بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

سيّما مع ما يشاهد في الفقه من « المحقّق » من تمسّكه بأخبار الآحاد في كثير من المسائل ، فراجع « المعتبر » حتّى تقف على حقيقة الأمر وتشهد بصدق ما ادّعيناه.

(١٥٤) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ إجماع الأصحاب الّذي ادّعاه الشّيخ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٢٤ )

عدم صلاحيّة الإجماع العملي لأن يكون قرينة على العمل بالاخبار

أقول : قد عرفت في تقريب استدلال الشّيخ قدس‌سره بالإجماع العملي في المسألة ، ما يوضّح ما أفاده قدس‌سره : من عدم صلاحيّته لأن تصير قرينة عامّة قطعيّة لما عملوا به من الأخبار ، وإن فرض وجوده بالنّسبة إلى جميع ما في الكتب المعتبرة والأصول المعتمدة ؛ حيث إنّك قد عرفت : أنّ عنوان عملهم كون المعمول به خبر واحد عدل أو ثقة أو غيرهما من العناوين. ومن المعلوم أنّ مرجعه إلى الإجماع في المسألة الأصوليّة ، أعني : حجيّة خبر الواحد في زعم المجمعين ، فكيف يمكن أن يصير قرينة على صدور الخبر؟

فليس العمل الصّادر منهم بالعنوان الّذي عرفته إلاّ نظير القول الصّادر منهم بحجيّة الخبر ، فهل ترى من أحد أن يتوهّم كون قولهم بحجيّة خبر الواحد قرينة على صدوره؟ والمفروض أن الاستدلال بعملهم من حيث كشفه عن رأيهم في المسألة الأصوليّة.

نعم ، لو اتّفقوا على الإفتاء في مسألة ورد فيها خبر واحد على طبق آرائهم

٢٦١

مع العلم إجمالا بصدور حكم المسألة عن المعصوم عليه‌السلام من غير جهة الإجماع ، كان الإجماع المذكور قرينة قطعيّة على صدور الخبر المذكور أو ما يرادفه. وأين هذا من الإجماع الّذي يجعل دليلا على حجيّة خبر الواحد؟ وشتّان بينهما ، فإنّه قرينة قطعيّة على صدور الخبر ، فيخرج عن عنوان خبر الواحد المجرّد ، ولا يمكن أن يجعل دليلا على حجيّته. وهذا بخلاف الإجماع المبحوث عنه في المقام ؛ فإنّه دليل على حجيّة الخبر المجرّد ولا يمكن أن يصير قرينة على صدوره.

نعم ، من لا يتعدّى في باب الأخبار عن الخبر المعمول به عند الأصحاب ، يمكن حمل كلامه على كون الاتّفاق قرينة عنده على صدور الخبر كما عرفته من ذيل كلام « المحقّق » في « المعتبر » ولكنّه لا تعلّق له بكلام الشّيخ قدس‌سره.

(١٥٥) قوله قدس‌سره : ( وأمّا المحقّق فليس في كلامه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٢٧ )

أقول : قد عرفت اضطراب كلام المحقّق قدس‌سره في « المعتبر » ومنافات صدره مع ذيله ، فراجع.

(١٥٦) قوله قدس‌سره : ( والإنصاف : أنّ ما فهمه العلاّمة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٦٨ )

امكان الجمع بين قولي الشيخ والسيّد

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من عدم اعتبار عمل الأصحاب ولا الموجود في الكتب المعروفة في حجيّة الخبر الّذي قال بحجيّته الشّيخ قدس‌سره وكون كلامه في حجيّته قضيّة

٢٦٢

مطلقة غير مشروطة كما ذكره العلاّمة قدس‌سره واستفاده من كلام الشيخ قدس‌سره سواء كان راويه عدلا في الرّواية ـ بالمعنى الّذي عرفته من كلام الشّيخ ـ أو ثقة ، ولو لم يكن إماميّ المذهب ـ على ما عرفت من عدم دوران الحجيّة مدار العدالة عند الشّيخ قدس‌سره بل تدور مدار الوثاقة ـ في كمال الجودة والاستقامة.

فإنّك قد عرفت : أنّ الشّيخ قدس‌سره جعل عملهم بالأخبار الموجودة في الكتب إجمالا ـ من حيث كشفه عن العنوان الّذي اعتقده ـ دليلا على حجيّة الخبر الجامع للعنوان الّذي ذكره من غير اعتبار أمر آخر ، ولذا لم يأخذه في عنوان مختاره كما صنعه المحقّق في « المعتبر » هذا.

