بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

الغائية حتّى الموجودة في ذوات الأفعال ؛ فإنّ وجود الأفعال متأخّر عن الطّلب ، وتصور المعصية لا يتوقّف على وجود طلب خارجيّ. ومن هنا حكموا بأنّ المصلحة في العبادات إنّما هي في وجودها بعنوان الإطاعة لا مطلقا.

فتحصل من ذلك : أنّ القول بالتبعيّة لا يلزم وجود المفسدة في ذات الفعل. فنقول ـ في توضيح الجواب بعد منع الملازمة المذكورة ـ : إنّ الظّن بالتّحريم مثلا إنّما يكون ظنّا بالمفسدة إذا كان ظنّا بالمعصية ولا يكون ظنّا بها إلاّ بعد حجيّة الظّن ، وهو محال. كما عرفته في الضّرر الأخرويّ طابق النّعل بالنّعل ، ولا يلزم من ذلك عدم حكم العقل في موارد احتمال الحكم الإلزامي بحسن الاحتياط ورجحانه ؛ من جهة أنّ تحقّق الإطاعة مثلا يتوقّف على ثبوت الطّلب المفروض عدمه في مورد الاحتمال ؛ حيث إنّ المنع الّذي ذكرنا لم يكن مبنيّا إلاّ على احتمال تبعيّة المفسدة للعصيان مع احتمال تبعيّتها لذات الفعل فلا ينافي حسن الاحتياط المبنيّ على الاحتياط كما لا يخفى.

وهذا الوجه وإن أمكن تصحيحه في الجملة بتكلّف بعيد حسبما عرفت ، إلاّ أن الأوجه في الجواب عن الضّرر الدّنيوي ، ما ذكرنا. وملخّصه : المنع من كون الظّن بالتّحريم مثلا ظنّا بالضّرر الّذي يحكم العقل بوجوب دفعه مع قطع النّظر عن حكم الشّارع ، وإلاّ لحكم به استقلالا وهو خلف فتدبّر.

فما يحكم العقل بوجوب دفعه من الضّرر لا يظنّ من الظّن بالتّحريم ، وما يظنّ من الظّن بالتّحريم ، لا يحكم العقل بوجوب دفعه. هذا آخر ما أردنا إيراده في

٣٦١

المقام وقد بقي خبايا في زوايا ولعلّ المتأمّل فيما ذكرنا يستغني به عمّا طوينا إيراده.

(٢٠٨) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل هو وجوب العمل بالظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ المدّعى هو حجيّة الظّن بحيث يكون مثبتا لمدلوله وطريقا إليه شرعا مطلقا سواء قام على الحكم الإلزامي وغيره وسواء وافق الاحتياط ـ كما إذا كان مفاده إثبات جزئيّة ما شك في جزئيّته أو شرطيّته ـ أو خالفه كما إذا كان مفاده تعيين الواجب المردّد بين المتباينين في الشّك في المكلّف به.

ومن المعلوم ضرورة ـ حسبما عرفت الإشارة إليه في كلام شيخنا في طيّ الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اختاره في سابق الأيّام ـ عدم وفاء الوجه المذكور على تقدير تماميّته بإثبات هذا المدّعى ؛ فإنّ مرجعه إلى الاحتياط في مورد قيام الظّن على الحكم الإلزامي ، فلا يشمل فيما لو قام على غيره من الأحكام الثّلاثة. كما أنّه لا يشمل فيما لو قام على تعيين المكلّف به فيما يقتضي الاحتياط في المسألة الفرعيّة الجمع بين المحتملين.

وإثبات المدّعى وتماميّته من الجهتين بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، كما ترى ؛ إذ من قال بحجيّة ظنّ لا يفرق بين موارد قيامه ومفاده لا من يعمل به من باب الاحتياط فإنّه لا معنى لعدم تفصيله ، بل لا بدّ له من القول

٣٦٢

بالتّفصيل ؛ فإنّ الحيثيّة الموجبة للعمل به نافية له فيما خالف الاحتياط كما لا يخفى.

