بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

إلى أنّ مجرّد الظّن بالواقع لا يوجب الظّن برضا المكلّف به ، سيّما بعد نهيه عن العمل بالظّن بخلاف الظّن بالطّريق ؛ فإنّه في معنى الظّن برضا المكلّف في امتثال التّكليف الواقعي بسلوكه لا محصّل له أصلا ؛ فإنّ الواجب العقلي بعد تماميّة مقدّمات الانسداد ، وعدم وجوب الاحتياط رأسا بعد العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة الواقعيّة. الموجبة لدوران الأمر في موافقتها بين الموافقة الظنية والشكيّة والوهميّة وجوب الموافقة الظّنية للتّكاليف الإلزاميّة الواقعيّة ، ولو بسلوك ما ظنّ كون مؤدّاه هو الواقع الأوّلي بجعل الشّارع ؛ من حيث إيجابه لسقوط التّكليف الواقعي ظنّا في حكم العقل ، وإن خالف الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، وتعيّن ذلك في حكم العقل وعدم جواز العدول عنها إلى الموافقة الشّكيّة والوهميّة ما دامت ممكنة كما هو المفروض.

وهذا معنى حكم العقل بحجيّة الظّن عند انسداد باب العلم الّذي يلزمه حكمه على وجه القطع واليقين بقبح المؤاخذة على مخالفة الواقع على تقدير خطأ الظّنّ وعدم إصابته من غير فرق بين الظّن بالواقع والظّن بالطّريق.

فالمظنون أوّلا وبالذّات أمر يترتّب على فعله القطع بالبراءة من الواقع الأوّلي ما دامت الأمارة قائمة بالنّظر إلى حكم العقل في سلوك الطّريق المظنون أيضا ، لا مع قطع النّظر عن حكمه ؛ فإنّ العمل على طبق الطّريق المظنون من غير استناد إليه ولو كان في الواقع حجّة وطريقا ليس عملا به وسلوكا له.

والعمل به والاستناد إليه ـ مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّته ـ وإن كان

٥٤١

سلوكا له ، لكنّه محرّم بالأدلّة الأربعة ، وإن كان طريقا في نفس الأمر ، ولا يمكن أن يترتّب عليه سقوط الخطاب الواقعي حينئذ ، كما لا يمكن أن يترتّب على مجرّد الموافقة الاتفاقيّة للطّريق كما في القسم الأوّل.

والظّن بالواقع وإن جرى فيه أيضا القسمان المذكوران مع قطع النّظر عن حكم العقل ، إلاّ أنّ في كلّ منهما يسقط الخطاب الواقعي عن المكلّف على تقدير المصادفة في نفس الأمر لو كان توصّليّا وإن لم يحكم بذلك إلاّ على سبيل الظّن قبل انكشاف الخلاف. ومن هنا توهّم : أن الظّن بالواقع أولى بالحجيّة ، بل جزم به فريق.

وأمّا الاستشهاد بعدم الملازمة بين الظّن بالواقع والظّن برضا الشّارع بما دلّ على النّهي عن العمل بالظّن ، ففي غاية الغرابة. كيف! ونسبة النّواهي الواردة عن العمل بغير العلم إلى الظّن بالواقع والظّن بالطّريق على حدّ سواء. ومن هنا ذكرنا الحكم بحرمة كلّ من القسمين واقعا مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن هذا.

٥٤٢

في توضيح ما أفاده الشيخ الأعظم في الجواب

عن كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره

فإن شئت توضيح ما ذكرنا فاستمع لما يتلى عليك تمام السّماع فنقول : إنّ التّكليف الإلزامي سواء كان إيجابا أو تحريما لا يخلو عن قسمين :

أحدهما : تعبّدي يعتبر في سقوطه قصد الامتثال والإطاعة.

ثانيهما : توصّلي يسقط عن المكلّف بإيجاد متعلّقه كيفما اتّفق ولو في ضمن الحرام بل ربّما يسقط بوجود متعلّقه كذلك.

والأمارة القائمة على الأحكام سواء كانت مفيدة للظّن وإن لم يظنّ حجيّته ، أو ظنّ حجيّته وإن لم تكن مفيدة للظّن ، قد تقوم على الحكم الإلزامي في الشّبهات الحكميّة التّكليفيّة ، وقد تقوم على الحكم الغير الإلزامي في تلك الشّبهات ، وقد تقوم على تعيين المكلّف به في موارد الشّك في المكلّف به.

