بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-281-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٩٣

وسائر الملّيّين على أنّه ليس من جملة الأدلّة ما يختلج في ضمائر آحاد الثّقات أو العلماء ويحكم به عقولهم ؛ فإنّه وإن وجب عليهم الاعتقاد به والعمل بمقتضاه كما وجب نحوه أيضا على سائر النّاس فيما أدركته عقولهم ، إلاّ أنّه ليس حجّة على غيرهم من العلماء ، بل فائدته مقصورة على أنفسهم وعلى مقلّديهم حيث وجب تقليدهم عليهم. ولقد نادى المصنّفون منهم بذلك في كتبهم ، وضرورة العقل أيضا تشهد بذلك ؛ إذ يستحيل على الله تعالى أن يجعل الأحكام الشّرعيّة المحكمة المنزلة في كتبه المكرمة المبنيّة على الحكم الباهرة والمصالح الخفيّة والظّاهرة منوطة بعقائد النّاس وأهوائهم مع عدم عصمتهم وشدّة اختلافهم واضطراب آرائهم » (١).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له في الاستشهاد لما ذكره ـ :

إذا تمهّد ذلك فاعلم : أنّ الوجه في حجيّة الإجماع المنقول باعتبار المنكشف والتّعويل على النّتيجة المتقدّمة لا يخلو من أمور متقاربة :

الأوّل : أنّ الإجماع الكاشف من الحجج المنصوبة ـ لمعرفة أحكام الشّريعة ـ له وجود في الخارج ونفس الأمر كالسّنة ، فكما وجب العمل بالمعلوم منه بالتّحصيل أو التّواتر فكذا بالمظنون منه بنقل الثّقة لاقتضاء انسداد باب العلم وغيره من أدلّة حجيّة خبر الواحد ذلك كما قرّر في محلّه.

وفيه : أنّه إنّما يستقيم باعتبار السّنة عندنا في نقل نفس الاتّفاق المأخوذ في صغرى القياس ، وقد بيّنا جواز الاكتفاء في معرفته بنقل الثّقة مع مراعات ما مرّ

__________________

(١) المصدر السابق : ٤١١.

١٠١

مفصّلا ، ولا يستقيم في نفس النّتيجة الّتي هي كالكبرى من الأحكام الذّهنيّة والاعتقادات العقليّة الّتي يختصّ حجيّتها بمدركها ومقلّديه » (١).

إلى أن قال :

« الثّاني : أنّ النّاقل الثّقة ادعى حصول العلم له من الإجماع بطريق الانكشاف رأي الإمام عليه‌السلام أو غيره ممّا يجب العمل به فيجب التّعويل عليه كما يجب فيما يدعي العلم به بالسّماع أو المشاهدة ؛ لأنّ المنشأ أمور محسوسة له حصل منها العلم بما هو حجّة وهو المناط ولا دخل لطريقه ولا يختلف الحكم باختلافه ، فالمستند تنقيح المناط المشترك بين الأمرين. وفساد ذلك ظاهر ممّا بيّناه سابقا. مع أن التّعويل على العلم المذكور الّذي هو المقيس ليس لنصّ » (٢).

إلى أن قال :

« الثّالث : أنّ انسداد باب العلم يقتضي جواز العمل بالظّن مطلقا ؛ فيجوز العمل بالإجماع المنقول لحصول الظّن من ذلك مع وثاقة النّاقل. وخروج بعض الظّنون بالإجماع لا يقتضي خروجه ؛ لمكان الخلاف.

وفيه : أوّلا : أنّ الخلاف المعتدّ به هنا إنّما هو باعتبار نقل الكاشف لا المنكشف كما سبق » (٣).

إلى أن قال ـ بعد ذكر أجوبة ـ :

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٥٦.

(٢ و ٣) المصدر السابق : ٤٦٠.

١٠٢

« وخامسا : أنّ الحقّ الحقيق بالاتّباع والتّحقيق : هو أنّ دليل انسداد باب العلم ـ على ما قرّرناه في محلّه ـ لا يقتضي إلاّ جواز العمل بالظّن في طريق الوصول إلى الأدلّة السّمعيّة المقرّرة واستنباط الأحكام منها ، فيقوم الظّن الخاص من نقل الآحاد على وجه السّماع أو المشاهدة كما هو المعهود المتعارف الّذي عليه جرت عادة النّقلة واستقامت الطّريقة مقام القطع الحاصل من السّماع أو المشاهدة والتّواتر المستند إليهما ، والعلم بوجوب العمل بخبر الثّقة الإمامي تعبّدا لحكمة لا يجب اطّرادها يقوم الظّن الحاصل من معاني الألفاظ وأمارات الحقيقة والمجاز ووجوه الجمع والتّرجيح وشواهد الجرح والتعديل مقام القطع بها ، فلا يعبأ بمطلق الظّن في طريق الوصول كما في قول الرّاوي : أظنّ أنّ الإمام عليه‌السلام قال كذا ، أو فعل كذا ، أو أنّ فلانا روى عنه كذا ، أو نحو ذلك ممّا وقع فيه الالتباس في الأصل ؛ من جهة نفس الصّدور ، أو ما صدر أو من صدر منه وإن حصل الظّنّ للرّاوي أو لغيره اعتمادا على ظنّه. فكيف يوجب العمل بالظّن بقول مطلق ويجعل طريقا مستقلاّ لمعرفة الأحكام؟