(٢٠٩) قوله قدس‌سره : ( ويمكن أن يرد أيضا : بأنّها قاعدة عمليّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره كالإيراد السّابق عليه ، مبنيّ على ما هو الحق والصّواب في مفاد القاعدة : من كونه وجوب الاحتياط ظاهرا في موارد الظّن بالحكم الإلزامي ، فيكون أصلا من الأصول في خصوص مورد الظّن بالتكليف الإلزامي فلا يقبل المعارضة للعمومات الاجتهاديّة المثبتة للحكم الغير الضّرري في مورد الظّن بالحكم الضّرري بل يكون العمومات واردة عليه ، كما هو الشّأن في مقابلة مطلق الدّليل مع الأصل العقلي.

مع أنّ المستدلّ بهذا الوجه يريد إثبات حجيّة الظّن به بحيث يكون دليلا في مقابل العمومات الاجتهاديّة النّافية بعمومها للحكم الضّرري.

نعم ، لو قيل بحجيّته من جهة دليل الانسداد ولم يتوجّه عليه هذا الإشكال بناء على اعتبار العمومات من باب الظّن الخاصّ الموجب لإنفتاح باب العلم في مورده كما ستقف على تفصيل القول فيه عن قريب.

٣٦٣

(٢١٠) قوله قدس‌سره : ( وقد يشكل بأنّ المعارضة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

مفاد القاعدة وجوب الإحتياط

أقول : توضيح الإشكال : أن مبنى الإيراد وهو عدم نهوض القاعدة دليلا ينتفع به في مقابل العمومات الاجتهاديّة الدّالّة على الحكم الغير الضّرري في الشّبهات الحكميّة ولو كان مواردها شكّا في التّكليف مثل قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (١) مثلا على أنّ مفاد قاعدة وجوب الدّفع إثبات الاحتياط في موارد الظّن بالتّكليف. ولزوم الاحتياط في كلّ مورد فرض في حكم العقل ؛ إنّما هو من جهة احتمال الضّرر كما هو المفروض في المقام أيضا.

والعمومات الاجتهاديّة المرخّصة رافعة لاحتمال الضّرر أو مثبتة للتّدارك فيما لو كان المحتمل هو الضّرر الدّنيوي فيرجع إلى منع صغرى قاعدة وجوب الدّفع بملاحظة العمومات الاجتهاديّة كما كان مرجع الإيراد الأوّل المذكور في قوله قدس‌سره : ( فالأولى أن يقال ... إلى آخره ) (٢) إليه أيضا ؛ لأنّ مفاده ملخّصا : منع الصّغرى بملاحظة دليل البراءة ، والحال أنّ مبنى الإيراد الثّاني على الإغماض عن الإيراد الأول الرّاجع إلى منع الصّغرى وتسليم تماميّة القاعدة والمنع عن إنتاجها حجيّة الظّن.

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٦.

٣٦٤

والمراد من الحكومة في قوله قدس‌سره ـ في تقريب الإشكال : ( فإن نهضت للحكومة ... إلى آخره ) (١) ـ الورود ؛ إذ كثيرا ما يطلق أحدهما على الآخر مسامحة فتدبّر.

والوجه في أمره بالتّأمّل ـ المشير إلى عدم تماميّة الإشكال واستقامة الإيراد ـ هو أنّ مبنى الإيراد ليس على منع أصل القاعدة بمنع الصّغرى حتّى يرجع إلى الإيراد الأوّل فيستقيم حينئذ مطالبته الفرق بين الجوابين ، بل على أنّ مفادها على تقدير تماميّتها والإغماض عن منع صغراها قاعدة عمليّة.

وتقديم بعض الأصول العمليّة على بعض من حيث الاختلاف في المرتبة لا يلازم تقديم ما هو مقدّم على الأصل العملي على الأصل اللّفظي وإن كان معمولا به عند الشّك كالأصل العملي.

