بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

لا ينتج إرادة الأعمّ من العموم المطلق ؛ ضرورة ثبوت الواسطة بينهما.

(٧٣) قوله قدس‌سره : ( وممّا يدلّ على أنّ المخالفة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٨ )

أقول : هذا وجه آخر لعدم جواز إرادة ما ذكره من أخبار العرض ، غير الوجهين السّابقين ، ولا بدّ أن يراد من قوله قدس‌سره : ( إذ بناء على تلك العمومات ... إلى آخره ) (١) وفاء العمومات المذكورة وأمثالها بحكم جميع الوقائع ، على زعم الخصم ، وإلاّ كان منافيا لما سيذكره في الجواب الثّاني ، كما أنّه لا بدّ أن يكون تلك الأخبار الّتي استشهد بها قطعيّة الصّدور ، وإلاّ لم يكن معنى لجعلها شاهدة في المقام ، هذا.

وقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ لازم نفي المخالفة عن الخبر المخصّص للعمومات ، والمقيّد للمطلقات هو نفي الموافقة عن الخبر الّذي يطابق العموم والإطلاق ، أو التّفكيك بين المطابقة والمخالفة ، مع أنّ المسلّم بينهم جعل المطابقة والمخالفة في أخبار العلاج أعمّ من المطابقة والمخالفة من حيث العموم والإطلاق ، وكذا في باب الشّروط المخالفة للكتاب المحكومة بعدم الصّحة والبطلان.

ومن هنا قد يقال : بأنّ الوجه هو الجواب الثّاني لا الأوّل ، بل لازم قوله قدس‌سره في الجواب عن السّؤال بقوله : ( فإن قلت : فعلى أيّ شيء يحمل تلك الأخبار ) (٢) هو الالتزام بتعميم المخالفة ؛ حيث إنّ الحمل على مورد التّعارض ، أو خبر غير

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٤٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٥٠.

١٤١

الثّقة ونحوهما تخصيص من حيث المحلّ والمورد مع إبقاء لفظ المخالفة على عمومه وشموله ، كما لا يخفى.

(٧٤) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا يظهر ضعف التّأمّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : ترتّب الضّعف المذكور على ما أفاده في نفي صدق المخالفة على المعنى الأعمّ ، أمر واضح لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّ الحمل على مورد التّعارض كما نطق به بعض الأخبار أيضا يكون كافيا في إفساد التّأمل والقول المذكور ، فتدبّر.

(٧٥) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّا نتكلّم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : الأولى في بيان هذا الجواب وتحريره أن يقال : وثانيا نمنع من تكفّل الكتاب والسّنة ولو بعنوان العموم والإطلاق لحكم جميع الوقائع في العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم من العقود والإيقاعات والأحكام ، غاية الأمر تكفّلهما لحكم كثير من الوقائع.

فإنّه ربّما توهّم من البيان المذكور : أنّ الخصم يسلّم ما أفاده ، مع أنّ الأمر ليس كذلك. ويشهد بصدق ما ادّعينا من كان له تتبّع في الفقه ومدارك المسائل ، سيّما ما كان من قبيل الحكم الوضعي ؛ فإنّه يعلم بعد التّتبع أنّه لا يمكن الاستدلال في جميع الوقائع من العبادات والمعاملات بهما ، إمّا من جهة عدم تعرّضهما لحكم المسألة بنحو من الأنحاء ، وإمّا لإجمالهما الذّاتي ، كما إذا قلنا بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصّحيح ، أو كان المشكوك من معظم الأجزاء ، أو العرضي بالمعنى الأعمّ من الإهمال ، أو السّكوت والورود لبيان حكم آخر ، وإمّا لدلالتهما على حكم المسألة الّتي ورد الخبر فيها بعنوان الإطلاق على خلافه.

فإنّ دعوى صدق المخالفة في المقام ـ سيّما على مذهب من يقول بكون

١٤٢

المطلق موضوعا لنفس الطبيعة من غير ملاحظة شيء آخر حتى الإطلاق ، فيكون التّقييد حقيقة على مذهبه ، إذا لم يكن باستعمال لفظ المطلق في المقيّد ـ في كمال الضّعف والسّقوط ؛ فإنّ المقيّد يعدّ شارحا ومفسّرا للمطلق ، لا معارضا ومخالفا له.

(٧٦) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : فعلى أيّ شيء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : نظم التّحرير يقتضي ذكر هذا السّؤال قبل الجواب الثّاني ؛ فإنّه من متعلّقاته ، لا من متعلّقات هذا الجواب الثّاني ؛ فإنّه لما نفى صدق المخالفة على المخالفة من حيث العموم والإطلاق ، توجّه عليه هذا السؤال ؛ من حيث إنّ غاية ما يستفاد ممّا أفاده هي القضيّة السّلبيّة. والحمل على المخالفة من حيث التّباين أيضا ممّا لا معنى له ، على ما عرفت مرارا ، فلا بدّ في محمل الأخبار المذكورة على كثرتها أن يكون هناك معنى لا يلزم عليه المحذور المذكور.

