بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

(٢٠٤) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّا لا نظنّ يترتّب المفسدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

موضوع حكم العقل بوجوب الدفع هو الضرر غير المتدارك

أقول : ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على ما عرفت الإشارة إليه : من كون حكم العقل لاحقا وعارضا في قاعدة وجوب الدّفع للضّرر الغير المتدارك من حيث كون عنوان موضوع حكمه التّضرّر الغير المتحقّق في صورة التّدارك ، فكما أنّه لا بدّ من إحراز ذات الضّرر في حكم العقل ، كذلك لا بدّ من إحراز قيده : وهو عدم التّدارك. فإذا احتمل مصادفة ما يتدارك به الضّرر فلا يلازم الظّن بالوجوب مثلا الظّن بالتّضرّر.

بل قد يقال : بأنّه على قول العدليّة بتبعيّة الأحكام الشّرعيّة للمصالح والمفاسد النّفس الأمريّة لا يلازم الظّن بالحكم الإلزامي الظّن بالمفسدة في الفعل ؛ إذ ربّما يكون المصلحة في التّشريع والتّكليف ، أو يكون حكمة التّشريع وجود المصلحة في وجود الفعل في الجملة لا في جميع أشخاصه. ومن هنا حكموا بعدم لزوم الاطّراد في الحكمة. فالظّن بالحكم لا يلزم الظّن بالضّرر في جميع موارد وجوده فتأمّل.

(٢٠٥) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه : أنّ الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

أقول : ما أفاده ممّا لا خفاء فيه بعد التّأمّل في بناء العقل وحكم العقل في موارد ثبوته ، فالمأخوذ في موضوع الحكم العقلي عدم العلم بالتّدارك ، لا العلم

٣٤١

بعدم التّدارك المنتفي باحتمال التّدارك ، ولا التّدارك الواقعي ؛ حتّى يلزم إحراز عدمه ؛ ضرورة استحالة تعلّق الحكم العقلي بالأمر النّفس الأمري كما ستعرف شرح القول فيه ، مضافا إلى ما عرّفته في مطاوي كلماتنا السّابقة.

(٢٠٦) قوله قدس‌سره : ( ووجه الضّعف : ما ثبت سابقا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

أقول : قد تقدّم سابقا ـ عند تأسيس الأصل في العمل بالظّن بل مطلق غير العلم ـ : أنّ النّهي عن العمل به ، قد يكون من باب الطّريقيّة ؛ من حيث أنّه موجب لطرح الواقع الأوّلي أو الثّانوي في مورده فيكون النّهي عنه إرشاديّا حتّى لا يقع في محذور مخالفة الواقع المحتمل أو المحقّق ، وقد يكون من باب الموضوعيّة ؛ من حيث إنّ التّديّن به مع عدم العلم بحجيّته ولو لم يوجب طرح الواقع أصلا ، حرام من حيث كونه تشريعا محرّما بالأدلّة الأربعة ؛ فإذا فرض الظّن بوجوب فعل ففعله المكلّف تحرّزا عن الوقوع في مخالفة الحكم الإلزامي وبعنوان الاحتياط بحيث لا يكون في فعله احتمال حرمة أصلا ، فليس الفعل المزبور بالعنوان المذكور محرّما بوجه من الوجوه ، بل يكون حسنا قطعا في حكم العقل.

نعم ، قد عرفت : أنّ إيجاب الاحتياط في مورد الظّن المزبور من جهته مع فرض ترخيص الشّارع الرّجوع إلى الأصل المقابل للظّن المستفاد ممّا دلّ على عدم اعتباره ولو من جهة الشّك في الاعتبار ، لا يجامع عدم حجيّة الظّن. والمفروض كون مفاد الدّليل المذكور الاحتياط لا الحجيّة كما هو مبنى كلامه قدس‌سره فتأمل.

٣٤٢

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما أفاده قدس‌سره بقوله المذكور ؛ إنّما هو بالنّسبة إلى بعض ما دلّ على حرمة العمل بالظّن ، وإلاّ فقد عرفت تصريحه مرارا بثبوت الجهة الثّانية لحرمة العمل بالظّن فلعلّه ترك التّعرض له في المقام من جهة تعرّضه فيما تقدّم لعدم مانعيّة للعمل بالظّن بالضّرر بعنوان الاحتياط.

(٢٠٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٦ )

الكلام في الضرر

أقول : لمّا أبطل مانعيّة مجرّد احتمال التّدارك ومزاحمته لحكم العقل بوجوب الدّفع ولو كان بمرتبة الشّك فالتزم بإثبات التّدارك للضّرر بما ذكره معممّا في مراتب الثّبوت بقوله هذا.