(١٥٧) قوله قدس‌سره : ( ويمكن الجمع بينهما بوجه أحسن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣١ )

أقول : ربّما يتوهّم من هذه العبارة كون ما أفاده سابقا من الجمع بين القول والعمل بما في الكتاب ، يرجع إلى الجمع بين قولي السيّد والشّيخ قدس‌سرهما في المسألة ، وهذا كما ترى توهّم فاسد ؛ ضرورة أنّ ما أفاده سابقا ـ من إرجاع قولهم في مقام الإنكار على العامل بالخبر المجرّد إلى ما لا ينافي اتّفاقهم في العمل بالخبر المجرّد في الجملة أو عملهم إلى ما لا ينافي قولهم ، على ما صنعه السيّد قدس‌سره ـ لا تعلّق له بالجمع بين كلامي السيّد والشّيخ قدس‌سرهما بل هو صريح في تصديق أحدهما وتكذيب الآخر على كلّ تقدير بحيث لا يمكن الجمع بينهما أصلا.

وهذا بخلاف الجمع الّذي ذكره أخيرا ، فإنّه يرجع إلى الجمع بين قوليهما في المسألة من غير أن يكون له نظر وتعلّق بالجمع بين إجماعي القولي الّذي ذكره

٢٦٣

السيّد قدس‌سره والعملي الّذي ادّعاه الشيخ قدس‌سره فإنّ حاصله : أنّ مراد السيّد من الخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة : هو المقرون بما يفيد الاطمئنان بصدق الرّاوي والوثوق به. ومراد الشّيخ من الخبر المجرّد ـ الّذي ادّعى إجماعهم على العمل به ـ : هو المجرّد عن القرائن الأربع ، مع اعترافه بدوران الحجيّة مدار الوثوق والاطمئنان بصدق الرّاوي. فلا نزاع بينهما حقيقة ، هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ تعريف العلم بما اقتضى سكون النّفس ، تعريف معروف له ، ذهب إليه الأكثرون ، منهم السيّد قدس‌سره في « الذّريعة » على ما حكي عنها (١) ، والشّيخ في « العدّة » (٢) ، ومرادهم منه كما هو ظاهر ليس ما يقابل التّحير والتّردّد ، حتّى يصدق على الوثوق والاطمئنان ، بل ما يقابل الاعتقاد الجزمي القابل للزّوال بتشكيك المشكّك ، أو قسم منه كالجزم الحاصل من التّقليد كما هو الظّاهر من كلامهم ، أو المرتبة العليا من الاعتقاد الجزمي الّذي يساوق الشّهود ، ألا ترى أنّ نبيّ الله إبراهيم عليه‌السلام مع اعتقاده الجزمي بالمعاد والحشر وإيمانه العلمي به سأل ربّه جلّ جلاله إراءة إحياء الموتى لاطمئنان قلبه الشّريف الحاصل بالشّهود؟! ولا ينافي مقام نبوّته ومرتبة ولايته المطلقة ؛ لأنّ مراتب العلوم كثيرة متقاربة في النّظريات والضّروريات وغير ذلك متقاربة من حيث الظّهور ،

__________________

(١) الذريعة : ج ١ / ٢١.

(٢) عدة الاصول : ج ١ / ١٢.

٢٦٤

والّذين لا يختلف حال علومهم بالمعلومات نبيّنا وأمير المؤمنين والأئمّة الطّاهرين من ولدهما صلوات الله وسلامه وتحيّاته عليهم أجمعين. ومن هنا قال الأمير صلوات الله عليه : ( لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ) (١).

وبالجملة : حمل كلام السيّد على ما أفاده في غاية البعد ، بل إطلاق العلم في العرفيّات عليه لا يكون إلاّ من باب المسامحة ، ومن هذا الباب إطلاقه على دونه من الظّنون ، كإطلاق الظّن على العلم ، وإن ذكر بعض مشايخنا (٢) في « شرحه على شرائع الإسلام » شيوع استعماله فيه ، بحيث يحمل على الأعمّ من الاطمئنان عند الإطلاق ويترتّب عليه أحكام العلم ، لكنّه كما ترى ، مع أنّه لا تعلّق له بكلام السيّد وغيره في مقام تعريف العلم : بأنّه ما اقتضى سكون النّفس (٣).