ثمّ إنّ الأولى في الجواب عن السؤال المذكور ـ المبني على إمكان معنى آخر للمخالفة غير المخالفة على وجه التّباين والتّخصيص ـ أن يقال بحملها على مخالفة الظّاهرين اللّذين يمكن الجمع بينهما بالتّصرف في أحدهما ، سواء كانت النّسبة بينهما على وجه التّباين ، أو العموم من وجه ؛ فإنّ النّسبة بين قوله اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، هو التّباين مع إمكان الجمع بينهما بأحد التّصرّفين :

إمّا حمل هيئة افعل على الاستحباب ، أو مادّة ينبغي على الوجوب.

وأمّا ما أفاده في الجواب ـ فمع كونه مبنيّا على قطعيّة كلّ من الطّائفتين بل الطّوائف ، وعلى كون المراد من الطّائفة الأولى ممّا تضمّن حكم المخالف الإخبار عن عدم الصّدور وكون المخالف باطلا ، لا البناء على كونه كذلك في مرحلة الظّاهر وأن لا يكون ما صرّح فيه بطرح خبر الثّقة المخالف ، أو البرّ المخالف ، قطعيّ

١٤٣

الصّدور ، أو لا يكون المراد منه ما بنى قدس‌سره على حجيّته ـ قد يناقش فيه ؛ بأنّ الحمل عليه كيف يجامع ما أفاده في الجواب الأوّل عن الاعتراض من عدم صدق المخالفة على التّخصيص والتّقييد؟ فإنّ الحمل على صورة التّعارض ، أو غير خبر الثّقة لا يجامعه قطعا.

(٧٧) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه في الطّائفة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥١ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ الإيراد بالأخصيّة ـ حتّى يتوجّه عليه السؤال المذكور لكي يحتاج إلى الجواب عنه ـ لا تعلّق له بهذه الطّائفة أصلا. فالحقّ في تحرير الجواب عن الأقسام ، أن يقال : علي تقدير تسليم قطعيّة كلّ قسم بحسب المضمون ، أن المتيقّن من الأوّل كذا ، ومن الثّاني كذا ، وهكذا فلا تعارض بينها وبين ما دلّ على حجيّة خبر الثّقة مثلا ، على ما عرفت الإشارة إليه في طيّ الكلام في الأخبار.

ومنه يظهر المناقشة فيما أفاده بقوله : ( بعد ذلك ثمّ إنّ الأخبار المذكورة ... إلى آخره ) (١) ؛ فإنّ ما أفاده إنّما يصحّ فيما إذا قلنا بالتّواتر اللّفظي في الأخبار المانعة ، وإلاّ فلا يمكن ارتكاب التخصيص أو تصرّف آخر فيها كما لا يخفى. مع احتياج تصحيح ما أفاده إلى كونه في مقام الجزم ، فلا يكون تكرارا لما أفاده في مقام بيان محمل الأخبار المبنيّ على الاحتمال وذكر الوجوه ، فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٥٢.

١٤٤

(٧٨) قوله قدس‌سره : ( مع احتمال كون ذلك ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٢٥٢ )

أقول : الغرض ممّا أفاده : كون الحمل على البطلان وعدم الصّدور ، مبنيّا على

__________________

(١) قال المحقق السيّد عبد الحسين اللاري في تعداد تلك الإستشهادات :

كاستشهادهم (١) على كون المراد بالجزء في الوصيّة به العشر بقوله تعالى : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) البقرة : ٢٦٠.

واستشهاده (٢) في صحيح البزنطي على كون المراد به السّبع بقوله تعالى : ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) الحجر : ٤٤.

واستشهادهم (٣) على كون المراد من السهم فيها الثمن بقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) التوبة : ٦٠.

إلى آخر الأصناف الثمانية في مستحقّي الزّكاة.

وعلى كون المراد من الكثير في متعلّق النذر ثمانين عددا (٤) بقوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) التوبة : ٢٥.

حيث إنّها كانت ثمانين.

وعلى كون المراد من القديم من العبد المنذور عتقه ونحوه من مضى عليه في ملكه ستّة أشهر (٥) بقوله تعالى : ( حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يس : ١٠.

أنظر التعليقة على فرائد الاصول ج ١ / ٣٠٨.

__________________

(١) انظر الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٠ ب ٥٤ من أبواب أحكام الوصايا ح ٢ و ٣ و ٤ و ٨ و ٩.

(٢) أنظر التهذيب : ج ٩ / ٢٠٩ ـ ح ٨٢٨ والإستبصار : ج ٤ / ١٣٢ ـ ح ٤٩٨.

عنهما الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٤ ب ٥٤ من أبواب أحكام الوصايا ح ١٢.