مع أن الأخبار المتواترة التي عليها مدار عمل الشّيعة إلى ظهور الخلف الحجّة عليه‌السلام صريحة الدّلالة على أنّ المدرك ـ بعد دليل العقل القاطع الّذي لا يزول ولا يختلف باختلاف الأزمنة والدّهور وبه تعرف الضّرورة والنّظر حجّة كلّ متعوّل وحقيقة كلّ مأثور ـ منحصر في الكتاب الّذي هو كلام الله اللّفظي المسموع المعروف ، والسّنة النّبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإماميّة (١) الّتي هي القول المسموع من

__________________

(١) أي والسنة الإماميّة أي ما صدر عن الأئمة الأطهار « صلوات الله عليهم أجمعين » من قول أو فعل أو تقرير كما يذكره قريبا.

١٠٣

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خلفائه وفعلهم وتقريرهم ـ المعلومان بالمشاهدة ـ وما يستفاد منها من الأدلّة الّتي وجب العمل بها وإن لم يحصل منها الظّن بالحكم وتعدّ عند القدماء من الطّرق العلميّة ، لذلك ولأمر آخر ليس هذا موضع بيانه.

وهذا الحصر وقع عن أمر إلهيّ وعلم ضروري بما حدث لدى الشّيعة في زمن حضور من مضى من الأئمّة عليهم‌السلام وما يحدث في غيبة من بقي منهم عليهم‌السلام من الخلل والمفاسد في معرفة الأحكام وانسداد باب العلم بأكثرها في أزمنة السّلف فضلا عن الخلف لأمور ليس هنا موضع ذكرها وبيّناها في الرّسالة وغيرها.

وقد قضت الضّرورة أيضا : بأنّ الطّريق إلى الأحكام بعد البعثة هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده خلفاؤه صلوات الله عليهم فالواجب أخذ الأحكام التّوقيفيّة منهم عليهم‌السلام فينحصر مدركها في الكتاب والسّنة ، ويجب على جميع الناس الرّجوع إليهما في جميع الأزمنة ؛ إذ لا موجب لرفع ذلك أصلا ؛ فإنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا وصيّ له غير الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا آثار باقية منهم بحيث يمكن التمسّك بها سوى الكتاب والسّنة المعروفين ، والطريقة المستمرّة المتداولة المأخوذة عنهم غالبا ومرجعها من النّقل أيضا إلى الأمرين خاصّة ؛ فالعبرة في انفتاح باب العلم وعدمه بهما لا بنفس الأحكام ، فلا وجه لجعل الانسداد سببا لفتح باب دليل آخر غيرهما ؛ على أنّه لو لا ما ذكرنا لكان الاقتصار عليهما ترجيحا للراجح المقرّر الّذي يرتفع به الضّرورة وكان مدار عمل الشّيعة في أزمنة الأئمة عليهم‌السلام مع تحقق الانسداد في معظمها بالنّسبة إلى أكثرهم فلا يكون ترجيحا بلا مرجّح كما أخذ في مقدّمات دليل الانسداد على ما بيّن في محلّه. فلا يلزم القول بحجيّة الظّن بقول مطلق ، مع أنّه ممّا لم يقل به أحد من علماء الأمّة على ما صرّح به المرتضى في بحث أخبار

١٠٤

الآحاد من « الذّريعة » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع في الخلد مقامه

وأنت خبير بأنّه فيما كان نقل الكاشف حجّة مستقّلة من غير حاجة إلى ضمّ أقوال وأمارات أخر من حيث كون المنقول لازما عاديّا لقول الإمام عليه‌السلام يكون نقل المنكشف من هذا الكاشف ـ بالاعتبار الّذي عرفته في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ حجّة بناء على دلالة الآية على حجيّة الخبر في الحسيّات أو ما يرجع إليها حسبما عرفت مفصّلا ، إذن الانتقال من اللاّزم الحسّي إلى ملزومه بمنزلة إحساس الملزوم ولا دخل له بالرّأي والاجتهاد والنّظر ؛ حتّى يمنع من الأخذ به في حقّ المجتهد ، كما أنّه على تقدير عدم ثبوت المفهوم للآية لا يقول بحجيّة شيء منهما.

نعم ، فيما كان المنقول على تقدير تحقّقه غير كاشف في الكشف من حيث عدم ثبوت الملازمة بينه وبين قول الإمام عليه‌السلام عندنا وإن كانت ثابتة باعتقاد النّاقل كان النّقل مقيدا من حيث نقل جزء السّبب فيما لو انضمّ إليه الجزء الآخر بسبب الكشف ولم يكن مقيدا بالنّسبة إلى المنكشف باعتقاد النّاقل ؛ من حيث إنّ إخباره بالنّسبة إلى المنكشف لا يرجع إلى الحسّ ؛ من جهة عدم الملازمة العاديّة بالفرض بين المنقول وقول الإمام عليه‌السلام واقعا ، وإن اعتقدها النّاقل.

