بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

(٢٧٠) قوله قدس‌سره : ( واندفع ممّا ذكرنا ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٣٣ )

لا تنافي بين ثبوت التكليف بالواقع وكفاية الظن

أقول : اندفاع التّوهم المذكور بما أفاده واضح ؛ ضرورة أنّ ما ذكره المتوهّم من التّنافي بين الالتزام ببقاء التّكليف وتعلّقه بالواقع وكفاية ما لا يقطع معه بإحراز الواقع قضيّة عقليّة لا شرعيّة ، فإذا فرض كون الامتثال ذا مراتب متعدّدة في حكم العقل حتّى أنّ آخر مراتبه الامتثال الاحتمالي والوهمي فكيف يحكم بالتّنافي بين الأمرين؟

توضيح ذلك : أنّ المراد من التّكليف الباقي في الوقائع المجهولة إن كان هو الحكم الواقعي النّفس الأمري ، فلا إشكال في تعلّقه بنفس الواقع من غير مدخليّة للعلم والجهل فيه. فكما يتعلّق بالعالم ، كذلك يتعلّق بالجاهل على نهج واحد من غير فرق بينهما ؛ لأنّ تعلّقه بهما بخطاب واحد وجعل كذلك بالنّسبة إلى جميع حالات المكلّفين المختلفين من حيث العلم والجهل بأقسامه ومراتبه ، لكنّه لا يتنجّز بمجرّد وجوده النّفس الأمري بمعنى ؛ أنّه لا يؤاخذ على مخالفته مطلقا ولا يجب امتثاله كذلك ؛ إذ ربّما يكون المكلّف معذورا في مخالفته ولا يجب عليه امتثاله أصلا.

وإذا فرض تنجّزه في مقام لا يلزم في حكم العقل تحصيل العلم بحصوله مطلقا بل يلزم ذلك في الجملة وفي بعض المراتب والحالات ، كما ذكره في

٤٦١

« الكتاب » فقد يكتفى في امتثاله مع تنجّزه بمجرّد احتمال حصوله.

وإن كان هو التّكليف المنجّز الّذي ليس بإنشاء حكم من الشّارع حقيقة ، بل إنّما هو من شؤونه ومراتبه بحسب حكم العقل ففيه : أنّه يتبع وجوب الامتثال ومراتبه فلا معنى لجعله قادحا في الاكتفاء بالامتثال الظّني كما هو واضح.

فإن شئت قلت : إنّ الالتزام ببقاء التّكليف بالواقع بالفرض مع كفاية الامتثال الظّني نظير الالتزام ببقاء التّكليف في جميع موارد الأمارات المعتبرة الشّرعيّة والظّنون الخاصّة ، وموارد الأصول الّتي لا يقطع مع الأخذ بها بالواقع الأوّلي ؛ فإنّ التوهّم المذكور جار بالنّسبة إلى الجميع. ولك أن تجعل ما ذكر من النّظائر بمنزلة الجواب النّقضي.

والحلّ أن يقال : إنّ الحكم الواقعي الصّادر من الشّارع في الجميع متعلّق بالواقع بما هو واقع ، إلاّ أنّه بمجرّده لا يؤثّر في عدم المعذوريّة واستحقاق العقاب على مخالفته في حكم العقل على كلّ تقدير ، والحكم الفعلي المنجّز الّذي هو عين الحكم الأوّلي على تقدير ، وغيره بالاعتبار المنتزع من حكم العقل بوجوب امتثال الحكم الواقعي واستحقاق العقاب على مخالفته يتبع حكمه بحسب مراتبه فقد يكون موجودا في المظنون ولا يكون موجودا في غيره.

وهذا معنى الالتزام بالتّكليف المتوسّط بين تعلّقه بالواقع بما هو هو ، وعدم التّكليف رأسا ولا يمكن اعتبار التّوسّط بالنّسبة إلى الحكم الأوّلي وإلاّ لزم التّصويب والالتزام بالإجزاء عند انكشاف خطأ الأمارات والأصول كما هو

٤٦٢

واضح ، وهذا هو المراد من التّكليف المتوسّط في « الكتاب » لا ما يزعمه غير الخبير بمراده قدس‌سره.

