بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

والأصولية العمليّة.

والثّالث فاسد ـ مضافا إلى المنع من كونها من قبيل الخطاب الشّفاهي ـ : بأنّ مبنى الاستدلال ليس على شمول الخطاب للمعدومين ، بل على حجيّة الظّواهر في استنباط تكاليف الحاضرين الموجودين في حقّ المعدومين ؛ حتّى يثبت الحكم المستنبط في حقّهم ، بملاحظة دليل الاشتراك في التّكليف.

(١١٨) قوله قدس‌سره : ( مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٦ )

أقول : ما أفاده في وجه منع الدّلالة : من أنّ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ ، مسلّم لا شبهة فيه أصلا ، إلاّ أنّه لا يفيد فيما قصده بقوله : ( فإطلاق الرّواية منزّل على الغالب ) (١)

أمّا أوّلا : فلأنّ تعدّد من يخرج إلى الحجّ نوعا غير تعدّده من كلّ مكان.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ تعدّد من يخرج إليه عن كلّ صقع وناحية لا يلزم كونه عدد التّواتر.

وأمّا ثالثا ؛ فلأنّ التّعدّد من كلّ مكان ولو كانوا عدد التّواتر لا يلزم إخبارهم كلّ فرد من أفراد المكلّفين. هذا ، وقد عرفت عند تقريب الاستدلال بالآية ما له نفع تامّ في المقام ، فراجع.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٨٧.

٢٠١

٣ ـ آية الكتمان (*)

(١١٩) قوله قدس‌سره : ( والتّقريب فيه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٧ )

أقول : وتقريب الاستدلال بالآية نظير تقريبه بالآية السّابقة : من أنّ وجوب إظهار الحقّ لكلّ عالم به من غير أن يكون موقوفا بإظهار غيره مع عدم إفادته العلم ، يوجب قبوله على المظهر له والمستمع ؛ من حيث إنّ عدم قبوله يوجب لغويّة وجوب الإظهار على المظهر.

كما أنّ الإيراد على دلالة الآية السّابقة بالوجهين الأوّلين ـ من سكوتها وعدم إطلاقها بالنّسبة إلى صورة عدم حصول العلم ، أو دلالتها على وجوب الإخبار بالحكم الواقعي ، فلا يلزم قبوله بحكم العقل إلاّ فيما لو علم المكلّف بصدق المخبر في إخباره ـ متوجّه على الآية أيضا.

ويشهد للوجه الأوّل كون الآية واردة في تحريم كتمان علامات النّبوة

__________________

(*) ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ، « البقرة : ١٥٩ ».

٢٠٢

وآياتها على علماء الكتاب (١).

(١٢٠) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو وجب الإظهار ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٨ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ وجوب إظهار الحقّ على المكلّف إذا فرض كونه غير معصوم ، داخل في العنوان الّذي ذكره طيّب الله رمسه الشّريف ؛ ضرورة أنّه لا يعتبر الاجتماع والاتّفاق في توجيه التّكليف إلى المظهرين.

نعم ، وجوب الإظهار عليه ـ من حيث كونه جزء سبب لوضوح الحقّ والعلم به ، سواء كان جزءه الآخر إخبار غيره أو القرينة الخارجيّة ـ لا يلازم وجوب قبوله ؛ من حيث تجريده عن الجزء الآخر ، كما أنّ وجوب الإظهار عليه من حيث رجاء وضوح الحقّ منه ومن غيره لا يلازمه أيضا إن فرض عدم رجوعه إلى ما

__________________

(١) قال المحقق العراقي أعلى الله تعالى مقامه :

« وعلى فرض التعميم ـ لما نحن بصدده ـ نقول :

انه من المحتمل قويّا أن يكون وجوب الإظهار عليهم لأجل رجاء وضوح الحق بسبب إخبارهم من جهة حصول العلم لهم لأجل تعدد المظهرين كما يقتضيه ظهور سوقها في أصول العقائد التي لا يكتفى فيها بغير العلم.

نعم ، لو كان للآية إطلاق يقتضي وجوب الإظهار عليهم ولو في فرض عدم إفادته للعلم بالواقع أمكن التمسك بها على وجوب القبول بمقتضى ما ذكر من الملازمة ولكن الشأن في إثبات هذه الجهة ». انتهى. نهاية الإفكار : ج ٣ / ١٣٠

* أقول : وانظر كلام المحقق الإصفهاني قدس‌سره في نهاية الدراية : ج ٣ / ٢٤٤ طبعة آل البيت

٢٠٣

ذكر من السببيّة النّاقصة ، فتدبّر.

