بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

ويدفعه : أنّ المطلوب لمّا كان أداء الواقع لكن من الطّريق الّذي قرّره الشّارع فإن حصل العلم بذلك الطّريق وأدّاه كذلك فلا كلام ، وكذا إن أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ؛ فإنّ العلم طريق إليه قطعا ، وأمّا إذا انسدّ سبيل العلم بالأمرين تعيّن الأخذ بالظّن بالطّريق دون الظّن بالواقع لأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق بذلك ، وأداء الواقع به على حسب الطريق.

وأما الأخذ بمطلق الظن بالواقع فليس فيه أداء التكليف المتعلق بالطريق لا علما ولا ظنّا ، وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداء لما هو الواقع عن طريقه قطعا لا يستلزم أن يكون الظّن طريقا ظنيّا ؛ إذ قد لا يكون أصلا ، فليس في أدائه كذلك علم بأداء ما هو الواقع ولا بأدائه على الوجه المقرّر ، وإنّما هو ظنّ بأداء الواقع لا غير ، فلا يؤدّى به التّكليف المتعلّق بالطّريق مطلقا ويبقى الخروج عن عهدة التّكليف المتعلّق بالطّريق في محلّ الشّك ؛ إذ لا يعلم ولا يظنّ بأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق فلا علم ولا ظنّ بأداء الفعل على الوجه الّذي قرّره الشّارع ولا يمكن معه الحكم بالبراءة.

فإن قلت : إنّه كما قام الظّن بالطّريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظّن بالواقع مقام العلم بالواقع حينئذ؟ فإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أنّ الظّن بالطّريق بمنزلة العلم به ، فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل بالظّن أيضا مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التّكليف المعلّق بكلّ من الفعل والطّريق المقرّر مستقلاّ ،

٥٢١

صحّ ذلك لقيام الظّن بكلّ من التّكليفين مقام العلم به مع قطع النّظر عن الآخر ، وأمّا إذا كان أحد التّكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له فمجرّد حصول الظّن بأحدهما من دون حصول الظّن بالآخر الّذي قيّد به لا يقتضي الحكم بالبراءة (١) ... ». إلى آخر ما نقله عنه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (٢) (٣).

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦١.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٥٥.

(٣) ذكر الفاضل الشيخ محمد ابراهيم اليزدي ـ مقرّر بحث السيّد صاحب العروة في ضمن تعليقه على عبارة الشيخ الأعظم في الفرائد : ج ١ / ٤٥٩ قوله : « ومنشأ ما ذكره قدس‌سره تخيّل ان نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول ... إلى آخره » عن استاذه المزبور السيد محمد كاظم اليزدي طاب ثراه أنّه حكى عن أستاذه الشيخ محمد باقر [ من قدماء تلامذة الشيخ الأعظم قدس‌سره وأخص تلامذته به وكان قد قرأ كتاب والده هداية المسترشدين على الشيخ الأعظم في المنزل ] ولد المحقق المذكور [ صاحب الحاشية الشيخ محمد تقي ] ـ :

أنه أخطأ المصنّف في فهم كلام المحقق [ صاحب الحاشية ] وقال : إن مراده انه يجب في حكم العقل أوّلا تحصيل العلم برضاء الشارع بما يعمله المكلّف من موافقة الواقع أو الطريق ، فلو إنسد باب العلم يجب في حكم العقل تحصيل الظن برضاء الشارع بما يعمله بأيّ وجه من أيّ طريق حصل ذلك الظن بالرضا ، وإنكار هذا المعنى مكابرة.

فمراده من الظن بالطريق هو الظن بما يرضى به الشارع فعلا من المكلّف واستشهد على استفادة هذا المعنى من كلامه بتعبيره بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف وحكم الشارع مرارا متعددة فتدبر.

٥٢٢

مراد المحقق المذكور

وظاهر أنّ مراده تقييد الحكم الواقعي والتّكليف النّفس الأمري بالطّرق المقرّرة المعتبرة شرعا من غير فرق بين العلم وغيره حسبما زعمه من كون العلم أيضا مجعولا شرعا وعقلا مع بقاء الإطلاق للتّكليف بالطّريق ، فالمكلف به من الواقع الّذي قام به الطّريق ومن الطّريق ما قضى بحكم سواء طابق التّكليف الواقعي أو خالف ، فلا يكون كلّ منهما مستقلاّ حتّى يحكم بحجيّة الظّن المتعلّق به

__________________

وهذا المعنى لا يرد عليه بشيء مما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله.

ثم أورد السيدة عدة من الإشكالات على هذا البيان.