ويمكن تنزيل كلام الشّيخ المحقّق المتقدّم ذكره (٢) في التّفصيل الّذي ذكره ، على ما استدركناه أخيرا.

__________________

(١) كشف القناع : ٤٦٠ ـ ٤٦٢ والظاهر ان اللفظ مأخوذ من رسالة المواسعة والمضايقة للمحقق المزبور التي مرّت الإشارة إليها مسبقا وذلك لوجدان الإختلاف الكثير بين الفاظ كشف القناع والمذكورها هنا على ان الرسالة لا تزال مخطوطة.

(٢) المحقق الفقيه الشيخ أسد الله التستري.

١٠٥

والإنصاف أنّ في كلماته الّتي عرفتها شواهد للتنزيل المذكور ، وإن كان ربّما يتراءى منه في باديء النّظر إطلاق القول بالتّفصيل. وممّا ذكرنا على سبيل الإجمال تعرف مواضع النّظر في كلماته قدس‌سره وتقدر على تميزها عن مواضع الصّحة منها.

نعم ، ما أفاده أخيرا في الجواب الخامس : من اختصاص نتيجة دليل الانسداد بالظن في تشخيص طريق الأحكام لا في أنفسها ، منظور فيه. نتكلم فيه مفصّلا عند التكلّم في تنبيهات دليل الانسداد تبعا لشيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره.

تذنيب :

قد تعرّض غير واحد ممّن تعرّض للإجماع المنقول أنّه يدخل فيه ما يدخل الخبر من الأقسام ، ويلحقه ما يلحقه من الأحكام. قال في « المعالم » :

« وبالجملة فحكم الإجماع حيث يدخل في حيّز النّقل حكم الخبر ، فيشترط في قبوله ما يشترط هناك ويثبت له عند التّحقيق الأحكام الثّابتة له ، حتّى حكم التّعادل والتّرجيح على ما يأتي بيانه في موضعه. وإن سبق إلى كثير من الأوهام خلاف ذلك ؛ فإنّه ناش عن قلّة التّأمّل. وحينئذ فقد يقع التّعارض بين إجماعين منقولين وبين إجماع وخبر ؛ فيحتاج إلى النّظر في وجوه التّرجيح بتقدير أن يكون هناك شيء منها وإلاّ حكم بالتّعادل.

وربّما يستبعد حصول التعارض بين الإجماع المنقول والخبر من حيث احتياج الخبر الآن إلى تعدّد الوسائط في النّقل ، وانتفاء مثله في الإجماع ، وسيأتي بيان : أنّ قلّة الوسائط في النّقل من جملة وجوه التّرجيح.

ويندفع : بأنّ هذا الوجه وإن اقتضى ترجيح الإجماع على الخبر ، إلاّ أنّه

١٠٦

معارض في الغالب بقلّة الضّبط في نقل الإجماع من المتصدّين لنقله بالنّسبة إلى نقل الخبر ، والنّظر في باب التّراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما يساويه أو يزيد عليه في الجانب الآخر كما ستعرفه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير : بأنّ حكم التعارض من حيث التّرجيح أو التخيير ، إن كان على طبق الأصل فلا إشكال في جريانه في تعارض الإجماعين المنقولين أو نقل الإجماع والخبر ، وإلاّ فتسرية حكم تعارض الخبرين إليهما لا دليل عليه أصلا ؛ إذ مورد أخبار العلاج ترجيحا وتخييرا تعارض الخبرين والرّوايتين.

اللهم إلاّ أن يكون هناك إجماع على التّسرية كما يظهر من العلاّمة قدس‌سره ؛ فإنّه ادّعى الإجماع على أنّ الأخذ بأقوى الدّليلين واجب هذا. وسيأتي تفصيل القول في ذلك في الجزء الرّابع من التعليقة إن شاء الله.

في المتواتر المنقول

(٥٧) قوله قدس‌سره : ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هنا سؤالا على ما أفاده في حكم نقل المتواتر ، يجري مثله فيما أفاده في نقل الإجماع أيضا من التّفصيل في الحكم باعتباره ؛ من حيث نقل الكاشف أو المنكشف ـ بناء على دلالة الآية على حجيّة خبر العادل في المحسوسات ـ بين كون المنقول عن حسّ لازما لقول الإمام عليه‌السلام حتّى في نظرنا أو

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٨٠ ـ ١٨١.

١٠٧

الدّليل المعتبر ، وبين عدم كونه لازما لأحدهما في نفس الأمر وإن اعتقد النّاقل الملازمة فأوجب له القطع بأحدهما ، فيكون معتبرا في الأوّل دون الثّاني.