وما أفاده من عدم الفرق بين حصول القطع بالتّدارك وبين الظّنّ به ممّا لا خفاء فيه أصلا ؛ حيث أنّه لا يظنّ بالضّرر مع الظّن بالتّدارك أيضا ، كما لا يظنّ به مع القطع بالتّدارك من جهة القطع بالإذن من الشّارع. فالواجب في حكم العقل دفع الضّرر المظنون الّذي لم يظنّ تداركه ؛ فإنّه مع الظّن بالتّدارك يكون كالظّن بالسّلامة فكما لا يحكم العقل بوجوب دفع الضّرر المقطوع الّذي يقطع بتداركه من جهة القطع بإذن الشّارع ، كذلك لا يحكم بوجوب دفع مظنونه مع التّدارك الثّابت بإذن الشّارع ولو ظنّا.

نعم ، الفرق بينهما : أنّه مع القطع بالضّرر لا يجوز الرّجوع إلى الأصول من

٣٤٣

جهة القطع بالحرمة. ومع الظّن به يجوز الرّجوع إليها ؛ من حيث إنّ الظّن لم يثبت حجيّته شرعا وإنّما فرض حكم العقل بوجوب الدّفع في مورده من باب الاحتياط والمفروض : أنّ إذن الشّارع في مورده ظاهرا الكاشف عن التّدارك لا ينافي حكم العقل أصلا كما عرفت.

ومن هنا يعلم أنّه لو فرض قيام الدّليل على اعتبار الظّن بالحكم شرعا لم يجز الرّجوع إلى الأصول أيضا ؛ حيث إنّ الدّليل مانع عن الرّجوع إلى الأصل بخلاف العكس فافهم.

ثمّ إنّ له قدس‌سره تعليق متعلّق بالمقام قبل قوله : « ثم إنّ مفاد هذا الدّليل ... إلى آخره » (١) لا بدّ من نقله وإيراده وبيان ما يحتاج إلى التّوضيح منه ثمّ إيراد ما يخطر بالبال في تنقيح المقام. قال قدس‌سره :

« ومحصّل الكلام : أن الضّرر الدّنيوي لمّا جاز حكم الشّارع عليه بجواز الارتكاب بخلاف الضّرر الأخروي فيجوز أن يحكم الشّارع بجواز الارتكاب مع ظنّه فيكون مظنون الضّرر كمحتمله مرخّصا فيه بأدلّة الأصول.

نعم ، لو ثبت طريقيّة الظّن وحجيّته كان كمقطوع الضّرر ؛ فإذا فرضنا أنّ الإضرار الواقعي بالنّفس محرّم فإن قطع أو ظنّ بظنّ معتبر جاء التّحريم وإلاّ دخل تحت الشّبهة الموضوعيّة المرخّص فيها مع الشّك والظّن الغير المعتبر ، فوجوب دفع الضّرر المظنون موقوف على إثبات طريقيّة الظّن فإثباتها به دور ظاهر.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩.

٣٤٤

فالتّحقيق : أنّ الظّن بالضّرر إن استند إلى الأمارات الخارجيّة في الشّبهات الموضوعيّة كان طريقا وحجّة بإجماع العقلاء والعلماء. والسّر فيه : انسداد باب العلم بالضّرر في الأمور الخارجيّة فالعمل بالأصول في مقابل الظّن يوجب الوقوع في المضار الكثيرة بحيث يخلّ بنظام المعاش نظير ترك العمل بظنّ السّلامة ، وإن كان مستندا إلى الأمارات في الشّبهات الحكميّة فلا دليل على اعتباره بل المرجع الأصول المرخّصة النّافية للتّكليف إلاّ إذا ثبت انسداد باب العلم فيها فيرجع إلى دليل الانسداد ، وكذلك الكلام في ظنّ السّلامة في مقابل الأصول المثبتة للتّكليف فتأمّل.

والأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضّرر الدّنيوي على مخالفة الواجب والحرام إمّا بالوجدان وإمّا لاحتمال كون المصالح والمفاسد مترتّبة على المخالفة عصيانا لا مطلقا ولا يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط في موارد الشّك فافهم » (١). انتهى كلامه قدس‌سره في الهامش.

** قوله فيه : « فوجوب دفع الضّرر المظنون ... إلى آخره » (٢).

ظاهره وإن كان في باديء النّظر منع أصل الكبرى في الضّرر المظنون الدّنيوي ما لم يثبت حجيّته ؛ نظرا إلى كون التّحريم متعلّقا بالإضرار الواقعي فيكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / هامش صفحة ٣٧٨ برقم (٤).

(٢) نفس المصدر ، وهذه الحاشية على الهامش وبعبارة أخرى : حاشية على الحاشية ورمزنا لذلك بنجمتين.