ثمّ إنّ هنا إيرادات على الاستدلال بالآية واضحة الفساد ، قد تقدّمت الإشارة إلى كثير منها وجوابها ، مثل كون المسألة أصوليّة لا دليل على حجيّة الظّواهر فيها ومثل كونها من خطاب المشافهة ، ومثل أنّها لا يشمل ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام إذا لم يكن مبيّنا في الكتاب ، إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر الاندفاع والفساد.

* * *

٢٠٤

٤ ـ آية السؤال (*)

(١٢١) قوله قدس‌سره : ( بناء على أنّ وجوب السؤال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٨ )

أقول : قد يقال : إنّ وجوب السؤال له دلالة عرفية على وجوب قبول قول المسؤول عنه وحجيّته ، من غير حاجة إلى ملاحظة لزوم لغويّة وجوب السّؤال على تقدير عدم وجوب القبول ، بل قد يدّعى ذلك في الآيتين السّابقتين أيضا.

ثمّ إنّ المسؤول عنه ليس جميع أهل الذّكر ، بل كلّ واحد منهم ، فإنّ المقصود كون المسؤول عنه أهل الذّكر ، فيصدق على سؤال بعضهم ، والمراد بأهل الذّكر أهل الاطّلاع والخبرة بالأحكام ، فيصدق على الرّاوي أو أهل العلم ، فيصدق على من كان منهم من أهل العلم ، ويتمّ في الباقي بالإجماع المركّب.

__________________

(*) ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، « النحل : ٤٣ ».

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، « الأنبياء : ٧ ».

٢٠٥

(١٢٢) قوله قدس‌سره : ( وإن كان مع قطع النّظر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ للذّكر إطلاقات ، منها : القرآن ، ومنها : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها : العلم إلى غير ذلك في إطلاق أهل الذّكر على الأئمّة عليهم‌السلام والمضاف إليه في هذه الإضافة يحتمل كلّ واحد من المعاني الثّلاثة (١).

ومقتضى الأخبار المستفيضة : كون المراد من أهل الذّكر في الآية خصوص

__________________

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« من المعلوم ان الآية الشريفة في مقام الإلزام للكفار الذين كانوا يزعمون أن الرسول لا بد أن يكون ملكا وهذا بشر ـ كما هو صريح الآيات ـ فقال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني أن هذا أمر واضح وإن كنتم ممّن لا يدرك الواضحات وممّن لا يعلم فاسألوا من يعلم حتى يفهمكم ويعلّمكم ان الرّسل المبعوثين كانوا بشرا لا ملائكة ؛ فإنّ من لا يستطيع أن يفهم شيئا بنفسه فهو بمقتضى جبلّته يتشبّث بمن يفهمه ويعلّمه.

والحاصل : ان هذا إتمام للحجّة على من أنكر النبوّة إستنادا إلى أنه رجل مثلكم يأكل مما تأكلون ويلبس مما تلبسون.

لا انه في مقام تشريع التعبّد بخبر العدل ، ولو فرض انه في هذا المقام فاعتبار كونه من أهل الذكر لا يلائم إلاّ التقليد ؛ فإن الرواية لا يتوقّف إعتبارها إلاّ على العدالة والتمكن من حفظ الألفاظ أو التعبير بما يساوقها ، والذكر عبارة عن العلم في المقام ». انتهى محجة العلماء : ج ١ / ٢٦٣

٢٠٦

الأئمّة عليهم‌السلام ، وعليه : لا معنى للاستدلال بالآية في المقام ، كما أنّه لا معنى للاستدلال بها على تقدير إرادة خصوص علماء الكتاب وكون المسؤول عنه أحوال أنبياء السّلف وكونهم رجالا لا ملائكة ، كما هو ظاهر سياق الآية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ الاستشهاد بالأخبار المذكورة لإرادة خصوص الأئمّة من أهل الذّكر مع عدم قطعيّة صدور الأخبار (١) ، وإن بلغت حدّ الاستفاضة ، لا يجوز قطعا ، حسبما عرفت مرارا : من أنّ الاستعانة [ بالخبر الواحد ] (٢) في مسألة حجيّة خبر الواحد منعا وإثباتا (٣) غير جائز عقلا.