وكذلك الأمر في نقل التّواتر في الخبر ؛ حيث إنّه يصدق فيما لو أوجب العدد الّذي أخبر به العلم بثبوت المخبر به لكلّ من اطّلع عليه دون ما لم يكن كذلك ، وهو أنّ التواتر على ما صرّحوا به صفة في الخبر يوجب العلم بصدق المخبرين من جهة نفس كثرتهم من دون ضمّ شيء آخر ، وإلاّ لم يكن الخبر متواترا ؛ ضرورة أنّه ليس كلّ خبر علميّ بمتواتر في الاصطلاح ، وليس هذا ممّا يختلف فيه أحد من الخاصّة والعامّة.

فإذا أخبر أحد بالتّواتر في خبر ، فقد أخبر بأخبار جماعة كثيرة يمنع عادة خطأهم وتواطؤهم على الكذب. وإن فرض كون عدد موجبا للعلم لأحد دون الآخر ، فلا يكون الموجب نفس العدد وإلاّ لم يتخلّف. فإذا فرض كون الموجب نفس العدد كما هو المفروض ، فلا بدّ أن يكون كذلك في حقّ كلّ أحد.

وكذلك نقل الإجماع على طريقة المتأخّرين ؛ فإنّ المفروض كون الموجب للعلم بقول الإمام عليه‌السلام للنّاقل ، نفس كثرة الفتاوى من دون ضمّ شيء آخر ؛ فإنّ الإجماع عند المتأخّرين القائلين بالحدس إنّما هو هذا المعنى ، لا مطلق اتّفاق جماعة أوجب العلم بقول الإمام عليه‌السلام من جهة انضمام أمور أخر هذا.

وقد يجاب عن هذا السؤال في الموضعين : بأنّ الكلام ليس في مفهوم التّواتر والإجماع ؛ فإنّه أمر مسلّم مفروغ عنه ليس فيه خلاف لأحد كما ذكر في السّؤال. وإنّما الكلام في تطبيق هذا المفهوم على الصّغريات ؛ ضرورة أنّ المتواتر ليس عددا معيّنا محصورا كالألف مثلا حتّى رجع الإخبار به دائما إلى الإخبار بالألف.

١٠٨

وكذلك الإجماع ليس اتّفاق جماعة معيّنة مشخّصة من حيث العدد حتّى يرجع نقله إلى نقل اتّفاق ذاك العدد المعيّن ، فيمكن أن يكون عدد موجبا وسببا للعلم باعتقاد شخص من جهة نفس كثرته ، فلا يتخلّف عنده وفي اعتقاده عن العلم دائما ، ولا يكون كذلك واقعا وفي نظر غيره. فيكون إيجابه العلم في نظره مع عدم كونه سببا له في نفس الأمر من جهة انضمام أمور مركوزة في النّفس في نفس الأمر مع غفلة النّاقل عنه أو اعتقاده عدمه ، وإلاّ لم يمكن التخلّف كما ذكر في السّؤال ، فكما توجب الأمور المركوزة في بعض الأحيان منع حصول العلم عمّا يكون مقتضيا له كما في التّواتر في حقّ من كان ذهنه مسبوقا بشبهة كذلك قد توجب العلم بمعنى السّببيّة النّاقصة باعتبار الانضمام إلى الخبر.

(٥٨) قوله قدس‌سره : ( وإلى أحد الأوّلين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٩ )

أقول : اعتبار الشّرط الّذي اعتبره قدس‌سره في الأوّل : من كون العدد الّذي أخبر به الشهيد قدس‌سره موجبا وسببا في العادة للعلم بقراءة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك القراءات وصدق المخبرين عنها ؛ لم يعلم من كلام ثاني المحقّقين أو الشّهيدين ، بل ظاهرهما عدم اعتباره عند التّأمّل في كلامهما.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره من الأوّل : كون الحكم مترتّبا على ما قرأه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصدق الشّهيد في دعوى التّواتر مطلقا كما في نقل الإجماع ، إغماضا عمّا هو الحقّ الّذي عرفت تفصيل القول فيه ؛ من عدم قيام الدّليل على حجيّة خبر العادل فيما لا يرجع إلى الحسّ.

(٥٩) قوله قدس‌سره : ( ولا يخلو نظرهما عن نظر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٩ )

أقول : من حيث إنّ الّذي قضى به الدّليل جواز القراءة بما قرأه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٠٩

من غير اعتبار التّواتر فيه. ومن هنا ادّعى غير واحد الإجماع على جواز القراءة بجميع القراءات المختلفة مع اختلافهم في تواترها حسبما عرفت تفصيل القول فيه.

ودعوى : كون القراءة ملازمة للتواتر كما عن بعض ، لم يقم عليها دليل ؛ إلاّ توهّم توفّر الدّواعي على النّقل ، فاعتبار التّواتر في كلام من اعتبره إنّما هو من حيث الطّريقيّة لا الموضوعيّة.

