بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٣

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-249-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٥٢

(٣١) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : ما مال إليه أو قال به ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥١٧ )

الوجه الاوّل من وجوه التفصّي عن إشكال خروج القياس

أقول : قد ينسب الميل إلى المنع المذكور ، أو القول به في زمان الانسداد إلى المحقّق القميّ قدس‌سره في « القوانين » والموجود فيه : إمكان منع دعوى كون حرمة العمل به ضروريّا حتّى في زمان الانسداد لا منع ثبوت الحرمة ، حيث قال قدس‌سره في بحث حجيّة أخبار الآحاد ـ في طيّ وجوه التّفصّي عن إشكال خروج القياس

__________________

(١) قال شيخ خراسان أعلى الله تعالى درجته في الجنان :

« لا يخفى أن هذا على تقدير صحّته ليس من توجيه خروج القياس ، بل منع خروجه في هذا الحال فيكون الإشكال على تقدير خروجه بعد على حاله ، فلا وجه لعدّه في عداد التوجيهات وكذا حال ما يتلوه من الوجه الثاني فإن الإشكال إنّما هو في النهي عنه على فرض إفادته الظنّ ، إلاّ أن يكون الغرض التفصّي عن توجّه إشكال ولو لعدم ثبوت فرضه وتقديره ، لا عن الإشكال فتدبّر ». إنتهى. أنظر درر الفوائد : ١٦٤.

* وقال فاضل كرمان قدس سره معترضا على محقّق خراسان قائلا :

« إن كان الضمير في توجيهه راجعا إلى الخروج فيقال : منع الخروج ليس توجيها للخروج ويتوجّه إشكال الخراساني وليس الأمر كذلك.

فإن الضمير في توجيهه راجع الى المقام الأوّل الّذي هو مقام دفع الإشكال الذي أوردوه على خروج القياس.

ودفع الإشكال قد يكون بمنع الخروج وقد يكون ببيان وجه مصحّح للخروج.

والدليل على أن الضمير راجع إلى المقام الأوّل دون خروج القياس : أنه يلزمه كون الجملة خبريّة غير مرتبطة بالمبتدء ... إلى آخر ما ذكره ». أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٥٧.

١٤١

ما هذا لفظه ـ :

« ويمكن أن يقال : إنّ في مورد القياس لم يثبت انسداد باب العلم بالنّسبة إلى مقتضاه ، فإنّا نعلم بالضّرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس فيعلم أنّ حكم الله تعالى غيره وإن لم يعلم أنّه أيّ شيء هو فنفي تعيينه يرجع إلى سائر الأدلة وإن كان مؤدّاها عين مؤدّاه فليتأمّل ؛ فإنّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتّى في موضع لا سبيل له إلى الحكم إلاّ به » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنّه كما ترى ظاهر في منع دعوى البداهة المذكورة في وجه التفصّي. اللهمّ إلاّ أن يكون الدّليل العلميّ عنده منحصرا في المقام في ضرورة المذهب ، وإلاّ لم يكن منعها بخصوصها مفيدا في الإيراد على وجه التّفصّي ؛ فإنّ الإيراد يرجع إلى دعوى انفتاح باب العلم في مورد العمل بالقياس. ومنع دعوى بداهة حرمة العمل به لا يلازم منع حصول العلم بالحرمة إلاّ بعد فرض انحصار الدّليل العلمي فيه كما يظهر من التّوضيح الّذي ذكره شيخنا قدس‌سره.

ثمّ إنّه على تقدير ظهور كلامه هذا في إمكان منع قيام الدّليل العلمي على الحرمة مطلقا في زمان الانسداد وفي مورد انحصار الدّليل فيه ليس مذهبا له بالقطع واليقين ، فإنّ كلماته في هذا المبحث وفي بحث « الاجتهاد والتّقليد » وغيرهما تنادي بصراحتها بذهابه إلى حرمة العمل به في كلّ زمان وأنّه من المسلّمات عنده ، وإنّما ذكر ما ذكره وجها في المسألة لا اعتقادا فلا تغفل ولا تنظر

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨ وج ٢ / ١١٣.

١٤٢

إلى بعض كلماته الموهم ميله إلى الجواز.

نعم ، في « كشف الغطاء » ما يظهر منه نفي البعد عن القول بحجيّته عند الاضطرار وانحصار الطّريق في مطلق الّظن حيث قال ـ في البحث الرّابع والأربعين في تعداد الأدلّة ما هذا لفظه ـ :

« الأدلّة إمّا أن تكون مثبتة لذاتها من غير جعل كالطّرق المفيدة للعلم بالحكم من عقل أو نقل متواترا وإجماع معنويّين ».

إلى أن قال :

« وأمّا أن تكون جعليّة بحكم الشّارع لا بمقتضى الذّات ».

وساق الكلام في تعداد الأدلّة الظّنيّة المعتبرة من حيث الخصوص.

