بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

الرّابع : حكم العقل أيضا لا من حيث حكمه بقبح التجري ، بل من جهة الترديد والدّوران.

بيانه : إنّه إذا فرضنا شخصين قاطعين بحرمة مائعين ، بأن قطع أحدهما بحرمة أحد المائعين والآخر بحرمة الآخر فشرباهما فاتّفق مصادفة قطع أحدهما للواقع ومخالفة قطع الآخر له ، فإمّا أن نقول باستحقاقهما العقاب ، أو نقول بعدم استحقاقهما العقاب ، أو نقول باستحقاق من لم يصادف قطعه الواقع دون من صادف ، وإمّا أن نقول باستحقاق من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادف.

لا سبيل إلى القول بأحد من الثلاثة الأخيرة ، فتعيّن القول بالأوّل.

أمّا عدم السبيل إلى الأوّلين منها : فممّا لا يخفى وجهه على الأوائل مضافا إلى اعتراف الخصم به.

وأمّا عدم السّبيل إلى الأخير الذي يقول به الخصم : فلاستلزامه القول باناطة استحقاق الثواب والعقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو باطل بالضّرورة.

أمّا الملازمة : فلانّ المفروض مساوات الشخصين في جميع الأمور غير مصادفة القطع للواقع وعدم مصادفته له ، ومن المعلوم ضرورة أنّ هذه المصادفة وعدمها ليسا من الأمور الاختيارية للقاطع حتى يناط بهما الاستحقاق في طرف الثواب والعقاب ، فيلزم ما ذكرنا ، هذا.

وهذه الوجوه الثلاثة كلّها وان كانت راجعة إلى الاستدلال بحكم العقل بالمآل ، إلاّ أنّ من المعلوم عدم لزوم التكرار في الاعتماد بها ؛ لابتناء كلّ وجه على ما لا يبتني عليه غيره من الوجوه.

٨١

وتحرير المقام بمثل ما ذكرنا من جعل كلّ وجه دليلا مستقلاّ أولى ممّا حرّره الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) من جعل بعضها دليلا وبعضها مؤيّدا كما هو واضح هذا ملخّص الكلام في تحرير الاستدلال على مقالة الأكثرين.

ولكنّك خبير بامكان المناقشة في الكلّ :

أمّا الإجماع : فلأن المحصّل منه غير متحقّق لنا ، سيّما بعد ما عرفت من الخلاف من جماعة من الاعلام ، والمنقول منه ليس حجّة عندنا سيّما في هذه المسألة هذا.

مضافا إلى امكان القول بعدم الجدوى في اتفاق العلماء في هذه المسألة من حيث كونهم أهل الشرع ؛ حيث أنّ المورد ليس من الأمورات الشرعيّة التي يكون بيانها من شأن الشارع حتى يستكشف حكم المعصوم فيها من اتّفاق العلماء المتشرّعين ، بل من الامورات العقليّة المحضة التي لا سبيل إليها إلاّ من جهة حكم العقل ومن المعلوم المقرّر في محله : عدم امكان استكشاف حكم المعصوم من الإجماع على ما لا يكون بيانه من شأنه.

نعم ، لا اشكال في أنّ اتفاق جميع العقلاء في المسألة العقليّة يكشف عن حكم العقل قطعا وان علم معه بحكم المعصوم أيضا من حيث أنّه رئيس العقلاء إلاّ أن استكشاف حكمه ممّا اتفق عليه العقلاء ليس من حيث كونه شارعا ، بل من حيث كونه عاقلا ، فالحجّة هي نفس حكم العقل لا حكم الشارع.

ومن هذا الباب ما تمسك به جماعة : من الإجماع في المسائل الكلاميّة العقلية كوجود الصّانع جلّ اسمه ، ونحوه كما هو واضح.

وممّا ذكرنا تعرف : انّ حكم العقل في المقام وأمثاله على تقدير تسليمه

٨٢

ليس ممّا يستكشف عن حكم الشرع بقاعدة الملازمة ؛ لأنّها مختصة بالأمور الشرعيّة التي حكم العقل فيها كحرمة الظلم ووجوب ردّ الوديعة.