ولك أن تقول : إنّ الحكم الواقعي الغير المختلف باختلاف الظّنون والآراء متعلّق بالواقع والحكم الظّاهري المختلف باختلافهما يتبع مقتضيات الأصول والأمارات وإن بقي لك تأمّل فيما ذكر مع ما عرفت ، فارجع إلى ما أوردنا من الكلام في أوائل التّعليقة في شرح الحكم الواقعي الشّأني والفعلي والظّاهري (١).

ثمّ إنّ المراد من قبح العدول عن الظّن إلى الوهم المتكرّر في كلامه وقبح الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع التّمكن من الامتثال الظّني في المقام ليس ما يتراءى منه في باديء النّظر من حسن العمل بالظّن ذاتا وقبح الأخذ بغيره كذلك ، بل المراد منه القبح العرضي الغيري من جهة ملاحظة طرح الواقع كثيرا في غيره ، والحسن الغيري من جهة إدراك الواقع كثيرا في الظّن ؛ ضرورة أنّه ليس للعمل بالظّن مع قطع النّظر عن الواقع حسن ذاتّي على مذهب أهل الصّواب.

ومنه يظهر : أنّ التّمسّك في حكم المقام بقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ـ كما وقع في كلام غير واحد من الأعلام ـ لا يخلو عن مناقشة ونظر إن كان المراد من الصّفتين في القضيّة ما كان كذلك بالذّات.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٢.

٤٦٣

(٢٧١) قوله قدس‌سره : ( هذا خلاصة الكلام في مقدّمات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٥ )

أقول : المراد من وجوب العمل بالظّن في الجملة ما يشمل القول بكون نتيجة المقدّمات هو التّبعيض في الاحتياط ؛ فإنّك قد عرفت إيجابه العمل بالظّن القائم على خلاف الاحتياط ، وعلى تنزيل العبارة على القول بكون النتيجة هي حجيّة الظّن لا بد أن يكون المراد ما يقابل التّعميم من جميع الجهات الّتي يقع الكلام فيها في الأمر الثّاني ، أو فيه وفي الأمر الأوّل ، لا المهملة المردّدة ؛ حتّى ينافي التّقرير على وجه الحكومة كما ستقف عليه.

وما ذكره في الأمر الأوّل وإن كان ظاهره الاختصاص بالقول بكون النّتيجة حجيّة الظّن إلاّ أنّه يصرّح بعد ذلك في الأمر الثّاني : أنّ التّعميم من حيث المسألة الأصوليّة والفرعيّة ثابت على القولين.

٤٦٤

* تنبيهات دليل الإنسداد

* التنبيه الأوّل : في الإمتثال الظّني لا يفرّق بين الظن

بالحكم الواقعي والظاهري

٤٦٥

* تنبيهات دليل الإنسداد

* التنبيه الأوّل :

لا يفرّق في الإمتثال الظنّي بين الظنّ بالحكم الواقعي والظاهري

(٢٧٢) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّك قد عرفت : أنّ قضيّة المقدّمات ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٣٧ )

__________________

(١) قال المحقق الجليل الفاضل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره بعد ان نقل الكلام الآتي :

« بعد ما انتجت المقدمات يحكم العقل القطعي بوجوب الامتثال الظني في الأحكام التي علم اجمالا وجودها بين المحتملات للتكليف فهل الواجب تحصيل الظن بالأحكام الواقعيّة أو الاحكام التي هي مؤديّات الطرق المظنون اعتبارها بجعل الشارع في عرض الواقع إمّا في الطول بمعنى كفاية الظن بالواقع مع العجز عن مؤدّى المظنون وبالعكس ، فالظاهر انه لا ينكره أحد ، أو كفاية كل منهما بمعنى أن أيّهما حصل ، حصل الإمتثال ؛ فإن المقدمات تنتج اعتبار الظن وحجيته من غير فرق بين تعلقه بالحكم الواقعي أو طريق ظنّ أن الشارع نصبه للوصول إلى الواقع وجعل مؤدّاه قائما مقام الواقع.