كلام صاحب الفصول

وقال بعض أفاضل من قارب عصرنا ـ بعد الاستدلال بالآية في المقام وتعميم مفادها بالنّسبة إلى الفتوى والرّواية والإشكال فيها بظهور سياقها في كون المسؤول عنه علماء الكتاب وكون المسؤول خصوص أحوال الأنبياء من حيث كونهم بشرا لا ملكا ـ ما هذا لفظه :

__________________

(١) هذا التعبير لا يخلو من جفاء فإن قطعيّة صدور الأخبار المزبورة في المقام ـ ولو في الجملة ـ مما لا مجال لإنكارها اللهم إلاّ على وجه المكابرة.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) في الأصل : « وإثباتا به غير جائز عقلا ». لكن ما صنعناه أفضل.

٢٠٧

« فإن قلت : قد ورد في بعض الأخبار (١) : أن ليس المراد بأهل الذّكر علماء اليهود ، ورد الإمام عليه‌السلام على من زعم ذلك بأنّ الله تعالى كيف يأمرنا بمسألتهم؟ مع أنّهم لو سألوا لأمروا بالأخذ بشريعتهم فيبطل التّفسير المذكور.

قلت : الظّاهر أنّ الزّاعم المذكور زعم وجوب مسألتهم مطلقا أو في حقّيّة هذه الشّريعة كما يظهر من الرّد المذكور ، وإلاّ فهو بحسب الظّاهر لا يتم بناء على تخصيص المسألة بما ذكرناه.

سلّمنا لكن أهل الذّكر في الرّواية المذكورة وغيرها من روايات أهل الذّكر مفسّر بأهل البيت عليهم‌السلام ، وعلّل ذلك في بعضها بأنّ الله تعالى سمّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرا في قوله تعالى : ( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً ) (٢) فأهل الذّكر هم أهل الرّسول.

والتّحقيق : أنّ مساق الآية لا يأبى عن الحمل على ذلك ، كما لا يخفى. وكيف كان : فلا بدّ من تنزيلها عليه ؛ لصراحة تلك الأخبار فيه ، فيختصّ أهل الذّكر بالأئمة فلا يتناول غيرهم من المحدّثين والمجتهدين ، فلا يتم الاحتجاج بالآية أيضا.

__________________

(١) انظر البرهان في تفسير القرآن : ج ٤ / ٤٥٢ ـ ح ١٣ « ط دار المجتبى » والخبر في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ / ٢١٦ باب ٢٣ ـ ح ١.

(٢) الطلاق : ١٠ و ١١. لكنّها في الأصل كتبت هكذا : « إنّا أرسلنا إليكم ذكرا رسولا » وهو خطأ واضح والعصمة لمن عصمة الله عز وجل.

٢٠٨

اللهمّ إلاّ أن ينزّل الأخبار على بيان الفرد الكامل من أهل الذّكر دون التّخصيص ، ولا يخلو من بعد » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ سياق الآية يأبى عن الحمل المذكور ، كما أنّ الأخبار المذكورة تأبى عن الحمل على بيان الفرد الكامل.

(١٢٣) قوله قدس‌سره : ( وردّ بعض مشايخنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المناقشة في سند تلك الأخبار ـ كتصحيح إسنادها ـ ساقطتان ، بعد فرض كونها أخبار آحاد (٢) لا يجوز التّمسك بها في مسألة حجيّة أخبار الآحاد.

(١٢٤) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : لو سلّم حمله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٠ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من المعنى للآية بعد المماشات في كمال الوضوح من الاستقامة ، فالآية لا تدلّ على حكم الرّواية ، لا بعنوان الخصوص ولا بعنوان العموم ، بل ينحصر مفادها بإثبات حكم الفتوى ، كما هو ظاهر.

وممّا أفاده يظهر النّظر فيما ذكره بعض أفاضل من قارب عصرنا في تقريب دلالة الآية على حكم الرّواية ؛ حيث قال :

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) قد عرفت : ان السقوط مبني على عدم قطعيّة صدور الأخبار المذكورة لا مطلقا وأنّى له بذلك؟!

٢٠٩

« وجه الدّلالة : أنّه تعالى أمر عند عدم العلم بمسألة أهل الذّكر ، والمراد بهم إمّا أهل القرآن أو أهل العلم ، وكيف كان : فالمقصود من الأمر بسؤالهم إنّما هو استرشادهم والأخذ بما عندهم من العلم.