نعم ، لا اشكال في أنّ في كل مورد حكم العقل على سبيل القطع بشيء يعلم أنّ الأمر عند المعصوم عليه‌السلام كما حكم به العقل من حيث إستحالة عدم حكم عقله مع أنّه عقل الكلّ ، ولكن لا دخل لهذا بمسألة الملازمة ، هذا. وان أردت شرح هذا الكلام ، فارجع إلى ما كتبناه في باب الإجماع ؛ فانّا قد فصّلنا القول فيه غاية التفصيل هذا.

ولكن يمكن أن يقال : انّ التمسك بالإجماع في المسألة نظير التمسك بالاخبار في المسألة ونظائرها كما ستقف عليه ؛ إذ كما يستكشف الحكم الشرعي ممّا دل على استحقاق الثواب أو العقاب على الفعل من الأخبار والآيات ، كذلك يستكشف من الإجماع من حيث أنّ بيان الشيء قد يكون ببيان لازمه. فالغرض من التمسّك بالإجماع على الاستحقاق ، التمسك به على الحرمة الشرعية.

فالأولى في الجواب أن يقال : أنّ حكمهم باستحقاق العقاب ليس لأمر راجع إلى الشرع ، بل لحكم عقلهم بذلك من جهة التجرّي أو غيره ، ومن المعلوم ضرورة أنّ مقالة الرئيس إنّما تستكشف من مقالة المرؤوس فيما يكون من آثارها لا فيما يرجع إلى أمر لا دخل له بالرئيس. فتدبّر ، هذا.

مع إمكان أن يقال : أنّ الاتفاق الموجود في المقام لا يجدي في شيء وإن قلنا بأنّ اتفاق العلماء في المسائل العقلية أيضا يكشف عن حكم الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّ هذا على تقدير تسليمه ، انّما هو بالنّسبة إلى اتّفاق الكلّ لا اتفاق الجلّ ، وان قلنا بعدم اشتراط اتفاق الكل في المسائل الشرعية في باب الاجماع ، فتأمّل.

٨٣

وأنت خبير : بأنّ ما ذكرنا من البيان في الجواب عن هذا الدليل أولى ممّا ذكره الاستاذ العلاّمة.

فانّه إن كان المراد من الإجماع المحصّل هو الذي جرى عليه الاصطلاح في باب الاجماع من الكلّ ـ حتى من نفسه ( دام ظلّه ) على ما ستقف عليه ـ : من انّه الاتّفاق الكاشف عن دخول المعصوم عليه‌السلام أو السّنّة ، فلا بدّ من أن يكون المراد من قوله : « والمسألة عقلية » (١) الإشارة إلى وجه عدم كشف الإجماع في المقام لا إلى الجواب المستقلّ ؛ لأنّ بعد الاستكشاف المعتبر لا معنى لمنع العمل من جهة كون المسألة عقلية. وأنت خبير بأنّ جعله إشارة إلى الوجه في عدم حصول الإستكشاف لا يخلو من شيء.

وإن كان المراد منه هو الاتّفاق الأعمّ من الكاشف وغيره ، فهو وان كان محفوظا عمّا يرد عليه على التقدير الأوّل إلاّ أن ارادة غير المعنى الذي جرى عليه الاصطلاح تحتاج إلى نصب قرينة فتدبر.

ثمّ ، إنّ هذا كلّه على تقدير استقامة ما استفاده ( دام ظلّه ) من كلماتهم في مسألة تأخير الصلاة بظنّ الضّيق وفي مسألة سلوك الطريق المقطوع الخطر أو مظنونه وإلاّ فقد يتأمّل فيما ذكره من الاستفادة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٩.