قال الشيخ قدس‌سره في « العدّة » : « العلم ما اقتضى سكون النّفس » وهذا الحدّ أولى من قول من قال : ( بأنّه الاعتقاد بالشّيء على ما هو به مع سكون النّفس ) ؛ لأنّ الّذي يبيّن به العلم من غيره من الأجناس هو سكون النّفس دون كونه اعتقادا. ولا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٠ ص ١٥٣ ، وكتاب الألفين : ١٢٦ وليس للحديث أصل في تراث أصحابنا المعتبر ، نعم ، ورد في مثل فضائل شاذان ونظائره مرسلا على أنّ الإمام المعصوم عليه الصلاة والسلام لا تخفى عليه خافية ولا يحجبه غطاء حتى يحتاج إلى كشفه ، ألا تقرأ في زيارة بقية الله عزّ وجل « السلام عليك يا ناظر شجرة طوبى وسدرة المنتهى ».

(٢) الفقيه المتضلّع الشيخ محمّد حسن النجفي في جواهره أنظر الجواهر : ج ٤٠ / ٥٥.

(٣) الذريعة : ١ / ٢١.

٢٦٥

يبيّن أيضا بقولنا اعتقاد الشّيء على ما هو به ؛ لأنّه يشاركه فيه التّقليد أيضا إذا كان معتقده على ما هو به ، والّذي يبيّن به هو سكون النّفس ، فينبغي أن يقتصر عليه ، وليس من حيث إنّه ما اقتضى سكون النّفس لا يكون اعتقادا للشيء على ما هو به ينبغي أن يذكر في الحدّ ، كما أنّه لا بد من أن يكون عرضا وموجودا ومحدثا وحالاّ في المحلّ ، ولا يجب ذكر ذلك في الحدّ ؛ من حيث إنّه لا يبين به ، فكذلك ما قلناه. ولا يجوز أن يحدّ العلم بأنّه المعرفة ؛ لأنّ المعرفة هي العلم بعينه ، فلا يجوز أن يحدّ الشّيء بنفسه. ولا يجوز أن يحدّ بأنّه إثبات ؛ لأنّ الإثبات في اللّغة هو الإيجاد ، ولأجل ذلك يقول الرّجل : أثبت السهم في القرطاس ، أي : أوجدته فيه (١) ، انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

وهو كما ترى ينادي بمنافاته للجمع الّذي ذكره شيخنا ( قدس‌سره اللطيف ).

وقال الفاضل القزويني بعد جملة كلام له في « شرح العدة » :

« ولا يخفى أنّ مشاكثة (*) الوهم لا ينافي سكون النّفس ، فلا يتوهّم من قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٢) : أنّه عليه‌السلام لم يكن عالما

__________________

(١) عدّة الأصول : ج ١ / ١٢ باختلاف يسير.

(*) لم نعثر في المجاميع اللغويّة على استعمال العرب لهذه اللفظة ولعلّه يريد المشاكسة بالسين المهملة التي تعني التضاد والضيق والعسر والإختلاف والتنازع وفي التنزيل : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ) ، « الزمر : ٢٩ ».

(٢) البقرة : ٢٦٠.

٢٦٦

بإمكان إحياء الموتى فإنّه لدفع مشاكثة الوهم بانضمام المشاهدة إلى البرهان. وروى « ابن بابويه » في كتاب « التّوحيد » عن الرّضا عليه‌السلام أنّه قال : ( إنّ الله تعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام أنّي متّخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم عليه‌السلام أنّه ذلك الخليل ، فقال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلّة » (١) الحديث. وربّما يطلق على المشاكثة الوهميّة الشك مجازا ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى في سورة يونس : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) (٢) محمولا عليه.

ثمّ ظاهر كلام المصنف موافقا « للذّريعة » : أنّ سكون النّفس أخصّ من عدم تجويز النّقيض ، وأنّ عدم تجويز النّقيض متحقّق في الجهل المركّب والتّقليد دون سكون النفس كما سيجيء في قوله : ( لأن الجاهل يتصور نفسه بصورة العالم ) (٣) ولعلّه زعم : أنّ سكون النّفس هو عدم تجويز النّقيض مع رسوخه في النّفس. أي : امتناع زواله بالمعنى المذكور سابقا.

وقال المحقّق الطّوسي في « شرح رسالة العلم » : ( الجهل المركّب والتّقليد يشاركان العلم في كونهما اعتقادين مقارنين لسكون النّفس ، إلاّ أنّ العلم يقتضيه

__________________

(١) توحيد الصدوق : ١٣٢.

(٢) يونس : ٩٤.

(٣) عدّة الأصول : ج ١ / ١٧.

٢٦٧

بالذّات والباقيان يقارنانه لا على سبيل الوجوب ) (١) انتهى.

ويظهر منه : أنّ سكون النّفس في الاعتقاد مساوق لعدم تجويز النّقيض والاحتراز في حدّ العلم عن الجهل ليس باعتبار سكون النّفس ، بل باعتبار قيد الاقتضاء. فإنّ المراد أنّه باعتبار نحو حصوله ، يمتنع زوال السّكون بعده بالمعنى المذكور سابقا ». انتهى كلامه رفع مقامه (٢).