والأخير مختار أيضا وهو القوي ، وفي المحكي ان الثاني مختار صاحب الهداية والفصول وسبقهما الشيخ أسد الله التستري وهو لا يقدح فيما ذكره في الفصول من انه لم يسبقه إلى ما اختاره أحد لأنه مع أخيه الفاضل الشارح صاحب الهداية من تلامذة الشيخ

٤٦٦

الضرورة العقليّة حاكمة بتعميم نتيجة المقدّمات

أقول : قد عرفت ذلك مرارا سيّما عند بيان مراتب الامتثال ، وأنّ منها

__________________

المذكور ولا غرو في نسبة التلميذ مطالب شيخه إلى نفسه كما جرى ديدنهم عليه في امثال هذا الزمان ».

أقول : في هذا الاعتذار نظر بيّن فإن نسبة مطلب الشيخ إلى نفسه من حيث موافقته للشيخ في هذا المطلب غير تخصيص مطلب بنفسه ، وعدم كونه مسبوقا بفهم هذا المطلب مع إشتراك الغير معه وسبقه فيه عليه والغيران مختلفان في الجواز وعدمه ولا تنحصر المعذرة في هذا الإعتذار الغير النافع.

وكيف كان : والأوّل مختار البهبهاني والقمّي والرياض قدس الله اسرارهم على المحكي. وزعم [ المحقق صاحب الكفاية ] الخراساني : أن اختلافهم هنا من جهة اختلافهم فيما يجب تحصيل العلم به من الواقع أو مؤدّى الطريق المعلوم الاعتبار مع الإنفتاح حيث قال : « اعلم انه لما كان الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو مع الاتفاق على لزوم التنزّل في حال الإنسداد وإلاّ لجأ إلى الظنّ بما يجب تحصيل القطع به في حال الإنفتاح وإنّما هو لاختلافهم فيما يجب تحصيل العلم به مع التمكّن ... » (*) إلى آخر ما قال متعمّدا على الإغلاق. ولو كان الأمر كما زعم لكانوا تكلّموا في العلم ثمّ الحقوا الظنّ به. إنتهى حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٢٨.

(*) انظر تعليقة المحقق الخراساني الطويلة في درر الفوائد : ١٤٠.

٤٦٧

الامتثال الظّني المتعيّن عند انتفاء الأوّلين من مراتبه وإن كان شرحه هناك ربّما ينافي كلامه في المقام ؛ حيث إنّه فسّره بالإتيان بما يظن أنّه المكلّف به. اللهم إلاّ أن يحمل على البيان في الجملة ، أو يجعل المراد من الظّن بكونه المكلّف به أعمّ من الظّن به في مرحلة الظّاهر.

ثمّ إنّ ما ذكره من تعميم نتيجة المقدّمات الجارية في المسائل الفرعيّة الفقهيّة للظّن في المسألة الأصوليّة العمليّة يستفاد من المحقّق القمي قدس‌سره وبعض آخر ، وهو ممّا يحكم به ضرورة العقل عند التّأمّل ؛ فإنّ امتثال الخطابات الواقعيّة بإتيان نفس ما تعلّقت به وإن كان حسنا عند العقل ؛ من حيث اشتماله على المصلحة الموجبة لكمال النّفس ، إلاّ أنّ الّذي يحكم العقل بلزومه التّخلّص عن مؤاخذة مخالفتها والبراءة عنها وإن لم يتحقّق موافقتها في نفس الأمر وفي علم الشّارع.

ومن هنا ذكرنا مرارا : أنّ الواجب في حكم العقل بوجوب الإطاعة في مطلق الأوامر الصّادرة من الموالي دفع العقاب. ومن هنا يصحّ جعله غاية للإطاعة في العبادات وتسمّى الإطاعة ـ بالملاحظة المذكورة ـ بإطاعة العبيد ، وبها تمتاز عن إطاعة الأجزاء الملحوظ فيها طلب الأجر والثّواب وعن إطاعة الأحرار الغير الملحوظ فيها إلاّ كون المولى مستحقّا للإطاعة والعبادة المختصّة بأولياء الله تعالى وسادات الخلق أجمعين « سلام الله عليهم ما دامت السّماوات

٤٦٨

والأرضون » (١).