٨٤

وجه التأمّل فيما إستظهره الشيخ في المسألتين

أمّا بالنسبة إلى ما ذكره ( دام ظلّه ) في المسألة الأولى (١) : فبأنّ تعبيرهم بالظن في المسألة الأولى لم يعلم كونه من باب التعبير بأدنى فردي الرّجحان (٢) وان كان أصل عدم جواز التأخير مع العلم ثابتا عندهم ، بل مصرّحا به في كلمات جماعة ؛ لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الظّن المعتبر عند الشارع لا يستلزم استحقاقه على مخالفة القطع ؛ لأنّ مرجع اعتبار الظن إلى حكم الشارع بالعمل به وايجابه سلوكه في مقام

الظاهر الذي يرجع إلى جعل حكم ظاهري للشيء الذي تعلق به الظن ممّا يكون ثابتا له في الواقع ونفس الأمر.

ومن المعلوم أنّ مخالفة الحكم الظاهري كمخالفة الحكم الواقعي موجبة لاستحقاق العقوبة ؛ إذ كلّ منهما حكم شرعيّ غاية الأمر كون الموضوع في أحدهما نفس الواقع وفي الآخر الواقع الغير المعلوم وهذا لا يؤثّر في شيء.

وهذا الكلام وان كان قابلا للنّقض والابرام كما ستقف عليه إلاّ انّه يصلح مانعا لاستفادة حكم غيره منه بالفحوى وبتنقيح المناط ، وهذا بخلاف القطع ؛ فانّك قد عرفت : أنّه ليس حجّة شرعية بمعنى كون حجّيته مجعولة ولو بحكم العقل

__________________

(١) أي مسألة تأخير الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت.

(٢) سيأتي قريبا في كلامه : أن اعتبار الظن هنا من جهة حكم العقل من باب الارشاد والطريقية المحضة وذلك لأن ترك العمل بمقتضى الظن والتأخير ريثما يحصل العلم بالضيق قد يستلزم فوت الواجب المنجّز كما هو الغالب في كثير من الأحيان.

٨٥

الكاشف عن حكم الشارع ، فالحكم باستحقاق العقاب على مخالفته لا بدّ من ان يبتنى على حرمة التجري من حيث هو هو ؛ لأنّ المفروض أنّ مخالف القطع في المقام لم يخالف حكما شرعيّا وخطابا ثابتا في الشرع.

وقد سلك هذا المسلك الاستاذ العلاّمة في « الكتاب » فيما سيجيء في باب تاسيس الأصل في الظّن ، وليست مزيّة الظّن المعتبر على العلم من الغريب في شيء. كيف؟ وقد حكموا بأنّ سلوك الطريق الشرعي يوجب الاجزاء بخلاف العمل بمقتضى القطع ، ونحن وإن لم نقل بالإجزاء في المقامين بالنظر إلى مقتضى القاعدة إلاّ أنّا نجوّز قيام الدليل عليه في الأوّل دون الثاني وهذه أيضا مزيّة للظن على العلم.

لا يقال : لا معنى لحكم الشارع باعتبار الظّن إلاّ ايجابه تنزيل الظّن منزلة العلم ، فإذا لم يترتّب استحقاق العقوبة على مخالفة العلم فلا بدّ من أن لا يترتّب على مخالفة الظن أيضا وإلاّ فيلزم الحكم به في المقامين ، أو كون المنزّل والفرع أقوى من المنزّل عليه والأصل ، والثانى باطل بالضرورة والأوّل ممّا لا تقول به.

لأنا نقول ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا من فساد القول بالتنزيل المذكور ، إذ ليس في أدلّة اعتبار الأمارات ما يدل عليه أو يشير اليه ـ : أنّ هذه المزيّة إنّما جائت من نفس وجوب التنزيل وحكم الشارع به ، وبعبارة أخرى : من حجيّة الظّن.

وهذا المعنى لمّا كان مفقودا بالنّسبة إلى العلم لم يحكم باستحقاق العقاب على مخالفته فليس هذا من آثار المظنون ولا من آثار الظّن حتى يلزم من الالتزام به دون العلم مزيّة الفرع على الاصل ، بل من آثار صيرورة الظّن حجّة شرعية

٨٦

وعلى تقدير تسمية هذا مزيّة ، نمنع من بطلان مزيّة ، الفرع على الاصل بهذا المعنى.