وكان قد أفاد السيّد اليزدي قبل ذلك ( فيما يخصّ عبارة الشيخ المذكورة آنفا ) :

[ أن ] هذا التخيّل بعيد عن ساحه جلالة هذا المحقّق النحرير ؛ لأن من الواضح أنه يجب تحصيل طريق إلى مطلق المجعولات الشرعيّة سواء كان ذلك المجعول حكما شرعيّا أو طريقا جعليّا فالعلم بالواقع والعلم بالطريق المجعول في عرض واحد ، كما أن نفس الحكم الواقعي والطريق المجعول أيضا في عرض واحد فكيف يشتبه هذا على مثل ذلك المحقّق؟!

ثم يستفاد من كلام المصنّف أن هذا التخيّل ينتج مقصود المحقّق لو كان حقّا ، وهو غير واضح ؛ إذ لو سلّمنا أن العمل بنفس الطريق كالعمل بالعلم بالواقع ملازم للقطع بالتفريغ لا نسلّم أنّ الظنّ بالطريق يلازم الظن بتفريغ الذمّة بعد كون هذا الظن مشكوك الحجّيّة فتدبّر.

أنظر حاشية الفرائد : ج ١ / ٦٠٩.

٥٢٣

وإن انفك عن الظّن بالآخر ، بل التّكليف بالطّريق مستقلّ فيقوم الظّن به مع انسداد باب العلم به مقام العلم به ، والتّكليف بالواقع غير مستقلّ فلا يقوم الظّن به مقام العلم به.

ثمّ إنّه لمّا كان غير العلم من الطّرق الشّرعيّة لها واقعيّة ووجود نفس أمريّ ، فيمكن تعلّق كلّ من العلم والظّن به ، وأمّا العلم بالواقع فلمّا لم يكن له وجود واقعيّ بل تابع للوجدان وإن كان العالم قد يغفل عن علمه فلا يمكن تعلّق الظّن به ، فلا يقال : إنّه إذا أسلم طريقيّة العلم بالواقع فيمكن تعلّق الظّن به.

ما يرد على المحقق صاحب الحاشية

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ مرجع ما أفاده قدس‌سره كما ترى ، إلى حصر تكليف المكلّفين قاطبة في الطرق ليس إلاّ ، فإنّه بعد اعتبار الإطلاق من جانب التّكليف بالطّريق والتّقييد من جانب التّكليف بالواقع لا محصّل له إلاّ ذلك ؛ إذ التّقييد من جانب الطّريق أيضا يوجب ارتفاع الجعل بالنّسبة إلى الطّريق كما هو ظاهر مضافا إلى صراحة كلامه بخلافه ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك حتّى المصوّبة.

وثانيا : أنّ تقييد الواقع بالطّريق ووجود المحكي عنه في نفس الأمر لقيام الحاكي عليه سواء كان علما أو ظنّا مستلزم للدور لا محالة كما هو واضح ، فلو كان

٥٢٤

العلم معتبرا شرعا كالطّرق الظّنيّة والأمارات ، فلا بدّ أن يلتزم في مورده كمواردها بقضيّتين شرعيّتين :

إحداهما : واقعيّة ثابتة في نفس الأمر من غير أخذ أحد من الإدراكات فيها. والثّانية : ظاهريّة قد أخذ العلم بالواقع الأوّلي أو الظّن به في موضوعها ؛ حتّى لا يلزم هناك دور كما أسمعناك في البحث عن مسألة العلم.

وبالجملة : لا بدّ من أن يعتبر هناك متعلّق للعلم والظّن غير القضيّة التي أخذ أحدهما في موضوعها. ومن هنا ذكرنا في أوّل التّعليقة : أنّه يمكن أخذ العلم في القضيّة الشّرعيّة بالنّسبة إلى الموضوعات دون الأحكام ، إلاّ أن يكون هناك قضيّة اعتبر تعلّق العلم بها بالنّسبة إلى قضيّة أخرى.

فإن قلت : إنّ مراده من التكليف المقيّد بالطّريق هو التّكليف الفعلي الّذي هو مدار الإطاعة والمعصية ولوازمها من استحقاق الثّواب والعقاب وغيرهما على ما يفصح عنه كلماته قدس‌سره كما عرفت عن أخيه قدس‌سره في الوجه الأوّل فيعتبر تعلّق العلم أو الظّن بالحكم النّفس الأمري المطلق المعرّى عن جميع القيود والاعتبارات الإدراكيّة موضوعا للحكم الفعلي ، فيكون هنا قضيّتان ، فلا يلزم دور. فيندفع الإيراد الثّاني ، بل الأوّل عند التّأمل ؛ لأنّ الالتزام بانحصار التّكليف الفعلي بما قام به الطّريق المعتبر بقول مطلق من غير فرق بين العلم وغيره ممّا لا ضير فيه أصلا ، بل لا بدّ من الالتزام به ولا تعلّق لهذا بمسألة التّصويب ولا يقول المصوّبة به كيف! وهم ينكرون الأحكام الواقعيّة وثبوت القضيّتين بالمعنى الّذي عرفت.