(٣) لاحظ الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٥ ب ٥٥ من أبواب أحكام الوصايا ح ١ ـ ٣.

(٤) انظر الوسائل : ج ٢٣ / ٢٩٨ ب ٣ من أبواب كتاب النذر والعهد ح ١ ـ ٤.

(٥) أنظر الوسائل : ج ٢٣ / ٥٦ بـ «٣٠» من أبواب كتاب العتق ح ١ و ٢.

١٤٥

الظّاهر المرعي معه احتمال الموافقة بحسب باطن القرآن وبطنه ، وهذا بخلاف ما إذا وجدناه مخالفا للآية الواردة في العقائد بأنّه يدل على كونه زخرفا وباطلا في الواقع ، وإن كان قد يناقش : بأنّ البطلان الواقعي تابع للعلم بكون مفاد الخبر مخالفا أو غير موافق لما يقطع بثبوته ، ومع انتفاء هذا المعنى لا بد أن يكون البطلان ظاهريّا ، من غير فرق بين القسمين ؛ فإنّ ما نراه مخالفا في مرحلة الظّاهر يحتمل موافقته بحسب الباطن ، كما نراه غير موافق فتأمّل.

(٧٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الجواب عن الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٢ )

أقول : قد عرفت ـ مرارا فيما أسمعناك ـ : أنّه لا يعقل التّمسك في المسألة إثباتا ونفيا بخبر الواحد ، كما أنّك قد عرفت : أنّ التمسك بنقل الإجماع وحجيّته عند القائلين بها مبنيّ على حجيّة خبر الواحد ، بل هو عندهم من أفراده هذا.

مضافا إلى أنّ نقل الإجماع المذكور قاتل لنفسه ودافع للتمسّك به. ودعوى عدم شموله لنفسه قد عرفت ما فيها ، وستعرفه عن قريب.

١٤٦

* أدلة القائلين بالحجيّة

١ ـ آية النبأ (*)

(٨٠) قوله قدس‌سره : ( والمحكي في وجه الاستدلال بها وجهان (١) : أحدهما ...

__________________

(*) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) « الحجرات : ٦ ».

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

لا ينحصر الإستدلال بها في الوجهين المذكورين أعني : الإستدلال بمفهوم شرطه أو بمفهوم وصفه ، حتى يورد على الوجه الأوّل بمنع دلالة مفهوم شرطه على المدّعى لظهور كونه سلبا بانتفاء الموضوع لا المحمول ، وعلى الوجه الثاني بمنع ثبوت مفهوم للوصف سيّما في مثل المقام.

بل للإستدلال بالآية وجه ثالث سالم عن المناقشات ومبرّأ عن شوائب الإيرادات إلا ما يلحق بالمكابرات التي لا مناص عنها في الإستدلالات.

وهو : الإستدلال بمنطوق الآية ومفهوم موافقتها دون مفهوم المخالفة وذلك بتقريب : ان الظاهر من سياق الآية بالنظر إلى ما يفهم من أشباهها ونظائرها في المحاورات العرفية هو اشتراط قبول قول الفاسق بالتبيّن أو التثبّت على اختلاف القراءات الأعم من تحصيل الظن بصدقه ومن العلم ـ على ما في كتب اللغة من تفسير التبيّن عن الشيء بطلب ظهوره ووضوحه والثبات في الأمر بالأخذ فيه من غير تعجيل حذرا عن فعل الجهلاء والسفهاء

١٤٧

إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ تقريب الاستدلال بالآية بالوجهين مذكور في كتب

__________________

والوقوع بواسطته في معرض تنديم العقلاء.

وبقرينة ما ذكرنا من كون المراد بالتبيّن هو الأعم من الظنّي لا خصوص العلمي يظهر بل يتعيّن كون المراد من الجهالة في التعليل هو السفاهة ، لا عدم العلم الأعم من الظن كما هو معنى الجهل لغة ، بل لا يبعد دعوى الفرق بين الجهل والجهالة ....

وبالجملة : فليس المراد التحذير عن مطلق حصول الندامة ؛ فإن حصول الندامة أمر لا ينفك عن السالك طريقا لم يوصله إلى الواقع ولو كان طريقا قطعي الوصول اليه ، بل المراد إنما هو التحذير عن الوقوع في معرض تنديم العقلاء واستحقاقه الملامة على الجهالة بمعنى السفاهة ....

فيرجع محصّل مفاد الآية إلى تقرير بناء العقلاء في كيفيّة العمل بالأخبار وإلى الإرشاد إلى ما يقتضيه العقل وبناء العقلاء من التحذير عن فعل السفهاء في العمل بالأخبار حتى يحصل للعامل مأمن من تنديم العقلاء بما يصحّ الإعتذار به إليهم لو انكشف الخلاف من استظهار وثاقة المخبر أو عدالته ....