٣٤٥

الظّن المتعلّق به كالظّن الغير المعتبر المتعلّق بسائر الموضوعات المحرّمة ، إلاّ أنّه بعد التّأمل في أطراف كلماته يعلم أنّ مراده منع وجوب الدّفع من حيث ترخيص الشّارع الثّابت بأدلّة الأصول الموجب للتّدارك الرّافع لقيد الموضوع في حكم العقل. كما أنّ إذن الشّارع بالنّسبة إلى الضّرر الأخروي يرجع إلى رفع الموضوع أيضا فينطبق على ما أفاده في « الكتاب ».

فإذا كان تطبيق الكبرى في المورد الخاص على الصّغرى موقوفا على حجيّة الظّن حتّى يمنع جريان الأصل المثبت للتّدارك فلا يمكن إثبات حجيّة الظّن بالضّرر بنفس وجوب الدّفع الموقوف جريانه على إثبات الصّغرى الموقوف على الحجيّة ، وإلاّ لزم الدّور الواضح ؛ من حيث توقّف الصّغرى على الحجيّة المتوقّفة على وجوب الدّفع المتوقّف على الحجيّة. فإن أسقطت الواسطة قلت : يتوقّف كلّ من الصّغرى والكبرى على الأخرى.

وتوهّم : لزوم الدّور أيضا ـ من استناد رفع قيد الموضوع إلى أصالة البراءة من حيث إنّ إجراءها يتوقّف على عدم البيان الموقوف على عدم حجيّة الظّن بالضّرر المستند إلى أصالة البراءة فيلزم توقّف كلّ من الصّغرى والكبرى في قاعدة قبح العقاب من غير بيان على الأخروي وهذا معنى الدّور ـ فاسد جدّا ؛ حيث إنّ القاعدة يتوقّف على عدم العلم بالحجيّة وهو حاصل في المقام ؛ إذ المفروض عدم إمكان حجيّة الظّن بالضّرر بنفس وجوب الدّفع وحكم العقل لكونه دوريّا هذا. وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك عند تعرّض شيخنا قدس‌سره له في الجزء الثّاني من « الكتاب ».

٣٤٦

** قوله قدس‌سره في الحاشية : ( فالتّحقيق : أنّ الظّن بالضّرر ... إلى آخره ) (١).

مراده من ذلك الظّن المتعلّق بموضوع الضّرر من الأمارات الخارجيّة القائمة عليه ابتداء وبالذّات في قبال الظّن المتعلّق به ثانيا وبالعرض ؛ من جهة الظّن بالحكم الشّرعي الإلزامي سواء كان من جهة تعلّقه بالحكم الكلّي كما في الشّبهات الحكميّة كما هو مفروض البحث ، أو الحكم الجزئي كما في الشّبهات الموضوعيّة الوجوبيّة أو التّحريميّة.

ومن هنا تبيّن أنّ ملاك الفرق بين القسمين : هو تعلّق الظّنّ بالضّرر ابتداء من غير تعلّقه به من جهة تعلّقه بالحكم الإلزامي المبني على المفسدة على مذهب العدليّة ، وإن كان من جهة تعلّقه بوجود الضّرر في موضوع كلّي وتعلّقه به من جهة تعلّقه بالحكم الإلزامي وإن كان من جهة تعلّقه بتحريم موضوع جزئي من جهة الظّن بكونه من مصاديق الحرام المعلوم في الشّرع.

وجعل السّر في اعتبار الظّن في الأوّل انسداد باب العلم بالضّرر فيه غالبا ؛ حيث إنّه لا يعلم به غالبا إلاّ بعد الوقوع فيه ، يحتمل أن يكون من باب الحكمة لانعقاد إجماع العلماء والعقلاء على اعتباره ، كما هو الحكمة في اعتبار أغلب الظّنون الخاصّة. ويحتمل أن يكون من جهة كونه علّة ودليلا بحجيّة الظّن به في حكم العقل ؛ فيكون هو الوجه والدّاعي لإجماعهم على سلوكه ، كما هو الشّأن في إجماعهم على اعتبار الظّن في الأمور المستقبلة وجملة من الموضوعات

__________________

(١) انظر هامش (٤) من فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٨.

٣٤٧

الخارجيّة كالعدالة والنّسب والوقف ونحوها ممّا ستعرف الكلام فيها في تنبيهات دليل الانسداد.

والفرق بين الوجهين لا يكاد يخفى على أحد ؛ فالظّن بالمفسدة والضّرر في القسم الثّاني بناء على ما أفاده قدس‌سره لا يفيد شيئا إلاّ إذا فرض تماميّة مقدّمات الانسداد في الشّبهات الحكميّة. وعليه : يحكم بحجيّة الظّن المتعلّق بالحكم الشّرعي الكلّي ابتداء من غير اعتبار توليد الظّن بالضّرر منه ، ولذا لا يفرّق على فرض تماميتها بين مذهب العدليّة والأشاعرة.