٥٢٥

قلت : ما ذكر في دفع الإيراد توهّم فاسد وتمحّل بارد ، وإن تكرّر في كلمات القائلين بحجيّة الظّن بالطّريق ، بل في كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره فإنّ المجعول الشرعي إنّما هو الأحكام الواقعيّة والظّاهريّة ، وفعليّة الأحكام الواقعيّة وتنجّزها يتعلّق العلم بها ، أو الظّن المعتبر ، أو الشّك ، بل مجرّد الاحتمال ولو كان موهوما في مقام ليست من المجعولات الشّرعيّة ، بل إنّما هي من شؤونها ومراتبها بحكم العقل الحاكم في مسألة استحقاق العقاب ، فليس هنا قضيّتان شرعيّتان اعتبر العلم بإحداهما في موضوع الأخرى هذا.

وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في أوائل التّعليقة ، مع أنّ كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره يأبى عن الحمل على ذلك في المقام.

بقيّة الجواب الثاني عن دليل المحقّق المحشّي قدس‌سره

فإن قلت : إنّ المراد من التّكليف الآخر المقيّد هو التّكليف بوجوب الامتثال والإطاعة الّذي لا يمكن إنكار ثبوته في الشّرعيّات. كيف! وقد قضت به الأدلّة الثّلاثة وإن حكم به العقل أيضا.

قلت : ما دلّ من الأدلة الشّرعيّة على وجوب الامتثال بالوجوب الإرشادي إنّما هو إمضاء وتأكيد لما حكم به العقل المستقلّ وإلاّ فليس الامتثال وإطاعة المولى أمرا يقبل تعلّق التّكليف الشّرعي به فلو قيّد بشيء فلا بدّ أن يقيّده العقل.

٥٢٦

وقد عرفت : أنّ العقل قد يحكم بوجوب الامتثال مع الشّك بل الاحتمال أيضا ، فليس هنا تكليف شرعيّ قيّد بالطّريق.

فإن شئت قلت : إنّ وجوب الامتثال غير مقيّد بشيء من الأشياء. نعم ، نفس الامتثال لا يتحقّق إلاّ بجعل الدّاعي على الفعل الأمر الشّرعي الواقعي سواء علم أو ظنّ أو احتمل من غير فرق بين هذه الحالات ، ومن غير فرق بين التّعبديّات والتوصّليات ، غاية ما هناك سقوط الأمر في التّوصليات بإتيان الواجب من دون أن يأتي بالدّاعي المذكور ولو مع الغفلة ، أو في ضمن الحرام ، ولكن الامتثال لا يتحقّق إلا بما ذكر.

فالأمر بالطّريق بما هو أمر به لا يقتضي امتثالا ولا إطاعة ؛ لأنّه غيري دائما وإنّما الاقتضاء للأمر الواقعي كما هو ظاهر هذا. وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إذا لم يكن التّكليف بالعمل بالطّريق مقيّدا لشيء من التّكاليف والأحكام ، والمفروض أنّه ليس تكليفا مستقلاّ في قبال التّكليف بالواقع على ما ذكرت فما معناه وحقيقته؟

قلت : التّكليف بالعمل بالطّريق مرجعه إلى جعل حكم ظاهري في نفس الأمر في موضوعة الّذي اعتبر فيه الجهل بحكمه المجعول له أوّلا وبالذّات ، وإن كان إرشاديّا فهو من سنخ الحكم الواقعي ، وإن لم يكن في مرتبته ولا يترتّب عليه جميع ما يترتّب عليه من اللوازم والآثار.

٥٢٧

نعم ، يلزم اكتفاء الشّارع به عن الواقع في حكم العقل بمعنى البناء عليه في حكمه ما دامت الأمارة قائمة ، ومعذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع في حكمه ، ما لم ينكشف مخالفته للواقع فهو حكم واقعي بمعنى وظاهري بمعنى. ومرجعه إلى ترخيص الشّارع بسلوكه في امتثال الواقع ، وإن جاز مع وجوده امتثال نفس الواقع من غير التفات إليه هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك وسيأتي تمامه فانتظر.

الجواب الثالث عن ذلك

وثالثا : أنّه لم يعلم المراد من كون العلم كالظّن المعتبر طريقا في الشّرع والعقل على ما هو المكرّر في كلامه وكلام أخيه قدس‌سره على ما في « الفصول ».

فإنّه إن أراد كشفه الذّاتي عن المعلوم ، فهو أمر ثابت له بحسب ذاته. كما أنّ الكشف الظّني للظّن أيضا ثابت له بحسب ذاته وإن لم يكن معتبرا من دون جعل من غير دخل للشّرع والعقل فيه أصلا. نعم ، لمّا كان هذا الأمر ثابتا فلا محالة يدركه الشّرع والعقل.