* * *

١١٠

* في حجية الشهرة الفتوائية

(٦٠) قوله قدس‌سره : ( ومن جملة الظّنون التي توهّم حجيّتها بالخصوص الشّهرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣١ )

أقول : الكلام في الشّهرة قد يقع في بيان حقيقتها وموضوعها وما هو المراد منها في كلماتهم ، وقد يقع في حكمها من حيث الحجيّة بالخصوص ، من جهة قيام دليل خاصّ عليها بعنوانها الخاص ، من غير نظر إلى كونها من جزئيّات مطلق الظّن ، فإنّه ليس مقصودا بالبحث في المقام.

أمّا الكلام فيها من الجهة الأولى فملخّصه : أنّ الشّهرة بحسب اللغة والعرف بمعنى البروز والظّهور ، ومنه : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر ، وقولهم : لا يلبس الرجل بالشهرة ، إلى غير ذلك من الاستعمالات. وفي كلماتهم قد يضاف إلى الفتوى بقول مطلق ، وقد يضاف إلى فتوى القدماء ، وقد يضاف إلى فتوى المتأخّرين ، وقد يضاف إلى أصحاب الحديث ، وقد يضاف إلى الرّواية.

كما أنّك عرفت في بحث الإجماع ـ : أنّه قد يطلق وقد يضاف إلى الصّحابة ، أو إلى أهل المدينة ، أو إلى الخاصّة ، أو إلى العامّة ، أو فقهاء أهل البيت ، إلى غير ذلك من الإضافات.

والكلام إنّما هو في الإطلاق الأوّل إلى الشّهرة في الفتوى بقول مطلق ، ولا

١١١

كلام في اعتبار فتوى جلّ المعروفين بها ، وإنّما يختلف بحسب الأزمنة ، فإنّها في زمان العلاّمة مثلا يتحقّق بفتوى جلّ المعروفين من أهل الفتوى إلى زمانه ، وفي زماننا يعتبر فتوى المعروفين من زمانه إلى زماننا أيضا وهكذا. كما أنّه لا كلام في أنّه يعتبر فيها عدم موافقة الكلّ ، وإلاّ لم يكن شهرة ، بل يدخل في الإجماع.

إنّما الكلام : في أنّه يعتبر فيها العلم بمخالفة بعض المعروفين ، أو يعتبر فيها عدم العلم بالموافقة وإن لم يعلم بالمخالفة؟ صريح شيخنا قدس‌سره الثّاني.

وعلى كلّ تقدير الظّاهر اعتبار عدم حصول العلم من الفتاوى بقول المعصوم عليه‌السلام ، وإلاّ خرجت عن الشهرة ودخلت في الإجماع ، ومن هنا قالوا : إنّه لا يقدح خروج معلوم النّسب في الإجماع.

نعم ، هنا احتمال آخر ضعيف ، وهو دخول فتوى الجلّ للموجبة للعلم بقول المعصوم عليه‌السلام ، مع مخالفة الباقين في الشّهرة موضوعا ، ولحوقها بالإجماع حكما ، فتدبّر.

فالشهرة وإن لم تكن مقابلة للإجماع بحسب اللغة والعرف العام المطابق لها ، إلاّ أنّها مقابلة له في العرف الخاص ، وإن افترقا في الاصطلاح من جهة أخرى ، غير اعتبار حصول العلم من الإجماع ، واعتبار عدمه في الشّهرة ؛ حيث إنّ المعتبر في الإجماع اتّفاق الكلّ في عصر واحد ، والمعتبر في الشّهرة اعتبار اتّفاق الجلّ الّذي لا يتحقّق في عصر إلاّ باعتبار الإضافة الخارجة عن محلّ البحث.

وكيف كان قد يستند بعض المشتقّات من هذه الكلمة إلى العلماء فيقال : ذهب المشهور ، أو قال المشهور ، أو نحوهما.

وأنت خبير : بأنّ هذا الإسناد لا يخلو عن تكلّف ، بأن يقال : إنّ المراد ذهاب

١١٢

من يتحقّق من قولهم الشّهرة في المسألة ، أو نحو ذلك ، هذا بعض الكلام في موضوع الشّهرة.

حكم الشهرة من حيث الحجّيّة وعدمها

وأمّا الكلام فيها من الجهة الثّانية إلى حكمها من حيث الحجيّة بالخصوص وعدمها فملخّصه : أنّ المستفاد من كلماتهم في حكمها قولا أو احتمالا وجوه :

أحدها : ما نسب اختياره إلى الشّهيد قدس‌سره في « الذّكرى » ، وإلى بعض الأصوليّين من أصحابنا المتأخّرين (١) في رسالته الّتي أفردها في الشّهرة : من كونها حجّة بالخصوص ، بل يظهر من محكي الشّهيد قدس‌سره ذهاب بعض من تقدّم عليه إلى هذا القول. فإنّه قال ـ في محكيّ « الذّكرى » ـ : وألحق بعض الأصحاب المشهور بالمجمع عليه ، وهو قريب ، إن أراد الإلحاق في الحجيّة لا في كونه إجماعا.

ثمّ استدلّ له بوجهين :

« أحدهما : أنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم.