والسؤال عند عدم العلم ، كما يقع عن حكم الواقعة كما هو شأن المقلّد فيجاب بذكر الفتوى ، كذلك قد يقع عمّا صدر عن المعصوم عليه‌السلام من قول أو فعل أو تقرير كما هو شأن المجتهد فيجاب بحكايته ونقله ، وهو المعتبر عنه بالخبر والحديث.

وقضيّة الأمر بسؤالهم وجوب قبول ما عندهم فتوى كان أو رواية ما لم يمنع عنه مانع ، فتدلّ على حجيّة أخبارهم كما يدلّ على حجيّة فتاواهم ، وتخصيصه بالثّاني ـ كما هو المعروف في كتب القوم ـ بعيد ؛ لأنّ الآية بظاهرها يفيد الإطلاق ، ولا يختصّ دلالتها بحجيّة أخبار المجتهدين ، بل مطلق أهل العلم وأهل القرآن وإن خصّ في جانب الفتوى بالمجتهدين ».

إلى أن قال :

« ولو سلّم ، فيمكن إتمام الكلام في التّعميم بعدم القول بالفصل ». انتهى كلامه رفع مقامه (١).

__________________

(١) المصدر السابق : ٢٧٦.

٢١٠

٥ ـ آية الأذن (*)

(١٢٥) قوله قدس‌سره : ( مدح الله تعالى رسوله بتصديقه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ تسرية الحكم من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غيره :

إمّا من جهة دلالة الآية على حسن التّصديق بقول مطلق من غير فرق بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره.

وإمّا من جهة ما دلّ على حسن المتابعة والأسوة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسن التّصديق يلازم لحجيّة الخبر لما عرفت في تقريب دلالة آية النّفر ، والمصدّق كلّ واحد من المؤمنين ، لا جميعهم بعنوان الاجتماع والكثرة كما هو ظاهر ، فتدلّ الآية على حجيّة خبر كلّ مؤمن ، ولا يمكن حملها على صورة إفادة الخبر للعلم ؛ ضرورة أنّ التّصديق في صورة العلم ليس من جهة تصديق المؤمن من حيث إنّه مؤمن ، بل من جهة العلم بالواقع.

__________________

(*) ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ). « التوبة : ٦١ »

٢١١

ومن هنا فرّع فيما رواه في « فروع الكافي » قوله : ( فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ) (١) ، على الآية ، وإن كان الاستشهاد بالرّواية مع كونها من أخبار الآحاد على دلالة الآية لا يجوز عقلا حسبما عرفت مرارا (٢).

(١٢٦) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه أوّلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما أفاده في الجواب إنّما هو مبنيّ على ظاهر الآية بالنّظر إلى لفظ « الأذن » مع قطع النّظر عن عدم إمكان إرادته في المقام في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنّه لا معنى لسرعة الاعتقاد بكلّ ما يسمع في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجبة للخطأ قطعا ولو كانت بمعنى حسن الظّن بالمؤمنين ، فلا بدّ أن يراد في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إظهار هذا المعنى ، وإن كان معتقدا بكذب المخبر في إخباره ، فيرجع إلى الجواب الثّاني الرّاجع إلى التّصديق المخبري لا الخبري ولا الاعتقادي ، كما هو مرجع الجواب الأوّل (٣).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٩ ـ باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ٨٢ ، باب كراهة إئتمان شارب الخمر ... ـ ح ١ وفيه بدل [ المسلمون ] ، [ المؤمنون ].

(٢) قد عرفت ما فيه.

(٣) انظر كلمة المحقق العراقي قدس‌سره في المقام في نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٣١ فإنّها لا تخلو من لطف.

٢١٢

(١٢٧) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ المراد من التّصديق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٢ )

الفرق بين التصديق المخبري والخبري

أقول : الفرق بين التّصديق بمعنى إظهار صدق المخبر في إخباره ولو مع العلم بكذبه في مقابل إظهار كذبه وبين تصديق خبره بمعنى ترتيب آثار الواقع عليه عند الشّك في مطابقته للواقع الّذي هو محلّ الكلام في مسألة حجيّة خبر الواحد بل مسائل حجج جميع الطّرق الظاهريّة لا يكاد يخفى على ذي مسكة ؛ فإنّ المعنى الأوّل لا تعلّق له بمسألتنا هذه ، والمراد من الآية المعنى الأوّل لا الثّاني.