فإذا كان الواجب عند العقل عند انسداد باب العلم بالواجبات والمحرّمات تحصيل الظّن بامتثال الخطابات الواقعيّة وسقوطها عن المكلّف فلا محالة يحكم بالتّعميم من حيث الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ حيث إنّه يرجع إلى الظّن برضاء الشّارع في إطاعة أوامره الواقعيّة بسلوك ما ظنّ طريقيّته ما دام الطّريق قائما ، والبناء على كون مفاده نفس ما أراده الشّارع في ضمن الخطابات الواقعيّة.

فكما أنّه يحكم بجواز تحصيل العلم بالطّريق المجعول مع التّمكّن من تحصيل العلم بالواقع إذا فرض انفتاح باب العلم بهما من حيث كونه موجبا للقطع بسقوط الخطابات الواقعيّة في مرحلة الظّاهر ما لم ينكشف الخلاف وإن جاز معه تحصيل العلم بالواقع الأولي الموجب لارتفاع موضوع الأمر بالطّريق ، كذلك يحكم بجواز تحصيل الظّن بمفاد الطّريق من غير فرق بين أن يعلم إجمالا بجعله أوّلا ، كما يحكم بجواز تحصيل الظّن بالواقع الأوّلي من حيث كونه مطلوبا أوّليّا من غير ترتيب بين الأمرين ، وإن كان الثّاني أولى في نظر العقل من حيث إيجابه بالظّن بإدراك المصلحة الأوليّة.

__________________

(١) في الأصل : « الأرضين » وهو من سهو القلم.

٤٦٩

(٢٧٣) قوله قدس‌سره : ( وقد خالف في هذا التّعميم فريقان ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٧ )

أقول : أوّل من سلك هذا المسلك واختار هذه الطّريقة فيما وجدته الشّيخ المحقّق التّستري قدس‌سره فيما عرفت من كلامه عند البحث في حجيّة نقل الإجماع حيث ذكر : أنّ انسداد باب العلم بما يجب العمل به من الأدلّة كالكتاب والسّنة يقتضي في حكم العقل وجوب إعمال الظّن في تشخيصهما لا في تحصيل الأحكام الواقعيّة (١).

وقد تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه ؛ إمّا بعد العلم الإجمالي بجعل الطّرق الظّنيّة وانسداد باب العلم والطّريق الخاصّ إلى تشخيصه كما هو مبنى كلام الشّيخ الفاضل في « الفصول » (٢) ، أو مطلقا كما هو مبنى بعض الوجوه المذكورة في كلام أخيه الأجلّ الشيخ المحقّق قدس‌سره في « تعليقه على المعالم » (٣) كما حكاه شيخنا الأستاذ العلاّمة عنهما في « الكتاب » (٤).

والقول الثّاني المقابل لهذا القول ذهب إليه شيخ شيخنا وأستاذه

__________________

(١) كشف القناع للشيخ أسد الله التستري قدس‌سره.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.

(٣) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٤) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٨ و ٤٥٤.

٤٧٠

الشّريف قدس‌سره (١) وبعض تلامذته كما ستقف عليه مفصّلا في « الكتاب » (٢).

(٢٧٤) قوله قدس‌سره : ( وهو أنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٨ )

كلام صاحب الفصول في مسألة الظن في الطريق

أقول : الأولى نقل باقي كلامه المتعلّق بالمقام أوّلا ؛ ثمّ إيراد ما يوضح به مرامه قال قدس‌سره ـ بعد ما في « الكتاب » ـ ما هذا لفظه :

« وإنما اعتبرنا في الظّن أن لا يقوم دليل معه على عدم جواز الرّجوع إليه حينئذ ؛ لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ، ومع تعذّر هذا النّوع من الظّن فالرّجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل على عدم حجيّتها مع الاتّحاد ، ومع التّعدّد ، والتّكافؤ ، التّخيير ؛ لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذ به كما مرّ ، أو ترجيح المرجوح ، أو التّرجيح مع عدم المرجّح.