وبمثل ما ذكرنا يتفصّى عن الاشكال الوارد في مسألة الإجزاء وغيرها ممّا التزم فيه بما لا يلتزم فيه بالنّسبة إلى القطع ، هذا.

ولكن قد يجاب عنه :

أوّلا : بانّه لا معنى لدعوى الفرق بين الظن المعتبر والعلم ؛ لأنّه بعد فرض كون المقصود من الظّن طريقيّته إلى الواقع بحيث يكون الحكم تابعا له كما هو المفروض ، وكان أمر الشارع بسلوكه بهذه الملاحظة فلا معنى لترتّب إستحقاق العقوبة على مخالفته ، وإن هو إلاّ كالأمر المقدمي المقصود منه التوصّل بفعل المقدّمة إلى إتيان ذي المقدمة من غير أن يكون المقصود منه نفس فعل المقدّمة أصلا ، بل الأمر بالعمل بالظّن بلحاظ الطريقيّة والمرآتية يرجع إلى الأمر المقدّمي باعتبار ، فلا معنى إذن للحكم بإيجاب مخالفته لاستحقاق العقوبة.

وثانيا : بانّ ذلك على تقدير استقامته انّما يستقيم بالنسبة إلى ما يفرض في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة إدراك الواقع على تقدير عدم مصادفته له لا بالنّسبة إلى ما لا يوجد فيه هذه الجهة أصلا ، بل يكون أعتباره من باب مجرّد الطريقية والكشف الظّني كالظّن الذي يحكم العقل باعتباره بمقتضى برهان الانسداد أو غيره من البراهين العقليّة التي أقاموها لحكم العقل بحجيّة الظّن المطلق ؛ فانّ الأمر بسلوكه على هذا التقدير ليس إلاّ من باب الارشاد ، فلا معنى إذن لترتّب العقاب على مخالفته.

نعم ، يمكن أن يقال فيما له جهة شرعيّة : أنّ مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب. واعتبار الظّن في المقام أي : « مسألة الظّن بالضيق » انّما هو من جهة حكم

٨٧

العقل من باب الارشاد والطريقيّة المحضة ؛ من حيث أنّ عدم الأخذ به والتّأخير حتّى يحصل العلم بالضّيق مستلزم لفوت الواجب المنجّز كثيرا ، بل في الاغلب ؛ فانّه وان انعقد الاجماع ظاهرا على اعتبار الظنّ في المقام ، إلاّ أنّا نعلم أنّ مدرك إجماعهم ليس إلاّ ما عرفت.

وثالثا : بانّه وان سلّم جواز مخالفة الظن للقطع في الحكم ، إلاّ أنّ الظاهر من مقالتهم في الفرض اتحاد حكمهما ؛ لأنّ التعرض للعلم بالضّيق ليس في كلام الأكثرين فيكون الوجه في عدم تعرّضهم له كونه أولى بالاعتبار عندهم من الظّن ولم يعلم من كلماتهم أيضا الفرق بين الظّن والعلم في استحقاق العقاب على المخالفة فتدبّر ، هذا ملخّص ما يقال في الجواب عمّا أورد على ما ذكره الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ).

ولكنّك خبير بانّ الوجه الثاني ممّا لا وجه له أصلا ، وان كان في بادئ النظر في كمال الاستقامة ؛ لأنّ وجود المصلحة الجابرة في سلوك الطريق على تقدير مخالفته للواقع وفوت الواقع بواسطة العمل به لا يقتضى كونه الأمر بالعمل بالطريق في عرض الواقع وخروجه عن الأمر المقدّمي ، كيف! ولو كان كذلك لزم عراء الأمر بسلوكه عن ملاحظة الطريقيّة ، فحكم العقل بلزوم وجود مصلحة في أمر الشارع بسلوك الطريق على تقدير فوت الواقع من العمل إذا أمر به الشارع عند التمكن من تحصيله ، لا يخرج الطريق عن الطريقيّة وكونه في عرض الواقع.