إلى أن قال :

« وإمّا أن يكون ممّا انسدّت فيه الطّرق في معرفة الواجب مع العلم باشتغال الذّمّة وانسداد طريق الاحتياط ، وهذا يجري في المجتهد إذا فقد الأدلة وفي غيره عند اضطرار لضرورة بقاء التّكليف ، وانسداد طريق العلم والظّن القائم مقامه ، فيرجع كلّ منهما إلى الرّوايات الضّعيفة ، والشّهرة ، وأقوال الموتى ، والظّنون المكتسبة ، سوى ما دخل تحت القياس المردود ، على أنّ القول به في مثل هذه الصّورة غير بعيد » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( ولا يخفى أنّ شيئا من الأخبار الواردة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ كثيرا من الأخبار الدّالة على حرمة العمل بالقياس

__________________

(١) كشف الغطاء : ج ١ / ٣٨.

١٤٣

تدلّ على حرمته بالنّسبة إلى زمان الانسداد أيضا بحيث لا يفرق في دلالتها بالنّسبة إلى الزّمانين والحالات أصلا ، مثل ما دلّ على حرمته من حيث استلزامه لإبطال الدّين المحمول على القضيّة الغالبية ، لا الدّائميّة تصحيحا لكلام الشارع ؛ فإنّه ليس المراد منه رفع اليد بسببه عن السّنة المتمكن من الرّجوع إليها حتّى يختصّ بزمان الانفتاح ، بل المراد منه : أنّ إعمال القياس في تحصيل السّنة وقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجب لإبطال الشّريعة والدّين ، وأنّ هذا لازم له من غير فرق بين الزّمانين سواء حمل على الدّوام أو الغلبة.

فهو نظير قولهم عليهم‌السلام : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (١) ونحوه ممّا دلّ على النّهي عن العمل به من حيث الطّريقيّة والإرشاد إلى كون العقول النّاقصة الظّنية المستعملة في استنباط الأحكام الشّرعيّة كثير الخطأ وما دلّ على حرمته من حيث الموضوعيّة مثل قوله عليه‌السلام : « ليس من ديني من استعمل القياس في ديني » (٢) وما ورد في مشاركة المقايس لإبليس حيث إنّه أوّل من قاس (٣) ، وإن كان ظاهر بعض أخباره كون الحكمة في ذمّ إبليس على قياسه في ترك السجود المأمور به لأبينا

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ٣٢٤ باب (٣١) ـ ح ٩ ، وعنه مستدرك الوسائل : ج ١٧ / ٢٦٢ باب « عدم جواز القضاء والحكم بالرأي ... » ـ ح ٢٥.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٦ وفيه : وما على ديني ... إلى آخره ، وعيون الأخبار : ج ٢ / ١٠٧ ـ ح ٤ ، والتوحيد : ٦٨ ـ ح ٢٣ ، عنها الوسائل : ج ٢٧ / ٤٥ « باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي ... » ـ ح ٢٢.

(٣) الكافي : ج ١ / ٥٨ باب « البدع والرأي والمقاييس » ـ ح ٢٠ وباب « الطيب والريحان للصائم » ، من ج ٤ / ١١٣ ـ ح ٥ ، وانظر الوسائل : ج ٢ / ٣٤٧ باب « وجوب قضاء الحائض والنفساء ... » ـ ح ٣.

١٤٤

آدم عليه‌السلام خطأه في قياسه بقوله : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (١).

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في دلالة كثير من أخبار الباب على حرمة العمل به في محلّ البحث ، بل يمكن دعوى التّواتر المعنوي فيما دلّ عليه ، فلا يتوجّه : أنّ الخصم لا يسلّم حجيّة ظواهر الألفاظ الصّادرة عن الحجّة من حيث الخصوص ؛ غاية ما هناك على تقدير حصول الظّن الشّخصي منها على حرمة العمل بالقياس دخول المسألة في الظّن المانع والممنوع.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( ألا ترى أنّه لو فرض العياذ بالله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يناقش فيما أفاده :

بأنّ دعوى الإجماع بل الضّرورة على حرمة العمل بالقياس وأشباهه في صورة انفتاح باب الأمارات لا يلازم دعواه في صورة انسداد بابها.

نعم ، دعوى الإجماع على الإطلاق ممّا يفيد الالتزام بالحرمة فيما فرضه ، مع أنّه قد يقال : إنّه لا ضير في الالتزام بها في الفرض أيضا مع كون التّكليف وجوب الاحتياط بالنّسبة إلى الواقع فيما كان القياس مقتضيا للإلزام والأخذ بخلافه فيما كان على خلاف الإلزام ، ففي الحقيقة هذا نوع من الاحتياط.