فإن قام على الحكم الإلزامي في الشّبهات التّكليفيّة فالاستناد إليه وجعله حجّة مع قطع النّظر عن حكم العقل حرام مطلقا ، وإن كان موجبا لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير مصادفته له في نفس الأمر لو كان توصّليّا ، كما أنّ الأخذ به بعنوان الاحتياط في تحصيل الواقع حسن مطلقا ، بل واجب بهذا العنوان ، مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن بالنّظر إلى العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة ،

٥٤٣

وموجب لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير المصادفة في نفس الأمر.

ولو كان التّكليف تعبّديّا وإن لم يترتّب عليه آثار الواقع ظاهرا ؛ من حيث إنّ الإتيان به كان بعنوان الاحتياط لا بعنوان الواقع ، كما يؤتى به بهذا العنوان على تقدير حجيّة الظّن ويترتب عليه جميع آثار الواقع ظاهرا.

وإن قام على الحكم الغير الإلزامي فيما يحتمل الحكم الإلزامي ، فالتّدين به وترتيب الآثار عليه حرام أيضا مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، بل العمل عليه حرام مطلقا بالحرمة الإرشادّية ، وإن لم يكن بعنوان التّديّن ؛ نظرا إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط في مورده من جهة العلم الإجمالي الكلّي وإن كان جائزا لولاه.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم حكم ما لو قام على تعيين المكلّف به ؛ فإنّه مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، لا يجوز الأخذ بمفاده والبناء على التعيين والاستناد إليه مطلقا وإن كان موجبا لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير كونه توصّليا فيما لو صادف الواقع. كما أنّ الاحتياط في مورده بالبناء على الجمع بين ما قام عليه والطّرف الآخر حسن ، بل واجب بالملاحظة الّتي عرفتها وموجب لسقوط الخطاب الواقعي ولو في التعبّديّات ، إلاّ أنّه في المعنى إلقاء للظّن حقيقة كما لا يخفى ، هذا كلّه مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن.

وأمّا إذا لوحظ حكمه فالاستناد إليه جائز في جميع الصّور ، كما أن العمل به موجب لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير المصادفة ، ولو كان تعبديّا وغير

٥٤٤

موجب لسقوطه مطلقا على تقدير عدم المصادفة في نفس الأمر ، وإن كان الحكم البناء على السقوط مطلقا في مرحلة الظّن ؛ من حيث البناء على كونه حجّة وموافقا للواقع في مرحلة الظّاهر. كما أنّ العقاب على مخالفته قبيح عند عدم المصادفة ، بعد حكم العقل بحجيّته ، أو كشفه عن كونه حجّة بحكم الشارع ؛ فإنّه بناء على الحكومة يستكشف عن حكم الشارع بحجيّته ، ولو من باب الإمضاء ، على ما قرّر في محلّه ؛ من ثبوت الملازمة حسبما ستقف عليه فيما سيتلى عليك في التّنبيه الثّاني.

وكيف ما كان : يحكم العقل بمعذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع المرتّبة على سلوكه ، كما أنّه يحكم قطعا بعدم معذوريّته على تقدير المخالفة على تقدير عدم حجيّته كما هو واضح ، فالظّن بالحكم الإلزامي يلازم الظّن بسقوط الخطاب الإلزامي في التّوصّليّات مطلقا ، وفي التّعبديّات إذا أتي بالفعل ببعض العنوانات الّذي عرفته لا مطلقا. وأمّا الظّن بالطّريق الّذي لا يفيد الظّن بالواقع فلا يظنّ منه سقوط الخطاب الواقعي مطلقا ، ولو في التّوصّليات ؛ حيث إنّ المفروض عدم إيجابه للظّن بالواقع ، وأمّا الخطاب المتعلّق بالطّريق المفروض كونه مظنونا وإن كان المظنون سقوطه مطلقا بسلوك الطّريق ؛ نظرا إلى تعلّق الظّن به ، إلاّ أنّه خطاب تبعيّ غيريّ توصّلي ليس مطلوبا بالذّات حتّى يترتّب عليه أثر وفائدة هذا.

مع أنّك قد عرفت : أنّ الخطاب المتعلّق بالطريق إنّما يقتضي الاستناد إليه وهو محرم قطعا فيما لو يعلم به فسلوك الطّريق الّذي كانت حجيّته في نفس الأمر

٥٤٥

محرّمة بالأدلّة الأربعة عند عدم العلم به ولو كان مصادفا للواقع. فكيف يمكن أن يجعل الظّن به ظنّا بالبراءة عن الواقع مطلقا؟

نعم ، الظّن به ظنّ بسقوط الخطاب المتعلّق بالطّريق حيث أنّه توصّلي مطلقا فهو إنّما يفيد فيما لو كان التّكليف بالطّريق في عرض التّكليف بالواقع ، وليس الأمر كذلك حيث إنّه عينه بناء ، وغيره حقيقة مع كونه غيريّا توصّليا فتدبّر.