والوجه في أمره بالتّأمّل عقيب حكمه قدس‌سره بالفرق بين القسمين ما سننبّئك عليه في توضيح المقام ؛ من أنّه لو حصل الظّن بمرتبة من الضّرر يجب دفعها في حكم العقل إذا حصل الظّن بها في الموضوعات الخارجيّة كالضّرر المهلك من الظّن بالحكم الشّرعي الكلي لم يكن معنى للحكم بعدم وجوب دفعه ، ومن هنا ذكر قدس‌سره : ( أنّ الأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضّرر ... إلى آخره ) (١).

ومراده من ذلك : العلم بعدم كون الضّرر والمفسدة من لوازم نفس الفعل بحيث يترتّب عليه قهرا والشّاهدة له مشاهدة التّخلّف كثيرا أو احتمال ذلك باحتمال كون الضّرر مترتّبا على الفعل إذا صدر بعنوان العصيان.

كما أنّ المصلحة مترتّبة في العبادات على الفعل الصّادر بعنوان الإطاعة ولا يلزم على هذا الاحتمال عدم حسن الاحتياط في موارد احتمال الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ ، في الهامش.

٣٤٨

الإلزامي فيما اقتضت أدلّة البراءة نفي العصيان على وجه العلم واليقين بتوهّم : أنّ حسن الاحتياط ورجحانه في حكم العقل إنّما هو من جهة التّحرز عن لوازم فعل الحرام وترك الواجب من المفاسد الكامنة الثّابتة في نفس الأفعال بأيّ نحو وجدت ؛ ضرورة أنّه يكفي في حسنه احتمال ترتّب المفسدة على الفعل بعنوانه الإطلاقي والتّجريد عن المعصية وإن احتمل ترتّبها على الفعل إذا صدر بعنوان العصيان. نعم ، على الوجه الأوّل لا معنى للحكم بحسن الاحتياط في صورة القطع بانتفاء العصيان فتدبّر.

هذا بعض ما خطر ببالي وخاطري القاصر في توضيح مرامه ممّا علّقه بالمقام عاجلا وإن أردت تنقيح المقام وشرح القول فيه بحيث يزول عنك جملة الشّبهات المتطرّقة في نفسك ، فاستمع لما يتلى عليك بسمع الطّالب الشّائق فنقول ـ من باب المقدّمة ـ :

الأحكام تابعة للموضوعات الوجدانيّة عند الحكم

إنّه لا ريب ولا إشكال في أنّ الحكم بمعنى الإنشاء من أيّ حاكم كان شارعا أو عقلا أو غيرهما يتبع الموضوعات الوجدانيّة عند الحاكم فيلحقها من غير فرق بين الموضوعات البسيطة أو المركبة ، الأعمّ من المقيّدة الرّاجعة عند التّحقيق ببعض الملاحظات إلى الموضوعات البسيطة الّتي تكون علّة الحكم في نظر الحاكم وموجبة له ، فلا يعقل عروض الحكم للموضوع النّفس الأمري

٣٤٩

المجهول عند الحاكم بحيث يلزم وجود الحكم في الواقع من الحاكم مع جهله به ؛ ضرورة استحالة تبعيّة الأمر الوجداني للأمر النّفس الأمري.

وأمّا تقسيم الحكم الشّرعي إلى الواقعي الشّأني والفعلي المنجّز فإنّما هو بملاحظة أمر آخر يرجع إلى المكلّف لا إلى الشّارع الحاكم فلا يعقل جهل الشّارع بحكمه ، وإنّما يتصور جهل الغير بحكم الشّارع. وهذا ليس من جهة كونه شارعا عالما بالغيب معصوما عن الخطأ ، بل من جهة كونه حاكما حسبما عرفت.

ومن هنا قلنا : بامتناع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة الرّاجعة إلى التّحسين والتّقبيح العقليّين كما يمرّ عليك في باب الاستصحاب ؛ حيث أنّه لا يتصوّر الشّك فيها للعقل ، وحكمنا بفساد القول بجريان استصحاب الاشتغال العقلي والبراءة العقليّة كما ستقف عليه في باب البراءة ، وإن كان الشّك متصوّرا في الحكم الشّرعي المستكشف من الحكم العقلي وإن رجع إلى الشّك في بقاء ما هو المناط والموضوع في نظر الشّارع ومعه لا يجري الاستصحاب أيضا إلاّ أنّه ليس من تلك الحيثيّة كما لا يخفى.

ولذا قلنا بجريان الاستصحاب لإثبات الحكم الشّرعي فيما يرجع الشّك فيه إلى الشّك في بقاء الموضوع في الآن اللاّحق فيما لا يرجع إلى الشّك في موضوعيّة الموضوع كالموضوع الّذي كان مضرّا في السّابق مثلا يقينا ، وشك في بقاء الضّرر فيه من جهة الأمور الخارجيّة ؛ فإنّه لا مانع من استصحاب الضّرر له والحكم من أجله بالحرمة الشّرعيّة ، وإن لم يكن الحكم بالحرمة العقليّة بمعنى

٣٥٠

التّقبيح العقليّ من حيث كون حكمه تابعا للأمر الوجداني لا للأمر الواقعي النّفس الأمريّ حتّى يقبل الشّك في بقائه.