وإن أراد اعتباره كما هو الظّاهر من كلامه. ففيه ما عرفت مرارا : أنّ اعتبار العلم فيما كان الحكم ثابتا لذات المعلوم ككشفه ذاتي لا يمكن تعلّق الجعل به وإنّما يدركه الشّرع والعقل ككشفه الذّاتي ، وهذا بخلاف الظّنّ. ولو سلّم إمكانه فيصير كالظّن فيكون الحكم بوجوب العمل به غير الحكم المعلوم المجعول في نفس الأمر فيكون ثابتا وإن تخلّف عن الواقع ، كما أنّه ثابت وإن لم يتعلّق به العلم على ما عرفت سابقا.

٥٢٨

(٢٩٤) قوله قدس‌سره : ( إنتهى بألفاظه ). ( ج ١ / ٤٥٥ )

نقل بقيّة كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره

أقول : الأولى نقل باقي كلامه قدس‌سره ممّا يتعلّق بهذا الوجه لما يترتّب عليه من الفوائد المقصودة قال قدس‌سره ـ عقيب ما في « الكتاب » بلا فصل ـ :

فإن قلت : إن قام أوّلا طريق من الشّرع في الوصول إلى الحكم والحكم معه بتفريغ الذمّة عن التّكليف فلا كلام ، وإن لم يقم فالواجب أوّلا تحصيل العلم بالواقع ، فمع تعذّره ينوب منابه الظّن بالواقع. أو يقال : إن لم يقم طريق مقرّر من الشّرع للوصول إلى الواقع كان العلم هو الطّريق إلى الواقع وإن قام اكتفي بما جعله طريقا فإن لم يثبت عندنا ذلك أو ثبت وانسدّ سبيل العلم به ، كان المرجع هو العلم بالواقع ؛ إذ القدر المسلّم من التّكليف بالرّجوع إلى الطّريق إنّما هو مع العلم به وبعد انسداد سبيل العلم به يرجع إلى الظّن بالواقع حسب ما قرروه.

قلت : لا ترتيب بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطّريق المقرّر من الشّرع ، وليس تعيّن الرّجوع إلى العلم مع عدم الطّريق المقرّر ، أو عدم العلم به قاضيا بترتّب العلم بالواقع عليه ، بل الجميع في مرتبة واحدة وإنّما تعيّن الرّجوع إلى العلم مع انتفاء الطّريق المقرّر أو عدم العلم به لانحصار العلم بالخروج عن عهدة التّكليف في ذلك ولذا يجوز الرّجوع إلى العلم مع وجود الطّريق المقرّر أيضا ويتخيّر المكلّف في الرّجوع إلى أيّهما شاء.

٥٢٩

والحاصل : أنّ القدر اللاّزم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشّرع وهو حاصل بكلّ من الوجهين وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطّريق المقرّر ؛ إذ انتفاؤه واقعا ليس لكونه متعيّنا في نفسه ، بل لحصول البراءة به على النّحو الّذي ذكرناه. وفرق بين كون الشّيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به ، فهو إذن أحد الوجهين في تفريغ الذّمة.

فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذّمة على الوجه المفروض بكلّ من الوجهين المذكورين : بأن لم يحصل هناك طريق قطعيّ من الشّرع يحكم معه بتفريغ الذّمة وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذّمة ، رجع الأمر بعد القطع ببقاء التّكليف إلى الظّن بتفريغ الذّمّة في حكم الشّارع حسبما عرفت. وهو يحصل بقيام الأدلّة الظّنيّة على حجيّة الطّرق المخصوصة حسبما قام الدّليل عليها في محالّها من غير أن يكتفى في حجيّتها بمجرّد كونها مفيدة للظّن بالواقع كما هو قضيّة الوجه الآخر.

فإن قلت : إنّ الظّن بأداء الواقع يستلزم الظّن بتفريغ الذّمّة على الوجه المذكور لو لا قيام الدّليل على خلافه كما في القياس ونحوه ؛ إذ أداء المكلّف به واقعا يستلزم تفريغ الذّمّة بحسب الواقع قطعا لقضاء الأمر بالإجزاء على الوجه المذكور ، والظّن بالملزوم قاض بالظّن باللاّزم. فكلّما يفيد الظّن بالواقع يفيد الظّن بتفريغ الذّمة في حكم الشّرع لو لا قيام الدّليل على خلافه ؛ إذ ليس مقصود الشّارع حقيقة إلاّ الواقع.