فتلخص مما ذكرنا : ... ان للإستدلال بهذه الآية وجهان آخران :

أحدهما : ـ وهو العمدة ـ وقد مر.

والآخر : هو الإستدلال بمفهوم شرطها على الوجه الرابع إلى السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع ، لوجود القرينة الصارفة عن ظاهر الشرط ، وهي مناسبة التعليل وعدم انطباقه على غير صفة الفسق والمناسبة الإقترانيّة بينه وبين الحكم بالتبيّن.

إلى آخر ما ذكره انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ١ / ٣٠٨ ـ ٣١٦ فما بعد ـ للسيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره.

١٤٨

القوم ، وإن اقتصر في بعضها على الوجه الأوّل ـ أي مفهوم الشّرط ـ وفي بعضها على الوجه الثّاني.

لكن في تقريب الاستدلال بالوجه الأوّل قد اختلفت كلماتهم. ففي بعضها : ذكره كما ذكر في الكتاب نفسه ، وفي بعضها : أنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق ، فينتفي وجوب التّبين بمقتضى التّعليق على الشّرط عند عدم مجيء الفاسق بالنّبأ وهو يشمل بإطلاقه مجيء العادل بالنّبأ أو غير الفاسق به ، بناء على ثبوت الواسطة ؛ ضرورة أنّ عدم مجيء الفاسق بالنّبأ يشمل ما لو لم يكن هناك نبأ أصلا ، أو كان ولم يكن المخبر فاسقا ؛ فإذن ينتفي وجوب التّبين عن خبر العادل بمفهوم الشّرط ، فيدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما ، أحدهما : القبول من دون تبيّن ، ثانيهما : الرّد كذلك ، والثّاني باطل جزما ؛ للزوم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق على تقديره ؛ ضرورة كون الرّد من دون تبيّن أسوأ من التّبين ؛ إذ فيه نوع من الاعتناء بشأن المخبر ، وربّما ينتهي إلى العمل بالخبر على تقدير الصّدق ؛ فالآية النّافية للتّبين في خبر العادل بمفهوم المخالفة تنفي الرّد بالفحوى ومفهوم الموافقة. هذا توضيح تقريب الاستدلال المذكور في كلام بعضهم.

(٨١) قوله قدس‌سره : ( للمناسبة والاقتران ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

في بيان مراده قدس‌سره من المناسبة والإقتران

أقول : المراد من الاقتران : يحتمل ـ على بعد ـ أن يكون هو المناسبة ، فيكون العطف للبيان. ويحتمل أن يكون الاقتران المعنوي ؛ حيث إنّ الفاسق فاعل الشّرط ، وقوله : ( بنبأ ) مفعول الشّرط. ومن المعلوم أنّ الجزاء الذي هو معلول

١٤٩

الشّرط أقرب بفاعله بالنّسبة إلى مفعوله ؛ لأنّ نسبة الفعل إلى المفعول بالملاحظة الثّانويّة ، وإلى الفاعل بالملاحظة الأوّلية.

فإذا ثبت كون الظّاهر من القضيّة استناد الحكم ، يعني : وجوب التّبين إلى الوصف ، يعني : الفسق ، فيستكشف عدم صلاحيّة كونه مخبرا واحدا الّذي هو أمر ذاتيّ للعليّة والاستناد وإلاّ لوجب الاستناد إليه ؛ لحصول الذّاتي قبل حصول العرضي الّذي فرض الاستناد إليه ؛ فيكون معلوله في مرتبته ؛ فيلزم أن يكون مقدّما ولو طبعا على العرضي ؛ ضرورة كون لوازم الذات مقدّمة على عوارضه.

والاستناد إلى العرضي يقتضي تأخّره عنه ؛ فيلزم تقدّم الشّيء على نفسه ؛ فيكشف من ذلك كلّه انحصار العليّة والسّببيّة في الوصف ؛ فينتج ثبوت المفهوم والدّلالة على الانتفاء عند انتفائه ، كما هو واضح. ومنه يعلم : أنّ المراد من الأولويّة ـ في عبارة « الكتاب » ـ التّعين ، لا ما يكون حسنا يجوز تركه.

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( أقول : الظّاهر أنّ أخذهم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

في ان ظاهر كلامهم إرادة وجوب التبيّن نفسا

أقول : لا ريب في ظهور كلامهم في تقريب الدّلالة على الوجهين في إرادة الوجوب النّفسي من الأمر بالتّبيّن ، وإن لم يلتزم به أحد حتّى من قال بوجوب تحصيل العلم في الفروع بالوجوب النّفسي ؛ فإنّه لا يقول : بأنّ إخبار الفاسق سبب لوجوب التّبين بالوجوب النّفسي ؛ لأن أخذهم للمقدّمة المذكورة في كلامهم المبنيّة على التّرديد والدوران ينطبق على الوجوب النّفسي ، لا الشّرطي.