ألا ترى أنّ الاستصحاب وارد على البراءة العقليّة وحاكم على البراءة الشّرعيّة ولا يعارض أصلا من الأصول اللّفظية وإن كان في غاية الضّعف كأصالة الإطلاق فضلا من أن يقدّم عليه؟

والوجه فيه ـ مع كون كلّ منهما معمولا به عند الشّك ـ : أنّ الأصل اللّفظي إنّما يعمل به عند الشّك في القرينة على المراد والصّارف عن الظّاهر ، والأصل العملي ليس اعتباره من حيث كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا عن مراد الشّارع من

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ في الهامش برقم (١).

٣٦٥

اللّفظ كأصل البراءة مثلا ؛ فإنّه إنّما يعمل به عند عدم ثبوت التّكليف من الشّارع رأسا واقعا وظاهرا نقلا وعقلا فإذن تصلح القاعدة على تقدير تماميّتها للورود على البراءة كما هو مبنى الإغماض ، ولا تصلح قرينة لإرادة خلاف الظّاهر من اللّفظ.

فهذا الإيراد راجع إلى منع صلاحيّة القاعدة للصّارفيّة لا إلى رفع صغراها بالعمومات الاجتهاديّة وإن كان وجودها ملازما لرفع الصّغرى ، إلاّ أنّ مبنى الإيراد ليس عليه ، فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر في وجه أمره قدس‌سره بالتّأمّل فتقع في حيص وبيص.

* * *

٣٦٦

* الدليل الثاني من أدلة حجية مطلق الظن

٢ ـ قبح ترجيح المرجوح

(٢١١) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : أنّه لو لم يؤخذ بالظّن لزم ترجيح المرجوح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : لا يخفى عليك أن الوجه المذكور في كلماتهم لحجيّة خصوص الخبر أو مطلق الظّن غير محصّل المراد ومحتمل للوجهين ؛ فإنّه قد يقرّر بالنّسبة إلى الحكم بمقتضى الظّن وجعل حكم الله الظّاهري ما اقتضاه من غير نظر إلى العمل وإن ترتّب عليه العمل في الجملة من غير فرق بين أن يكون مفاده الحكم الإلزامي من الوجوب والتّحريم أو غيره ، ومن غير فرق على الأوّل بين أن يكون مورده من موارد الشّك في التّكليف أو المكلّف به.

وقد يقرّر بالنّسبة إلى العمل بمقتضاه وإن استتبع الحكم به أيضا في الجملة كما إذا كان مفاده الإلزام من غير فرق بين الصّور المذكورة ، وعلى الأوّل يكون مفاده حجيّة الظّن مطلقا من غير فرق بين الصّور المتصوّرة ، والمراد منه على كلّ تقدير. ومفروضه أنّه لو لم يؤخذ بالظّن لم يكن هناك مناص عن الأخذ بالوهم ، فلا

٣٦٧

يرد : بأنّه مع التّمكن من الأخذ بالعلم وتحصيله في المسألة لا يؤخذ بشيء من الظّن والوهم ، فإذا كان الظّن حجّة فيجب تحصيله للشّاك فإنّ اعتباره أوجب تقديمه فيجب تحصيله.

قال المحقّق القميّ قدس‌سره ـ بعد ذكر الوجه المذكور ونقله عن العلاّمة قدس‌سره في « نهاية الأصول » وغيره في غيرها ـ ما هذا لفظه :

« وتوضيحه : أنّ لفظ التّرجيح في قولنا ترجيح المرجوح بمعنى الاختيار ، ولفظ المرجوح عبارة عن القول : بأنّ الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه.