٥٣٠

وإذا قام الدّليل على خلافه فإن كان قطعيّا فلا إشكال في عدم جواز الرّجوع إليه ؛ لعدم مقاومة الظّن المفروض للقطع ، وإن كان ظنيّا وقعت المعارضة بين الظّنين المفروضين ؛ حيث إنّ الظّن بالواقع يستلزم الظّن بتفريغ الذّمة على الوجه المذكور حسبما عرفت.

والدّليل القاضي بعدم حجيّة ذلك الظّن قاض بالظّن بعدم تفريغ الذّمة كذلك فيراعى حينئذ أقوى الظّنّين كما هو الشّأن في سائر المتعارضين بل القوي حينئذ هو الظّن والآخر وهو في مقابله ولا يتحاشى عند القائل بأصالة حجيّة الظّن ، بل ذلك مصرّح به في كلام جماعة منهم.

نعم ، غاية ما يلزم من التّقرير المذكور ، أن يقال : بحجيّة ما لا يفيد ظنّا بالواقع كالاستصحاب في بعض الموارد إذا قام دليل ظنّي على كونه طريقا شرعيّا إلى الواقع لحصول الظّن منه حينئذ بتفريغ الذّمة في حكم الشّرع وإن لم يحصل منه الظّن بأداء الواقع.

والظّاهر أنّه لا يأبى منه القائل بحجيّة مطلق الظّن ، فغاية الأمر أن يقول حينئذ بحجيّة كل ظنّ بالواقع ويضيف إليه حجية ما يظن كونه طريقا إلى الواقع شرعا وإن لم يفد ظنا بالواقع.

والحاصل : أنّ القول بحجيّة ذلك لا ينافي مقصود القائل بحجيّة مطلق الظّن سواء التزم به في المقام أو لم يلتزم لبعض الشّبهات.

٥٣١

قلت : قد عرفت ممّا مرّ : أنّ الظّن بما هو ظنّ ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذّمّة فمجرّد الظّن بالواقع ليس قاضيا بالظّن بتفريغ الذّمة في حكم الشرع مع قطع النّظر عن قيام دليل على حجيّة ذلك الظّن لوضوح عدم حصول التّفريغ به كذلك ، وإنّما يحتمل حصوله به من جهة احتمال قيام الدّليل على حجيّته ومن البيّن تساوي احتمال قيام الدّليل المذكور وعدمه في نظر العقل فتتساوى نسبة الحجيّة وعدمها إليه.

فدعوى الاستلزام المذكور ، فاسدة جدّا. كيف! ومن الواضح عدم استلزام الظّن بالواقع الظّن بحجيّة ذلك الظّن ولا اقتضائه له ، فكيف يعقل حصول الظّن به من جهته؟

نعم ، إنّما يستلزم الظّن بالواقع الظّن بتفريغ الذّمة بالنّظر إلى الواقع لا في حكم المكلّف الّذي هو مناط الحجيّة والمقصود في المقام حصول الظّن به في حكمه ؛ إذ قضيّة الدّليل المذكور حجيّة ما يظنّ من جهته بتفريغ الذّمة في حكم الشرع بعد انسداد سبيل العلم به ، وهو إنّما يتبع الدّليل الظّني القائم على حجيّة الطّرق الخاصّة ولا يحصل من مجرّد تحصيل موضوع الظّن بالواقع لما عرفت من وضوح كون الظّن بالواقع شيئا والظّن بحجيّة ذلك الظّن شيئا آخر ولا ربط له بذلك الظّن (١).

__________________

(١) قال العلاّمة الأصولي حفيد هداية التقي أعلى الله تعالى مقامهما الشريف :

٥٣٢

__________________

إن أكثر الإعتراضات الموردة على كلام هذا الإمام [ أي صاحب الهداية ] ـ ولم أبعد عن الحق إن قلت : جميعها ـ ما نشأ إلاّ عن أمرين :

أحدهما : جعل مقدمات هذا الدليل عين مقدّمات دليل الإنسداد المشهور ، وعدّه نتيجة له ، وهذا دليل على بطلان ذلك الدليل لا أنه نتيجة له.

وثانيهما : الغفلة عن أصل المدّعى الذي صدّر كلامه ببيانه وعن سائر الوجوه التي ذكرها لإثباته ، فربّما ترك توضيح أمر أو بيان مقدّمة لاعتماده على ما حقّقه في موضع آخر ، وما كتاب « الهداية » عند أهل ملّة العلم إلاّ قرآن الفنّ يفسّر بعضه بعضا ولو لا مخافة الشطح في المقال لقلت : وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأعلم بظاهره وخافيه. إلى أن قال :

وأوّل ما يلزمنا توضيح المدّعى فطالما نشئت الإعتراضات من الغفلة عنه وأورد عليه بما لا مساس له به ، فنقول :

الذي نذهب إليه حجّيّة الظنون المخصوصة وما هي غير الحاصلة من الثقلين : الكتاب والسنّة ، ومع وجودها لا يجوز التمسك بغيرها وتتقدّم على الظنّ المطلق تقدّم الدليل العلمي عليه ، والأحكام الفعليّة مقيّدة بمساعدة الظنون الحاصلة منهما عليها ، فلا علم بتكليف فعلي ، بل ولا تكليف فعلي خارج عنها.

