التّناقض في نظر العالم ؛ لأنّه بمجرّد العلم بالواقع مع ثبوت الحكم له يرتّب قياسا فيقطع منه بحكم الشارع فيكون النّهي عن العمل به مناقضا له في نظره لا محالة ، وهذا بخلاف الظّن ؛ فإن المكلّف لا يتمكّن معه من ترتيب القياس والقطع بالنّتيجة حتّى يكون النّهي عن العمل به مناقضا له ، غاية الأمر : أنّه إذا قام هناك دليل على اعتباره يحكم بوجوب الأخذ به ومتابعته من غير فرق بين أن يكون دليل الانسداد أو غيره ، ومن هنا جعلنا الأصل فيه عدم الحجيّة والاعتبار.

فإن شئت قلت : إنّ إلحاق الظّن بالقطع فيما يترتّب عقلا على صفة القطع من الاعتبار الّذاتي النّفسي ، غير معقول وإن كان ملحقا به في عدم الفرق بين خصوصيّاته إذا دلّ دليل اعتباره عليه.

وبعبارة أوضح : نهي الشارع عن العمل بظنّ في زمان الانسداد كإذنه في ارتكاب بعض أطراف الشّبهة المحصورة ، ونهيه عن العمل بالعلم التّفصيلي كإذنه في ارتكاب جميع الأطراف فيها ، فكما أنّ الأوّل لا إشكال في جوازه ، كذلك

١٧٠

الثّاني لا إشكال في عدم جوازه ، بل العلم التفصيلي أولى بعدم جواز النّهي عنه من العلم الإجمالي كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ معنى إعراض الشارع عن الواقع في مورد الظّن ليس رفع يده عن الحكم الواقعي ، أو رفعه في نفس الأمر ، كما أنّ حكمه بحجيّته ليس معناه إثبات الواقع في مورده في نفس الأمر ، بل معذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع على تقدير مصادفة الظّن له ، فالحكم الواقعي باق على حاله وإنّما المرتفع بحكم العقل الحكم الفعلي وتنجّز الخطابات الواقعيّة الّذي ليس من مجعولات الشارع حقيقة ، فإذنه في مخالفة الظّن ، نظير إذنه في ارتكاب الشّبهات الابتدائية ، فكما أنّ إذنه هناك ظاهرا لا يلازم رفع الحكم الواقعي وإنّما يلازم المعذوريّة في مخالفته على تقدير وجود الحكم الإلزامي في مورده ، كذلك إذنه في المقام فافهم.

ثمّ إنّ رجوع ما ذكره من الوجه إلى التّخصّص ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ ظاهر ؛ ضرورة أنّ وجوب العمل بالظّن في حكم العقل وتقديمه على غيره إنّما هو من حيث كونه أقرب إلى الواقع وغالب الإيصال بالنّسبة إليه فإذا فرض انتفاء هذا المناط والعنوان الّذي يكون موضوعا في حكم العقل بالحجيّة في ظنّ ولو من جهة انكشاف حاله من إخبار الشارع العالم بالغيب فلا محالة يكون خروجه خروجا موضوعيّا وهو معنى التخصص.

والقول بتطرّق احتمال هذا المناط والعنوان في سائر الظّنون من جهة احتمال غلبة مخالفة الواقع فيها فلا يستقلّ العقل بحجيّتها ، قد عرفت فساده مرارا.

ثمّ إنّه قد يستشكل فيما أفاده أيضا : بأنّه كيف يجامع العلم الإجمالي بغلبة مخالفة القياس بالنّسبة إلى الواقع من بين الأمارات القائمة عليه مع حصول الظّن منه بالواقع كثيرا؟

١٧١

فإن فرض مورد العلم بغلبة مخالفة الواقع الأفراد الّتي لا يحصل الظّن منها فهو لا يوجب رفع اليد عمّا يحصل الظّن منه لوجود المناط العقلي فيه كما هو المفروض.

وإن فرض مورده تمام الأفراد أو خصوص ما يحصل الظّن منه ، فكيف يجامع حصول الظّن منه؟

ولكنّك خبير بعدم توجّه هذا الإشكال عند التّأمل ؛ لأنّا نقول : إنّ العلم الحاصل من الأخبار بغلبة مخالفة الواقع في القياس إنّما هو بالنّسبة إلى جميع أفراده وهي كانت مفيدة للظّن من دون ملاحظة الأخبار الكاشفة عن حال القياس ، وأمّا بملاحظتها فيرتفع الظّن من كثيرها.