ثانيهما : حصول قوّة الظن في جانب الشّهرة ، ثمّ قال سواء كان اشتهارا في الرّواية ، بأن يكثر تدوينها ، أو في الفتوى » (٢).

ثانيها : ما ذهب إليه الأكثر ، بل نقلت الشّهرة عليه : من عدم حجيّتها

__________________

(١) الفاضل الفقيه الشيخ أحمد النّراقي قدس‌سره والرسالة مخطوطة.

(٢) ذكرى الشيعة : ج ١ / ٥١.

١١٣

بالخصوص ، ثمّ إنّ القائلين بهذا الوجه منهم من يذهب إلى عدم حجيّتها رأسا بقائها تحت أصالة حرمة العمل بالظّن وغير العلم ، وهم الأكثرون منهم من جهة ذهابهم إلى حجيّة الظّنون الخاصة الكافية في الفقه بانضمام الأدلّة العلميّة. ومنهم من يذهب إلى حجيّتها من حيث الظّن المطلق الخارج عن محلّ البحث.

ثالثها : ما يقال : من عدم حجيّتها بالخصوص ، وكونها كالقياس المحرّم عند الشّيعة.

ثمّ إنّ الأصل في المسألة لمّا كان عدم الحجيّة على ما عرفت : من أنّه الأصل الأوّلي في كلّ ما لم يقم دليل على اعتباره ، فلا محالة لا يحتاج القول الثّاني إلى الاستدلال أصلا لكونه على طبق الأصل ، فالمحتاج إلى الاستدلال الوجهان الآخران.

فما ارتكبه بعض الأفاضل ـ ممّن قارب عصرنا في رسالته المعمولة في المسألة ـ : ( من الاستدلال على عدم الحجيّة بحكم العقل ؛ من حيث إنّ حجيّتها مستلزمة لعدمها ، فإنّ المشهور عدم حجيّة الشهرة ، وما يستلزم وجوده عدمه ، فهو محال ) (١).

ممّا لا يحتاج إليه أصلا ، حتّى نتكلّم في الجواب عنه :

تارة : بأنّ الشّهرة القائمة على عدم حجيّة الشهرة قائمة في المسألة

__________________

(١) رسالة في الشهرة مخطوطة للمولى العالم الفاضل الفقيه الحاج الشيخ أحمد النراقي المتوفي سنة ١٢٤٥ ه‍ إبن المولى العلامة الفقيه الحاج الشيخ مهدي النراقي المتوفي سنة ١٢٠٩ ه‍ ، وانظر منهاج الاصول / منهاج في الشهرة : ٢٠٧.

١١٤

الأصوليّة ، والشهرة الّتي ذهبوا إلى حجيّتها هي الشّهرة في المسألة الفرعيّة ، فلا يستلزم من حجيّتها عدم حجيّتها.

وأخرى : بأنّ مرجع الشّهرة القائمة على عدم حجيّة الشّهرة إلى عدم وجدان المشهور دليلا على حجيّتها ، فحكموا بعدمها ؛ من حيث الأصل ، فلا كشف في هذه الشّهرة أصلا ، فهي نظير بيّنة النّفي المستندة إلى الأصل ، ومن هنا حكموا بعدم حجيّتها ؛ من حيث عدم كشفها عن شيء.

فملخّص قول المشهور : أنّهم لم يجدوا دليلا على حجيّة الشّهرة ، فلا يعقل جعله أمارة على عدم الحجيّة ، إلاّ أن يجعل عدم وجدانهم أمارة على عدم الوجود ، فتدبّر.

فيما يستدلّ به لصالح مختار الشهيد قدس‌سره

أمّا الوجه الأوّل : الّذي اختاره الشّهيد قدس‌سره وبعض آخر فيستدلّ له بوجوه : أحدها : ما استدلّ به الشّهيد فيما عرفت من كلامه : من أنّ عدالتهم يمنع من الإقدام على الإفتاء بغير علم ، ومراده من العلم هو العلم بالحكم بالمعنى الأعمّ من الحكم الواقعي والظّاهري ، كما قيل في وجه تعريف الفقه بالعلم بالأحكام ، مع كون أكثر مداركه ظنيّة.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا محصّل له أصلا ؛ إذ العلم باستناد المشهور إلى ما لا نراه دليلا ، أو إلى ما لا يفيد العلم بالواقع في نظرنا ، أو إلى ما يحتمل الخطأ في حقّهم ، ليس أمرا يستحيله عقل أو عادة ، غاية ما هناك الظّن بإصابتهم للواقع ما لم يكن هناك ما يوجب الوهن في إفتائهم ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى كون

١١٥

الشّهرة من الأمارات الظّنية ، ولا كلام لنا فيه أصلا ، وإن منعه في « المعالم » في الشّهرة الحاصلة بعد زمان الشّيخ قدس‌سره وإنّما الكلام والبحث في المقام في الكبرى ، أي : حجيّة الظّن الحاصل منها بالخصوص.