وهو كما ترى ، شاهد أيضا على ما ذكرنا في المراد من سكون النّفس.

ثمّ إنّه يظهر ما أفاده من الجمع ، من كلام بعض أفاضل المتأخّرين أيضا قال في « المناهج » بعد جملة كلام له في الجمع بين كلامي السّيد والشّيخ قدس‌سرهما ما هذا لفظه :

« ولا يبعد أن يكون مراد السّيد من القطع ، العلم العادي أو الظّن المتأخم للعلم كما صرّح به بعض مشايخنا ، ويرجع النّزاع بينهما حينئذ أيضا إلى اللّفظي » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) شرح رسالة العلم مخطوط.

(٢) شرح العدّة للفاضل القزويني مخطوط.

(٣) مناهج الأحكام في أصول الفقه للفاضل النراقي ، انظر ذيل الوجه الثالث من وجوه القول بحجّيّة الخبر الواحد ـ قبل قوله : تتميم ـ وذلك ص ١٧٢.

٢٦٨

(١٥٨) قوله قدس‌سره : ( وممّن نقل الإجماع على حجيّة أخبار الآحاد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٢ )

الإجماع الذي إدعاه ابن طاوس

أقول : الإجماع الّذي ذكره ابن طاوس قدس‌سره (١) وإن كان إجماعا عمليّا كالّذي ادّعاه الشّيخ قدس‌سره إلاّ أنّه مشتبه المراد ؛ من حيث رجوعه إلى الإجماع القولي ؛ من حيث كشف عملهم عن رأيهم في المسألة أو السّيرة الكاشفة عن تقرير المعصوم عليه‌السلام بشرائطه المقرّرة في محلّها ، فيخرج عمّا نحن بصدده وجهان : من حيث ادّعائه إجماع العلماء والاعتضاد بادّعاء الشّيخ وغيره ، ومن حيث ذكره أوّلا إجماع المسلمين والمرتضى وتعقيبه بإجماع علماء الشّيعة الماضين الظّاهر في كون عملهم بها من حيث كونهم من المسلمين.

ومن هنا ذكر عمل المرتضى قدس‌سره بها ، مع أنّه لا مصحّح له إلاّ غفلته عن كون المعمول به خبرا واحدا غير علميّ ؛ ضرورة أنّه لا يجامع قوله بكون حرمة العمل بأخبار الآحاد في مذهب الشّيعة كحرمة العمل بالقياس مع قوله بجواز العمل ، ومثله في الرّجوع إلى دعوى السّيرة الإجماع الّذي حكاه عن المجلسي قدس‌سره ؛ فإنّه ظاهر في ذلك أيضا وإن احتمل كون مراده من الشّيعة علماءهم ، فيرجع إلى دعوى الشّيخ قدس‌سره.

__________________

(١) أنظر فرج المهموم : ٤٢.

٢٦٩

(١٥٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشّبهة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٤ )

أقول : لا يخفى عليك الفرق بين الوجهين الأوّلين الرّاجعين إلى الاشتباه في عنوان العمل كما في الوجه الأوّل ، والاشتباه في إطلاق القول كما في الوجه الثّاني والوجه الثّالث ، الرّاجع إلى مخالفة السيّد لإجماعهم في المسألة مع التفاته إلى كونها إجماعيّة من جهة عدم كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام له ؛ نظرا إلى حصول شبهة كلاميّة له مانعة عن الكشف وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين ؛ فإنّ مرجعهما إلى الاشتباه في أصل الإجماع ؛ ومن هنا ينقدح لزوم حمل الشّبهة على أحد الأوّلين ؛ إذ غاية الأمر على الأخير : توجيه مخالفته للإجماع وعدم قدح مخالفه في تحقّقه ، لا تصحيح دعواه الإجماع في المسألة ، وهذا بخلاف الأوّلين ، فإنّه يمكن معهما دعوى الإجماع كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلاّمة قدس‌سره في مقام الاعتذار عن مخالفته ، وإنّها لا يقدح في تحقّق الإجماع على حجيّة الخبر المجرّد ، لا في مقام تصحيح دعواه الإجماع على عدم الحجيّة ، فتدبّر.