وإن كان قد يورد عليه : بأنّه موجب للحرج فيعود المحذور ، مع أنّ الكلام بعد الفراق عن بطلان وجوب الاحتياط وإلاّ لم يحكم بحجيّة الظّن أصلا.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( كما هو لازم القول بدخول القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٠ )

أقول : ما أفاده : من الملازمة إنّما هو على تقدير كون حجيّة الخبر الصّحيح

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

١٤٥

من باب الظّن المطلق كما يظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره ؛ حيث إنّه بنى على عدم وجود الظّن الخاص فيما بأيدينا من الأمارات ، وأمّا على تقدير كون حجيّته من باب الظّن الخاصّ حسبما يظهر من جماعة من أهل الظّنون المطلقة ؛ حيث اعترفوا بحجّيّته من حيث الخصوص وبنوا على التّعدي عنه من جهة عدم كفايته في استنباط غالب الأحكام.

فالملازمة غير ظاهرة بل ممنوعة ، لما أسمعناك مرارا : من كون الظّن المطلق في مقابل الظّن الخاصّ كالأصل في مقابل الدّليل ، فلازم هذا القول عدم جواز الأخذ بالظّن المطلق في مقابل الخبر الصحيح وإن كان غير القياس فضلا عنه إلاّ على القول باعتبار حصول الظّن الشّخصي منه في حجيّته ، أو عدم قيام الظّن بالخلاف فافهم.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : منع إفادة القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢١ )

الوجه الثاني من وجوه التفصّي المزبور

أقول : يظهر هذا الوجه من المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » أيضا وإن حكى عن غيره أيضا حيث قال ـ في التّفصّي عن خروج القياس وخبر الفاسق من حيث صراحة آية النّبأ في وجوب التّبيّن فيه المقتضي لعدم حجيّته من غير فرق بين الأزمنة ، ما هذا لفظه ـ :

« وذلك إمّا لأنّهما لا يفيدان الظّن وذلك علّة منع الشارع عنهما ، أو لأنّهما مستثنيان من الأدلّة المفيدة للظّن لا أنّ الظّن الحاصل منهما مستثنى من مطلق

١٤٦

الظّن » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وذكره في كلامه وإن كان وجها في المسألة ؛ إلاّ أنّه يتوجّه عليه ما ذكره شيخنا قدس‌سره : من أنّ ملاحظة ما ورد في شأن العمل بالرّأي والقياس والعقول الظّنيّة من حيث الطّريقيّة وغلبة الخطأ فيها كما هو الظّاهر من أكثرها ، وإن كانت يرفع الظّن الحاصل منها في ابتداء النّظر وقبل ملاحظتها ويمنع من حصول الظّن منها إن كانت ملحوظة عند الرّجوع إليها فهي رافعة باعتبار ودافعة باعتبار أخرى في الغالب ، إلاّ أنّها لا يؤثّر في ذلك دائما كما هو المشاهد بالوجدان.

ومن هنا قد يحصل من القياس القطع بالحكم فيحتمل الظّان الّذي استقرّ له الظّن في مورد اطمئنانه بإصابته مورد حصول الظّن له على كونه من الموارد الّتي تخلّفت عن الغالب فلا تنافي تلك الأخبار النّاطقة بكثرة الخطأ في العمل بالعقول النّاقصة الظّنيّة.

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( إنّ باب العلم في مورد العمل (٢) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٢ )

أقول : الوجه في هذا الجواب ما أسمعناك مرارا : من أنّ الانسداد الشّخصي علّة لحكم العقل بحجيّة الظّن فيدور حكمه مداره ، فكما لا يحكم العقل بحجّيّة أيّ ظنّ كان في قبال ما قام الدّليل القطعيّ على اعتباره من الأمارات والأصول مطلقا ، كذلك لا يحكم بحجيّة الظّن إذا كان هناك دليل قطعي على إلغاء ما يقابل الأمارات والأصول فهو خارج عن موضوع الانسداد الّذي دار حكم العقل مداره.

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨.

(٢) كذا وفي الكتاب : « في مورد القياس ... إلى آخره ».

١٤٧

وهو كما ترى ، بمكان من الضّعف والسّقوط لما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : من أنّه لا كلام في الانفتاح المدّعى بعد فرض وقوع النّهي ، وإنّما الكلام في توجيه النّهي بحيث لا يقدح في حكم العقل ويجامع معه ، فلا يقاس المقام بما إذا كان هناك دليل قطعيّ على اعتبار الأمارات والأصول ؛ لأنّه قياس مع الفارق فافهم.

(٣٧) قوله قدس‌سره : ( وما يحتمله (١) يعني تدلّ على حجيّة الأدلّة الظّنيّة دون مطلق الظّن النّفس الأمري ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٣ )

توجيه كلام المحقّق القمّي في المقام

أقول : هذا أحد الوجهين اللّذين عرفتهما ممّا تقدّم عن المحقّق القمّي قدس‌سره وقد تكرّر هذا الوجه في كلامه في هذا المبحث وفي بحث « الاجتهاد والتّقليد » بحيث يظهر منه اعتماده عليه.

وهو كما ترى مشتبه المراد كما اعترف به كثير ممّن وقف عليه كالمحقّق المحشّي وأخيه في « الفصول » وغيرهما ( قدّس الله أسرارهم ).