ثانيها : ما يستفاد من كلامه قدس‌سره أيضا من قوّة الظّن في جانب الشّهرة ، وهذا كما ترى يرجع أيضا إلى بيان الصّغرى والاستدلال بها ، وكبراها :

إمّا مبنيّة على حجيّة مطلق الظّن القوي بدليل الانسداد ، كما يستفاد من « المعالم » : من كون نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّن القوي على ما سيأتي الكلام فيه ، وهو خارج عن محلّ البحث ؛ إذ ليس الكلام في حجيّة الشّهرة على تقدير القول بحجيّة مطلق الظّن.

وإمّا مبنيّة على ما زعمه بعض : من دلالة ما دلّ على حجيّة خبر العادل على حجيّة الشّهرة بالأولويّة ؛ من حيث كون الظّن الحاصل منها أقوى من الظّن الحاصل من الخبر ، وسيأتي الكلام في فساد هذا الدّليل عن قريب.

ثالثها : ما دلّ من أخبار العلاج على التّرجيح بالشّهرة من حيث الرّواية مثل مرفوعة زرارة (١) ، ومقبولة عمر بن حنظلة (٢).

وتقريب الاستدلال بكلّ منهما من وجهين :

__________________

(١) مستدرك الوسائل كتاب القضاء الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ـ ح ٢.

(٢) الكافي الشريف : ج ٧ / ٤١٢ ـ ح ٥ ، والفقيه : ج ٣ / ٥ ـ ح ٢ ، والتهذيب : ج ٦ / ٢١٨ ـ ح ٥١٤ ، عنهما [ أي الكافي والتهذيب ] الوسائل : ج ٢٧ / ١٣٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ـ ح ١.

١١٦

أحدهما : جعل الموصول في قوله : ( ما اشتهر ) وفي قوله : ( فإنّ المجمع عليه ) بناء على كون اللاّم موصوليّا أعمّ من الرّواية والفتوى.

ثانيهما : جعل الموصول خصوص الرّواية ، وجعل العلّة في تقديمها الاشتهار من حيث إنّه اشتهار بالمعنى الأعمّ من شهرة الرّواية والفتوى ، لا بمعنى كونها علّة للتّرجيح فقط ؛ حتّى يقال : إنّ غاية ما تدلّ عليه الرّوايتان على هذا التّقريب كون الشّهرة من حيث الفتوى مرجحة ، لا حجّة مستقلّة والفرق بينهما ظاهر ، ولا ملازمة بحسب القول بين الأمرين ؛ حتّى يستدلّ بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر ، بل بمعنى كون التّرجيح بها من حيث كونها مرجّحا ، غاية الأمر عدم صلاحيّة الشّهرة من حيث الرّواية لجعلها حجّة مستقلّة ، لكنّه لا يصلح لمنع هذا المعنى في الشّهرة من حيث الفتوى ، هذا.

ولكنّك خبير بظهور فساد كلا التّقريبين ، بحيث لا يحتاج إلى البيان ؛ ضرورة فساد جعل الموصول في الروايتين للأعمّ من الرّواية. وأوضح منه فسادا الوجه الثّاني ، بالتّقريب الّذي عرفته.

رابعها : ما استدلّ به بعضهم : من فحوى ما دلّ على حجيّة خبر الواحد ، من حيث إنّ الخبر حجّة ؛ من حيث إفادته للظن ، لا السّببيّة المحضة. والظّن الحاصل من الشّهرة أقوى من الظّن الحاصل من الخبر ، فما دلّ على حجيّته تدلّ على حجيّتها بالفحوى ، وهذا نظير استدلال ثاني الشّهيدين على طريقيّة الشّياع الظّني ، وحجيّته في القاضي المنصوب بكون الظّن الحاصل منه أقوى من شهادة العدلين (١).

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ١٣ / ٣٥٤.

١١٧

وفيه أيضا : ما لا يخفى من الوهن والفساد ؛ ضرورة أنّ المناط في حجيّة الخبر :

إن كان الظّن من حيث هو من غير مدخليّة الخبر أصلا فيكون مدلول دليله حجيّة مطلق الظن ، من غير فرق بين الضّعيف والقوي ، وهو خروج عن محلّ البحث ، مضافا إلى وضوح فساده.

وإن كان المناط في حجيّته الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ على ما هو معنى الظّن الخاصّ ، فكيف يمكن التّعدي من دليله إلى غيره؟

فإن قلت : الظّاهر من الدّليل ، وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ المظنون إناطة الحكم بالظّن من حيث هو ، فإذا فرض وجود الفرد الأقوى في الشّهرة فيحكم بمقتضى الأولويّة بكونها حجّة.