فما أفاده : من أنّ الظّن بالطّريق ظنّ بالبراءة دون الظّن بالواقع لم يعلم له معنى محصّل. وأمّا الاستشهاد لذلك : بأنّه قد يحصل الظّن بالواقع ممّا يقطع بحرمة سلوكه ، فكيف يكون موجبا للظّن بالبراءة؟

ففيه : أوّلا : أنّه قد يحصل الظّن بالطّريق أيضا ممّا يقطع بحرمة سلوكه كالقياس وأشباهه.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما يمنع من الظّن بالبراءة لو كان المراد منها رضا الشّارع بالعمل به ، لا سقوط الخطاب الواقعي ؛ فإنّه يظنّ منه ذلك فيما لو كان توصّليا وإن كان العمل بالظّن المفروض حراما هذا.

فإن شئت قلت : الظّن بالحكم الشّرعي الفرعي وبما يكون طريقا إليه بعد تماميّة مقدّمات دليل الانسداد في حكم العقل بمنزلة العلم بهما سواء كان الحكم المذكور تعبّديّا أو توصّليا ، من غير فرق بينهما إلاّ في كون اعتبار العلم ذاتيا نفسيّا واعتبار الظّن بحكم العقل الكاشف عن حكم الشّرع ؛ فإنّ الموافقة الظنيّة في حكمه

٥٤٦

بمنزلة الموافقة العلميّة بعد الملاحظة المذكورة ، والبراءة بمعنى سقوط العقاب يحصل يقينا بملاحظة حكم العقل المذكور ولو خالف الظّن الواقع ، من غير فرق بين الظّن بالواقع والظن بما جعل طريقا إليه ما دامت الأمارة قائمة ، من غير فرق بين التّوصّلي والتّعبّدي ولا يلزم حصوله بمعنى آخر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما أفاده : من تسليم كون الظّن بالواقع ملازما للظّن بالبراءة عن الواقع من حيث أنّه واقع ، لا للظّن بالبراءة عنه في حكم المكلّف ، لا محصّل له أيضا إلاّ بدعوى تقييد الواقع بالطّريق كما هو صريح كلامه في الوجه الثّاني من الوجوه الّتي ذكرها لإثبات مرامه وسيجيء نقله ، وليس مبنى هذا الوجه عليه ، مع أنّك قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

مع أنّك قد عرفت : أنّ جعل الطّريق ليس معناه حصول البراءة بسلوكه كيفما اتّفق ، بل معناه حسبما عرفت مرارا : تنزيل مؤدّى الطّريق منزلة الواقع ، فهو عين الواقع بالجعل الظّاهري وغيره حقيقة. وإن كان الملحوظ في الأمر المتعلّق به كونه غالب الإيصال إلى الواقع وكاشفا عنه ومرآة له ، فليس إلاّ أمرا تبعيّا غيريّا مقدّميّا فلا يكون سلوك الطّريق مطلوبا بالذّات فضلا من أن يكون أولى من الواقع أو قيدا له. مع أنّ هذا الوجه ليس مبناه على العلم الإجمالي بجعل الطّريق كما هو مبنى الوجه السّابق في الكتاب المذكور وفي « الفصول » أيضا. فكيف يمكن تقييد الخطابات الواقعيّة بمساعدة الطّريق عليها؟

وأمّا رابعا : فلأن ما أفاده : من تسليم حجيّة الظّن بالواقع مع فرض انسداد

٥٤٧

باب الظّن بالطّريق فجعل هناك ثلاث مراتب متدرّجة مترتّبة لم يعلم له محصّل أيضا مع فرض البناء على تقييد الواقع بمؤدّى الطّريق ؛ إذ غاية ما يمكن أن يوجّه به على ما فرضوه أن يقال : إنّ العقل مستقلّ بلزوم تحصيل العلم بالبراءة أوّلا في حكم الشّارع بتحصيل العلم بالطّريق ، أو العلم بالواقع الّذي هو طريق إليه بحكم الشارع ، ومع انسداد بابه يحكم بلزوم تحصيل الظّن بالبراءة الّذي لا يحصل إلاّ من الظّن بالطّريق ، ومع انسداده يحكم بلزوم تحصيل احتمال البراءة الّذي هو آخر مراتب الإطاعة في حكم العقل ، وهو حاصل في الظّن بالواقع الّذي لم يعلم عدم حجيّته كما هو المفروض عند كلا الفريقين.