(١٦٠) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ دعوى الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٤ )

أقول : مراده قدس‌سره من نفي الصّراحة : إنّما هو بالنّسبة إلى الإجماع الاصطلاحي لا الأعمّ منه ومن الاتفاق ؛ ضرورة كون كلام المحقّق في « المعتبر » وغيره صريحين في دعوى الاتّفاق ، كما أنّ مراده من العلماء من كان قبل المجلسي قدس‌سره ، وإلاّ فدعوى المتأخّرين الإجماع من الواضحات الّتي لا يرتاب فيه من راجع

٢٧٠

مصنّفاتهم في الأصول والفروع.

(١٦١) قوله قدس‌سره : ( وفيه ما لا يخفى ، أو يكون مراده ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٧ )

أقول : أمّا عدم جواز إرادة الخبر العلمي من خبر الثّقة فهو أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّ أخبار المضايقة لو كانت علميّة لم يكن معنى لاستكشاف عملهم بها من قولهم : بأنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، كما هو واضح عند من له أدنى تدبّر.

وأمّا الاعتذار الثّاني فقد عرفت ما فيه من المناقشة ، فلعلّ الوجه في تمسّكه بتلك الأخبار ، زعم كون إجماعهم على العمل بها قرينة لها ، فيخرج عن الخبر المجرّد وإن كان هذا الزعم فاسدا ؛ من حيث إنّ عملهم بها لكونها إخبار ثقات عندهم فلا يكشف على تقدير تسليم اتّفاقهم إلاّ عن مسألة أصوليّة ، وهي حجّيّة خبر الثّقة على خلاف مذهب الحليّ كما ذكره شيخنا قدس‌سره. وأين هذا من صيرورته قرينة قطعيّة لصدورها على ما زعمه ـ بناء على التّنزيل الّذي عرفته ـ؟

(١٦٢) قوله قدس‌سره : ( وضممت إلى ذلك ما يظهر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : مثل قول عبد العزيز بن مهدي (١) فيما تقدّم من الأخبار : « أفيونس بن عبد الرّحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ » (٢) الصّريح في مفروغيّة

__________________

(١) كذا والصحيح « عبد العزيز بن المهتدي ».

(٢) رجال الكشي : ج ٢ / ٤٩٠ ـ ح ٩٣٥ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٤٧ باب « وجوب

٢٧١

حجيّة خبر الثّقة إلى غير ذلك.

(١٦٣) قوله قدس‌سره : ( وهذه حكاية عجيبة لا بدّ من توجيهها ... إلى آخره (١) ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : أمّا طريقة المولى التّستري (٢) في باب أخبار الآحاد وقوله بحجيّتها في الجملة ، فهي ممّا لا يكاد أن يخفى. وأمّا توجيهها فلعلّه نقل للسيّد صاحب « المدارك » قدس‌سره رجوعه إلى القول بعدم الحجيّة وإن كان النّقل كذبا في الواقع. مع أنّه على تقدير الصّدق أو ذهابه إلى عدم الحجيّة من أوّل الأمر لا يستحقّ رميه بكونه مبدعا في الدّين ؛ فلعلّ الأمر اشتبه على الثّقة الحاكي للسيّد الجزائري ، والله العالم.

(١٦٤) قوله قدس‌سره : ( لكنّ [ الإنصاف أن ] المتيقن من هذا كلّه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : قد عرفت : أنّ المتيقّن ممّا دلّ على حجيّة الخبر من الإجماع وغيره : هو خبر العدل دون مطلق ما يفيد الاطمئنان وإن لم يكن راويه عدلا ، فافهم.

__________________

الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث » ـ ح ٣٣.

(١) انظر هامش رقم ٣ من : ج ١ / ٣٤١.

(٢) أنظر ترجمته في أعيان الشيعة : ج ٨ / ٤٨.

٢٧٢

(١٦٥) قوله قدس‌سره : ( الثّاني من وجوه تقرير الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٢ )

التقرير الثاني للإجماع

أقول : قد يناقش في هذا التّقرير :

أوّلا ؛ بعدم كشفه عن الحجيّة بعد فرض عدم تسليم السيّد للانسداد ، وهذا معنى ما يقال : إنّ الإجماع التّقديري والتّعليقي لا فائدة فيه ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ تسليم السيّد قدس‌سره وغيره من المانعين لحجيّة الظّن عند انسداد باب العلم ، لا يفيد فيما نحن بصدده من إثبات حجيّة الخبر من حيث الخصوص. نعم ، لو استظهر من كلماتهم حجيّة الخبر من حيث إنّه خبر على تقدير الحاجة بحيث لا يتعدى إلى غيره من الظّنون كما هو مذهب جمع ، كان الاستدلال في محلّه.