هذا مضافا إلى أنّ ما ذكر انّما يجري في بعض الطّرق الشرعيّة لا في كلّها ؛ لعدم حكم العقل بلزوم وجود المصلحة في سلوك الطريق عند أمر الشارع بالعمل بشيء عند انسداد باب العلم والعجز عن تحصيل الواقع على ما ستقف على تفصيل

٨٨

القول فيه انشاء الله تعالى ، فلم يبق إذن فرق بين الطريق الذي حكم العقل بوجوب العمل به وطريقيّته كالظن المطلق عند انسداد باب العلم والطريق الذي يحكم الشارع بوجوب العمل على طبقه.

نعم ، بناء على القول بالتصويب لم يكن اشكال في لزوم الالتزام باستحقاق العقوبة على مخالفة الطرق والظّنون الاجتهادية ؛ لكون مؤدّياتها احكاما واقعيّة دائما ، فلا يعقل الخطأ فيفرق على هذا المذهب بين مخالفة العلم والظّن المعتبر ، اللهمّ إلاّ ان يقال بعدم الفرق بينهما على هذا المذهب الفاسد أيضا ؛ حيث أنّ الظاهر من مقالتهم ثبوت حكم واقعي للعالم في الواقع بان يكون للعلم مدخل فيه وان كان هذا باطلا من جهة استلزامه للدور هذا.

ولكنّ الانصاف انّ القول بثبوت الجعل للعالم لا ينفي الخطأ في القطع وهو ظاهر.

فالفرق بينهما على مذهب العامّة مستقيم اللهم إلاّ أن يكون النزاع في التصويب والتخطئة جاريا في العلم أيضا كالظّن وجريانه لا يخلو عن تأمّل ، بل منع كما يظهر بالتصفّح والتّأمل في كلماتهم ولعلّنا نتكلّم في هذا عند التكلم في كيفيّة جعل الطرق فيما سيمرّ عليك إنشاء الله تعالى.

فان قلت : معنى حكم الشارع بوجوب العمل بالإمارة على مذهب المخطئة ليس إلاّ جعله لاحكام ظاهريّة مساوقة لما يترتب على نفس الواقع ؛ ضرورة أن القضيّة الشرعية سواء كانت واقعيّة غير مقيّدة بعدم العلم أو ظاهريّة أخذ فيها الجهل وعدم العلم بالواقع الاولي مشتملة على الجعل الشرعي دائما ، فالحكم

٨٩

الظاهري أيضا حكم شرعي مبني على المصلحة في جعله دائما ، غاية الأمر كون الجهل بالحكم الواقعي مأخوذا في موضوعه ، وهذا لا يخرجه عن كونه حكما شرعيّا.

قلت : لسنا في صدد انكار إشتمال القضيّة الشرعيّة في باب جعل الطريق على الحكم والانشاء الشرعي. كيف! ولا يتصوّر معنى لحجيّة الأمارة وحكم الشارع بلزوم سلوكها إلاّ جعل ما يترتّب على موردها في الظّاهر ، إلاّ أن هذا الجعل الظاهري ليس إلاّ معنى ايجاب الشارع العمل بالأمارة والالتزام بمقتضاها ، وليس هذا المعنى مختصّا بما لو كان مصلحة في سلوكها تجبر مفسدة الوقوع في مخالفة الواقع ، بل يجري في جميع الطرق الشرعيّة والعقليّة أيضا.

كيف! ولا يتصوّر معنى لحجيّة الأمارة على أيّ تقدير إلاّ ما ذكر ؛ إذ الحكم الظاهري المجعول في كل مورد ليس في عرض الحكم الواقعي. كيف! وهو ممّا يستلزم التصويب ، فالتفصيل إذن ممّا لا معنى له ، فلا بدّ إذن من القول بانّ مخالفة الطرق الظنيّة مطلقا موجبة لاستحقاق العقوبة ، فالحق وفاقا لما يظهر من الاستاذ العلاّمة في المقام في آخر الجزء الثاني من « الكتاب » : عدم ترتب استحقاق العقوبة على مخالفة الطرق الظّنيّة بأسرها وبجميع اقسامها.