وعليه فلا يبقى موقع للظن بالواقع أصلا فضلا عن عدم ترجيح الظن بالطريق عليه أو ترجيحه على الظن بالطريق ، وإنّما موقع ذلك دليل الإنسداد على تقريره الذي لم يؤخذ في مقدماته العلم بالطرق الشرعيّة ولا انحصارها في أمور مخصوصة يناط بها التكاليف الفعليّة.

ولقد تفرّس صاحب ( الهداية ) أن هذا الإعتراض أوّل ما يتشدّق به المعترضون فجعله

٥٣٣

__________________

أوّل اعتراض أجاب عنه بعد ما أوضحه وأصلحه وأجاب عنه بإطناب وإسهاب [ ومن ذلك قوله ] :

« فإن قلت : إن الظنّ بأداء الواقع يستلزم الظن بتفريغ الذمّة ... » إلى أن قال : « قلت : قد عرفت : أن الظنّ بما هو ظنّ ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذمّة ... » إلى أن قال : « لما عرفت : من وضوح كون الظنّ بالواقع شيئا والظن بحجّيّة ذلك الظنّ شيئا آخر ... إلى آخره » فتراه لم يغادر شيئا من تقرير هذا الإعتراض ثم أجاب عنه بأصح جواب وتوضيحه :

أنه لا بد في أداء التكليف والتخلّص من ورطة العقاب على مخالفته من الحجّة على امتثاله حجّة يقبلها الشارع ويصح الإعتذار بها عنده ولا حجّة إلاّ العلم الذي حكم بحجّيّتها العقل وإمضاء الشرع بأحد الأمرين من إتيان أحد الواقعين من الأصلي والجعلي ومع العجز تنتقل بحكم العقل إلى الظنّ بالحجة وظاهر أن الظنّ بالواقع لا يستلزم الظن بالحجّة لاختلاف متعلّقيهما وعدم الملازمة بينهما.

أمّا الأوّل فظاهر منقّح بما قرّره هنا من كون الظن بالواقع شيئا والظنّ بالحجّة شيئا آخر ، وبما قرّره قبل ذلك من أن الطريق إلى الحكم بالشيء شرعا غير الطريق إلى نفس ذلك الشيء.

وأمّا عدم الملازمة ؛ فإن التفكيك بينهما واضح إمكانا ووقوعا كما قرّره.

وكيف يتوهّم الملازمة بينهما مع أن النسبة عموم من وجه يفترقان ويجتمعان!؟

حتى انه يجتمع مع القطع بعدم الحجّيّة فضلا عن الظن به أو الشك فيه.

وما سبب الخطأ في هذا القياس الذي ساقوه سياق البرهان ـ أعني أن الظنّ بكلّ من

٥٣٤

__________________

الأمرين يقوم مقام العلم به ـ إلاّ الغفلة عن أن الواجب بحكم العقل القطع بالحجّة وبعد عدم إمكانه ينتقل إلى الظنّ بها فقط ولم يكن القطع بالواقع كافيا لخصوصيّة فيه بل لكونه حجّة شرعيّة عقليّة ـ كما اوضحه طاب ثراه في مواضع من كلامه ـ ولا فرق في ذلك بين أن يكون مؤدّى الطريق شيئا مستقلاّ في مقابل المراد الواقعي ، وبين أن يكون نفس المراد بجعل الشارع كما اختاره وأطنب في بيانه وبالغ في رد الاحتمال الأوّل ولا أدري ما الذي دعا الشيخ إلى الإطالة في بيانه وجعله أساس اعتراضاته؟!

وقد عرفت : ان العلاّمة المستدل يوافقه في أن الحكم الظاهري هو الواقعي جعلا ... كما انه لم يظهر لنا وجه الحاجة في أن الإمتثال لا يكون إلاّ بالعلم أو بالظن القائم مقامه ، مع أنه أمر واضح لا يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن إمام مثله ...

وأمّا ما جعله منشأ لكلام الجد من تخيّل : أن نفس سلوك الطريق الشرعي في مقابل سلوك الطريق العقلي وأنه قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي.

فلنا أن نطالبه بالمحل الذي استظهر هذا من كلامه ، وقد علمت أن العلم عنده عقلي شرعي ، وسمعت تصريحه به غير مرّة فأين القياس؟

وقد علمت أن القياس رأس مال منكري مقالته حيث قاسوا الظنّ بالعلم في كفايته مطلقا تعلّق بالواقع أم تعلّق بالطريق.