والّذي يدلّ عليه ـ مضافا إلى القرائن الدّاخليّة والخارجيّة ، وأنّه لا معنى لتصديق غير الله تبارك وتعالى في مقابل إخباره تبارك وتعالى ـ حكم العقل المستقلّ ؛ بأنّه لا معنى لجهل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالواقع وشكّه في صدق المخبر وكذبه ، حتّى يتصوّر ترتيب آثار الواقع عليه ظاهرا ، كما هو الشّأن في سائر الطرق الظّاهريّة والأصول العقليّة والشّرعيّة ؛ فإنّه لا معنى لجريانها في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوليّ [ صلوات الله تعالى عليه ] (*). مع أنّ المعتبر في موضوعاتها عدم العلم بالواقع ، وقد عرفت شطرا من الكلام في ذلك في مسألة اعتبار العلم ، وأنّ معنى

__________________

(*) إضافة الصلوات منا.

٢١٣

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ) (١) ونحوه ممّا دلّ على حكمهم بالظّاهر أو عملهم به ، كالوارد في باب اعتبار السّوق ونحوه ، يراد منها حكمهم بهذه الأمور أو عملهم بها فيما طابق الواقع ، لا كحكمنا وعلمنا بها في صورة الشّك في المطابقة وإن كانت في علم الله مخالفة للواقع ، وإلاّ لم يبق فرق بين المعصوم عليه‌السلام وغيره والإمام والرعيّة ، فحسن التّصديق بالمعنى المذكور بقول مطلق لا تعلّق له بمسألة حجيّة خبر الواحد جزما ، فالآية لا تعلّق لها بالمقام أصلا.

(١٢٨) قوله قدس‌سره : ( وأمّا توجيه الرّواية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ التّصديق بالمعنى الأوّل ، أي : حمل خبر المخبر من حيث كونه فعلا من الأفعال على كونه مباحا لا حراما الّذي يرجع إلى التّصديق المخبري بمعنى إنّما يصحّ إرادته في المقام لو كان له معنى أعمّ شامل لصورة العلم بكذب المخبر بأن يحمل على مجرّد الإظهار ولو مع العلم بالخلاف.

وأمّا لو لم يكن له معنى أعمّ ، بل اختصّ بصورة الشّك في المطابقة والحلال والحرام كما يقتضيه نفي التهمة عن المؤمن ونحوه من التّعبيرات فلا يمكن إرادته في المقام ، لما قد عرفت : من عدم إمكان جعل الحكم الظّاهري في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعا ، بأيّ معنى فرض ، وإن اقتضت المصلحة إراءته للنّاس أنّه يسلك نحو

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٤١٤ باب « ان القضاء بالبينات والإيمان » ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٣٣٢ باب « انه لا يحل المال لمن أنكر حقا » ـ ح ١.

٢١٤

سلوكهم في العمل بالطّرق الظّاهريّة ، وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا.

(١٢٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذه الآيات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

في بيان النسبة بين الآيات المستدل بها

أقول : مفاد منطوق آية النّبأ ـ بناء على كون المراد من الفاسق : هو الخارج عن طاعة الله تبارك وتعالى بجوارحه لا الأعمّ منه ومن الكافر ـ عدم حجّيّة خبر خصوص الفاسق بالمعنى المذكور. ومفهومها على القول بثبوته حجّيّة خبر غير الفاسق ؛ فيثبت حجيّة خبر الواسطة الواقعية بين الفاسق والعادل ، فيقع التّعارض لا محالة بين منطوقها النّافي للحجّيّة ومفاد سائر الآيات المثبتة لحجيّة الخبر.

فإن قلنا باختصاص الآية ـ بالنّظر إلى الأمر بالتّبيّن الظّاهر في تحصيل العلم ـ بصورة إمكان تحصيل العلم وشمولها للموضوعات والأحكام حسبما اتّفقوا عليه ويقتضيه مورد الآية ، وتعميم سائر الآيات وشمولها لصورة العجز عن تحصيل العلم ؛ نظرا إلى قضيّة ألفاظها العامّة كما هو الظّاهر ، واختصاصها بالإخبار عن الحكم كما في غير الآية الأخيرة على ما هو الظّاهر منها فالنّسبة لا يكون عموما مطلقا بين الآية وغير الآية الأخيرة ممّا اختصّ مفاده بالأحكام ، بل عموما من وجه ؛ حيث إنّ الآية لا تشمل صورة العجز عن تحصيل العلم وسائر الآيات تشملها. والآية تشمل الإخبار بالموضوعات ، وسائر الآيات لا تشمله.