ومن هنا ذكر قدس‌سره سابقا : أنّ هذه الأخبار وإن لم توجب ارتفاع الظّن الحاصل من القياس دائما ، إلاّ أنّها موهنة قوية توجب ارتفاع الظّن الحاصل منها في ابتداء النّظر والأمر غالبا ، وأمّا إذا حصل الظّن منه في مورد أو موارد قليلة فيحكم ظنّا بأنّ القياس المخالف للواقع هو غيره نظير الظّن الحاصل من الغلبة مع العلم الإجمالي بالمخالفة.

ومن هنا يحصل الظّن من الأمارات الشّرعيّة مع العلم بمخالفة بعضها للواقع في الجملة فافهم.

ثمّ إنّه بقي هنا شيء ينبغي التّنبيه عليه : وهو أنّ ما أفاده قدس‌سره بالنّسبة إلى الوسواسيّ العالم ـ على ما عرفت توضيحه وشرحه ـ إنّما هو فيما إذا قلنا بمانعيّة النّجاسة مثلا بالنّسبة إليه ، وأما إذا قلنا بارتفاع مانعيّتها في حقّه ، فليس هنا تكليف بخلاف الواقع أصلا.

١٧٢

وهكذا بالنّسبة إلى جميع ما له دخل في العبادة شطرا أو شرطا ؛ فإنّه لا مضايقة من القول بعدم اعتباره في حقّ الوسواسي فيه حسما لمادّة وسواسه ورفع مرضه المضرّ بحاله ، فلا مضايقة من القول : بأنّ الوسواسيّ في القراءة لا يعتبر في حقّه القراءة المعتبرة في حقّ غيره من الأصحّاء ، كما لا يعتبر في حقّ من لا يحسن القراءة لخلل في مخارج حروفه أو عجزه عن تحصيله مع ضيق الوقت ، وهكذا.

فليس تكليفه بخلاف الواقع حتّى لا يمكن النّهي في حقّه إلاّ مع فرض غفلته عن استحالة الأمر بخلاف الواقع فتدبّر.

(٤٥) قوله قدس‌سره : ( ذهب (١) بعض مشايخنا إلى الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٢ )

حكم الظنّ المانع والممنوع

أقول : الكلام في هذا المقام قد يقع : في أنّه كيف يمكن حصول الظّن بعدم حجيّة ما قضى الدّليل العقلي القطعي بحجيّته؟ ضرورة عدم إمكان اجتماع احتمال عدم الحجيّة مع حكم العقل القطعي ولو كان موهوما فضلا عمّا إذا كان مظنونا.

وقد يقع في أنّه على فرض الإمكان بأحد الوجوه المتقدّمة في مسألة القياس ، كيف يتأمّل في المسألة؟ وهل الحقّ أيّ وجه من الوجوه الّتي أشار إليها في « الكتاب »؟

أمّا الكلام فيه من الجهة الأولى :

فملخّصه : أنّه إذا فرض إمكان اجتماع القطع بعدم الحجيّة مع حكم العقل

__________________

(١) انظر ضوابط الأصول : ٢٦٧.

١٧٣

بحجيّة الظّن فاجتماع الظّن بعدم الحجيّة معه أولى بالإمكان والتّصور ، فيتصور إمكان اجتماعهما بأحد الوجوه المتصوّرة في التّفصي عن إشكال خروج القياس والنّهي عن العمل به في الشّرعيّات حتّى في زمان الانسداد وقضاء العقل بحجيّة الظّن على سبيل القضيّة الكليّة.

وأمّا الكلام فيه من الجهة الثّانية :

فحاصله : أنّ الكلام فيها إنّما يقع على تقدير القول بتعميم النّتيجة بالنّسبة إلى المسائل الأصوليّة والفقهيّة ؛ إذ على التّخصيص بالأولى لا يحكم إلاّ بحجيّة ما قام الدّليل الظّني على حجيّته ، فما لم يقم على حجيّته دليل ظنّي خارج عن تحت الدّليل العقلي وباق تحت الأصل الأوّلي سواء ظنّ عدم حجيّته أو شك فيه فإلقاء ما ظنّ عدم حجيّته ليس مستندا إلى الظّن بعدم حجيّته.

حتّى يتوجّه عليه : بأنّ العلم الإجمالي بوجود الحجج الشّرعيّة لا يقتضي في حكم العقل بحجيّة الظّن القائم بعدم الحجيّة وإن كان ظنّا بأحد طرفي المسألة الأصوليّة ، حيث إنّ مقتضى الدّليل المذكور إذا جرى في مسألة ، أيّ مسألة كانت هو حجيّة الظّن القائم بتعيين الحكم المعلوم بالإجمال في تلك المسألة ، وإن كان بناء القائلين بحجيّة مطلق الظّن على خلاف ذلك.