وظاهر الأمر في نفسه وإن كان الوجوب النّفسي إلاّ أنّه بالنّظر إلى المقام إلى

١٥٠

الفحص عن الطّرق ، إلى قيام الإجماع ، وإلى التّعليل غير مراد قطعا ، فلا معنى لحمل اللّفظ عليه هذا.

والتّحقيق : أنّ الأمر بالتّبيّن في خبر الفاسق ، وبعدم وجوبه في خبر العادل ، وإن دلّ على عدم حجيّة الأوّل ، وكون وجوده كعدمه ، فلا بدّ من تحصيل العلم بالواقع في مورده ، وعلى حجيّة الثّاني وطريقيّته المغنية عن تحصيل العلم بالواقع بالدلالة اللّفظيّة العرفيّة الواضحة ، إلاّ أنّ حمل الوجوب على الوجوب الشّرطي محلّ مناقشة ؛ فإنّه لا معنى لجعل تحصيل العلم بالواقع شرطا للعمل بخبر الفاسق ؛ فإنّ العمل بالواقع لا دخل له بالعمل بالخبر إلاّ على سبيل التّوسّع والمسامحة.

فلا بدّ أن يحمل وجوب التّبيّن ـ المقصود منه في خصوص المقام الدّلالة على عدم الحجّيّة على ما يحمل عليه الوجوب في كلّ ما دلّ على وجوب تحصيل العلم في الفروع ـ على الجاهل من الوجوب الغيري الإرشادي. وحكم الشّارع بنفي هذا المعنى عند إخبار العادل ، وإن كان في معنى الحكم بحجيّته ؛ إلاّ أنّه لا دخل له بالوجوب الشّرطي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الآية لا تعلّق لها بخصوص الفروع ، بل يعمّها الموضوعات الّتي لا يجب تحصيل العلم فيها بالوجوب الغيري الإرشادي ، بل مورد الآية من الموضوعات فإن فرض هناك وجوب فليس إلاّ الوجوب الشّرطي غاية الأمر أن يكون الوجوب الثّابت عند إرادة العمل هو الوجوب الغيري ، هذا.

١٥١

كلام صاحب الفصول

وقال بعض أفاضل من قارب عصرنا ـ في تقريب الاستدلال ـ ما هذا لفظه : « وجه الدّلالة : أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النّبأ على مجيء الفاسق به ، فيدلّ بمفهومه على عدم وجوب التّبين عند مجيء العادل به. ومقتضاه جواز القبول ؛ لأنّ الأمر بطلب البيان ، إمّا كناية عن عدم جواز القبول ، أو مجاز عنه ، أو مخصوص بما لو أريد العمل بمقتضى نبأه فيكون وجوبه شرطيّا ، ويرجع إلى الوجه السّابق ، أو بمواضع خاصّة لا بدّ من التّبيّن فيها. منها : الواقعة التي نزلت الآية فيها ، حيث يجب فيها طلب البيان بمطالبتهم بالصّدقات ، فإن انقادوا إلى الحقّ وأدّوها تبيّن كذب النّبأ قضاء بظاهر الحال. وإن استنكفوا عنها وأظهروا التّمانع والمعاداة تبيّن صدقه ووجب التّهجّم على جهادهم. لكن هذا في الحقيقة راجع إلى طلب أمر مخصوص يحصل به البيان ، وليس بطلب نفس البيان حقيقة. وبالجملة : فلا بدّ من حمل الأمر بالتّبين على أحد هذه الوجوه ؛ للإجماع على عدم وجوب التّبين عند خبر الفاسق مطلقا.

وعلى هذا فما تداول في كتب القوم ـ في بيان وجه الاستدلال : من أنّه علّق وجوب تبيّن النّبأ على مجيء الفاسق به ، فعلى تقدير مجيء العادل به إمّا أن يجب القبول فهو المدّعى أو يجب الردّ ؛ فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ غير مستقيم ؛ إذ مرجع الأمر بالتّبيّن فيما عدا الوجه الأخير إلى ردّ نبأه ، وفي الوجه الأخير يجب التبيّن في نبأ العادل أيضا وإنّما يتمّ ما ذكروه إذا حمل الأمر بالتّبيّن

١٥٢

على وجوبه مطلقا ، وهذا ممّا لا ذاهب إليه (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( مع أنّ في الأولويّة المذكورة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٥ )