وممّا يكشف عمّا ذكرناه : أنّا كما نجد على الأحكام الأمارات نقطع بعدم اعتبار الشّارع إياها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفاد الظّن الفعلي بها

__________________

(١) شريف العلماء في ضوابط الأصول : ٢٦٦ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول :

٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٨.

٤٧١

كالقياس ، والاستحسان ، والسّيرة الظّنية ، والرّؤيا ، وظنّ وجود الدّليل ، والقرعة ، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها أمارات نعلم بأنّ الشّارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضا طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بها ولو بمعارضة الأمارات السّابقة.

وهذه أمارات محصورة ؛ منها : الكتاب والسّنة الغير القطعيّين ، والاستصحاب ، والإجماع المنقول ، والاتّفاق الغير الكاشف ، والشّهرة ، وما أشبه ذلك ؛ فإنّا نقطع بأنّ الشّارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعيّة في حقّنا أمارات أخر خارجة عن هذه الأمارات. ومستند قطعنا في المقامين الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار ؛ إذ القائلون بحجيّة مطلق الظّن كبعض متأخّري المتأخّرين لا يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بمآربها.

وحيث إنّه قد وقع النّزاع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التّعارض ولا علم لنا بالتّعيين ، ولا طريق علميّا إليه مع علمنا ببقاء التّكليف بالعمل بها ، كان اللاّزم الرّجوع في ذلك إلى ما يستفاد اعتبارها من هذه المدارك الاحتماليّة لتقدّمها في نظر العقل حينئذ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا ، مقدّما للأقرب منها في النّظر إلى غيره مع تحقّقه ، فثبت ممّا قرّرنا جواز التّعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطّرق الّتي هي أدلّة الأحكام على الظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته ، ثمّ على ما هو الأقرب إليه كذلك ».

٤٧٢

إلى أن قال :

« واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ولا يستقلّ بكون غيره طريقا إليه مع تعذّره حيث لا يعلم ببقاء التّكليف معه ، بل يستقل حينئذ بعدم كون غير العلم طريقا في الظّاهر ، وبسقوط التّكليف ما لم يقم على حجيّة غير العلم قاطع سمعيّ واقعي ، أو ظاهري معتبر مطلقا ، أو عند انسداد باب العلم مع حصوله.

ثمّ إن دلّ الدّليل السمعيّ على حجيّة طريق مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا فيجوز التّعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة. وإن دلّ على حجيّته عند تعذّر العلم لم يجز التّعويل عليه ، إلاّ عند تعذّره ؛ فيقدّم العمل بالعلم وبما دلّ الدّليل السّميعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره.

وأمّا إذا انتفى الجميع وعلم ببقاء التّكليف معه ، ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته. ثمّ الأقرب إليه على ما مرّ ، وهذه مرتبة ثالثة متوقّفة على تعذّر المرتبتين المتقدّمتين ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فاتّضح أنّ للطّريق ثلاثة مراتب لا يعوّل على اللاّحقة منها إلاّ بعد تعذّر السّابقة ، ونحن حيث علمنا ممّا مرّ : أنّ الشارع قد قرّر في حقّنا إلى معرفة الأحكام أصولا وفروعا ـ ولو بعد انسداد باب العلم وما في مرتبته ـ طرقا مخصوصة لم

٤٧٣

يجز لنا العدول إلى المرتبة الثّالثة والأخذ بما يقرّره العقل طريقا إلى معرفة الأحكام ، بل يجب علينا تحصيل تلك الطّرق الّتي علمنا بنصب الشّارع إيّاها وتعيينها بالعلم أو بما علم قيامه بالخصوص مقامه ولو بعد تعذّره ».