نعم ، يقع الإشكال على هذا القول فيما إذا قام القياس ، أو أمارة ظنّ إلحاقها به ، على حجيّة أمارة لا يفيد الظّن بالمسألة الفقهيّة فيتفصّى عنه بما عرفت الكلام فيه مفصّلا بالنّسبة إلى ما قام القياس على حجيّته فيحكم بخروجه موضوعا عن حكم العقل بما عرفت تفصيله. وأمّا بالنّسبة إلى ما قام عليه ما ظنّ إلحاقه بالقياس فربّما يقع الكلام في الأخذ به من حيث عدم حصول الظّن بالبراءة من سلوكه مع

١٧٤

فرض الظّن بحجيّته ممّا يظنّ إلحاقه بالقياس فتدبّر.

وأمّا على التّخصيص بالثّانية ، أي : المسائل الفقهيّة الّذي ذهب إليه المحقّق الشّريف (١) شيخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سرهما فقد اختار تعيّن العمل بالممنوع من جهة عدم اقتضاء دليل الانسداد حجيّة المانع حتّى يشكل الأمر من جهة الأخذ به والممنوع بعد عدم إمكان الأخذ بهما وتدافعهما على ما ما هو الشّأن على القول بتعميم النّتيجة هذا.

ولكن قد يناقش فيه : بأنّ المانع وإن لم يكن على هذا القول مشمولا لدليل الانسداد ، إلاّ أنّه يوجب انتفاء مناط الحجيّة عن الممنوع ؛ حيث إنّ حكم العقل بحجيّة الظّن ليس من حيث إنّه ظنّ ، وإلاّ استحال اجتماعه مع الظّن بعدم الحجيّة ، بل من حيث غلبة مطابقته للواقع ، أو من حيث إدراك المصلحة الأوّليّة بسلوكه على الوجهين اللّذين عرفت شرح القول فيهما. فإذا ظنّ بعدم حجيّة ظنّ فلا محالة يظنّ بغلبة مخالفته للواقع ، أو وجود المفسدة في سلوكه ، فلا يحصل منه الظّن بإدراك الواقع ومصلحته في غالب الموارد ، فيلزم من المانع انتفاء مناط الحجيّة من الممنوع فيكون ملحقا بالقياس حكما ، غاية ما هناك حصول الظّن من الممنوع بإدراك المصلحة ، لكن مع الظّن بمزاحمته بالمفسدة المظنونة لو لم يمنع المانع من الظّن بغلبة إدراك الواقع وإلاّ لم يحصل منه الظّن بإدراك الواقع غالبا في موارد وجوده فلا يحصل منه الظّن بإدراك مصلحة الواقع فافهم.

هذا كلّه على القول بتخصيص النّتيجة بإحدى المسألتين.

__________________

(١) أنظر ضوابط الأصول : ٢٦٧.

١٧٥

وأمّا على القول بالتّعميم ـ كما اختاره شيخنا قدس‌سره وفاقا لجمع من المحقّقين ـ فهل يحكم بتقديم المانع بمعنى دخوله تحت الدّليل وخروج الممنوع منه ، أو الممنوع بالمعنى الّذي عرفته ، أو التّساقط بمعنى عدم شمول الدّليل لشيء منهما ، أو الأخذ بالأقوى منهما ولو بحسب الموارد إن كان هناك قوّة لأحدهما ، وإلاّ فيحكم بالتّساقط بالمعنى الّذي عرفته؟ وجوه ، أوجهها وأقواها عند شيخنا قدس‌سره : الأخير.

ويظهر من « الكتاب » : أنّ محلّ الوجوه الّتي ذهب إلى كلّ منها فريق مجموع الأقوال والوجوه بالنّسبة إلى دليل الانسداد من حيث اختصاصها بالمسائل الفقهيّة ، أو الأصوليّة ، أو التّعميم وعدم الاختصاص بشيء من المسألتين. فيستفاد منه : أنّه لا يجري تمام الوجوه على القول بالتّعميم.

ولكنّك خبير بإمكان جريان الوجوه بأسرها على القول بالتّعميم ؛ أمّا التّساقط من حيث تنافي الفردين وعدم إمكان الحكم بشمول الدّليل لأحدهما معيّنا لأجل انتفاء المرجّح فيلزم الحكم بخروجهما عنه.