هذا ملخّص ما يقال بالنّسبة إلى ما إستفاده ( دام ظلّه ) في المسألة الاولى.

وأمّا بالنّسبة إلى ما ذكره في المسألة الأخيرة (١) : فبأنّ القطع والظّن في باب الضّرر ليس إعتبارهما من باب الطريقيّة ، بل من باب الموضوعيّة بمعنى كون

__________________

(١) أي : مسألة سلوك الطريق المقطوع الخطر أو مظنونه.

٩٠

معلوم الضّرر ومظنونه من حيث كونهما كذلك ممّا يجب الاجتناب والتحرز عنه من غير أن يلاحظ فيهما جهة الطريقيّة إلى الضّرر الواقعي ، ولذا يحكمون بفساد عمل من أتى بالواجب في حال الظّن بالضّرر وان إنكشف عدم وجود الضّرر في الواقع كالمتطهّر بالطّهارة المائية مع الظّن بالضرر من استعمال الماء.

هذا ولكنّك خبير بانّ هذا الاشكال في كمال الفساد ؛ لأنّ الذي دلّ النقل والعقل عليه كون ارتكاب الضّرّ الدنيوي حراما كارتكاب ساير المحرّمات الشرعيّة ، فالحرمة فيه كالحرمة فيها انّما تعلّق بنفس الواقع ولا دخل للقطع والظّن فيها.

في بيان أن حكم العلماء بفساد العبادة مع الظن

بالضّرر لا يكون كاشفا عن موضوعيّته

نعم ، القطع به طريق اليه بنفسه كما في ساير المقامات والظّن به طريق اليه إمّا من باب دليل الانسداد ، أو حكم العقل والعقلاء به مع قطع النظر عن برهان الانسداد ، ومجرّد حكم العقل بوجوب سلوك الطريق الظّني في باب الضّرر لا يدلّ على كون الظّن موضوعا. فتأمّل.

واستكشاف موضوعيّته من حكمهم بفساد العبادة المأتّي بها مع الظّن بالضّرر بها وان انكشف عدم الضّرر في غاية الفساد ؛ إذ يكفي في الفساد عدم تمكنّه من قصد التقرب الموقوف على العلم بالأمر المنفي على تقدير طريقيّة الظّن أيضا قطعا كما هو ظاهر.

٩١

ومن هنا حكم غير واحد ، منهم : « الاستاذ العلاّمة » بصحّة العبادة إذا غفل عن حاله وأتى بالفعل أو إعتقد عدم الضّرر وان انكشف الضّرر بعد العمل ، فتأمّل.

نعم ، قد يترتّب بعض الاحكام في الشريعة على عنوان الخوف مثل عدم جواز الوضوء مع خوف الضّرر الذي دلّ عليه بعض الاخبار وعدم جواز الصّوم مع خوف التضرّر به ، المدلول عليه ببعض الاخبار ، لكن لا دخل له بموضوعيّة الظن في باب الضّرر ؛ لأنّ عنوان الخوف أعمّ منه قطعا وعلى تقدير مساواته له لا يدلّ على كون الظّن في باب الضّرر موضوعا بالنّسبة إلى جميع الاحكام كما لا يخفى ، هذا.

وستقف على تفصيل القول في هذا في طي كلماتنا الآتية انشاء الله تعالى.

هذا مجمل القول فيما يقال من المناقشة على الوجه الأوّل.

وأمّا الثاني : أي : بناء العقلاء على مذمّة المتعاطي ذلك ؛ فلأنّ المسلّم منه انّما هو بناؤهم على مذمّة الشخص من حيث وجود صفة الشقاوة فيه المستكشف لهم من فعله واقدامه على الاتيان بما يعتقد كونه مبغوضا للمولى ، لا على مذمّة الشخص من حيث صدور فعل القبيح عنه ، فالمذمّة على الفاعل إنّما هو باعتبار ما كشف عنه الفعل من وجود صفة الشقاوة ، فيه المحرّك له إلى الاقدام باتيان ما يعتقد كونه مبغوضا للمولى ، وانّه لا ريب في مذمّتهم للعبد الذي علموا أنّه في مقام معصية المولى وان لم يصدر منه فعل في الخارج أصلا ، لا من الجوارح ولا من القلب كالنّية كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ؛ فانّه ليس لأحد الارتياب في بنائهم على مذمته لما استكشف لهم من حاله عن وجود صفة الشقاوة ، وهذا أمر لا سترة فيه عند التأمّل.