ومن هنا أورد عليه :

تارة بما في « الكتاب » : من أنّه ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحكم بالحجيّة في لحاظ العقل ؛ حيث إنّ حكمه يلحق نفس الانكشاف الظّني من غير مدخليّة للسّبب فيه أصلا.

__________________

(١) وفي الكتاب هكذا : وبالجملة هي تدل على ... إلى آخره.

١٤٨

وأخرى : بأنّ ما ذكره كرّ على ما فرّ منه ؛ حيث إنّه إذا استقلّ العقل بحجيّة كلّ ما يفيد الظّن على وجه الإيجاب الكلّي ، كيف يجوز في حكمه نهي الشارع عن بعض ما يفسده؟

إذ عدم إمكان التّخصيص في الدّليل العقلي لا يختصّ ببعض أفراده فاختلاف التّعبير والتّقرير مع كونه خلاف الواقع لا يفيد في التّفصّي عن إشكال ورود التّخصيص في الحكم العقلي هذا.

وقد يدفع الإشكالان بأنّ مراده قدس‌سره ممّا أفاده : الإشارة إلى تقرير الكشف والحكومة ، وأنّه على الأوّل يستكشف العقل من جهة مقدّمات الانسداد عن حكم الشارع بحجيّة المقدار الوافي من الأمارات الظّنيّة على سبيل الإهمال وبعد خروج ما خرج يحكم بملاحظة بطلان التّرجيح بلا مرجّح على كون الحجّة عند الشارع جميع الأمارات.

ومن المعلوم أنّ التّعميم من جهة هذا المعمّم وسائر المعمّمات على ما عرفت لا يجري بالنّسبة إلى القياس وأشباهه ممّا علم عدم حجيّته. وعلى الثّاني يحكم العقل بحجيّة مطلق الظّن على سبيل القضيّة الكليّة من غير مدخل للسّبب عنده في الحكم ، فيشكل الأمر بخروج القياس وأشباهه لا محالة.

ولمّا كان المختار عنده تقرير الكشف ومفاده : استكشاف الحجيّة بالنّسبة إلى الأسباب والأمارات على سبيل الإهمال على ما عرفت تفصيله وتحقيقه ؛ فقال في مقام التّفصيّ : ( إنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظّنيّة لا أنّ الظّن القياسي

١٤٩

مستثنى من مطلق الظّن ) (١) فليس مقصوده أنّ القضيّة العقليّة الكليّة تختلف حالها بالنّظر إلى الأسباب والمسبّبات حتّى يتوجّه عليه ما عرفت وأضعافه.

بل المراد : أنّ الحجّة على تقرير الكشف هي الأمارات على سبيل الإهمال والتّعميم إنّما هو بملاحظة أمر خارج لا يجري بالنّسبة إلى القياس ، فالمراد من الاستثناء في كلامه ليس ما يظهر منه بالنّظر إلى قضيّة اللّفظ ، بل المراد منه الحكم بخروج ما لولاه لكان قابلا للدّخول ومحتملا له ، فهذا الكلام منه قدس‌سره مبنيّ على ما هو الحقّ والواقع عنده ، لا أنّ نتيجة المقدّمات تختلف بحسب الأسباب والمسبّبات.

وهذا التّوجيه وإن لم يساعده بعض كلماته ، بل ينافيه ما عرفت استظهار شيخنا قدس‌سره منه من إجراء المقدّمات في كلّ مسألة ، إلاّ أنّه لا مناص عنه في مقام التّوجيه سيّما بعد مساعدة بعض كلماته عليه وإن كان أصل تقرير المقدّمات على الكشف باطلا عندنا على ما عرفت تفصيله في مطاوي كلماتنا السّابقة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا من أنّ المراد من الكليّة في قوله المحكيّ في « الكتاب » ـ ( إذ لا يصحّ أن يقال أنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظّن بنفسه ... إلى آخره ) (٢) ـ هو الكليّة المستفادة من مجموع المقدّمات والمعمّمات لا المستفادة من نفس المقدّمات ، وممّا ذكرنا كلّه في شرح مراد المحقّق القمّي قدس‌سره يظهر لك : عدم توجّه ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الاعتراض عليه بعد توجيهه بما يقرب إلى ما عرفت بقوله :

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨ وج ٢ / ١١٢.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٢٣ وفي الكتاب : « إذ يصح » ... إلى آخره بدل « إذ لا يصح ».

١٥٠

« وفيه : أنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه فإنّ مرجع ما ذكره من الحكم بوجوب الرّجوع إلى الأمارات الظّنية في الجملة إلى العمل بالظّن في الجملة ... إلى آخره » (١).