وما ذكره : من أن الطريق الشرعي لا يتصف بالطريقيّة إلاّ بعد العلم تفصيلا.

فإن أراد به التخصيص بالعلم فهو واضح الضعف ومخالف لما صرّح به قبيل ذلك من قوله : « أمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شيء منهما إلاّ بعد العلم أو الظنّ

٥٣٥

وقد عرفت : أن ما يتراءى من استلزام الظّنّ بالواقع ، الظّن بتفريغ الذّمّة ؛ نظرا إلى أن المكلّف به هو الواقع ، إنّما يصح بالنّسبة إلى الواقع ؛ حيث أنّه يساوق الظّن بالواقع ، الظّن بتفريغ الذّمة بالنّسبة إليه عند أدائه كذلك ، وذلك غير الظّن بتفريغ الذّمة في حكم المكلّف.

كيف! والظّن المذكور حاصل في القياس أيضا بعد قيام الدّليل على عدم حجيّته ؛ فإنّه إذا حصل منه الظّن بالواقع فقد حصل منه الظّن بفراغ الذّمة بالنّظر إلى الواقع عند أداء الفعل كذلك ، إلاّ أنّ الظّن المفروض كالظّن المتعلّق بنفس الحكم ممّا لا اعتبار له بنفسه ، وقد قام الدّليل الشّرعي هناك أيضا على عدم اعتباره.

فظهر ممّا قررناه : أنّ الإيراد المذكور إنّما جاء من جهة الخلط بين الوجهين وعدم التّميز بين الاعتبارين ، وممّا يوضح ما قلناه : أنّ الظّن بالملزوم لا يمكن أن يفارق الظّن باللاّزم ، فبعد دعوى الملازمة بين الأمرين ، كيف يعقل استثناء ما قام الدّليل على خلافه؟ والقول بأنّه بعد قيام الدّليل القطعي يعلم الانفكاك ، ومع قيام الدّليل الظّني يظنّ ذلك فيه ، هل ذلك إلاّ الانفكاك بين اللاّزم والملزوم؟

__________________

القائم مقامه ».

وإن أراد به غيره فهو حقّ ، ولكن المستدلّ يقول بقيام الظنّ مقامه بحكم العقل عند إنسداد باب العلم ولا يقول بما جعله لغوا صرفا أعني : مجرّد تطبيق العمل على الطريق مع قطع النظر عن حكم الشارع ).

أنظر وقاية الأذهان : ٥٧٩ ـ ٥٩٠.

٥٣٦

فظهر مما قررناه : أنّ اللاّزم أوّلا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتّفريغ في حكم الشرع ، وبعد انسداد سبيله ينزّل إلى الظّن بالتّفريغ في حكمه لا مجرّد الظّن بالواقع ، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين.

نعم ، لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التّفريغ في حكم أمور مفيدة للظّن بالواقع من غير أن يكون هنا دليل قطعي أو ظنّي على حجيّة شيء منها وتساوت تلك الظّنون في ذلك كان الجميع حينئذ حجّة في حكم العقل ، وإن لم يحصل من شيء منها ظنّ بالتّفريغ ، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظّن بالتّفريغ من شيء منها على ما هو المفروض فينتقل الحال إلى مجرّد تحصيل الظّن بالواقع ، ويحكم العقل من جهة الجهل المذكور وتساوي الظّنون في نظره بالنّسبة إلى الحجيّة وعدمها حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض بحجيّة الجميع والأخذ بأقواها عند التّعارض من غير فرق بينها.

فصار المحصّل : أن اللاّزم أوّلا تحصيل العلم بالتّفريغ في حكم الشّرع كما مرّ القول فيه ، وبعد انسداد سبيله يتعيّن تحصيل الظّن بالتّفريغ في حكمه تنزّلا من العلم به إلى الظّن ، فينزل الظّن به بمنزلة العلم. وإذا انسدّ سبيله أيضا تعيّن الأخذ بمطلق ما يظنّ معه بأداء الواقع حسبما ذكر في المقام ، فهناك مراتب متدرّجة ودرجات مترتّبة ، ولا يتدرّج إلى الوجه الثّالث إلاّ بعد انسداد سبيل الأوّلين.

والمختار عندنا : حصول الدّرجة الأولى وعدم انسداد سبيل العلم بالتّفريغ

٥٣٧

من أوّل الأمر كما سيأتي الإشارة في الوجه الأخير.