٩٢

في انّ القبح والذم في التجري لم يتعلقا

بنفس الفعل ، بل بالفاعل مستقلا

والحاصل : انّ العقلاء قد يذمّون الشخص على فعله وانّه ذو فعل قبيح ، وقد يذمّون الشخص على شقاوته من غير أن يكون فعله قبيحا عندهم. ويعبّر عن الأوّل بالفارسي بقولهم : ( بد كاريست ) والثّاني بقولهم : ( بد آدميست ) وليس المراد من رجوع المذمّة إلى الفعل عدم تعلّقه بالفاعل ، كيف! والفعل القبيح ما يكون فاعله مستحقّا للذّم عند العقلاء ، بل المراد كون مذمّة الشخص مستندا إلى إتيانه بالفعل القبيح وان كان المحركة له اليه وجود صفة الشقاوة فيه أيضا ، فهو أيضا يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه لا محالة ، وإلاّ لم يقدم على الاتيان بالفعل القبيح إلاّ أن للذّمّ تعلّقا بالفعل أيضا.

وهذا بخلاف القسم الثّاني ؛ فانّ الذم فيه لا تعلّق له بالفعل أصلا ، فإذا لم يتعلّق الذّم والقبح بنفس الفعل ، بل بالفاعل مستقلا ، لم يكن معنى لجعل بناء العقلاء على المذمّه دليلا على استحقاق العقاب على الفعل الملازم لحرمته عند الشارع ، كما أنّ الذم بالفعل معلول لحرمته العقلائية ؛ ضرورة أنّ الملازمة انّما تكون بين حرمة الفعل عند العقلاء وحرمته عند الحكيم ( تعالى ) لا بين مطلق مذمّة الشخص عندهم والحرمة ، كيف؟ وهو ممّا لا معنى له ولا يمكن أن يتفوّه به عاقل.

وممّا ذكرنا من البيان للمناقشة في الوجه الثّاني يظهر المناقشة في الوجه الثالث أيضا : لأنّا نمنع من حكم العقل بقبح التجري من حيث أنّه تجري حتى

٩٣

يحكم بحرمة الفعل المنطبق عليه من حيث استحالة تغاير حكم المتصادقين.

نعم ، يستقلّ العقل باستحقاق المتجرّي للذّم من حيث كشف تجرّية على المولى الحاصل بفعل ما يعتقد كونه معصية عن وجود صفة الشّقاوة فيه. وبعبارة أخرى : المسلّم في التجرّي هو القبح الفاعلي لا الفعلي فانّه محلّ منع ، ودعوى استقلال العقل به مكابرة صرفة لا شاهد لها أصلا ، بل المشاهد بالوجدان خلافها.

لا يقال : كيف يحكم بتعلّق القبح بالفاعل تعلّقا ابتدائيا من غير ان يكون لفعله مدخل فيه؟ مع أنّهم اطبقوا في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين على أنّ متعلّق الحسن والقبح هو الأفعال الاختيارية ليس إلاّ.

لأنّا نقول : الحسن والقبح بالمعنى الذي جعلوه محلا للنزاع في باب التحسين والتقبيح ليس إلاّ من عوارض الافعال الاختياريّة لا مطلق الحسن والقبح ، فإنّ القبح الذي يكون محلا للكلام هو كون فاعل الفعل مستحقا للذّم والمؤاخذة من حيث أنّه فاعله ، والحسن الذي يكون محل الكلام هو كون فاعل الفعل مستحقا للمدح عند العقلاء والمثوبة من حيث أنّه فاعله ، ومن المعلوم أنّهما بهذا المعنى ليسا إلاّ من عوارض الافعال الاختياريّة والمسلّم في المقام غير هذا المعنى فلا يشترط تعلّقه بالفعل الإختياري.