إلى أن قال :

« فتعيّن أنّ طريقنا إلى معرفة فروع الأحكام الغير القطعيّة إمّا في المرتبة الأولى ، أو الثّانية ، وإلى معرفة تفاصيل ذلك في المرتبة الثّالثة. والسّر في الفرق : أنّا لمّا راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في فروع الأحكام على طرق ومدارك مخصوصة مطبقين على نفي حجيّة ما عداها مع إمكان الرّجوع إليها مطلقا ، وفي إثبات حجيّة تلك الطّرق وتعيين ما هو المعتبر فيها على أدلّة قطعيّة عندهم كالكتاب والإجماع ... » إلى أخر ما ذكره (١).

توضيح مراد صاحب الفصول

ثمّ ساق الكلام بعد إتمام الوجه إلى النّقض والإبرام بإيراد الإشكالات والإيرادات عليه والنّقض والجواب عنها بما يطول المقام بذكره من أراده فليراجع إلى كتابه.

وملخّص ما يقال في توضيح مرامه : أنّ التّكليف بالعمل بالطّرق المجعولة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٤٧٤

إذا لم يكن تكليفا مستقلاّ في قبال التّكليف بالواقع كالتكاليف الواقعية كما هو المسلّم الواضح الّذي لم يتوهّم أحد خلافه ، فلا بدّ إمّا من إرجاع التّكليف بالواقع إليه ؛ بمعنى عدم إرادة إطاعته إلاّ إذا ساعد عليه الطّريق ، فالواقع الّذي لم يكن مدلولا لأحد الطّرق المعتبرة لا يجب امتثاله على المكلّف لا بمعنى عدم ثبوته في نفس الأمر فيما لم يساعد عليه الطّريق حتّى يلزم التّصويب الباطل ، فالتّكليف الفعلي الّذي عليه المدار في وجوب الإطاعة وحرمة المعصية تابع لقيام الطريق ، أو إرجاع التّكليف بالطّريق إليه ؛ بمعنى عدم لزوم العمل به إلاّ فيما طابق الواقع فيكون عند عدم المطابقة غير واجب العمل واقعا ، ولمّا لم يعقل الثّاني ؛ حيث إنّ العلم بالمطابقة يوجب امتناع جعل التّكليف الظّاهري في حقّ العالم ولا يعقل اعتبار ما يوجب العلم به ارتفاع موضوع الحكم فيه ، فتعيّن الوجه الأوّل وهو الّذي أفاد بقوله : ( ومرجع التّكليفين ... إلى آخره ) (١) وفعليّة الأحكام الواقعيّة عند تحصيل العلم بها من جهة كون العلم طريقا شرعيّا معتبرا بحكم العقل. هذا ما يقال في توضيح مرامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.

٤٧٥

إيرادان على الفصول

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده عليه في « الكتاب » ـ :

أوّلا : أنّ تنجّز الخطابات الواقعيّة والتّكاليف النّفس الأمريّة ؛ إنما هو بنفس العلم الإجمالي المتعلّق بها والتّكليف بالعمل بالطّريق على ما عرفت في توضيح مرامه ، ليس في عرض التّكليف بالواقع وفي مرتبته ، بل إنّما هو تكليف غيري إرشادي شرع للتّوصّل بسلوكه إلى الواقع ، وإن لاحظ الشّارع في جعله تسهيل الأمر على المكلّفين. ولازمه العقلي عدم جواز المؤاخذة عند مخالفة سلوكه للواقع ، لا انقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤداه حسبما زعمه قدس‌سره.

ومن هنا يجب الفحص عن الواقع ويجب الاحتياط في تحصيله فيما لم يكن هناك طريق إليه في مورد العلم الإجمالي.

نعم ، فيما قام الطّريق الشّرعي على تعيين الواقعيّات المجهولة بحيث يوجب رفع العلم الإجمالي الكلّي ولم يكن هناك أصل مثبت للتّكليف ، ولم يقتض العلم الإجمالي الخاصّ للاحتياط في المورد لم يجب الاحتياط في الشّبهات الحكميّة بعد الفحص التّام.