إذا عرفت ما قدّمنا لك من المقدّمة فاستمع لما يتلى عليك في توضيح المقام في موضوعين : أحدهما : في الضّرر الأخروي. ثانيهما : في الضّرر الدّنيوي.

الكلام في الضرر الأخروي

أمّا الأوّل فتحقيق القول فيه : أنّه لا ريب في استقلال العقل وحكمه بوجوب دفع محتمله كمقطوعه من غير فرق بين مراتب الاحتمال ظنّا وشكّا ووهما إلاّ في الوضوح والخفاء ؛ حيث إنّ حكمه بوجوب دفع الموهوم ليس كحكمه به في المشكوك ، وفي المشكوك ليس في الوضوح كحكمه به في المظنون ، كما أنّ في المظنون ليس كحكمه به في المقطوع في كونه بالنّظر الأوّلي وإن كان حكمه في الموهوم ينتهي إلى البديهي الأوّلي فضلا عن حكمه في المظنون ، كما هو الشّأن في جميع النّظريّات.

وتوهّم : عدم حكمه في الموهوم أصلا فاسد جدّا ؛ حيث إنّه مع مخالفته للوجدان السّليم موجب لإقحام الأنبياء وأن لا يكون لله تعالى حجّة على غير النّاظر وعدم حكمه بوجوب شكر المنعم الّذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى ولو في حقّ المتوهّم فليس حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون من حيث كون الظّن طريقا إلى الضّرر النّفس الأمري وإلاّ لم يتحقّق في المشكوك والموهوم كما لا يخفى.

٣٥١

مضافا إلى ما عرفت في المقدّمة من استحالة لحوق حكم العقل للموضوع النّفس الأمري ، بل من حيث ذاته كالمقطوع فالعلم والظّن سيّان من هذه الجهة.

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور في المقام وإن كان إرشاديا كسائر الأحكام العقليّة ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يجعل دليلا على الحكم الشّرعي المولوي كما في أكثر الموارد ، بل يجعل دليلا على الحكم الإرشادي للشّارع لاستحالة الاستكشاف من ذلك في المقام ، كما في حكمه في مسألة وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ؛ حيث أن حكم العقل فيها لا يمكن أن يجعل دليلا إلاّ على الحكم الإرشادي للشّارع كما هو واضح لا سترة فيه ؛ فكلّ ما ورد ممّا يدلّ على الطّلب الإلزامي من الآيات والأخبار فيحمل على الطّلب الإرشادي فيكون تأكيدا لحكم العقل به كأوامر الإطاعة.

ثمّ إنّ حكم العقل فيما ذكرنا من الضّرر الأخروي بمراتبه المذكورة لا يبحث فيه من حيث إنّه لاحق للضّرر أو الضّرر الغير المتدارك حيث أنّ إيقاع الشّارع في الضّرر الأخروي مع جبره بالتّدارك غير معقول وإن كان حكم العقل لاحقا عند التّحقيق للضّرر الغير المتدارك مطلقا.

ففي كلّ موضع لم يحكم فيه بوجوب الدّفع بالنّسبة إلى الضّرر الأخروي مع إذن الشّارع خصوصا أو عموما فليس من جهة كشفه عن التّدارك وارتفاع القيد للموضوع العقلي ، بل من جهة ارتفاع أصل الضّرر مع إذن الشّارع ؛ ضرورة امتناع التّخصيص بل الحكومة بالنّسبة إلى الأحكام العقليّة ، فلا بدّ أن يجعل دليل الإذن

٣٥٢

واردا على الحكم العقلي ورافعا لموضوع حكمه حقيقة.

فإذا فرضنا في المقام ـ كما هو المفروض ـ عدم قيام دليل من الخارج على حجيّة الظّن بالوجوب والتحريم بل أريد إثبات حجيّته بنفس حكم العقل من حيث كون الظّن بهما ظنّا بالضّرر الأخروي فهو إنّما يتمّ فيما إذا كان الظّن بهما ظنّا به مع قطع النّظر عن حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون وإلا لدار ، فلا يتمّ القياس والاستدلال.

والمفروض أنّ الحاكم باستحقاق العقاب على مخالفة المولى العقل ، فلا يعقل أن يتبع حكمه المخالفة الواقعيّة التّابعة للطّلب الحتمي النّفس الأمري ، بل إنّما يتبع تبيّن الطّلب وقيام الدّليل عليه عند المكلّف ولو في مرحلة الظّاهر إلاّ فيما لا يعذر فيه الجاهل من جهة جهله مع التّقصير ؛ حيث أنّ نفس احتمال الحكم الإلزامي يكفي في تنجزّه في حقّه كما هو واضح. وهذا معنى ما ذكرنا من لحوق حكم العقل للموضوع الوجداني لا النّفس الأمريّ.

ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره في مطاوي كلماته الشّريفة : أنّ حكم العقل بالاستحقاق يتبع المعصية الّتي هي من الأمور الوجدانيّة لا المخالفة الواقعيّة للخطاب الشّرعي النّفس الأمري ، فإذن لا يحتاج في إبطال جعل حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون الأخروي دليلا على حجيّة الظّن بالوجوب والتحريم إلى ملاحظة ورود دليل البراءة على هذه القاعدة العقليّة ، بل نفس القاعدة غير جارية إذا فرض استحالة جعلها موجبة للصّغرى وهو الظّن بالضّرر والعقاب حسبما عرفت.

٣٥٣

وهذا معنى عدم إمكان الاستدلال على حجيّة الظّن بقاعدة وجوب دفع الضّرر ، بل قد يتأمّل في إبطال جعله دليلا من جهة الورود المذكور بعد تسليم وجود الموضوع لقاعدة وجوب الدّفع مع قطع النّظر عن حكم العقل في قاعدة قبح العقاب من غير بيان وغيره من أدلّة البراءة ؛ حيث إنّه يجعل بيانا بعد تسليم وجود موضوعه بالملاحظة المسطورة ودليلا ظاهريّا على وجود الحكم الإلزامي ؛ فيجعل واردا على دليل البراءة وإن كان فاسدا بما أشرنا إليه سابقا عن قريب في توضيح ما أفاده قدس‌سره : من لزوم الدّور في كلامه السّابق في الهامش فتأمّل. فإنّ المقام حقيق بالتأمّل فيه. بل قد يقال برجوع ما أفاده قدس‌سره في غير موضع من ورود دليل البراءة على القاعدة إلى ما ذكرناه.

وبالجملة : حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون عند الظّن بالوجوب والتّحريم سواء كان في الشّبهة الحكميّة أو الموضوعيّة إنّما يجعل دليلا على عدم معذوريّة المكلّف وحسن عقابه على الواقع المظنون فيما فرض عدم معذوريّة الجاهل من جهة جهله من غير توقّف على كون الظّن دليلا كما في الجاهل المقصّر الّذي منه التّارك للنّظر في المعجزة ، فهذا الدّليل لا يتمّ إلاّ بإرجاعه إلى دليل الانسداد فلا يكون دليلا مستقلاّ على المدّعى كما هو المدّعى.

والقول : بعدم المانع من جعله دليلا مستقلاّ مع توقّفه على ضمّ مقدّمات الانسداد ؛ نظرا إلى أنّه قد يؤخذ مقدّمات دليل في دليل آخر كما في « القوانين ». فيه ما لا يخفى.

٣٥٤

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور فيما يكون ثابتا كما في موارد عدم معذوريّة الجاهل حسبما عرفت ؛ إنّما يصحّ دليلا على حسن المؤاخذة على الواقع المظنون على تقدير ثبوته واقعا وفي نفس الأمر لا على حجيّة الظّن بالحكم الإلزامي وإلاّ لم يتحقّق في المحتمل ؛ إذ لا يعقل طريقيّة مجرّد الاحتمال. مع أنّك قد عرفت ثبوت حكمه في المحتمل كالمظنون ، وهذا وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه بعد التّأمّل فيما ذكرنا إلاّ أنّه كلام آخر لا تعلّق له بالمقام هذا بعض الكلام في الموضع الأوّل.

الكلام في الضرر الدنيوي

وأمّا الموضع الثّاني وهو الضّرر الدّنيوي فتفصيل القول فيه : أنّه لا شبهة في استقلال العقل في الحكم بوجوب دفع مقطوعه ومظنونه. في الجملة ، ولو كان في خصوص ما يوجب هلاك النّفس ، أو يقرب منه عادة.

بل التّحقيق : حكمه بوجوب دفع المحتمل من هذا القسم من الضّرر الدّنيوي الّذي يحكم به مع القطع أو الظّن به في الجملة ، أي : في بعض مراتب الاحتمال ولا ينافي ما ذكرنا في الموضع الأوّل : من حكم العقل بالوجوب في المحتمل من الأخروي مطلقا للفرق بين الضّررين كما لا يخفى ، كالفرق بين مراتب الضّرر الدّنيوي حسبما عرفت.