حمل وجوب التبيّن على النفسي لا يجدي في تماميّة الاستدلال

أقول : مراده قدس‌سره ممّا أفاده : أنّ حمل وجوب التبيّن على الوجوب النّفسي ـ على ما يستفاد من تقريب الاستدلال في كلماتهم مضافا إلى فساده من وجوه مذكورة في كلامه قدس‌سره ـ لا يتمّ معه تقريب الاستدلال ؛ حيث إنّ نفي وجوب التّبين عن خبر العادل بالوجوب النّفسي لا يلازم وجوب القبول والحجّيّة ، فيشترك مع خبر الفاسق ما لم يتبيّن صدقه ، ومطابقته للواقع في عدم القبول. كما أنّه يشترك معه مع تبيّن الصّدق في العمل بمقتضى التّبين. ويفترقان في وجوب التّفتيش في حال خبر الفاسق من حيث الصّدق والكذب ، وعدم وجوبه في خبر العادل وهو موجب لمزيّة العادل على الفاسق ، لا لمنقصة العادل بالنسبة إلى الفاسق.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التّبيّن في الخبر نوع من الاعتناء بشأن المخبر ، فلا يصلح أن يكون فارقا. وإليه أشار بقوله ( فتأمّل ) (٢) على ما أفاده في مجلس الدّرس ، وإن لم يخل عن مناقشة.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٥٧.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٥٦.

١٥٣

(٨٤) قوله : ( أحدهما : أنّ الاستدلال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٦ )

التعليق على الوصف لا يدل على المفهوم

أقول : مراده قدس‌سره من عدم اعتبار مفهوم في الوصف : عدم ثبوت المفهوم في التّعليق على الوصف ، لا عدم حجيّته واعتباره مع ثبوته ؛ ضرورة عدم الفرق في حجيّة ظواهر الألفاظ بين الظّهور المنطوقي والمفهومي. فكلامهم في باب المفاهيم إنّما هو في الصّغرى ، لا في الكبرى بعد ثبوتها ، كما صرّح به غير واحد من الأعلام ، وإن تسامحوا في بعض التّعبيرات ، إلاّ أنّه لا ضير فيه مع وضوح المراد وظهوره. ومن هنا قالوا : إنّ التّعليق بالوصف يشعر بالعليّة ولا يدلّ عليها.

ومن هنا أجاب غير واحد من الأساطين عن الاستدلال بالآية : بأنّه مبنيّ على دليل الخطاب. أي : مفهوم المخالفة. ولا نقول به. فمثل العلاّمة القائل بثبوت المفهوم للتّعليق على الشّرط (١) لا بدّ أن ينزّل كلامه على إرادة التّعليق على الوصف. ومثل السيّد النّافي لهما معا (٢). يحتمل كلامه لكلّ من الأمرين ، هذا.

والعجب من المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » ؛ حيث إنّه مع موافقته للمشهور في القول بعدم المفهوم للتعليق على الوصف ، قال به في المقام ؛ لمساعدة العرف ، وقرينة المقام ؛ حيث قال ـ بعد تضعيف دلالة الآية باعتبار التعليق على الشّرط ـ : « فالاعتماد على مفهوم الوصف ، فإنّا وإن لم نقل بحجّيته في نفسه ، لكنّه

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٩٤ مخطوط.

(٢) الذريعة : ج ٢ / ٥٣٥.

١٥٤

قد يصير حجّة بانضمام قرينة المقام. كما أشرنا إليه في مباحث المفاهيم (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، صريح فيما حكينا عنه ، إلاّ أنّه مبنيّ ـ كما صرّح بذلك بعد الكلام الّذي عرفته ـ على مقالة المشهور القائلين بحجيّة ظواهر الألفاظ في حقّ غير من قصد إفهامه بالخطاب ، لا على ما ذهب إليه في بحث الظّواهر من عدم حجيّته إلاّ من باب الظّن المطلق.

ويرد عليه : بأنّا كلّما نتأمّل في المقام لا نفهم قرينة تدلّ على أنّ الغرض من التّعليق الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء هذا. مع أنّ المقام أولى بعدم الدّلالة من حيث عدم ذكر الموصوف في الكلام ، وعدم اعتماد الوصف على موصوف محقّق ، فإنّه أشبه باللّقب في كونه موضوعا للحكم ، وليس أمرا زائدا عليه ؛ حتّى يقال : بأنّ ذكره لغو لو لم يكن الغرض منه الدّلالة على مناط الحكم وعلّته ، كما هو أحد الوجهين في الاستدلال لإثبات المفاهيم في التعليقات التي قالوا بثبوت المفهوم لها.

مضافا إلى ما قيل : من أنّ فائدة التّعليق في المقام ظاهرة ، وهو التنبيه على فسق الوليد ؛ لما روي في شأن نزولها : من أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل وليد بن عقبة إلى بني المصطلق ؛ ليأخذ منهم صدقاتهم ، فلمّا قرب إلى منازلهم خرجوا إليه ؛ ليتلقّوه تعظيما لحقّه ، فهابهم ؛ لما كان ما بينه وبينهم في الجاهليّة من العداوة ، فهرب إلى

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٣٤.

١٥٥

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بتمانعهم من أداء الصّدقات ، فنزلت الآية في حقّه (١).