فهو إنّما يحكم بحجيّة الظّن بالواقع في الموضوع الّذي عرفته من حيث حصول احتمال البراءة به من حيث احتمال كونه طريقا وحجّة في حكم الشارع ، لا من حيث إنّه ظنّ بالواقع حتّى يتوجّه عليه : أنّه بعد تقييد الواقع بالطّريق لا معنى للحكم بحجيّة الظّن المتعلّق بالواقع أصلا ؛ حتّى مع فرض انسداد باب الظّن بالطّريق.

لكن يتوجّه عليه ـ بعد تسليم المقدّمات المذكورة ـ : أنّ اللاّزم عليه على ما ذكر الفرق في الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة بين مشكوك الاعتبار منها والموهوم ، بل اللاّزم عليه بعد فرض عدم كفاية مشكوك الاعتبار الفرق بين مراتب الوهم ، كما أنّ اللاّزم عليه التّعميم حينئذ بالنّسبة إلى الظّن بالواقع والطّريق المشكوك الاعتبار ، أو موهومه ، مع عدم إفادته للظّن بالواقع كما هو ظاهر.

وما يقال ـ في التفصّي عمّا ذكر ـ : من أنّ المفروض في كلام المستدلّ

٥٤٨

تسوية الظّنون القائمة على الحكم الفرعي الواقعي فلا يتوجه عليه الإيراد المذكور.

فاسد جدّا ؛ لأنّ المفروض في كلامه الّذي عرفته كما هو صريحه ، التسوية من جهة عدم قيام الظن باعتبار بعضها لا التسوية من جميع الجهات فلا مناص عن الإيراد المذكور.

اللهمّ إلاّ أن يتشبّث للتّعميم بين الظّنون القائمة على الأحكام الواقعيّة من غير فرق بين المشكوك اعتباره وموهومه بذيل الإجماع بسيطا أو مركبا وهو كما ترى ، بمكان من الضّعف والسّقوط.

ثمّ إنّ مراده قدس‌سره من لزوم الأخذ بأقوى الظّنون القائمة على الأحكام الواقعيّة في حكم العقل عند انسداد باب الظّن بالطّريق إذا تعارضت ، ليس التّعارض الحقيقي. كيف! ولا يمكن اجتماع الظّنين الشّخصيّين في مسألة على طرفي النّقيض ، بل المراد : التّعارض الصّوري بين الأمارتين المقتضيتين للظّن فيكون مفاد الأقوى ظنّا والضّعيف وهما فيؤول إلى اجتماع الظّن والوهم حقيقة ، على ما عرفت الإشارة إليه من كلامه فيما قام ظنّ على عدم حجيّة الظنّ الّذي يدخل في مسألة المانع والممنوع الّتي يأتي البحث عنها في « الكتاب ».

ثمّ إنّ هنا مناقشات أخر ، قد طوينا عن التّعرض لها خوفا من إطالة الكلام ، مضافا إلى أنّه بعد التّأمّل فيما تعرّضنا له يمكن الإحاطة بها والالتفات إليها فلا فائدة في ذكرها.

٥٤٩

(٢٩٥) قوله قدس‌سره : ( ثمّ شرع في إبطال دعوى حصول العلم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٦ )

كلام صاحب الحاشية في أن خبر الثقة لا يفيد العلم بالواقع

أقول : الأولى نقل كلامه قدس‌سره في هذا المقام لترتّب بعض الفوائد عليه قال قدس‌سره : « والقول : بإفادة قول الثّقة ، القطع بالنّسبة إلى السّامع منه بطريق المشافهة ـ نظرا إلى أنّ العلم بعدالته والوقوف على أحواله يوجب العلم العادي بعدم اجتراءه على الكذب ، كما هو معلوم عندنا بالنّسبة إلى كثير من الأخبار العاديّة سيّما مع انضمام بعض القرائن القائمة ـ مجازفة بيّنة ؛ إذ بعد فرض المعرفة بالعدالة بطريق اليقين مع عدم اعتبارها في الشّرع المبين ، كيف يمكن دعوى القطع؟ مع انفتاح أبواب السّهو والنّسيان وسوء الفهم سيّما بالنّسبة إلى الأحكام البعيدة عن الأذهان كما نشاهد ذلك في أفهام العلماء ، فضلا عن العوام.