والرّاجح عبارة عن القول (١) بأنّ المظنون حكم الله تعالى أو العمل بمقتضاه. ومبدأ الاشتقاق في لفظ الرّاجح والمرجوح هو الرّجحان (٢) بمعنى استحقاق فاعله

__________________

(١) قال المحقق الاصولي الفقيه السيّد علي القزويني معلّقا على كلام المحقق القمي قدس‌سره :

« وقد سهى قلمه في هذا المقام ففسّر المرجوح : بالقول بأن الموهوم حكم الله ، مع انه عبارة عن نفس الموهوم. كما انّ الرّاجح عبارة عن المظنون ، وما ذكره هو معنى اختيار المرجوح على الرّاجح لا معنى المرجوح فقط.

فملخّص ما ذكره : ان اختيار المرجوح على الرّاجح إمّا قولي وهو القول بأن حكم الله في الواقعة هو الموهوم. أو عملي وهو تطبيق الحركات الخارجيّة على الموهوم على انه حكم الله تعالى » انتهى. انظر تعليقة السيّد على القوانين : ج ١ / ٤٤٤.

(٢) « وإنّما يكون الرجحان مبدأ اشتقاقهما لما فيه من اعتباري البناء للفاعل أعني : الراجحيّة ، والبناء للمفعول وهو المرجوحيّة ، والظاهر انه لازم يتعدّى بواسطة « على » فمفعوله مرجوح

٣٦٨

المدح ، أو الذّم ؛ بمعنى كون الشّيء ذا المصلحة الدّاعية إلى الفعل كما هو المصطلح في لفظ المرجّح والمرجوح ».

إلى أن قال :

وبالجملة : المراد : أنّ الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح عند العقل والفتوى. والعمل بالرّاجح حسن. ووجهه : أنّ الأوّل يشبه الكذب بل هو هو ، بخلاف الثّاني ولا يجوز ترك الحسن واختيار القبيح » (١) (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

عليه.

والرّاجح في غير هذا المقام عبارة عن ذي المزيّة وهي المصلحة الدّاعية إلى الفعل والمرجوح هو الخالي عنها ، وهذه المصلحة عقلائيّة كانت أو غير عقلائيّة يقال لها المرجح ، ومن لوازم الرّاجح بمعنى ذي المصلحة العقلائيّة استحقاق فاعله المدح ، فالمرجوح الخالي عنها ما يستحق فاعله الذمّ.

وهيهنا يراد بهما استحقاق الفاعل للمدح واستحقاقه الذمّ من باب التفسير باللاّزم لا ذو المصلحة والخالي عنها ؛ لأنّ الرجحان الذهني والمرجوحيّة الذهنيّة اللذين عليهما مدار الظن والوهم لا يستلزم وجودها والخلو عنها ؛ حيث إن الظن ليس بدائم المصادفة للواقع » انتهى.

انظر تعليقة السيّد القزويني على القوانين : ج ١ / ٤٤٤.

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٢) وأورد عليه صاحب الفصول قائلا :

٣٦٩

وأنت خبير بأنّ مرادهم من الرّاجح في المقام الظّن ومن المرجوح الوهم.

(٢١٢) قوله قدس‌سره : ( وربّما يجاب عنه بمنع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : يستفاد هذا الجواب ممّا أفاده بعض مشايخ المحقّقين في تعليقه على المقام [ في المعالم ] (١) وهو مبنيّ على إرادة إثبات إيجاب العمل بمقتضى الظّن كليّة من الدّليل المذكور ، فأورد عليه : بأنّ لزوم ترجيح الظّن على الوهم إنّما هو من حيث كونه أقرب إلى الواقع من الوهم ؛ فإذا فرض كون الوهم مطابقا للاحتياط

__________________

( لا يخفى ما في تأويله مع ضعف تعليله.