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ التّرديد والدّوران في المهملة بين الكليّة والجزئيّة إنّما هو بحسب الأسباب حقيقة ؛ إذ لا دوران في النّتيجة بحسب الموارد والمراتب على التّقريرين حقيقة على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فإذا احتمل العقل أن يكون المجعول مطلقا أو في خصوص زمان الانسداد الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ من حيث إنّه حاصل منه فيكون المجعول حقيقة السّبب الفلاني بشرط حصول الّظن فللسّبب مدخل في الحجيّة حقيقة ، فلا يلزم هناك إشكال بخروج القياس أصلا ، فالإيراد المتوجّه عليه حقيقة : هو بطلان تقرير الكشف سواء فرض بالنّسبة إلى الأسباب أو المسبّبات ، وإلاّ فعدم توجّه الإشكال على هذا التّقرير ممّا لا ريب فيه على كلّ تقرير ، إلاّ أنّ المحقّق القميّ قدس‌سره زعم : أنّ المستكشف من المقدّمات على تقرير الكشف هو حجيّة الأمارات الظّنية بشرط حصول الظّن الشّخصي منها على سبيل الإهمال فتأمل.

ممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : أنّ مراد المحقّق من التّعارض ـ في كلامه المحكيّ في « الكتاب » ـ ليس هو التّعارض الحقيقي ، بل مجرّد التّقابل فيكون الحجّة السّليمة فيما يقابل فيه الأمارات ما يفيد الظّن الشّخصي من جهة قوّته أو معاضدته بغيره ، ويطرح غيره من جهة عدم وجود مناط الحجيّة فيه سواء كان أصلا على

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٥.

١٥١

القول باعتباره من باب الظّنّ كما بني الأمر عليه في محلّه أو غيره.

وما أفاده قدس‌سره كما هو صريح كلامه بعد الحكم بتعميم النّتيجة من الخارج مع كونها مهملة من حيث الذّات مبنيّ على إهمال النّتيجة جزما ، فقول شيخنا قدس‌سره في مقام شرح مراده ـ ( وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ) (١) ـ منظور فيه ؛ لأنّه لا يحتمل الإهمال بل مبنيّ عليه.

نعم ، قد عرفت ؛ أنّ هذا التّوجيه لا يجامع ما استفاده قدس‌سره منه من تقرير المقدّمات في كلّ مسألة. فلعلّ هذا الكلام من المحقّق المذكور قرينة وشاهد على عدم إرادته ما استظهره من إجراء المقدّمات في كلّ مسألة وكيف يجامع هذا الاستظهار مع هذا التوجيه؟ فتأمل.

وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام فيما علّقناه على التّنبيه الثّاني فراجع إليه.

(٣٨) قوله قدس‌سره : ( الخامس : أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجيّة الظّن الّذي لم يقم على عدم حجيّته دليل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٥ )

الوجه الخامس من وجوه التفصّي المزبور

أقول : قد تكرّر هذا الوجه للتّفصّي عن إشكال خروج القياس في كلام الشيخ المحقّق المحشّي في « هداية المسترشدين » المعلّقة على « المعالم » وفي كلام أخيه الشّيخ الفاضل في « فصوله » قدس‌سرهما واعتمدا عليه كمال الاعتماد ؛ من حيث

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٤.

١٥٢

إنّ نتيجة دليل الانسداد عندهما سواء كان جاريا في الفروع أو الأصول هي حجيّة الظّن القائم على حجيّة الأمارات القائمة على المسائل الفرعيّة وإن لم يحصل ظنّ منها بها.

وبعبارة أخرى : الحجّة عندهم بمقتضى دليل الانسداد الأمارات الّتي ظنّ حجيّتها وإن لم تفد الظّن الشّخصي في المسألة الفرعيّة. ومن المعلوم أنّ خروج القياس وأشباهه من هذه الكليّة ليس بعنوان التّخصيص ، بل التّخصّص والخروج عن موضوع حكم العقل ؛ حيث إنّه ممّا يعلم عدم حجيّته.

نعم ، يشكل الأمر عليهما فيما فرض قيام القياس المفيد للظّن على المسألة الأصوليّة كما قيل : إنّ الشّهرة المحقّقة يحصل منها الظّن الأقوى من الظّن الحاصل من خبر العادل ، فإذا فرض قيام الدّليل الظّني على حجيّته فيظنّ منها حجيّة الشّهرة من جهة القياس المذكور وهكذا.

ودعوى : أنّ القياس لا يحصل منه الظّن في المسألة الأصوليّة وإن سلم حصول الظّن منه في المسألة الفرعيّة ، شطط من الكلام لا ينبغي صدوره عن جاهل ، فضلا عن مثل هؤلاء الأعلام ، فالإشكال متوجّه عليهما لا محالة فلا بدّ من دفعه.