مضافا إلى قيام احتمال النّسخ في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ آن ، ومع ذلك لم يوجب على جميع أهل بلده التجسّس بما يفيد العلم بعدمه في كلّ زمان بل كانوا يبنون على الحكم الوارد إلى أن يصل إليهم نسخه ، هذا كلّه بالنّسبة إلى البلدة الّتي فيها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ، فكيف بالنّسبة إلى سائر الأماكن والبلدان سيّما الأقطار البعيدة والبلاد النائية؟

ومن الواضح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي منهم بالأخذ بالأخبار الواردة عليهم بتوسّط الثّقات كما يدلّ عليه آية النّفر ، والطّريقة الجارية المستمرّة المقطوعة ، ولم

٥٥٠

يوجب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما على كلّ من لم يتمكّن من العلم المهاجرة ونحوها ، أو أخذ الأحكام على سبيل التّواتر ونحوه ، وكذا الحال في الأئمّة عليهما‌السلام. وذلك أمر معلوم من ملاحظة أحوال السّلف والرّجوع إلى كتب الرّجال ، وإنكاره يشبه إنكار الضّروريات وليس ذلك إلاّ للاكتفاء بالأخذ بطرق ظنيّة.

ودعوى حصول العلم بالواقع ، من الأمور البعيدة خصوصا بالنّسبة إلى البلاد النّائية سيّما بعد ما كثرت الكذّابة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهما‌السلام حتّى قام خطيبا في ذلك (١) ، ونادى به الأئمّة عليهما‌السلام كما يظهر من ملاحظة الأخبار (٢) ، وما يتراءى من دعوى « السيّد » وغيره إمكان حصول القطع بالأحكام في تلك الأعصار ممّا يقطع بخلافه ، ويشهد له شهادة الشّيخ رحمه‌الله وغيره بامتناعه. والظّاهر أنّ تلك الكلمات مؤوّلة بما لا يخالف ما قلناه لبعد تلك الدّعوى من أضرابه.

وممّا ينادي بعدم بناء الأمر على تحصيل القطع ، ملاحظة حال العوامّ مع المجتهدين ؛ فإنّ من البيّن عدم وجوب تحصيل القطع عليهم بفتاوى المجتهد على حسب المكنة ، بل يجوز لهم الأخذ عن الواسطة العادلة مع التّمكن من العلم بلا

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٢ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٢٠٦ باب « عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي عن غير جهة الأئمة عليهم‌السلام ما لم يعلم تفسيره منهم » ـ ح ١.

(٢) أنظر اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي قدس‌سره ( رجال الكشي ) : ج ٢ / ٤٨٩ ـ ح ٤٠١ وص ٤٩١ ـ ح ٤٠٢.

٥٥١

ريبة. وعليه جرت طريقة الشّيعة في سائر الأزمنة ، بل الظّاهر أنّه ممّا أطبقت عليه سائر الفرق أيضا. وهل كان الحال في الرّجوع إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهما‌السلام في ذلك العصر ، إلاّ كحال العوامّ في هذه الأعصار في الرّجوع إلى المجتهدين؟

فبملاحظة جميع ما ذكرناه : يحصل القطع بتجويز الشّارع العمل بغير العلم في الجملة مع انفتاح طريق العلم ، سيّما مع ملاحظة ما في التّكليف بالعلم في خصوصيات الأحكام من الجرح التّام بالنّسبة إلى الخواص والعوام ، وهو ممّا لا يناسب هذه الشّريعة السّمحة السّهلة الّتي رفع عنها الحرج والمشقّة ، ووضعت على كمال التّيسّر والسّهولة.

ويشهد بذلك أيضا ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام ؛ فإنّه اكتفى الشّارع في إثباتها بطرق مخصوصة من غير التزام بتحصيل العلم بها بالخصوص ، لما فيه من الحرج والمشقّة في كثير من الصّور. فإذا كان الحال في الموضوعات على الوجه المذكور ، مع أنّ تحصيل العلم بها أسهل فذلك بالنّسبة إلى الأحكام أولى.