(١٦٦) قوله قدس‌سره : ( الثّالث من وجوه تقرير الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٣ )

التقرير الثالث للإجماع

أقول : الفرق بين هذا التّقرير وسابقه لا يكاد أن يخفى ؛ حيث إنّه راجع إلى التّمسّك بسيرة المسلمين الكاشفة عن تقرير المعصوم عليه‌السلام من غير مدخليّة لخصوص العالم فيعتبر في كشفها اجتماع شرائط التّقرير ، وهذا بخلاف الأوّلين ، فإنّهما راجعان إلى الإجماع القولي من خصوص العلماء.

٢٧٣

(١٦٧) قوله قدس‌سره : ( أقول : المعترض حيث ادّعى الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره مبني على كون مراده من نفي الخلاف الإجماع القولي كما هو الظّاهر ، وقد يناقش فيما أفاده : بأنّ الخصم لم يتمسّك في جميع موارد ثبوت التعبّد بالخبر بالإجماع ، حتّى كان من تلقين خصمه ، بل إنّما ذكر في الجواب : « أنّ هذه مقامات ثبت فيها التّعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة من إجماع وغيره ... إلى آخر ما ذكره » (١) ، فأين تمسّكه في الموارد المذكورة بخصوص الإجماع حتّى كان من تلقين المعترض؟

(١٦٨) قوله قدس‌سره : ( ولو ادّعى استقرار سيرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

أقول : للخصم منع السّيرة على وجه يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام أوّلا ، ومنع جواز قياس المقام به بعد حرمة القياس عندنا ثانيا ؛ إذ قيام السّيرة على العمل بالظّن في بعض الموارد لا يقتضي العمل بغيره بعد الاتّفاق على كون الأصل حرمة العمل بغير العلم ، فكما لا يجوز قياس أمارة لم تثبت حجيّتها بأمارة ثبت حجيّتها ، كذلك لا يجوز قياس مورد لم تثبت حجيّة الظّن فيه على مورد ثبت حجيّة الظّن فيه ، كقياس الموضوعات بالأحكام أو العكس. فالتّقريب بما ذكره لا يكون أبعد عن الرّد ، ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل. ويحتمل كون الوجه فيه ما ذكرنا أوّلا في قوله :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٤.

٢٧٤

( أقول : ... إلى آخره ) (١) بعد نقل كلام السيّد ، فتدبّر ، هذا.

ثمّ إنّه يلحق بالتّقرير المذكور في « الكتاب » ما ذكره بعض الأعلام من محقّقي المتأخّرين عند تقرير وجوه الإجماع : من اتّفاق جميع أهل الشّرائع على توسيط أخبار الثّقات بينهم وبين صاحب شرعهم ونبيّ عصرهم وزمانهم ومن يقوم مقامه من غير توقّف في ذلك أصلا ، وتقرير جميع الأنبياء والأولياء لهم على ذلك ، وهذه طريقتهم وسجيّتهم إلى زمان خاتم النّبيّين وسيّد المرسلين وأوصيائه الطّيبين الطّاهرين « سلام الله عليهم أجمعين » بحيث كان هذا المطلب مسلّما عندهم مركوزا في نفوسهم.

ومن هنا وقع السّؤال في بعض الرّوايات عن وثاقة الرّاوي ، بحيث يظهر منه كون أصل الرّجوع إلى خبر الثّقة أمرا مسلّما مفروغا عنه لا يحتاج إلى السؤال عنه أصلا ولم يعهد من نبيّ أو وصيّ ـ من آدم « على نبيّنا وعليه‌السلام » والخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بينهما ـ إيجاب الأخذ بخصوص الطّرق العلميّة بالسّؤال عنه بلا واسطة أو بوسائط علميّة ؛ ضرورة استحالة تحقّق ذلك لجميع المكلّفين بالنّسبة إلى آحاد الأحكام عادة بعد فرض ابتناء التّبليغ على الوجه المتعارف المعهود في تبليغ المطالب إلى عموم النّاس. ومن هنا ترى المكلّفين يعتمدون على إخبار الثّقة عن فتوى مرجعهم وفقيه عصرهم من دون تأمّل في ذلك ؛ حتّى يسألوا عن جواز الاعتماد بنقله.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٥.

٢٧٥

(١٦٩) قوله قدس‌سره : ( الرّابع : استقرار طريقة العقلاء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

التقرير الرابع للإجماع

أقول : هذا التّقرير وإن لم يكن له تعلّق بالإجماع الكاشف عن رأي الحجّة ابتداء ؛ حيث إنّ إجماع العقلاء قولا أو عملا يكشف أوّلا عن حكم العقل الدّاعي على اتّفاقهم والباعث لهم على ذلك ، إلاّ أنّه بعد كشفه بملاحظة زائدة عن رأي المعصوم عليه‌السلام وإمضائه ، يلحق بالإجماع حكما وإن كان أصل الاستدلال به لا يتوقّف على كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام وإن كان الكشف لا يتخلّف عنه.