وقد يروى : أنّه أخبر بارتدادهم (٢) ، فنزلت الآية الشّريفة (٣). فلا يمكن أن يقال : إنّ الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء أظهر الفوائد ، فضلا عن أن يقال : بانحصار الفائدة فيها.

كلام الفصول في الإعتراض على المحقق القمي

وقال بعض الأفاضل ـ ممّن قارب عصرنا بعد حكاية ما عرفت عن « القوانين » ـ :

« أقول : وفيه نظر ؛ لأنّ مساعدة المقام على استفادة حكم المفهوم من التّعليق على الوصف بناء على عدم دلالته عليه في نفسه ، إمّا أن يكون لقرائن حاليّة ، وثبوتها في المقام ممنوع قطعا ، أو لقرائن لفظيّة راجعة إلى انحصار فائدة التّعليق في الاحتراز ، أو ظهورها بحسب مقام التّعليق من بين الفوائد ، فهذا إنّما يتصور جريانه بحسب تحصيل الوثوق والاعتداد به فيما إذا تعقب الوصف

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ٩ / ٢٢٠ ، عنه بحار الأنوار : ج ٢٢ / ٥٣.

(٢) أنظر تفسير الأصفى للمولى محسن فيض الكاشاني : ج ٢ / ١١٩٢ ، والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن ما ذكر في شأن نزول الآية لا يمكن الوثوق به بتفاصيله لاشتماله على المنكرات التي لا مجال للإيمان بها ، وهذا هو شأن ما ورد من العامّة ولا يرجى منه أكثر من ذلك. ذلك لأنهم حاولوا بشكل وآخر تبرئة الوليد الفاسق الخبيث فتأمل فيما ذكروه وتلطّف حتى تعرف ما ذكرناه.

(٣) الحجرات : ٦.

١٥٦

الخاص الموصوف العام.

كما في قولك : « إن جاءك مخبر فاسق أو رجل فاسق ، بنبأ » ونحو ذلك ممّا يشمل على التّقييد اللفظي المقتضي اعتباره في الكلام لفائدة زائدة على فائدة بيان الحكم ، وظاهر أنّ المقام ليس من بابه ، بل من باب ترجيح التّعبير عن مورد الحكم بعنوان خاصّ على التّعبير عنه بعنوان عام ، ومثل هذا لا يستدعي فائدة ظاهرة يزيد على فائدة بيان الحكم في المورد الخاص.

ومع الإغماض عن ذلك فلا تجد لتعليق الحكم على الوصف في المقام مزيد خصوصيّة لا توجد في غيره ؛ فإنّ ما ذكروه في منع دلالته على حكم المفهوم في غير المقام : من عدم انحصار الفائدة فيه وإنّ من جملة الفوائد كون محلّ الوصف محلّ الحاجة يتّجه في المقام أيضا.

مضافا : إلى أنّ له في المقام نكتة أخرى أيضا وهو : التّنبيه على أنّ المخبر المتّصف بالفسق بعيد عن مقام الاعتماد والاستناد جدّا ؛ إذ يحتمل في حقّه ما يحتمل في حقّ المخبر العادل من السّهو والنّسيان مع زيادة وهي : احتمال تعمّده الكذب وتعويله في خبره على أمارات ضعيفة وأوهام سخيفة ناشئتين من انتفاء صفة العدالة عند الحاجزة على الاقتحام في مثل ذلك. وهذا ظاهر لا سترة عليه » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٥.

١٥٧

(٨٥) قوله قدس‌سره : ( ففيه : أنّ مفهوم الشّرط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٧ )

كيفية أخذ المفهوم من القضيّة الشرطيّة

أقول : الوجه فيما أفاده ظاهر لا سترة فيه أصلا ؛ ضرورة أنّ المعتبر في التّعليق على الشّرط كما حقّق في محلّه فيما كان له مفهوم بتبديل كلّ من الشّرط والجزاء بنقيضه مع إبقاء سائر أجزاء القضيّة على حالها في جانب المفهوم. فإذا قال : « إن جاءك زيد فأكرمه ». مثلا ، كان مفهومه سلب الجزاء ، وهو وجوب الإكرام عن زيد عند عدم الشّرط ، وهو مجيء زيد ، لا سلب الإكرام عن عمرو الجائي مثلا ، فإنّه موضوع آخر لم يكن مثبتا في القضيّة أصلا ، فإذا فرض التّعليق على الشّرط في الآية دالاّ على قضيّة أخرى ، يعبّر عنها بالمفهوم ، كانت تلك القضيّة : إن لم يجئكم فاسق بنبأ فلا يجب التّبيّن في نبأه لا إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التّبين في نبأه فإنّ نبأ العادل ليس من أفراد عدم نبأ الفاسق ، ولو في الجملة ؛ ضرورة أنّ الأمر الوجودي ليس من أفراد العدم ؛ ضرورة تقابل الوجود والعدم. فكيف يمكن تصادفهما؟

نعم ، قد يقارن عدم الشّيء وجود بعض الأشياء أو يلازمه. وأين هذا من التّصادق والفردية؟ فعدم نبأ الفاسق لا يتعدّى عنه ، وليس من أفراده نبأ العادل ، إن تقارن نبأ العادل في الوجود وإلاّ أمكن أن يقال : بأنّ الآية تدلّ منطوقا على عدم حجيّة خبر العادل ؛ بأن يقال : إنّ الآية تدلّ على وجوب التّبين في خبر الفاسق ويشمل بإطلاقها ما لو اجتمع مع نبأ العادل ، فيجب التّبين فيه ، وإن كان المخبر به أمرا واحدا. وهو كما ترى.