قلت : إذا فرض ظهور الدّليل في نفي المناط المزبور ، فكيف يجوز الاعتماد على هذا الظّن القياسي المعارض للظّهور اللّفظي؟ سلّمنا ، لكن يؤول الأمر بعد اللّتيّا والّتي إلى التمسّك في حجيّة الشّهرة بالأولويّة الظنية الّتي استشكل في أمرها وخروجها عن القياس المحرّم غير واحد من أهل الظّنون المطلقة ، حتّى المحقّق القمي قدس‌سره في « القوانين » ، وإن تمسّك بها بعض أهل الظّنون الخاصّة في بعض الموارد ، مثل ثاني الشهيدين فيما عرفت منه ، وصاحب « المعالم » في مطهّرية الاستحالة للمتنجّسات (١) ، لكن بزعم كونها من الفحوى والدّلالة اللّفظيّة ، كما زعمه المتوهّم في المقام أيضا ، وإن كان ظاهر الفساد ؛ لظهور الفرق بين الفحوى

__________________

(١) فقه معالم الدين وملاذ المجتهدين : ٧٧٦.

١١٨

الّتي يرجع إلى ظهور اللّفظ في مناط الحكم ، والأولويّة الاعتباريّة التي يرجع إلى تخريج المناط ظنّا من غير أن يكون في اللّفظ دلالة عليه.

ومن هنا يعرف الوجه في كونها أوهن بمراتب من الشهرة الّتي ذهب إلى حجيّتها بعض أهل الظّنون الخاصّة ، وقال بحجيّتها كلّ من قال بحجيّة مطلق الظّن ، وهذا بخلاف الأولويّة الّتي منع منها غير واحد من أهل الظّنون المطلقة ، كما أنّك عرفت فساد تسميته الأولويّة في المقام بالفحوى ، مع أنّه لا دلالة فيما دلّ على حجيّة الخبر على إناطة الحكم بالظّن أصلا ، وكون إثبات الحجيّة له من حيث كونه ظنّا ضعيفا بحيث يكون الفرع ، وهو الظّن القوي مقصودا بالكلام ، هذا.

مع أنّ في قوة الظّن في جانب الشّهرة بالنّسبة إلى خبر العادل الواقعي المخبر عن حسّ كلاما ، ومن هنا جعل في « المعالم » (١) عند الاستدلال بدليل الانسداد لحجيّة الخبر ، خبر العادل أقوى الظّنون ، مع أنّه لو أريد القوّة النوعيّة فلا تجديه ، ولو أريد القوة الشّخصيّة ، فتتبع الموارد الشخصيّة فلا يكون دليلا على حجيّة الشّهرة من حيث هي وبقول مطلق.

عدم حجيّة الشهرة والدليل القائم على ذلك

وأمّا الوجه الثالث وهو : كون الشّهرة ممّا قام دليل على عدم حجيّتها بالخصوص ، فيستدلّ له بالإجماع الّذي قام على عدم حجيّة الفتوى بالنّسبة إلى أهل الفتوى ومن له ملكة استنباط الأحكام من الأدلّة ؛ من حيث إنّه لا فرق في معقد الإجماع بين فتوى واحد أو أكثر ، ما لم يبلغ حدّ الإجماع.

__________________

(١) أصول المعالم : ١٩٣.

١١٩

ودعوى : كون الإجماع من جهة عدم حصول الكشف الظّني من فتوى فقيه بالنّسبة إلى فقيه آخر ، فاسدة جدّا ؛ ضرورة عدم الفرق في معقد الإجماع بين الصّورتين ، وإلاّ فلازمهم عدم المنع فيما لو حصل الظّن من فتوى فقيه واحد ، وهو كما ترى.

وأمّا ما ترى من عملهم بفتاوى ابن بابويه عند إعواز النّصوص ، فإنّما هو من جهة علمهم بعدم تعدّيه من متون الرّوايات ، فمرجع فتواه في المسألة إلى نقل الرّواية ولو بالمعنى ، أين هذا من العمل بالرّأي والترجيحات؟

وفيه : أنّ دعوى : انعقاد الإجماع على حرمة العمل بالشّهرة ، وكونها ملحقة بالقياس في الشّريعة ، يكذبها فتوى الشّهيد رحمه‌الله وغيره من أهل الظّنون الخاصّة ، وجميع أهل الظّنون المطلقة على حجيّتها؟ فكيف يدعي مع ذهاب هؤلاء إلى حجيّتها للإجماع على عدم الحجيّة؟

ومن هنا ذكرنا سابقا : أنّ ذهاب المشهور إلى عدم حجّيتها إنّما هو من جهة عدم دليل عندهم على الحجيّة ، لا من جهة الدّليل على عدم الحجيّة.

ثمّ إنّ البحث عن المسألة ليس بحثا عن المسألة الأصوليّة ، ولا عن مباديء علم الأصول ، بناء على كون موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة ، فيكون البحث في المقام نظير البحث عن حجيّة مطلق الظّن الغير الراجع إلى البحث عن المسائل والمباديء.

ودعوى : رجوع البحث في المقام إلى البحث عن دلالة الأخبار على حجيّة الشّهرة ـ كما أنّ البحث عن حجيّة مطلق الظّن إلى البحث عن حكم العقل فيدخل في البحث عن المسائل أو المبادي ـ فاسدة جدّا ، وإلاّ لدخل البحث عن كلّ حكم

١٢٠