أمّا الأوّل : فلأن تفسير المرجوح والرّاجح بالقول والعمل ليس على ما ينبغي ، بل الوجه اعتباره في الترجيح ؛ فإن الإختيار كما يكون بالقول كذلك يكون بالرّأي والعمل ، ثمّ تفسيره الرجحان الذي هو مبدأ لاشتقاقهما باستحقاق فاعله المدح والذم غير سديد ؛ لأنّه بهذا المعنى مبدأ لإشتقاقهما بمعنى آخر ، ومنه المرجوح في قوله : « الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح » والفرق واضح ثم عطفه الذم على المدح في تفسير الرجحان لا يتم إلاّ بتعسّف.

وأمّا الثاني : فلأنّه مع اختصاصه بالقول مدفوع بأن المشابهة على تقدير تسليمها لا يقضي بالمشاركة في الحكم ، والعينيّة ممنوعة ؛ فإن العبرة في الصدق والكذب بموافقته ومخالفته دون الإعتقاد.

فإن قلت : نعم ، لكن المدار في الإتصاف بالحسن والقبح على الإعتقاد.

قلت : لا نسلّم حسن القول المظنون الصدق وإنّما المسلّم حسن القول المعلوم الصدق هذا ). انتهى. انظر الفصول الغرويّة : ٢٨٧.

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٣٧٠

فليس في ترجيحه بمعنى العمل بمقتضاه طرحا للواقع أصلا. وهذا بخلاف العكس فإنّه لو عمل بمقتضى الظّن ، باختيار ترك ما يظنّ إباحته مثلا مع احتمال وجوبه لم يؤمن من مخالفة الواقع.

ومن هنا ربّما يناقش فيما أفاده قدس‌سره ـ في الإيراد على هذا الجواب بقوله : ( وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ... إلى آخره ) (١) ـ : بأنّ العمل بالمرجوح في الفرض وإن لم يكن طرحا للرّاجح ، إلاّ أنّ العمل بالرّاجح باختيار التّرك خلاف الاحتياط يقينا. وإن التزم في الفرض بعدم جواز اختيار التّرك كان هذا في معنى لزوم العمل بالمرجوح.

نعم ، لو كان المراد من ترجيح المرجوح الفتوى بمقتضى الوهم لا بعنوان الاحتياط لم يكن معنى للجواب المذكور في كلام المجيب فتدبّر.

(٢١٣) قوله قدس‌سره : ( وقد يجاب أيضا : بأنّ ذلك فرع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : هذا الجواب معروف ذكره في « القوانين » وغيره والغرض منه : أنّ مرجع الوجه المذكور إلى أن نفس دوران الأمر بين الظّن والوهم يوجب في حكم العقل من حيث كون الظّن راجحا والوهم مرجوحا وجوب العمل بالظّن وحجيّته عند العقل ، فيرجع إلى كون اعتبار الظّن ذاتيا وهو فاسد ؛ إذ مع التمكّن من تحصيل العلم في المسألة يتعيّن تحصيل العلم فيها ، ومع العجز عنه يرجع إلى الأصول.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨٠.

٣٧١

فعلى كلّ تقدير لا يرجّح الظّن والوهم وإن كان العمل على طبق أحدهما.

نعم ، لو فرض في مقام وجوب ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر وكان الأمر دائرا بينهما لزم في حكم العقل ترجيح الظّن وقبح ترجيح الوهم بل يقبح التّوقف أيضا.

(٢١٤) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أنّ التوقّف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح كترجيح المرجوح فتأمّل ). ( ج ١ / ٣٨١ )

كلام في قاعدة ترجيح الراجح على المرجوح

أقول : كأنّه قدس‌سره زعم من الجواب : كون المراد منه مجرّد عدم ترجيح المرجوح فأورد عليه بما ذكره ، ولو حمله على ما عرفت في شرح المراد منه لم يورد عليه أصلا ؛ فإنّه راجع كما ترى إلى ما أفاده في الجواب الحلّي عن الوجه المذكور ، فليته ذكر في وجه التّأمل ما يرجع إلى الجواب الّذي ذكره عن الجواب ، لا ما أفاده بقوله في الحاشية :

« وجه التّأمل : أنّ مراد المستدلّ من الرّاجح والمرجوح ما هو الأقرب إلى الغرض والأبعد عنه في النّظر. ولا شك في وجوب التّرجيح بمعنى العمل بالأقرب وقبح تركه مطلقا ، فلا فرض لعدم وجوب التّرجيح ليردّ به هذا الدّليل ، فلا فائدة في

٣٧٢

الرّد » (١) انتهى كلامه قدس‌سره في حاشية « الكتاب » في وجه التّأمل.