وملخّص الاستدلال بهذا الوجه : أنّ بعد استقرار طريقة العقلاء على توسيط أخبار الثقات في جميع أمورهم العادية ـ الّتي منها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد وجعلها طرقا في باب إطاعة الأوامر والاعتماد بها في سقوطها وامتثالها ـ يكشف ذلك كشفا علميّا عن حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة وطريقيّته في باب الإطاعة ، فيستكشف من ذلك عن رضاء الشّارع بسلوكه في إطاعة الأحكام الشّرعيّة ما لم يثبت منع الشّارع عنه أو نصبه طريقا آخر لإطاعة أحكامه ؛ حيث إنّ حكم العقل في طريق الإطاعة ليس تنجّزيّا بحيث لا يقبل تصرّف الشّارع فيه ، كحكمه في أصل وجوب الإطاعة ؛ حيث إنّه ممّا لا يقبل التّصرف فيه أصلا.

فإن شئت قلت : إنّ حكم العقل في باب الطّريق متعلّق بموضوع قابل للارتفاع بحكم الشّارع ، وهذا بخلاف حكمه في أصل وجوب الإطاعة. ومن هنا

٢٧٦

يستكشف عن حكم العقل بحجيّة مطلق الظّن عند تماميّة مقدّمات الانسداد من إمضاء الشّارع له حسبما ستقف على تفصيل القول فيه.

ومراده قدس‌سره من قوله ـ في مقام التّعليل ـ : « لأنّ اللاّزم في باب الإطاعة والمعصية ... إلى آخره » (١) هو ما ذكرنا ؛ ضرورة أنّ المسألة ليست عرفيّة ، فالمراد من العرف هم العقلاء من حيث عنوان عقلهم ، نظير استدلالهم في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ببناء العرف على الامتناع ، فكما قد يستدلّون ببناء العقلاء ـ ويكون المراد عنوان فهمهم وجهتهم العرفيّة ، كما تراهم يستدلّون كثيرا مّا ببناء العقلاء في باب الألفاظ كذلك قد يستدلّون ببناء العرف في المسائل العقليّة ، ويكون المراد جهة عقلهم ، ولا ضير في ذلك بعد وضوح المراد وقيام القرينة الجليّة عليه.

ثمّ إنّه ليس على المستدلّ بهذه الطّريقة في المقام إثبات عدم ردع الشّارع عن سلوك الطّريق المذكور ، بل عدم ثبوت الرّدع كاف في الحكم لسلوكه ؛ لما قد عرفت مرارا من عروض الأحكام العقليّة للأمور الوجدانيّة والعنوانات المعلومة عند العقل ، وامتناع عروضها للموضوعات النّفس الأمريّة الواقعيّة المجهولة عنده ، فالرّدع الواقعي ليس مانعا عنده حتّى يتوقّف حكمه على إثبات عدمه ، بل العلم به مانع عن حكمه ، كما علم به في أكثر الموضوعات الشّرعيّة ؛ حيث إنّه ثبت من الشرع أنّ لها طرقا مخصوصة غير مطلق خبر الثّقة. ومن هنا التزم من جانب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٥.

٢٧٧

الخصم بإثبات الرّدع بقوله : « فإن قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة بل المتواترة ... إلى آخره » (١).

فإن قلت : المسلّم استقرار طريقة العقلاء وجريان سيرتهم على العمل بخبر الثّقة في أمور معاشهم ، ولا يلزم منه العمل به في أمور معادهم ، والفرق : أنّهم لو بنوا على عدم العمل بخبر الثّقة في أمور معاشهم لا ختلّ نظام أمورهم كما لا يخفى ؛ فالضّرورة دعتهم على العمل به في أمور المعاش ، فلا يقاس عليها أمور المعاد.

قلت : أوّلا : أنّا نرى استقرار طريقتهم على العمل به مع التّمكن من تحصيل العلم وفيما لا ضرورة هناك.

وثانيا : أنّ الضّرورة الدّاعية في أمور المعاش هي بعينها موجودة في أمور المعاد أيضا ؛ ضرورة أنّه لو بني على الاقتصار على الأدلّة العلميّة وترك العمل بخبر الثّقة في أمور المعاد ، لزم منه ما هو أشدّ من محذور ترك العمل به في أمور المعاش ، وهو طرح أكثر الأحكام المعلوم وجودها في الوقائع المجهولة المعبّر عنه في لسان جمع من أعلام المتأخّرين بالخروج عن الدّين.