٢١٥

نعم ، لو ادّعي اختصاص سائر الآيات أيضا بصورة التّمكن من تحصيل العلم ، أو التّعميم في آية النّبأ من حيث إنّ الأمر بالتّبيّن وإن كان مختصّا بصورة إمكان تحصيل العلم ، إلاّ أنّ مفاد الآية عدم حجيّة خبر الفاسق وأنّ وجوده كعدمه على الإطلاق ، لم يعتبر التّعميم في سائر الآيات من هذه الجهة بل من جهة شمولها للفاسق وغيره ، فالآية تنفي حجيّة خبر الفاسق مطلقا سواء في الموضوعات والأحكام.

وسائر الآيات تثبت حجيّة خبر المخبر فاسقا كان أو عادلا في خصوص الأحكام ، فتفترق الآية في خبر العادل ، كما أنّها تفترق عن سائر الآيات في الموضوعات ، فالنّسبة عموم من وجه لا محالة على تقدير اختصاص الآيات بالإخبار عن الحكم.

وأمّا نسبتها مع الآية الأخيرة فعموم وخصوص مطلقا من حيث شمول الآية الأخيرة للفاسق والعادل في الموضوعات والأحكام وصورتي العجز عن تحصيل العلم وإمكانه واختصاص آية النّبأ بخبر الفاسق.

ومن هنا يتبيّن : أنّ التّعارض بين آية النّبأ وسائر الآيات ، ليس مبنيّا على ثبوت المفهوم ، بل يعمّه وما لو قيل بعدم ثبوت المفهوم ؛ لأنّ التعارض على ما عرفت بين منطوق الآية وسائر الآيات ، لا بين مفهومها ومفاد سائر الآيات.

ثمّ إنّ المرجع آية النّبأ فيما لوحظت مع الآية الأخيرة ، وأصالة عدم الحجيّة

٢١٦

في مادّة التّعارض فيما لوحظت مع سائر الآيات. فالخبر (١) الفاسق في الأحكام الشّرعيّة الّذي هو مادّة التّعارض لا يكون حجّة ، من جهة الأصل لا من جهة منطوق آية النّبأ.

نعم ، لو قيل باختصاص مفاد المنطوق بصورة العجز عن تحصيل العلم وشمول الآيات لها كان خبر الفاسق مع العجز عن تحصيل العلم حجّة بمقتضى سائر الآيات ، ولا يعارضها آية النّبأ.

وبمثل ما ذكرنا ينبغي أن يحرّر المقام لا بمثل ما أفاده ؛ فإنّه لا يخلو عن بعض المناقشات الظّاهرة لمن راجعه وراجع إلى ما ذكرنا.

(١٣٠) قوله قدس‌سره : ( بل يمكن انصراف المفهوم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

المناقشة في انصراف المفهوم

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ دعوى انصراف المفهوم مع عدم ثبوت لفظ له إلاّ اللّفظ المذكور في جانب المنطوق ، لا وجه لها. نعم ، لو كان هناك انصراف في جانب المنطوق يتبعه في جانب المفهوم أيضا. والأمر في المقام ليس كذلك ؛ ضرورة أنّه لا معنى لدعوى الانصراف في جانب المنطوق حتّى يرجع حاصلها إلى أنّ المنهي ، العمل بخبر الفاسق المفيد للاطمئنان هذا.

__________________

(١) الصحيح : فخبر الفاسق.

٢١٧

مع أنّ مجرّد غلبة الوجود ما لم ينضمّ إليها غلبة الاستعمال لا يوجب الانصراف عند شيخنا قدس‌سره.

وأمّا الاستشهاد بالتّعليل كما في بعض النّسخ وإن لم يكن في النّسخة المصحّحة الموجودة عندي ـ فمع كونه مبنيّا على إرادة الأعمّ من الاطمئنان من التّعليل ـ يوجب فساد الاستدلال بالآية كما هو واضح ، فالمتعيّن كونه غلطا.

(١٣١) قوله قدس‌سره : ( بل هذا أيضا منصرف سائر الآيات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّه لا معنى للانصراف إلى صورة حصول الاطمئنان بالنّسبة إلى سائر الآيات بأيّ معنى فرض للإنصراف ـ لا غلبة الوجود ولا غلبة الاستعمال ـ بل ولا كثرة الوجود والاستعمال وإن لم تبلغ حدّ الغلبة.