قال المحقّق المحشّي قدس‌سره ـ بعد نفي الخلاف في الطّريق إلى الأحكام الشّرعيّة وأنّه الظّن المطلق أو الظّنون الخاصّة وجملة كلام له في ذلك واختيار الثّاني ، ما هذا لفظه ـ :

١٥٣

« وقد يشكل (١) في القول الأوّل بأنّه إذا كانت قضيّة حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم حجيّة مطلق الظّن وقيامه مقام العلم لزوم القول به على الإطلاق فلا وجه لتخصيص بعض الظّنون وإخراجه عن العموم [ المذكور ] لقيام الدّليل عليه لما تقرّر من عدم ورود التّخصيص على القواعد العقليّة ، وإنّما يرد على العمومات اللّفظيّة والقواعد الشّرعيّة [ ونحوها ] ، فكما أن لا تخصيص في الحكم بحجيّة العلم كذا ينبغي أن يكون الحال هذه في الظّن القائم مقامه بعد انسداد سبيله.

وأنت خبير بأنّ الإشكال المذكور مشترك الورود بين القولين ؛ فإنّ القائل بحجيّة الظّنون الخاصّة يقول بأصالة عدم حجيّة الظّن وإنّه لا يقوم شيء من الظّنون حجّة في حكم العقل ، إلاّ ما قام الدّليل على حجيّته ، ففي ذلك أيضا التزام بالتّخصيص في القاعدة العقليّة. وقد عرفت الجواب عنه ممّا مرّ ، وإنّه ليس ذلك من التّخصيص في شيء ، وإنّما هو اختصاص في حكم العقل ؛ فإنّ مفاد حكم العقل هو عدم حجيّة كلّ ظنّ لم يقم دليل على حجيّته ، فالمحكوم عليه بحكم العقل هو الظّن الخالي عن الدّليل لا مطلقا ، وكذا الحال في القول الأوّل (٢).

فإنّ المحكوم عليه بالحجيّة هو الظّن الّذي لم يقم دليل على عدم حجيّته ، والظّن الّذي قام الدّليل على عدم حجيّته خارج عن الموضوع ، لا أنّه يخرج عنه بعد حكم العقل بحجيّة الظّن مطلقا حتّى يخصّص في حكم العقل.

نعم ، هو تخصيص بالنّسبة إلى ظاهر التّعبير ؛ حيث يعبّر بلفظ [ عام ] ثمّ

__________________

(١) كذا وفي المصدر : « وقد يستشكل ... إلى آخره ».

(٢) وفي متن الهداية « وكذا الحال في القول الثاني ».

١٥٤

يخرج عنه ذلك كما هو الحال في التّخصيصات الواردة على العمومات النّقليّة أيضا ، إذ ليس ذلك إلاّ بحسب ظاهر التّعبير دون الواقع إلاّ ما كان من التّخصيص البدائي ؛ فإنّه تخصيص بحسب الواقع ولا يجري في حكم العقل ولا في شيء من التخصيصات الواردة في الشّرع.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكر من امتناع التّخصيص في الأحكام العقليّة إنّما يراد التّخصيص الواقعي ، وهو أيضا مستحيل في العمومات الشّرعيّة ، والتّخصيص في التعبير جائز في الصّورتين » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع مقامه.

وقال الشّيخ الفاضل في « الفصول » ـ بعد حكاية الوجوه الأربعة للتفصّي عن إشكال خروج القياس وأشباهه والنّظر فيها ما هذا لفظه :

« أقول : بل التّحقيق في الجواب أن يقال : انسداد باب العلم وبقاء التّكليف إنّما يقتضي حجيّة الظّنون الّتي لا دليل على عدم حجيّتها ، وهذا مطّرد في جميع موارده.

وبالجملة : فالعقل إنّما يحكم على العنوان الخاص ، لا أنّه يحكم على العنوان العام ، ثمّ يطرأ عليه التّخصيص. فالّذي يكشف عن ذلك : أنّ العقل لا يحكم بمجرّد انسداد باب العلم وبقاء التّكليف بجواز العمل بكلّ ظنّ حتّى بالظّنون الّتي علم عدم جواز التّعويل عليها ولو بعد انسداد باب العلم بل بما عدا ذلك من الظّنون المحتمل الحجيّة.

ومن هنا يظهر : أنّ القائل بحجيّة الظّن المطلق إنّما ينبغي له أن يقول بحجيّة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

١٥٥

مطلق الظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته فيعتمد على كلّ ما لم يدلّ دليل على عدم حجيّته ممّا يفيد الظّن الفعلي بعد قطع النّظر عن معارضة ما ثبت عدم الاعتداد بمعارضته ».

ثمّ قال ـ في شرح القول فيما أجمله ولخصّه ما هذا لفظه ـ : « واعلم أنّا لو التزمنا بانسداد باب العلم مع بقاء التّكليف بها فلا يخلو أن نقول : بأنّ قضيّة ذلك عقلا وجوب العمل بالظّن فيها واقعا وحينئذ فيمتنع المنع من العمل ببعض الظّنون كالظّن القياسي وشبهه ، وإن قلنا بأنّ قضيّة ذلك وجوب العمل بالظّن ظاهرا لم يمتنع المنع من العمل ببعض الظّنون ؛ لقيام دليل على المنع كسائر الأحكام الظّاهريّة كالبراءة وشبهها وقد عرفت ممّا حققّنا أنّ حكم العقل بحجيّة الظّن هنا حكم ظاهريّ ، فلا إشكال في المنع عن العمل بالقياس وشبهه ، فيرجع في مورده بحكم العقل إلى الأقرب إلى الواقع من بعده ولو مع قطع النّظر عن القياس مثلا ، وإن لم يكن ظنّا فعليّا.