وأيضا من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل وتحصيل العلم به إنّما هو من جهة العلم بصحّة العمل وأدائه مطابقا للواقع. ومن البيّن أنّ صحّة العمل كما يتوقّف على العلم بالحكم كذلك يتوقّف على العلم بالموضوع ، فالاقتصار على خصوص العلم بالنّسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحّة العمل بالنّظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع. وليس المحصّل للمكلّف حينئذ بالنّسبة إلى

٥٥٢

العمل إلاّ العلم بمطابقة العمل لظاهر الشّريعة والقطع بالخروج عن العهدة في حكم الشارع ، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنّسبة إلى العلمين (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عرفت ـ ممّا قدّمنا في مسألة حجيّة الأخبار من حيث الخصوص ـ : أنّا لا نضايق من القول بحجيّة خبر الثّقة في الأحكام الشّرعيّة من حيث الخصوص لكن بالعنوان الّذي عرفت شرحه عن قريب ، لا أن يكون هو المناط والمدار في التّكليف.

(٢٩٦) قوله قدس‌سره : ( أنّ الحاصل : أنّ سلوك الطّريق المجعول مطلقا أو عند تعذّر العلم ...إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٩ )

سلوك الطريق لا يوجب رفع الواقع عند المخالفة

أقول : قد عرفت شرح القول في ذلك وأنّ الأمر بسلوك الطّريق من حيث هو أمر تبعيّ غيريّ لا يؤثر موافقة الاتّفاقيّة في سقوط الخطابات الواقعيّة أصلا عند المخالفة ، بل امتثاله مع العلم به لا يجدي شيئا في سقوط الخطاب الواقعي.

نعم ، يحكم العقل بكون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع المسبّبة عن سلوك الطّريق فيما لو أسند إليه مع ثبوته بالعلم أو الظّن المعتبر ، فمجرّد موافقته من

__________________

(١) هداية المسترشدين ج ٣ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٥٥٣

دون استناد إليه لا يؤثر أصلا ؛ حتّى في سقوط الخطاب المتعلّق به ، فضلا عن الخطاب المتعلّق بالواقع. فليس العمل بالطّريق من دون استناد إليه مثل العمل بالواقع حتّى بالنّسبة إلى الخطاب المتعلّق بالطّريق على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فما أفاده شيخنا قدس‌سره في شرح المقام لا يخلو عن بعض المناقشات الواضح لمن أحاط خبرا بما قدّمنا في توضيح ذلك عن قريب عند الاعتراض على المحقّق المحشّي قدس‌سره فراجع.

ثمّ إنّ فيما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » في ردّ الوجهين وذكرنا في توضيحه وإن كان غنى وكفاية في تبيّن حال سائر الوجوه الّتي استند إليها المحقّق المحشّي في إثبات حجيّة الظّن في خصوص الطّريق ، في قبال القول بحجيّة الظّنّ على الإطلاق أو في خصوص الواقع ، إلاّ أنّ الأولى التعرض لها وبيان حالها إجمالا حسبما يساعدنا التّوفيق ، ولكن لا بدّ من التّعرّض للوجه الأوّل المذكور في « الكتاب » الّذي ذكره المحقّق المحشّي ثاني الوجوه أوّلا مع التّعرض لما يرد عليه ، ثمّ نتعرّض لباقي الوجوه فإنّ بينه وبين ما حكاه شيخنا قدس‌سره عن أخيه في « الفصول » فرقا ، فإنّه قال ـ في عداد الوجوه ما هذا لفظه ـ :

« الثاني : أنّه كما قرّر الشّارع أحكاما واقعيّة ، كذا قرر طريقا للوصول إليها ؛ إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظّن ، أو غيرهما ، قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك مفتوحا ، فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع بالوصول إلى الواقع ؛ من غير خلاف فيه بين

٥٥٤

الفريقين. وإن انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرّجوع إلى الظّن به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيّا حينئذ إلى الواقع ؛ نظرا إلى أنّ القطع ببقاء التّكليف بالرّجوع إلى الطّريق وقطع العقل بقيام الظّن في مقام العلم حسبما عرفت ويأتي. فالحجّة إذن ما يظنّ كونه حجّة وطريقا إلى الوصول إلى الأحكام وذلك إنّما يكون لقيام الأدلّة الظنيّة على كونه كذلك ، وليس ذلك إثباتا للظّن بالظّن حسبما قد يتوهّم ، بل تنزّلا من العلم بما جعله الشّارع طريقا إلى ما يظنّ كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسبما مرّت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدّم » (١).

سائر الوجوه التي تمسّك بها المحقّق المحشّي

ثمّ ساق الكلام فيما يورد على هذا الوجه والجواب عنه إلى أن قال :

« ثالثها : أنّ الانتقال إلى الظّن بما جعله طريقا إنّما يكون مع العلم ببقاء التّكليف بالأخذ بالطّريق المقرّر بعد انسداد باب العلم به وهو ممنوع ؛ إذ لا ضرورة قاضية ببقاء التّكليف في تلك الخصوصيّة لو سلّم انسداد باب العلم بها بخلاف الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّ بعد انسداد باب العلم بها قد قامت الضّرورة ببقاء التّكليف ، وإلاّ لزم الخروج عن الدّين. وهو أيضا في الوهن نظير سابقته ؛ إذ من الواضح أنّ للشّارع حكما في شأن من انسدّ عليه سبيل العلم من وجوب عمله

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨.