١٥٨

فإذا لم يمكن التّبين في النّبأ المنفي عن الفاسق فلا يعقل أن يكون للقضيّة مفهوم ودلالة مرادة للمتكلّم ؛ ضرورة كون انتفاء المحمول عن الموضوع الغير الموجود من جهة استحالة الوجود لا من جهة دلالة اللّفظ ، وإنشاء المتكلّم لنفيه إمّا من جهة الدّلالة الوضعيّة أو الإطلاقيّة الانصرافية أو العقليّة الرّاجعة إلى لزوم اللّغويّة والخلوّ عن الفائدة. فلا بدّ أن يكون الغرض من ذكر الشّرط في أمثال المقام الإشارة والدّلالة على اختصاص الجزاء موضوعا بصورة وجود الشّرط وهذا غير عزيز كما في الأمثلة المذكورة في « الكتاب ».

فلو قيل : إنّ قوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) (١) الآية يدلّ بالمفهوم على نفي وجوب الاستماع عن قراءة الحديث ؛ حيث إنّ عدم قراءة القرآن يشمل قراءة الحديث كان حقيقا بالإعراض وعدم الاستماع ، وهكذا الأمر في نظائره هذا.

مع أنّ الأخذ بإطلاق المفهوم والحكم بدلالة الآية على عدم وجوب التّبين في خبر العادل لا معنى له من جهة أخرى ؛ فإنّ حمل الآية على ما ذكر يوجب الحكم بأنّ مدلول الآية نفي وجوب التّبيّن بالدّلالة اللّفظيّة عمّا لم يكن هناك نبأ أصلا لا من الفاسق ولا من العادل ، كما أنّ مدلولها نفيه عن نبأ العادل. ومن المعلوم ضرورة أنّ نفي وجوب التّبين شرعا إنّما يتصور في مورد إمكان ثبوته. وكيف يمكن ثبوته فيما لم يكن هناك نبأ أصلا؟

وممّا ذكرنا كلّه يظهر فساد ما قيل في الجواب عن الاعتراض المذكور : من أنّ مفهوم الشّرط وإن لم يكن مجيء العادل بالنّبأ إلاّ أنّه بإطلاقه يشمله ، وهكذا ما

__________________

(١) الاعراف : ٢٠٤.

١٥٩

قيل : من أنّ حمل المفهوم على عدم وجوب التّبين في نبأ الفاسق عند عدم مجيئه به يوجب حمل القضيّة على السّالبة بانتفاء الموضوع ، وهو على خلاف الأصل الظّاهر ؛ ضرورة أنّ الأصل المذكور إنّما يعمل به ويجري فيما كان هناك قضيّة سالبة مردّدة. وقد عرفت : تعيّن كون السّلب في المقام من جهة سلب الموضوع.

(٨٦) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : ما أورده في محكي العدّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٨ )

إفتراق الايراد الثاني عن الأول ووجهه

أقول : لا يخفى عليك أنّ مرجع هذا الإيراد أيضا وإن كان إلى كون الغرض من التّعليق في المقام وصفا أو شرطا غير الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، إلاّ أنّه يفترق معه من جهة أخرى ؛ فإنّ الاستناد في الإيراد الأوّل إلى منع وجود المقتضي ، وفي الإيراد الثّاني إلى وجود المزاحم والمانع عن الحكم بإرادة المفهوم من التّعليق ، وإن سلّم كون التّعليق في نفسه مقتضيا لعدم وجوب التّبين في خبر العادل ، فالغرض : من التّعارض في المقام هو تنافي ما يقتضيه ظهور اللّفظ والدّلالة العرفية على الانتفاء عند الانتفاء مع وجود ما يمنعه ويزاحمه ، فالتّعليق بهذه الملاحظة ليس له ظهور ومفهوم حقيقة ، فلا يقال : إنّه أخصّ بالنّسبة إلى عموم التّعليل ، فلا بدّ أن يخصّص به كما يكون الأمر كذلك فيما كان التّعليق المقتضي لمفهوم المخالفة والعموم في كلامين إذا فرض العموم مستفادا من غير التّعليل ، فالتّعارض حقيقة بين التّعليق الدّال على المفهوم بحسب الوضع أو غيره من جهات

١٦٠