وأمّا الأخذ بالأقوى فظاهر ، وأمّا تعيّن الأخذ بالمانع فلما حكاه في « الكتاب » عن بعض من وافقه في القول بتعميم النّتيجة حقيقة أو مماشاة : « من حكومته على الممنوع من حيث كونه دليلا على عدم حجيّته ، حيث إنّه مفاده بخلاف الأخذ بالممنوع ، فإنّه موجب لطرح المانع من دون دليل ... إلى آخر ما ذكره » (١).

وأمّا تعيّن الأخذ بالممنوع وعدم جواز الأخذ بالمانع من حيث إن الأخذ بالظّن في المسألة الأصوليّة إنّما هو فيما قام على حجيّته شيء وحصول البراءة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٣٣.

١٧٦

عن الواقع بسلوكه ، لا فيما إذا قام على عدم حجيّة شيء ، فإنّه لا يوجب الظّن بالبراءة أصلا.

ودعوى : كون الظّن بعدم الحجيّة ملازما للظّن بحجيّة ما يقابل الممنوع من الأصول والأمارات ، قد عرفت فسادها فتأمل.

(٤٦) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أوّلا : أنّه لا يتمّ فيما إذا كان الظّن المانع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٤ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره :

بأنّه أيّ فرق في مفاد الدّليل الّذي أقامه على لزوم الأخذ بالمانع بين متّحدي الجنس ومختلفيه؟ فإنّه إن تمّ ما ذكر لم يكن فرق بينهما ، وإلاّ فلا فرق أيضا ؛ حيث إنّ الأمارتين وإن كانتا متحدتين من حيث الجنس ، إلاّ أنّ المورد مختلف متعدّد ، فيمكن التّفكيك بحسب الاعتبار.

وإن كان الوجه فيما أفاده استبعاد التّفصيل والفرق.

ففيه : أنّ مجرد الاستبعاد على تقدير تسليمه لا يجدي مانعا للفرق.

وإن كان الوجه فيه عدم الاطّلاع على قول من الأصحاب بالتّفصيل والفرق بل عدم تفصيلهم بينهما من حيث الظّن الخاصّ.

ففيه : أنّه لا يمنع أيضا بعد قضاء الدّليل العقليّ القاضي بحجيّة مطلق الظّن بالفرق والتّفصيل.

وإن كان الوجه فيه حكم العقل بعدم إمكان الفرق والتّفصيل في الفرض من حيث إنّ حجيّة المانع في الفرض مستلزمة لعدمها وهو محال في حكم العقل ؛

١٧٧

ضرورة استحالة تأثير الشيء وجودا في عدمه.

ففيه : أنّ هذا الوجه وإن كان له وجه وقد صرّح به قدس‌سره في مجلس البحث وجعله وجها لما أفاده من الجواب الأوّل ، لكنّه خلاف ظاهر العبارة ؛ لأنّ الظّاهر منها نفي الفرق بين المانع والممنوع في الحكم فيما كانتا متّحدي الجنس لا إثبات الفرق والحكم باعتبار الممنوع ليس إلاّ ؛ إذ لازم الاستناد إلى الوجه المذكور ثبوت الفرق المزبور ؛ ضرورة أنّه بعد الحكم باستحالة شمول دليل الانسداد للظّن المانع ؛ من حيث إنّ شموله موجب لعدم تعيّن الحكم بدخول الممنوع تحت الدّليل ؛ حيث إنّه لا مانع لشمول الدّليل له بعد فرض خروج المانع عنه لانحصار المانع فيه ، وهذا معنى ما ذكرنا من استلزام الوجه المذكور للفرق من جانب العكس ولا يساعده العبارة قطعا هذا.

مع أنّ الحكم بتقديم الظّن الممنوع في الفرض بقول مطلق على ما هو لازم الوجه المزبور على ما عرفت ، مناف لما سيذكره في طيّ الجواب عن الوجه الثّاني للقول بعدم اعتبار الظّن في المسائل الأصوليّة من حيث استلزام وجوده عدمه ؛ من جهة أنّ المشهور ، بل المنقول عليه الإجماع ، عدم حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ، وهو ظنّ في المسألة الأصوليّة.

فلو كان الظّنّ في المسألة الأصوليّة حجّة لزم ما ذكرنا من الأمر المحال : من استلزام الوجود للعدم من أنّ الشّهرة على فرض تحقّقها وحصول الظّن منها لا تصير دليلا على عدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ غاية الأمر دخول الظّن الحاصل منها مع الظّن الممنوع في الظّن المانع والممنوع.