٥٥٥

بمقتضى الظّن ، أو الظّن الخاصّ ، فلا نعني نحن بالطّريق المقرّر إلاّ ذلك. وحينئذ كيف يمكن منعه؟ مع أنّ الضّرورة القاضية به بعد القطع ببقاء التّكليف ؛ أوضح من الضّرورة القاضية ببقاء التّكليف إذ مع البناء عليه لا مجال لأن يستريب ذو مسكة فيه مع قطع النّظر عن ضرورة الدّين القاضية ببقاء الأحكام.

فإذا علم ثبوت طريق للشّارع في شأنه حينئذ من الأخذ بمطلق الظّن أو غيره ، تعيّن تحصيل العلم به أولا ، فإن قام عليه دليل قطعيّ من قبله كما يدّعيه القائل بالظّنون الخاصّة فلا كلام ، وإلاّ تعيّن الأخذ بما يظنّ كونه طريقا ولا يصحّ القول بالرّجوع إلى مطلق الظّن بالواقع من جهة الجهل المفروض ، بل قضيّة علمه بتعيين طريق عند الشّارع في شأنه وجهله من جهة انسداد سبيل العلم به ، هو الرّجوع إلى الظّن به أعني الأخذ بمقتضى الدّليل الظّني الدّال عليه ؛ حتّى يحصل له القطع من ذلك بكونه الحجّة عليه بضميمة الدّليل المذكور وذلك حاصل في جهة الظّنون الخاصّة دون مطلق الظّن.

نعم ، لو لم يكن هناك طريق خاصّ يظنّ حجيّته ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللاّزم من الأحكام وتساوت الظّنون بالنّسبة إلى ذلك مع القطع بوجوب الرّجوع إلى الظّن في الجملة ، كان الجميع حجّة حسبما مرّ ونحن نسلّمه ، إلاّ أنّه ليس الحال كذلك في المقام.

رابعها : أنّه إن أريد بذلك حصول العلم الإجماليّ بأنّ الشّارع قد قرّر طريقا لإدراك الأحكام الواقعيّة والوصول إليها فكلّفنا في واقعة بالبناء على شيء كما هو

٥٥٦

مقتضى الإجماع والضّرورة فمسلّم ، ولكن نقول : هو ظنّ المجتهد مطلقا من أيّ سبب كان من الأسباب التي لم يعلم عدم الاعتداد بها. وإن كان المراد القطع بأنّ الشّارع قد وضع طريقا تعبّديّا كالبيّنة للوصول إلى الأحكام فممنوع ، فأين القطع به؟ بل خلافه من المسلّمات لقيام الإجماع والضّرورة على توقّف التّكليف على الإدراك والفهم وأقلّه الظّن بالواقع » (١).

في بيان فساد الوجوه المذكورة

« وهذا أوضح فسادا من الوجوه المتقدّمة :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما سلّمه من تعيين طريق من الشّارع للوصول إلى الأحكام مدّعيا قضاء الضّرورة به هو عين ما أنكره أوّلا : وحينئذ فقوله : « إنّا نقول : إنّ ذلك الطّريق هو مطلق الظّن » بيّن الفساد ؛ فإنّه إن كان ذلك من جهة اقتضاء انسداد سبيل العلم وبقاء التّكليف له فهو خلاف الواقع ، فإنّ مقتضاه بعد التّأمّل فيما قرّرناه هو ما ذكرناه دون ما توهّموه. وإن كان لقيام دليل آخر عليه فلا كلام لكن أنّى له بذلك؟

وأمّا ثانيا : فإنّه لا مانع من تقرير الشّارع طرقا تعبّديّة للوصول إلى الأحكام كما قرّر طرقا بالنّسبة إلى الموضوعات ، بل نقول : إنّ الأدّلة الفقهائية كلّها من هذا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٥٥٧

القبيل بل وكذا كثير من أدلّة الاجتهاديّة حسبما فصّلنا القول فيها في محلّ آخر.