فإن شئت قلت : الدّاعي على العمل به في أمور المعاش إن كان الانسداد الشّخصي ، فهو بعينه متحقّق بالنّسبة إلى أمور المعاد أيضا وإن كان الانسداد الأغلبي فهو أيضا موجود بالنّسبة إلى أمور المعاد ؛ ضرورة انسداد باب العلم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٦.

٢٧٨

بالنّسبة إلى غالب الأحكام ، فلا فرق بين المقامين فتأمّل ، هذا كلّه.

مضافا إلى ما عرفت في بيان الاستدلال بهذا الوجه من استقرار طريقتهم على العمل به في باب الإطاعة الكاشف عن حكم العقل بطريقيّة خبر الثّقة لإطاعة الأحكام الصّادرة عن الموالي بالنّسبة إلى العبيد. وعليه : لا أثر لهذا السّؤال أصلا كما لا يخفى.

(١٧٠) قوله قدس‌سره : ( قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٦ )

أقول : ملخّص الجواب : أنّ ما دلّ على تحريم العمل بما لم يقم دليل على وجوب العمل به ، لا يكون رادعا عن حكم العقل ورافعا لموضوع حكمه ولا يقبل لذلك بعد فرض كون العقل حاكما بحجيّة خبر الثّقة وطريقا للإطاعة ؛ ضرورة كون حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة المستكشف من بناء العقلاء رافعا لموضوع ما دلّ على حرمة متابعة ما لم يثبت حجيّته والعمل به والتّديّن بمقتضاه من الأدلة الأربعة المقتضية لحرمة التّشريع والافتراء على الشّارع ؛ لما قد عرفت من استكشاف الحجّة الشّرعيّة من حكم العقل بالحجيّة ، ولو كان من جهة إمضاء الشّارع فلا يبقى موضوع لحرمة التّشريع بالملاحظة المذكورة ؛ حتّى يستلزم من عدم الحكم بالحرمة طرح دليله.

فإن شئت قلت : إنّ حرمة التّشريع وقبحه ممّا يستقلّ العقل به في الشّرعيّات والعرفيّات ، ومع ذلك نجد سلوك العقلاء لخبر الثّقة في إطاعة الأوامر الصّادرة من الموالي إلى العبيد ، فيكشف ذلك عن ارتفاع موضوع الحرمة بحكم العقل

٢٧٩

ولا يمكن العكس ، وإلاّ لم يحكم العقل بالحجيّة ، فحرمة العمل بغير العلم من باب التّشريع ، لا يمكن أن يكون رادعا ، وأمّا حرمة طرح الأصول اللاّزم من العمل بالظّن في مقابلها ، وإن لم يكن بعنوان التّعبّد والتّشريع ، فلا يقبل أيضا رادعا من بناء العقلاء.

وحكم العقل بالحجيّة ، بعد فرض كونها معلّقا بعدم قيام الدّليل في موارد جريانها كما في الأصول العقليّة المحضة ، أو محكومة بدليل حجيّة الظّن كما في الأصول الشّرعيّة المحضة كالاستصحاب ـ بناء على القول به من باب الأخبار ـ أو ما كان اعتباره من باب الظّن كالأصول اللّفظيّة والاستصحاب ـ بناء على القول به من باب الظّن ـ أو مورودة من جهة ومحكومة من أخرى كالأصول العقليّة والشّرعيّة كأصالة الإباحة ـ بناء على عدم كون المراد ممّا ورد فيها من الأخبار إمضاء لحكم العقل وتأكيدا لمفاده بل تأسيسا للإباحة الظّاهريّة الشّرعيّة ـ وإن استلزم نفي المؤاخذة الّذي يحكم به العقل عند عدم العلم بالتّكليف ، فعدم جريان الأصول في مقابل خبر الثّقة ـ سواء كانت لفظيّة أو عمليّة وسواء قام على التّكليف في مقابل الأصول النّافية له ، أو على نفيه في مقابل الأصول المثبتة له ، وإن كانت أصولا لفظيّة فيما كان مفاد الخبر أخصّ منها وأظهر بالنّسبة إليها ـ ليس من جهة كون العقل حاكما بتلك الأصول فيكشف حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة في مقابلها عن عدم جريانها وكون حكم العقل بها تعليقيا ؛ لما قد عرفت : من جريان ما ذكر بالنّسبة إلى الأصول الشّرعيّة المحضة الصّرفة ، وما كان اعتباره من جهة بناء

٢٨٠