ويظهر من استشكال الفاضل المعاصر في إخراج الظّن القياسي والتجائه إلى منع حصول الظّن به تارة ، ومنع بطلان حجّيّته أخرى ، ونحو ذلك من الوجوه المتقدّمة توهّمه للوجه الأوّل وهو كما ترى.

وكيف كان : فالمعتبر على الأوّل كلّ أمارة مفيدة للظّن ، وعلى الثّاني كلّ أمارة من الأمارات الّتي لا دليل على عدم حجيّتها ، ولا أقرب منها في النّظر إلى إصابة الواقع ، بعد الإغماض عمّا ثبت عدم حجيّته سواء أفاد الظّن أو لا.

والفرق بين أن يعتبر الأمارات على أحد هذين الوجهين وبين أن يعتبر على وجه التّقييد : أنّ الأمارات المعتبرة على وجه التّقييد : لا يعتبر فيها إفادتها للظّن ولا

١٥٦

كونها أقرب في النّظر إلى الواقع ، وإن فرض حصوله فليس الحكم بالحجيّة منوطا به ، بل كان من المقارنات الاتفاقيّة كما في العمل بأصل البراءة والاستصحاب ، بخلاف الأمارات المعتبرة على أحد هذين الوجهين ؛ فإنّ حجيّتها منوطة بالوصف المعتبر فيها من الظّن والأقربيّة » (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

ومراده من القسم الأوّل ، أي : كون وجوب العمل بالظّن حكما واقعيّا ليس ما جرى عليه الاصطلاح في الفرق بين الحكم الواقعي والظّاهري بقول مطلق ، بل مراده كون وجوب العمل من لوازمه بحيث لا يتخلّف عنه مطلقا كما هو الشّأن في العلم عنده وعند أخيه المحقّق المتقدّم ذكره ؛ حيث إنّهما التزما بكون العلم واجب العمل بحكم الشارع وكون وجوب العمل به من هذا القسم كما صرّح به الشّيخ المحقّق المحشّي فيما عرفت من كلامه المتقدّم ، وإن كان لهذا الفاضل كلام في قطع القطّاع يظهر منه كون حجيّة العلم مشروطة بعدم منع الشارع عنه كالظّن عرفته فيما حكاه شيخنا عنه في فروع العلم.

وتوضيح ما أفاده : أنّ حكم العقل بلزوم الأخذ بالظّن الشّخصي وعدم جواز العدول عنه إلى غيره من الظّنون النّوعيّة والشّك والوهم عند انسداد باب العلم ، كحكمه بلزوم الأخذ بالعلم وعدم جواز العدول عنه إلى غيره مطلقا ، ولو كان هو الظّن الشّخصي الاطمئناني عند التّمكن من تحصيل العلم بالواقع ، فكما أنّ حكم الشارع بجواز العدول عن تحصيل العلم والأخذ بغيره عند التّمكن من تحصيل العلم لا يكون تخصيصا لحكم العقل بحرمة العمل بغير العلم في زمان الانفتاح ،

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٨٥.

١٥٧

فكذا حكمه بإلغاء بعض الظّنون كالقياس ووجوب الأخذ بغيره اللاّزم من حكمه بإلغائه ليس تخصيصا لحكم العقل ، وإن حكم بعد حكم الشارع بإلغاء الظّن بوجوب تعيين الأخذ بما هو أقرب من غيره من الأمارات الكاشفة عن الواقع نوعا ، وإن ارتفع الكشف الفعلي عنها من جهة مقابلتها بالقياس.

وإن كان حكمه على وجه التّنجيز والإطلاق في الموضعين امتنع حكم الشارع بخلافه ، فلا بدّ أن يكون حكمه في الموضعين على وجه التّعليق والتّقييد حتّى لا ينافيه حكم الشارع.

فإن شئت قلت : إنّ الظّن في زمان الانسداد كالعلم في زمان الانفتاح في حكم العقل ، فإن لم يجز حكم الشارع بخلافه لم يجز في المقامين ، وإن جاز ، جاز فيهما ، فالتّفكيك لا معنى له.

هذا كلّه في حكم العقل بحرمة العمل بالظّن عند التّمكّن من تحصيل العلم من حيث لزوم تحصيل الواقع عند الإمكان ، فيكون حكمه بالحرمة إرشاديّا ؛ من حيث كون العمل بالظنّ في معرض فوت الواقع.