وليس هذا من جهة انقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤدّيات الطّرق ، بل من جهة حكم العقل بقبح المؤاخذة المقرّر في باب البراءة ، ومن هنا يجوز تحصيل العلم

٤٧٦

بالواقع الأوّلي عند التمكّن منه ولو جاز سلوك الطريق فيما لو كان معلوما بالتّفصيل أيضا.

والقول بكون العلم مجعولا أيضا كالظّن ، قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في طي كلماتنا السّابقة في أوّل التّعليقة.

وثانيا : أنّ لازم ما أفاده عدم جواز الامتثال الظني في تحصيل الواقع أصلا عند انسداد باب الظّن بالطّريق المجعول إجمالا ، مع اعترافه فيما عرفت من كلامه بلزوم العمل عليه عند انسداد باب الظّن بالطّريق ، فالاعتراف به ينافي القول بكون مرجع التّكليف الفعليّ مؤدّيات الطّرق.

ودعوى : الرّجوع إليه عند التّمكّن من تحصيله ولو ظنّا دون ما لم يتمكّن من تحصيله ؛ فإنّ التّكليف حينئذ بنفس الواقع ، كما ترى.

(٢٧٥) قوله قدس‌سره : ( وفيه أوّلا : منع (١) نصب الشّارع طرقا خاصّة للأحكام وافية ... إلى آخره ) (٢) (٣). ( ج ١ / ٤٣٩ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : إمكان منع نصب الشارع ... إلى آخره.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يقال : المراد من الطرق الخاصة ما يعمّ ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء إمضاء لسيرتهم وتقريرا لطريقتهم ولو بعدم الردع عنه ومعه لا مجال لمنع نصبها ودعواه بيّنة وإنكاره مكابرة.

٤٧٧

__________________

لأنا نقول : دعوى منع نصب طرق خاصة كذلك من رأس وإن كانت مكابرة إلاّ أن المنع عن غير ما علم تفصيلا من الطرق الخاصة الإبتدائية أو الإمضائية في محلّه.

ودعوى : العلم به ، لا بيّنة ولا مبيّنة ؛ لقوّة احتمال الإحالة في الموارد الخالية على تقدير عدم الكفاية كما هو الفرض إلى ما يحكم به العقل على الإستقلال من مراتب الامتثال كما اذا لم يكن طريق خاص في البين.

بداهة انه يعيّن مراتب له مرتّبة لا يجوز التنزّل من سابقتها إلى لا حقتها إلاّ بعد تعذّرها ، والإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة غير مفيد ؛ فإنّ المسلّم منه إنّما هو على الرجوع إليهما في الجملة لا بمقدار الكفاية في الفقه وهو المفيد ». انظر درر الفوائد : ١٤٦.

* وأورد عليه الفاضل الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره بعد أن نقل نص عبارته بأكملها قائلا :

« أقول : إنّما نقلت عين الألفاظ بما فيها ؛ لإنها واضحة المراد بيّنة الإيراد ؛ فإن الذي يقول بحجّيّة الظن في الطريق يريد به الطرق الجعليّة الإبتدائية لا الإمضائيّة ولا الأعم منها ومنها : فإن من طرق العقلاء عند فقد العلم الظنّ.

أترى هذا القائل يريد أن يثبت حجّيّة الظّنّ بأن الشارع أمضى اعتبار الظّنّ ، فيقع الكلام في اعتبار الظّنّ وهلمّ جرّا ولله درّ المصنّف في جودة فهمه واستقامة سليقته في فهم مراد القائل حيث منع القطع بنصب الشارع طرقا للأحكام وهو المراد من إمكان المنع ، وجعل الطرق العقلائية سندا للمنع ثم الذي أجاب المنع به الخراساني في دفع لا يقال ، الأولى أن نذره في سنبله وإلاّ إنجرّ الكلام ويفوتنا المرام وبالله الإعتصام ». حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٢٩.

٤٧٨

__________________

(٣) قال أبو المجد حفيد صاحب الهداية قدس الله تعالى سرّهما :

أقول : لماذا تراه عدل عن العبارة المتداولة في أمثال المقام ـ أعني المنع ـ إلى إمكان المنع؟!