لكن حكمه بالوجوب فيما يحكم به من الضّرر الدّنيوي حتّى في المقطوع

٣٥٥

منه ؛ إنّما هو من حيث ذات الضّرر وعنوانه بنفسه مع قطع النّظر عن ضمّ عنوان آخر حسن إليه يوجب حسن إرتكابه بالعرض كحكمه بالحسن والقبح في كثير من الموضوعات والعنوانات ؛ فإنّه ليس إلاّ بالملاحظة الّتي ذكرنا. وليس العنوان المعروض للحسن والقبح فيها علّة تامّة لهما في نظر العقل ، بل إنّما هو مقتض لهما.

فإن شئت قلت : إنّهما يعرضان في أكثر الموارد للعنوانات المقيّدة بعدم المزاحم لا المطلقة البسيطة كما في بعض الموارد كقبح الكفر بالله والظلم والمعصية وحسن الإيمان بالله وإطاعته مثلا فإذا حكم الشّارع في مورد بتعريض النّفس للمهلكة فيكشف ذلك عن ضمّ عنوان حسن إلى الضّرر غالب على قبحه. ومن هنا ذكر قدس‌سره في « الكتاب » : « أنّه يجوز إذن الشّارع في ارتكاب الضّرر المقطوع الدّنيوي فضلا عن المظنون منه » (١) وإن كان مجرّد احتمال ذلك غير مجد في نظر العقل وإلاّ لزم تأثير الأمر النّفس الأمري في الأمر الوجداني وهو محال ظاهر على ما عرفت مفصّلا.

كشف الحكم العقلي عن الحكم الشرعي المولوي

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور يكشف بقاعدة التّلازم من حيث قابليّة المورد ـ سواء كان في مقطوع الضّرر أو مظنونه ـ عن حكم شرعيّ مولويّ يعاقب على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٨.

٣٥٦

مخالفته وإن تخلّف الاعتقاد عن الواقع لما عرفت : من استحالة طريقيّة الاعتقاد في المستقلاّت العقليّة.

ومن هنا ذكر الفقهاء رضوان الله عليهم في باب القصر : أنّ سلوك طريق مقطوع العطب أو مظنونه معصية يجب إتمام الصّلاة معه وإن انكشف عدم الضّرر (١). وليس قولهم هذا مبنيّا على حرمة التّجرّي كما زعم واستظهره شيخنا العلاّمة قدس‌سره من كلماتهم على ما عرفت في أوّل « الكتاب » في فروع مسألة العلم بل على ما ذكرنا.

وليس هذا كحكمه في الضّرر الأخرويّ من حيث عدم إمكان كشفه عن حكم شرعيّ مولوي في مورده على ما عرفت شرح القول فيه في الموضع الأوّل.

هذا في الضّرر الدّنيوي الّذي يستقلّ العقل بالحكم فيه ، وقد عرفت : عدم إمكان جعل الظّن طريقا بالنّسبة إليه من حيث اختصاص طريقيّته بما يكون الحكم عارضا لمتعلّقه.

نعم ، يمكن طريقيّته فيما لوحظ بالنّسبة إلى الحكم الشّرعي المعلّق على نفس ارتكاب المضر الواقعي ولو كان مهلكا ويحكم العقل بوجوب الدّفع في

__________________

(١) انظر الرسائل التسع للمحقق الحلي : ٣١٣ ، ورسائل الكركي : ج ١ / ١٢٣ ، وشرح اللمعة : ج ١ / ٧٨٥ ، والذكرى : ج ٤ / ٣١٤ ، والروض ط قديم : ٣٨٨ والذخيرة : ٤٠٩ ، والحدائق الناظرة : ج ١١ / ٣٨٢ ، وكشف الغطاء : ج ٣ / ٣٤٢.

٣٥٧

مقطوعه ومظنونه بل مشكوكه فتدبّر.

وأمّا الضّرر الّذي لا يستقلّ العقل بحكمه من حيث كونه دون المرتّبة الّتي يحكم العقل فيها فلا إشكال في إمكان ثبوت الحرمة الشّرعيّة له ؛ من حيث كون الموضوع في الحكم الشّرعي في باب الضّرر أوسع منه في الحكم العقلي ، وحكم العقل بوجوب الدّفع إجمالا من جهة تصديق الشّارع ؛ نظرا إلى عكس قاعدة التّلازم كما هو الشّأن في جميع موارد ثبوت الحكم الشّرعي فيما لا يستقلّ العقل بحكمه ، فلا إشكال في إمكان جعل الظّن طريقا بالنّسبة إليه خصوصا أو عموما من جهة قيام دليل خاصّ أو عامّ كشبه دليل الانسداد ؛ حيث إنّه قد يقال بجريانه في بعض الموضوعات الّتي منها الضّرر على ما عرفت الإشارة إليه في شرح الحاشية. وعلى هذا القسم لا بدّ من أن يحمل ما أفاده قدس‌سره فيها لما عرفت : من استحالة طريقيّة الظّن فيما يستقلّ العقل بحكمه.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا إنّما هو فيما لو تعلّق الظّن ابتداء بالضّرر الدّنيوي وإن تعلّق الظّن بالحرمة من جهته كما فيما يظنّ كونه مضرّا في الموضوعات الخارجيّة. وأمّا إذا تعلّق الظّن ابتداء بالحرمة فيظنّ من جهته بالضّرر الدّنيوي كما في الظّن بالتّحريم مثلا في الشّبهات الحكميّة حسبما يبحث عنه بناء على ما هو المقرّر عند العدليّة من تبعيّة الأحكام الشّرعيّة للمصالح والمفاسد النّفس الأمريّة ، فلم يقم هناك دليل على حجيّة الظّن حتّى يجب متابعته لما عرفت ؛ من عدم استقلال العقل فيه بحكم.