__________________

(١) لم ترد هذه الحاشية في طبعة مؤتمر تكريم الشيخ الأعظم قدس‌سره ، نعم ، وردت في الفرائد المحشّى بحاشية « رحمة الله قدس‌سره » ص ١١١ في أعلى الصفحة وعلّق عليها الملاّ رحمة الله قائلا :

أقول : ما ذكره قدس‌سره في وجه التأمّل وجه آخر في تضعيف الجواب عن دليل المستدل غير ما ذكره في المتن بقوله : « وفيه : أن التوقّف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح ... ».

وفيما ذكره من وجه التأمّل ، تأمّل ؛ لأنّ الغرض مجهول غير معلوم فكيف يمكن الأخذ بما هو أقرب إليه؟ فلو كان الغرض هو الواقع فوجوب الترجيح متعيّن.

وعليه : يصحّ الحكم بقبح التوقف عن الترجيح ، ولو كان هو الواقع المعلوم وما في حكمه فالعمل بالأصول متعيّن في محلّ الكلام ، ولا قبح للتوقف عن الترجيح فمع كون الغرض مجهولا لم يدر الأمر بين ترجيح الرّاجح والمرجوح كيما يلزم الثاني على تقدير نفي الأوّل.

ولو عيّن الغرض بالظن ثم أخذ بما هو أقرب إليه فهو مصادرة.

فعلم ممّا ذكرنا : ان الجواب عن الدليل الثاني : بأن ذلك فرع وجوب الترجيح سليم لو لم يرد بأن التوقف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح. ويمكن دفعه أيضا بأنّ التوقّف عن ترجيح الرّاجح بمعنى بناء العمل على طبق الراجح قبيح لو وجب الترجيح ، أمّا لو لم يجب الترجيح فلا قبح في التوقّف عنه أصلا ؛ لأنّه توقّف فيما لم يجب ، فلا معنى لقبحه.

اذا علمت ذلك فاعلم : ان القرص من الكلام هو ما كان صلابة مادّته وبساطة شكله وصقالة سطحه بحيث كلّما أردت أن تخدش موضعا منه لم ينخدش ، ولعمري إن هذا الجواب من مصاديقه. « رحمة الله »

٣٧٣

فإنّ ما أفاده يرجع إلى تأييد الاستدلال بعد الجواب عن الإيراد عليه بقوله : ( وفيه : .... إلى آخره ) (١) ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى أنّه ليس المقام مقام الأمر بالتّأمّل ـ : بأنّ تنزيل الاستدلال عليه موجب لأخذ تمام مقدّمات دليل الانسداد في هذا الوجه. وعليه لا يتوجّه عليه ما أفاده من الإيراد أيضا كما لا يخفى.

__________________

* كما علّق عليها المحقق الخراساني في « درره » قائلا :

« ولا يخفى انّه إنّما لم يبق فرض لعدم وجوبه حينئذ إذا لم يمكن الإحتياط ، وإلاّ فللتوقّف عن الترجيح مجال ، كما أفاده في الجواب عن الإستدلال فتدبّر جيّدا » انتهى.

درر الفوائد الجديدة : ١٣١ ، وانظر درر الفوائد القديمة : ٥٣٧.

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨١.