لكنّا نقول : إنّه بعد انسداد سبيله إنّما ينزّل إلى الوجه الثّاني دون الثّالث ، وإنّما ينزّل إليه بعد انسداد سبيل الثّاني أيضا وتساوي الظّنون من كلّ وجه وأنّى لهم بإثبات ذلك؟ بل من البيّن خلافه ؛ إذ لا أقلّ من قيام الأدلّة الظّنيّة على حجيّة ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشّرعيّة وهي كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتّكال على غيرها ؛ نظرا إلى قيام الدّليل القطعي المذكور فليس ذلك من الاتّكال على الظّن في إثبات الظّن ليدور كما ظنّ (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

فيما يرد على ما أفاده المحقّق المحشّي قدس‌سره

وهو كما ترى مع أنّه مشتبه المراد كما ستقف عليه في طيّ الإيرادات لا يخلو عن أبحاث وأنظار :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره من الواجب أوّلا بقوله : « وأنّ الواجب علينا أوّلا : هو تحصيل العلم بتفريغ الذّمة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ... إلى آخره » (٢) لم يعلم المراد منه.

__________________

(١) هداية المسترشدين ج ٣ / ٣٥٢ ـ ٣٥٦.

(٢) المصدر السابق عنه ، فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٥.

٥٣٨

فإنّه إن كان المراد هو الواجب السّمعي كما ربّما يوهمه قوله : « بأن يقطع معه بحكمه ».

ففيه : أنّه ليس في الشّرع ما يدلّ على ذلك أصلا ؛ لأنّ لزوم تحصيل العلم بتفريغ الذّمة في مقام وكفاية الظّن به في مقام ، والاحتمال في مقام ممّا لا تعلّق له بالشّرع ولم يبيّن في الشّرعيّات.

وإن كان المراد هو الواجب العقلي كما لا بد من حمل كلامه عليه وإن لم يكن ظاهرا منه في النّظر الأوّل ؛ حيث إنّه بعد العلم بالتّكليف من جانب الشّارع إنّما يلزم المكلّفين بما يوجب فعله رفع المؤاخذة والعقاب عنهم.

وبعبارة أخرى : إنّما يوجب العقل الإتيان بالواجبات من حيث إنّ فعلها رافع للمؤاخذة وتركها موجب لاستحقاق العقاب ، لا أنّ فعلها يوجب إدراك المصالح النّفس الأمريّة وتكميل النّفس والفوز إلى الثّواب والدّرجات الأخرويّة ، أو التّقريب إلى المولى ، أو كونه مستحقّا للإطاعة من غير ملاحظة شيء من الغايات ؛ فإنّه وإن كان بكلّ واحد من العناوين والاعتبارات المذكورة مطلوبا عقليّا ، إلاّ أنّه ليس واجبا في حكم العقل ، ولذا يجوّز العقل في التّوصّليات الإتيان بنفس الفعل من غير أن يلاحظ المكلّف رفع العقاب المترتب عليه قهرا.

ولمّا كانت نسبة هذا الواجب العقلي بإتيان نفس ما أوجبه الشّارع مع إمكان تحصيل العلم به وسلوك ما جعله الشارع طريقا إليه عند التّمكّن من تحصيل العلم به ، في مرتبة واحدة وإن تخلّف سلوكه عن الواقع ؛ حيث إنّ إذن الشّارع في سلوك

٥٣٩

الطّريق في حكم العقل لا يجامع المؤاخذة عند مخالفته فلا محالة يحكم العقل بتجويز كلّ منهما في باب الإطاعة ولا يلزم خصوص الأوّل ؛ حيث إنّ المطلوب العقلي يحصل بكلّ منهما من غير فرق.

ومن هنا قال قدس‌سره فيما عرفت : « وفرق بين كون الشّيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به » (١) حيث إنّ الواجب العقلي حاصل في إتيان الواجب الواقعي مع العلم به لا أن يكون هو الواجب العقلي من حيث هو ».

ففيه : أنّ هذا وإن كان مسلّما عندنا ، إلاّ أنّه لا تعلّق له بحكم الشرع وليس من جهة سلوك الطّريق من حيث ذاته ، بل من حيث البناء على كون مؤدّاه هو الواجب الواقعي بجعل الشّارع ، فسلوكه بالجعل هو عين الواقع لا أن يكون مغايرا له بهذه الملاحظة وإن كان غيره بملاحظة أخرى.

وبالجملة : لا إشكال في أنّ سلوك الأمارة بل الأصل التّعبّدي ما لم ينكشف خلافهما موجب لسقوط العقاب في حكم العقل ، لكنّه لا ينتج في كون الطّريق مطلوبا من حيث هو في قبال الواقع أو قيدا للواقع كما صرح به في آخر كلامه الّذي عرفت في الجواب عن السّؤال.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما أفاده بعد انسداد سبيل العلم بالواقع والطّريق وتعيّن تحصيل الظّن بالبراءة في حكم العقل وعدم حصوله إلاّ من الظّن بالطّريق ؛ نظرا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٣.

٥٤٠