أمّا أنا فأرى أنه قدس‌سره علم أنّ من الواضح الذي لا يرتاب فيه وجود الطريق المنصوب فمنعه ورعه وتحرّجه عن منع يعلم خلافه إلى دعوى إمكانه ، والإمكان باب واسع لا يغلق إلاّ على شريك الباري ونحوه ، وصاحب « الفصول » لا يدّعي الوجوب العقلي حتى ينافيه الإمكان ، بل يدّعي القطع بوجود الطريق وهو ـ طاب ثراه ـ يعلم أنه صادق في دعواه وكلامه شاهد له فراجع ما ذكره من الإجماع والسيرة وتواتر الأخبار على حجّيّة خبر الواحد في الجملة.

وليس بمنفرد في دعواه ؛ إذ يشاركه فيها عيون الطائفة الحقّة ووجوهها من رواتها وعلمائها ومحدّثيها وفقهائها وقد نقل الشيخ من كلامهم المقرون بدعوى الإجماع والقطع ما فيه مقنع وكفاية ، فراجع.

إلى أن قال قدس‌سره : وما ذكره من أن تلك الطرق لو كانت لاشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار. فقد حصلت ولله الحمد والمنّة ودلّت الأدلّة الواضحة على حجّية الشريفين : الكتاب والسنّة ، وإن كان ثمّة ريب فهو في حدّ السنّة أو تعيين مصاديقها.

وما ذكره خلال كلامه : من احتمال إحالة الشارع العباد في طريق إمتثال أحكامه إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفيّة إلى آخره. فرائد : ج ١ / ٤٤٠.

فإن كان مع التمكّن من الحجّة عندهم كخبر الثقة فاعتماد العقلاء على الظن ممنوع ....

وأمّا مع عدم التمكّن منه فلا شك في جميع ما ذكره حتى فيما استعاذ منه هنا وفي مواضع

٤٧٩

أقول : لمّا كان المدّعى نصب الشّارع طرقا مخصوصة ؛ بمعنى جعله لها في مقابل الإمضاء والتّقرير بحيث يوجب رجوع الجعلين بالتّقريب الّذي عرفت إلى جعل واحد ، فلا محالة يلزم عليه إثبات أمور :

أحدها : الجعل والنّصب بالمعنى الّذي عرفت.

__________________

أخر ، أعني : تعيّن الإمتثال بالاحتمال إذا فقدت الطرق الظنّيّة.

والحاصل : أن جميع ما مرّ من كلامه وشطرا ممّا يأتي منه يرد على صاحب « الفصول » لو أراد وجوب نصب الطريق غير العقلائي عقلا ، ويصحّ ما ذكره في دفع ما يقال : من أن منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء التكليف وأمّا مع كون المراد ما يعمّ الجعل والإمضاء ، فلا سبيل إلى منع قبح التكليف وحكم العقل بالعمل بالظن مع عدم الطريق الخاص لا يرفع وجوب نصب الطريق على الشارع.

ولقد حمل بعض تلامذة الشيخ نصب الطريق في كلام صاحب الفصول على غير ذلك فأطنب بل أفرط في الإعتراض عليه (*).

وقد أنصف الأستاذ في الحاشية حيث لم ينكر كون المراد من الطرق الخاصّة ما يعمّ ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء امضاء لسيرتهم ولو بعدم الردع عنه قال :

« ومعه لا مجال لعدم نصبها ، ودعواه بيّنة وإنكاره مكابرة » [ حاشية الآخوند على الفرائد : ١٤٦ ].

وما ذكره من اعتراف صاحب « الفصول » بما نقله عنه فلم يظهر لي إرتباطه بالمقام إلاّ بتكلّف ، فهل كان المتوقّع منه أن يقول بلزوم نصب الطريق إلى تلك الطرق فيلزمه لزوم نصبه إلى طريق الطريق وهكذا إلى ما لا نهاية له؟! » إنتهى. وقاية الأذهان : ٥٢٧ ـ ٥٢٩.

(*) الظاهر انه يريد به المحقق الميرزا الآشتياني قدس‌سره.

٤٨٠