٣٧٤

* الدليل الثالث من أدلة حجّيّة مطلق الظن

٣ ـ دليل سيّد الرياض (*)

(٢١٥) قوله قدس‌سره : ( فيما حكاه عن أستاذه شريف العلماء عن أستاذه السيّد الأجلّ الآقا ميرزا سيّد علي قدس‌سره (١) ما في مجلس المذاكرة ؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٢ )

أقول : الصّور المتصوّرة بعد بطلان الاحتياط الكلّي في جميع الوقائع المشتبهة كثيرة : الاحتياط في المظنونات فقط ، والاحتياط في المشكوكات فقط دون المظنونات والموهومات ، والاحتياط في الموهومات فقط ، والتّبعيض بين

__________________

(*) وزبدته : أن مقتضى الجمع بين العلم الإجمالي بالتكاليف وعدم التمكّن من تحصيل الموافقة القطعيّة ، التنزّل إلى تحصيل الظن بالموافقة جمعا بين قاعدتي الإحتياط ونفي الحرج.

(١) الفقيه الأمير سيّد علي الطباطبائي صاحب الرّياض المتوفى سنة ١٢٣٢ ه‍ صهر الوحيد البهبهاني ـ على إبنته ـ وإبن أخته.

٣٧٥

الجميع والتبعيض بين البعض المتصوّر بصور كثيرة غير مخفيّة.

وعين الوجه الأوّل في الجمع بين قاعدة وجوب الاحتياط من جهة العلم الإجمالي وقاعدة نفي الحرج بإبطال غيره بالإجماع وهو بظاهره محلّ مناقشة واضحة ؛ إذ بعد الغضّ عن سند قيام الإجماع يتوجّه عليه : بأنّ تعيّن الأخذ بالظّن من جهة الإجماع يخرج الدّليل عن الدّليل العقلي.

فالأولى ـ بناء عليه ـ التمسّك بقيام الإجماع على وجوب العمل بالظّن عند انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة كما ذكره في « القوانين » وغيره ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ صريح الوجه المذكور وجوب الاحتياط في مظنونات التّكليف الإلزامي. وأين هذا من حجيّة مطلق الظّن في الأحكام الشّرعيّة؟

وستقف على الفرق بينهما مضافا إلى وضوحه عند تعرّض شيخنا الأستاذ العلاّمة له في طيّ دليل الانسداد.

(٢١٦) قوله قدس‌سره : ( إنّه راجع إلى دليل الانسداد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٢ )

أقول : توقّف إتمام هذا الدّليل على أخذ مقدّمات دليل الانسداد فيه ممّا لا ريب فيه أصلا. إذن مجرّد العلم بوجود الواجبات والمحرّمات مع فرض انفتاح باب العلم ، أو الظّن الخاصّ ، أو الرّجوع إلى ما ينفي التّكليف في جميع الوقائع مع فرض الانسداد ، أو إلى الأصول في الوقائع ، لا يقتضي العمل بالظّن قطعا فيتوجّه عليه مضافا إلى ما عرفت ما أفاده قدس‌سره بقوله : ( مع أنّ العمل بالاحتياط في

٣٧٦

المشكوكات أيضا ... إلى آخره ) (١) ؛ حيث إنّ مبنى الدّليل المذكور على ما عرفت على وجوب العمل بالاحتياط في المظنونات وترك العمل به في المشكوكات والموهومات ؛ دفعا للحرج.

فإذا فرض اندفاع الحرج من ترك الاحتياط في الموهومات من جهة كثرتها فلا يلزم هناك حرج من ضم الاحتياط في المشكوكات إلى الاحتياط في مظنونات التّكليف ، فلا مانع من الحكم بوجوبه بمقتضى العلم الإجمالي الكلّي.

ودعوى : ضمّ المشكوكات بالموهومات ـ من حيث عدم وجوب الاحتياط من جهة عدم القول بالفصل ـ فاسدة جدّا ؛ من حيث أنّ عدم وجوب الاحتياط في الموهومات إنّما هو من جهة دفع الحرج لا من جهة تعيين المعلومات الإجماليّة بالظّن.

وكلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط في الموهومات من جهة ذهابه إلى حجيّة الظّن المطلق أو الخاص ، قال بعدم وجوبه في المشكوكات من جهة العلم الإجمالي الكلّي أيضا وإن التزم بوجوبه من جهة العلم الإجمالي الخاصّ الموجود في بعض المسائل.

وكلّ من قال بعدم وجوبه في الموهومات من جهة لزوم الحرج من مراعاته فيها مع اعترافه باندفاع الحرج من الاقتصار في مخالفة الاحتياط عليها لا يقول بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، بل يقول بوجوب الاحتياط فيها.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨٢.

٣٧٧
٣٧٨

* الدليل الرابع من أدلّة حجّيّة مطلق الظن

٤ ـ دليل الإنسداد

(٢١٧) قوله قدس‌سره : ( الدّليل الرّابع : هو الدّليل المعروف ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٨٤ )

أقول : للدّليل المذكور في كلماتهم تقريرات مختلفة وبيانات متعدّدة من

__________________

(١) قال المحقق العراقي قدس‌سره :

« المسالك في دليل الإنسداد مختلفة من حيث المقدّمات ومن حيث النتيجة فإن النتيجة على بعض المسالك هو التبعيض في الإحتياط والرجوع إلى الظن في مقام إسقاط التكليف.

وعلى البعض الآخر حجّيّة الظن ومرجعيّته في مقام إثبات التكليف بنحو الحكومة تارة والكشف أخرى.

ومنشأ هذا الإختلاف هو الإختلاف في مدرك عدم جواز إهمال التكاليف وانه هو العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع المشتبهة ، أو هو الإجماع ومحذور الخروج عن الدين.

فعلى الأوّل يحتاج إلى مقدّميّة العلم الإجمالي وتكون النتيجة هي التبعيض في الإحتياط محضا.

وعلى الثاني : لا يحتاج إليها وتكون النتيجة حجّيّة الظن ومرجعيّته في مقام إثبات التكليف بنحو الحكومة أو الكشف على تفصيل مذكور في محلّه ». نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٤٦.

٣٧٩

حيث أخذ بعض المقدّمات فيه وتركه من جهة وضوحه ، أو استفادته ممّا ذكر من المقدّمات ، كالعلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الوقائع وكوننا مكلّفين بها كالحاضرين الغير الموجودين كما سلكه قدس‌سره ، وإن كان مستفادا من مطاوي ما ذكره من المقدّمات ؛ كوجوب التّعرض لامتثال الأحكام المشتبهة وعدم جواز إهمالها.

ثمّ إنّ الدليل المذكور قد يقرّر بالنّسبة إلى وجوب الامتثال والعمل بالأحكام المشتبهة على كثرتها ، وقد يقرّر بالنّسبة إلى تحصيل الأحكام وحفظها عن الضّياع وضبطها من حيث وجوب حفظ الأحكام الدّينيّة كفاية على المكلّفين ولو لم يكن متعلّقا لعمل المأمور بمعرفته وضبطه كأحكام النّساء للرّجال وكالأحكام الغير الإلزاميّة.

والمعروف في تقريره هو الوجه الأوّل والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

إذ على الأوّل : يكون تحصيل الظّن من باب المقدّمة للعمل كتحصيل العلم فلا يجب إلاّ إذا وجب العمل ، فلا يقتضي الدّليل اعتبار الظّن بالنّسبة إلى غير الأحكام الإلزاميّة ويحتاج إتمامه إلى إبطال الاحتياط والرّجوع إلى الأصول.

وعلى الثّاني : يكون مطلوبا نفسّيا كفائيّا من غير فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها. ولا يتصوّر الاحتياط على هذا التّقرير ، ولا الرّجوع إلى الأصول بعد فرض ثبوت وجوب الحفظ حتّى يتوقّف إتمامه على إبطال وجوب الاحتياط والرّجوع إلى سائر الأصول ، وإن كان الغرض من حفظ الأحكام العمل

٣٨٠