فلا بدّ من أن يراعى حكمه من تقديم الأقوى لا تقديم المانع ، فإنّه كما ترى ،

١٧٨

مناف لما أفاده في المقام ، وإن كان منظورا فيه من حيث إنّ الظّن الحاصل من الشّهرة بعدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة وإن كان ظنّا في المسألة الأصوليّة ، لكن لا يمكن شمول الدّليل له ؛ لأنّ من اعتباره يستلزم عدم اعتباره فلا يصلح مانعا لاعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة فيدخل تحت الدّليل ، فبمثله ينبغي أن يجاب لا بما أفاده فافهم وتأمّل وانتظر لتمام الكلام فيما يتلى عليك بعد هذا إن شاء الله.

(٤٧) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ الظّن المانع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٤ )

تتمّة الكلام في الظنّ المانع والممنوع

أقول : تحقيق المقام وتوضيحه على وجه يظهر منه اندفاع توهّم الفرق الّذي توهّمه البعض المتقدّم ذكره لشمول الدّليل للظّن المانع دون الممنوع بناء على الوجه الخامس من وجوه التفصّي عن إشكال خروج القياس وأشباهه من دليل الانسداد : من كون الموضوع فيه الظّن الّذي لم يقم دليل على عدم حجيّته بحيث يظهر منه فساد قياس المقام بالحاكم والمحكوم من الاستصحابين :

هو أنّ الظّن الممنوع مع قطع النّظر عن دليل الانسداد ، ليس ممّا قام دليل على عدم حجيّته قطعا ، وإن كان ممّا قام ظنّ غير معتبر على عدم حجيّته ، وهو الظّن المانع باعتراف الخصم المتوهّم للفرق. وإنّما يدخل فيما قام دليل على عدم حجيّته بملاحظة دليل الانسداد حسبما توهّمه ، فإذا لم يدخل في العنوان المذكور مع قطع النّظر عنه ، بل دخل فيما لم يقم دليل على عدم حجيّته فيشمله الدّليل ، كما يشمل الظّن المانع أيضا ؛ من حيث وجود مناط حكم العقل بحجيّته وعنوانه في

١٧٩

كلّ منهما ، وشموله لهما جميعا غير ممكن من حيث تنافيهما ولو من حيث شمول الدّليل ، وإن كان الممنوع ليس له تعرّض في نفسه للمانع ؛ فإنّ شموله للمانع يلازم عدم شموله للمنوع ؛ حيث إنّ مدلوله عدم حجيّة الممنوع ، وشموله لممنوع أيضا يلازم عدم شموله للمانع من حيث استلزام شموله لعدم حجيّة ما يمنع عنه ، فيلزم عدم شموله ومجرّد كون مدلول المانع عدم حجيّة الممنوع مطابقة ، وكون مدلول الممنوع عدم حجيّة المانع التزاما بملاحظة دليل الانسداد لا يجدي فرقا بعد فرض كون الدّليل عقليّا تابعا لوجود مناط الحكم في أفراد موضوعه كما هو ظاهر.

فلا بدّ أن يتبع حكمه في المتنافيين من الفردين عنوانا صادقا على أحدهما كالأقوى على تقدير وجود القوّة لأحدهما ، وإلاّ فيحكم بتساقطهما بمعنى عدم شمول الدّليل لشيء منهما ، فكما أنّ شموله للمانع يوجب دخول الممنوع فيما قام الدّليل القطعي على عدم حجيّته بالنّظر إلى قضاء الدّليل لحجيّة مطلق الظّن وإن تعلّق بالمسألة الأصوليّة كذلك شموله للممنوع موجب لدخول المانع في العنوان المذكور ؛ نظرا إلى ما عرفت من الاستلزام ولا ترتّب في الشّمول أصلا ولا دوران ؛ لأنّ حكم العقل من لوازم وجود موضوعه ، والمفروض كون كلّ منهما ظنّا لم يقم دليل على عدم حجيّته مع قطع النّظر عن دليل الانسداد هذا.

فإن شئت قلت : إنّ جعل دليل الانسداد مانعا عن شموله للممنوع دوريّ ؛ حيث إنّ عدم شموله له يتوقّف على كونه ممّا قام الدّليل على عدم حجيّته وتحقّق العنوان المذكور بالنّسبة إليه يتوقّف على نفس الدّليل المذكور ؛ لأنّ المفروض انحصار الدّليل فيه ، فيلزم ما ذكرنا من الدّور الباطل ، ولا يقاس المقام بما إذا كان الشّك في مجرى أحد الأصلين مسبّبا عن الشّك في مجرى الآخر كما في

١٨٠