نعم ، حصول مطلق الظّنّ من مطلق الخبر غالبيّ لا خصوص الاطمئنان ، ولا يقاس ذلك بخبر العادل الّذي لا ريب في حصول الاطمئنان منه غالبا ، فلو اعتبر الانصراف بالنّسبة إلى سائر الآيات بعد الحمل على خبر العادل كان وجيها ؛ لكنّه خلاف المفروض في كلامه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه على تقدير تسليم الانصراف المفيد المعتبر بالنّسبة إلى سائر الآيات ، تنقلب النّسبة بين آية النّبأ والآيات ، فتصير النّسبة عموما من وجه مع الإغماض عمّا ذكرنا سابقا في بيان النّسبة من جهة العموم لآية النّبأ لسائر الآيات ؛ حيث إنّ سائر الآيات سليمة عن المعارض في خبر العادل ، ومنطوق

٢١٨

الآية سليم في خبر الفاسق ـ الّذي لا يفيد الاطمئنان ـ على تقدير شمولها له ، ويعارضان في خبر الفاسق الّذي يفيد الاطمئنان وإن كان المنطوق أقلّ أفرادا بالنّسبة إلى سائر الآيات فيلحق بالخاصّ حكما مضافا إلى كونه معلّلا آبيا عن التّخصيص بخلاف سائر الآيات.

(١٣٢) قوله قدس‌سره : ( وإن لم يكن انصرافا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

مراتب كثرة استعمال المطلق

أقول : لا يخفى عليك أنّ كثرة استعمال المطلق في بعض أفراده بالمعنى الأعمّ من الإطلاق ، لها مراتب كشيوع بعض الأفراد ، وكثرة وجوده على القول بكونه سببا للانصراف ـ من غير نظر إلى كثرة الاستعمال في بعض مراتبها ـ يوجب الوضع التّعيّني لو كان بالمعنى الأخصّ المقابل للإطلاق.

كما قد يتّفق ذلك بالنّسبة إلى سائر الألفاظ المستعملة في معانيها المجازيّة ؛ فإنّ الوضع التّعيّني دائما يستند إلى كثرة الاستعمال.

وفي بعضها يوجب ظهور اللّفظ في الفرد الّذي غلب استعماله فيه ، من دون أن يبلغ مرتبة الوضع ؛ بحيث لا يلاحظ في ظهوره من اللّفظ شيوع الاستعمال كما هو الشّأن في القسم الأوّل.

وفي بعضها يوجب صرف اللّفظ عن الإطلاق ولا يوجب ظهور الفرد منه ،

٢١٩

وإن كان متيقّن الإرادة من اللّفظ ، كما قد يتّفق مثل ذلك بالنّسبة إلى استعمال اللّفظ الموضوع في معناه المجازي بالنّسبة إلى غير المطلقات. وفي بعضها يوجب صرف اللّفظ عن الإطلاق في باديء النّظر ويزول عن الذّهن بعد التّأمّل.

والغرض من العبارة : أنّ الانصراف المدّعى بالنّسبة إلى سائر المطلقات ليس كالانصراف المدّعى بالنّسبة إلى خبر العادل ؛ الّذي يوجب ظهور اللّفظ فيما يحصل منه الاطمئنان ، ولا يظهر منه إرادة غيره ممّا لا يحصل منه الاطمئنان فيكون من القسم الثّاني. وهذا بخلافه بالنّسبة إليها ؛ فإنّه من القسم الأخير فيكون ظاهرة بعد التّأمّل فيما لا يوجب اطمئنانا أيضا.

وهذا الّذي ذكرنا هو المراد ممّا أفاده قدس‌سره وإن كانت العبارة غير وافية بالمراد ؛ حيث إنّه ربّما يظهر منها : أنّ الانصراف المعتبر ما أوجب ظهور عدم إرادة غير الفرد المنصرف إليه اللّفظ وهو معنى المفهوم ، وهو لا يوجد في أيّ مرتبة فرضت للانصراف كما هو واضح. وإنّما الموجود ما أوجب عدم ظهور إرادة غير الفرد المنصرف من الإطلاق كما هو المشاهد في الانصراف المعتبر.

* * *

٢٢٠