وأمّا ثالثا : فبأنّ ما ذكره من التّرديد ممّا لا وجه له أصلا ؛ فإنّ المقصود من المقدّمة المذكورة تعيّن طريق إلى ذلك عند الشّارع في الجملة من غير حاجة إلى بيان الخصوصيّة. فما ذكره من التّرديد خارج عن قانون المناظرة.

ويمكن الإيراد في المقام : بأنّه كما انسدّ سبيل العلم بالطّريق المقرّر كذا انسدّ سبيل العلم بالأحكام المقرّرة في الشّريعة ، وكما ينتقل من العلم بالطريق المقرّر بعد انسداد سبيله إلى الظّن به ، فكذا ينتقل من العلم بالأحكام الشّرعيّة إلى ظنّها تنزّلا من العلم إلى الظّن في المقامين ؛ لكون العلم طريقا قطعيّا إلى الأمرين ؛ فبعد انسداد طريقه يؤخذ بالظّن بهما.

فغاية ما يستفاد إذن من الوجه المذكور كون الظّن بالطّريق أيضا حجّة كالظّنّ بالواقع ، ولا يستفاد منه حجيّة الظّنون الخاصّة دون مطلق الظّن ، بل قضيّة ما ذكر حجيّة الأمرين ، ولا يأبى منه القائل بحجيّة مطلق الظّن ، وإن أضيف إليه شيء آخر أيضا.

ويدفعه : أنّه لمّا كان المطلوب أداء ما هو الواقع لكن من الطّريق الّذي قرّره الشّارع ، فإن حصل العلم بذلك الطّريق وأدّاه كذلك فلا كلام. وكذا إن أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ، فإنّ العلم طريق إليه قطعا سواء اعتبره الشّارع بخصوصه في المقام أولا ، وسواء حصل له العلم بالطّريق الّذي قرّره الشّارع أولا ، للاكتفاء بأداء الواقع أيضا ، بل يتعيّن الأخذ به على تقدير انسداد سبيل العلم

٥٥٨

بالطّريق المقرّر وانفتاح سبيل العلم بالواقع. وأمّا إذا انسدّ سبيل العلم بالأمرين ، تعيّن الأخذ بالظّن بالطريق ، دون الظّن بالواقع لأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق بذلك ، وأداء الواقع على حسب الطّريق. وأمّا الأخذ بمطلق الظّن بالواقع فليس فيه أداء التّكليف المتعلّق بالطّريق لا علما ولا ظنّا.

وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداء لما هو الواقع من طريقه قطعا ، لا يستلزم أن يكون الظّن بأداء الواقع أداء للواقع على سبيل الظّن ، مع الظن بكونه من طريقه ؛ لوضوح أنّ كون العلم طريقا قطعيّا لا يستلزم أن يكون الظّن طريقا ظنيّا ؛ إذ قد لا يكون طريقا أصلا ، فليس في أدائه كذلك علم بأداء ما هو الواقع ، ولا بأدائه على الوجه المقرّر ، ولا ظنّ بأدائه على الوجه المقرّر ، وإنّما هو ظنّ بأداء الواقع لا غير » (١).

إلى أن قال :

« فإن قلت : إنّه كما قام الظّن بالطّريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظّن بالواقع مقام العلم به حينئذ؟ وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أن الظّن بالطّريق بمنزلة العلم به فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل أيضا بالظّن مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التّكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطّريق المقرّر مستقلاّ.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨ ـ ٣٦١.

٥٥٩

صحّ ذلك لقيام الظّن في كلّ من التّكليفين مقام العلم به مع قطع النّظر عن الآخر. وأمّا إذا كان أحد التّكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له فمجرّد حصول الظّن بأحدهما من دون حصول الظّن بالآخر الّذي قيّد به ، لا يقتضي الحكم بالبراءة.

وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ؛ نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقا إلى الواقع في حكم العقل والشّرع ، فلو كان الظّن بالواقع ظنّا بالطّريق أيضا جرى الكلام المذكور في صورة الظّن أيضا ، لكنّه ليس كذلك ولذا لا يحكم بالبراءة حسبما قلنا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وممّا ذكره أخيرا يظهر : أنّ مراده من حكمه باكتفاء أداء الواقع أيضا في طيّ كلماته ليس من جهة كفاية نفس أداء الواقع من حيث هو ، بل من جهة كونه حاصلا من الطّريق وهو العلم.

فيما يرد على كلامه المزبور

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما عرفت في مطاوي ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الإيراد على الوجه الأوّل ـ :

أوّلا : بأنّ التّرديد الّذي ذكره في عنوان هذا الوجه بين العلم ومطلق الظّن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٩ ـ ٣٦٢.

٥٦٠