٣٥٨

والدّليل الدّال على حرمة ارتكاب المضرّ لا يجدي مع عدم إحراز الموضوع بالطّريق المعتبر. والمفروض إذن الشّارع بالرّجوع إلى الأصول فيما لم يقم هناك دليل على الرافع حتّى في مورد قيام الظّن ، فالضّرر وإن كان مظنونا من جهة الظّن بالتّحريم الشّرعي إلاّ أنّه مع كونه متداركا على تقدير ثبوته من جهة إذن الشّارع فيه الثّابت بالفرض لا يستقلّ العقل فيه بشيء.

فجعل مطلق الظّن بالضّرر في الفرض حجّة يتوقّف على جعل الظّن بالحرمة مطلقا حجّة شرعيّة من دليل الانسداد ونحوه ؛ فيرجع الكلام إلى عدم صلاحيّة قاعدة وجوب الدّفع لجعل الظّن بالتّحريم والوجوب حجّة في الأحكام الشّرعيّة ؛ من حيث استلزامه للظّن بالضّرر الدّنيوي إمّا من جهة منع استقلال العقل في ذلك الّذي يرجع إلى المنع الكبروي ؛ وإمّا من جهة ثبوت التّدارك من إذن الشّارع في مورد الظّن المستفاد من أدلّة حرمة العمل بغير العلم وأدلّة الأصول فيرجع إلى المنع الصّغروي ، وإن كان الثّاني منظورا فيه.

نظرا إلى أنّه بعد تسليم استقلال العقل في الحكم لم يكن هناك محلّ للرّجوع إلى عمومات حرمة العمل بغير العلم أو أدلّة الأصول فلا بدّ من منع استقلال العقل وإن كان إذن الشّارع على تقدير مصادفته للوقوع في الضّرر في مورد ثبوته بتدارك به الضّرر.

فلعلّ هذا وجه أمره قدس‌سره بالتّأمّل وإن كان بعيدا عن مساق العبارة ؛ إذ الظّاهر منها بعد إمعان النّظر ـ كما صرّح به قدس‌سره في مجلس المذاكرة على ما هو ببالي

٣٥٩

وعرفت توجيه التّأمّل به في مطاوي شرح الحاشية ـ التّأمل في حكم الظّن المتعلّق ابتداء بالضّرر كما في الشّبهة الموضوعيّة والظّن المتعلّق به ثانيا وبالعرض ؛ من جهة الظّن المتعلّق بالحكم الإلزامي الشّرعيّ كما في الشّبهة الحكميّة ؛ فإنّ المناط هو الظّن بالتّضرّر عند العقلاء فلا بدّ إمّا من القول بعدم حكم العقل في الصّورتين وإمّا من القول به فيهما فالتّفصيل لا معنى له. وإن كان هذا منظورا فيه بعد التّأمّل فيما تلوناه عليك.

ثمّ إنّ الوجه المذكور للتّأمّل دعاه قدس‌سره إلى العدول عمّا أفاده إلى الجواب عن القاعدة في الضّرر الدّنيوي بقوله : « والأولى والأسلم في الجواب ... إلى آخره » (١) الرّاجع إلى منع استلزام الظّن بالحكم الإلزامي للظّن بالمفسدة الكامنة في الفعل من غير احتياج إلى إثبات التّدارك وإن قلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد على ما هو المفروض ؛ إذ لا يلزم القول بذلك القول بوجود المفاسد في ذوات الأفعال ، بل يكفي الالتزام بوجود المفاسد الدّاعية للطّلب والباعثة عليه في الجملة ، ولو كان في الفعل باعتبار وجوده بعنوان المعصية ، ولا يلزم عليه محال ؛ من حيث إنّ تحقق الإطاعة والمعصية متأخّر عن الطّلب المتأخّر عن جهته أعني المصلحة والمفسدة ؛ إذ الحكمة الدّاعية على الطّلب والعلّة الغائية له لا بدّ أن تكون مقدّمة عليه من حيث التصوّر وإن كانت متأخّرة عنه من حيث الوجود ، كما هو الشّأن في مطلق العلل

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ في الهامش.

٣٦٠