وأما حكمه بالحرمة من حيث قبح التشريع والافتراء على الشارع فهو وإن لم يكن إرشاديا إلا أنّه ليس ملازما لذات الظّن ، بل هو تابع لعنوان عدم العلم بورود التّعبّد من الشارع فيكون ترخيص الشارع للعمل رافعا لموضوع حكم العقل جدّا ، فلا يكون هناك تخصيص أصلا ، فليس العمل بالظّن من حيث هو قبيحا ذاتا في حكم العقل حتّى يكون حكم الشارع بحجيّته تخصيصا في حكم العقل.

نعم ، يتوجّه عليهما على الوجه الأوّل ؛ أنّهما لم يتعرّضا لوجه أخذ القيد الّذي ذكراه في موضوع حكم العقل في الموضعين ، فلا بدّ أن يكون حكمهما بجواز

١٥٨

سلوك الطّريق الظّن مع التّمكن من تحصيل الواقع لأحد أمرين : إمّا دوام مطابقة الأمارة للواقع ، أو ملاحظة مصلحة في الأمر بسلوك الأمارة يتدارك بها ما يفوت من جهة سلوكها من مصلحة الواقع ، على تقدير الخطأ ؛ لئلاّ يكون الأمر بسلوكها نقضا للغرض وتفويتا للواقع. نعم ، علم التكلّف بالأمر الأوّل مانع عن جعلها كما هو ظاهر. ومن هنا يحكم بحجيّة بعض الأمارات دون بعض مع الانفتاح.

وأمّا حكمه بعدم الحجيّة وإلغاء ظنّ في زمان الانسداد فلا بدّ أن يستند إلى أحد أمرين أيضا : أحدهما : غلبة مخالفته للواقع. ثانيهما : اشتمال سلوكه على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع من سلوكه أحيانا ، فلا يلاحظ في حكمه على الأوّل إلاّ الإرشاد ، ولمّا كان حكم العقل بلزوم العمل بالظّن في زمان الانسداد وتقديمه على غيره من حيث كونه أقرب إلى إدراك الواقع ومصلحته فلا محالة يكون الظّن المخالف للواقع غالبا ، أو المشتمل على المفسدة ، خارجا عن موضوع حكم العقل ، فلا يكون خروجه تخصيصا في الدّليل العقلي هذا.

وستقف على شرح بعض ما ذكرناه فيما نذكره بعد ذلك.

(٣٩) قوله قدس‌سره : ( واستوضح ذلك من حكم العقل من حرمة العمل بالظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٦ )

أقول : واستوضح ذلك أيضا من الظّن الّذي علم اعتباره في زمان الانسداد ، لا من جهة دليل الانسداد ، بل من جهة قيام دليل عليه بالخصوص إذا فرض عدم كفايته في الفقه فيكون من الظّن الخاصّ ؛ إذ كما أنّ دليل الانسداد لا يشمل لهذا الظّن لحصول القطع بالبراءة من العمل به ولا يكون خروجه تخصيصا في الدّليل العقلي ، بل تخصّصا وخروجا عن الموضوع ، كذلك لا يشمل الظّن الّذي علم عدم

١٥٩

اعتباره من جهة قيام الدّليل عليه ، لحصول القطع بعدم البراءة من العمل به فلا يكون هناك ظنّ بالبراءة فلا يكون خروجه تخصيصا أيضا ، بل هو خروج عن الموضوع فتأمل.

(٤٠) قوله قدس‌سره : ( غرض (١) الشّارع من العمل ببعض الظّنون ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٧ )

مناقشة ما أفاده المصنف قدس‌سره

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّه على إطلاقه غير مستقيم لما ستعرف من كلامه ( طيّب الله رمسه ) في الوجه السّابع : من جواز النّهي عن بعض الظّنون على وجه الطّريقيّة إذا كان في علم الشارع أغلب مخالفة من الطّرف الموهوم ، بل يحكم العقل بعدم جواز سلوكه بعدم الاطّلاع على حاله بإخبار الشارع ، وليس في هذا تخصيصا في الدّليل العقلي أصلا ، حسبما بني عليه الأمر قدس‌سره وجعله من وجوه خروج القياس والشباهة ممّا نهى الشارع عنه من هذه الجهة عن الدّليل العقلي موضوعا وبعنوان التّخصّص.

والوجه فيه : أنّ لحوق الحجيّة للظّن في حكم العقل ليس لذاته ، أو لأمر راجع إليها ، بل من جهة أقربيّته إلى الواقع بالنّسبة إلى ما قابله وغلبة مطابقته له ، فإذا فرض علمه بفقدان هذه الجهة والعنوان الموجب لحكمه في بعض الظّنون من جهة كشف الشّارع العالم بالغيب عن حاله ، فلا محالة يكون خارجا موضوعا عن حكم العقل بحجيّة الظّن ؛ لأنّ المفروض لحوق الحجيّة في حكمه للأقرب إلى

__________________

(١) وفي الكتاب هكذا : فنهي الشارع ... إلى آخره.

١٦٠