٩٤

في بيان كيفيّة تعلّق الذّم بالأوصاف الغير الاختيارية

وسائر ما يتعلق بالمقام

لا يقال : إذا كانت صفة الشقاوة ممّا لا يتعلّق بها الاختيار ومن لوازم ذات العبد فايّ معنى لأن يذمّ عليه؟ وان التزم بكونها إختياريّة من حيث امكان إزالتها بالمجاهدة فيجب الالتزام بوجوب ازالتها من حيث كونها من قبيل الاوصاف الرذيلة للنفس الأمّارة ، فيلزمك القول باستحقاق العقاب في المقام وان لم يكن على نفس ما اعتقد تحريمه ؛ لأنّه لا ثمرة على ترتب العقاب عليه من حيث هو فتأمّل.

لأنّا نقول : أوّلا : أنّ تعلّق الذّم بما هو خارج عن الاختيار إذا لم يتعقّب عقوبة ممّا لا بأس به ، وإن هو إلاّ نظير مدح الشيء على صفاته وذم الشيء بكدورته.

ثانيا : إنّه لا دليل على وجوب إزالتها لبقاء الاختيار معها قطعا ، وليست علّة تامّة لإختيار المعاصي حتى يقال بوجوب ازالتها ، ولم يدل دليل خاصّ على وجوب إزالتها من جانب الشرع كما في جملة من الرّذائل ؛ حيث أنّه لا دليل على وجوب إزالتها ما لم يفض إلى الحرام بالوجوب الشرعي وإن وجبت بالوجوب الخلقي. فافهم ، فلا يلزم الحكم بوجوب إزالتها إذن.

وثالثا : إنّ القول بوجوب إزالتها لا ينفع الخصم في المقام ؛ إذ وجوب أزالتها لا يدلّ على حرمة الفعل الصادر عنه بنحو من الدلالة كما هو واضح ، ولعلّ الثمرة

٩٥

بين تحريم الفعل ومجرّد المؤاخذة من جهة أخرى ظاهرة هذا.

وبمثل ما ذكرنا فليتحرّر المقام ، لا بمثل ما حرّره الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) ؛ فانّه لا يخلو عن مسامحة ومناقشة ؛ فان الظاهر منه تسليم كون التجرّي قبيحا حسبما يفصح عنه مقالته في طيّ كلماته الآتية أيضا من جهة كشفه عن سوء سريرة العبد وكونه في مقام الطغيان مع السيّد وعصيانه.

فيرد عليه : أنّه بعد تسليم قبح التجري ولو من الحيثية المذكورة لا معنى للمنع عن اتصاف الفعل بالحرمة والمبغوضيّة من جهة اتحاده مع ما هو مبغوض ومورد للقبح ؛ فانّه لا إشكال في صدق التجري على الفعل ، فيكون هذا عين الالتزام بما إدّعاه الخصم : من صيرورة الفعل حراما من جهة اجتماعه مع العنوان المبغوض ؛ إذ لم يرد القول بانّ نفس اعتقاد الحرمة من الاسباب الموجبة لحرمة الفعل حتى يقال : بانّ هذا ممّا لا معنى له ؛ لأنّه لا يعقل أن يكون علم المكلّف بالحرمة مؤثّرا في إيجادها. كيف؟ وقد عرفت في تحرير محلّ النزاع في أوّل المسألة أنّ هذا ممّا لا يقول به أحد ولا يدّعيه جاهل فضلا عن عالم.

فقوله ( دام ظلّه ) : ( والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل الغير المنهي عنه واقعا ) (١) إلى آخر ما ذكره في الواجب عن الدليل العقلي الذي أقاموه لحرمة التجرّي لا يخلو عن مسامحة.

كما أنّ قوله المتقدّم عليه أيضا وهو قوله : ( ومن هنا يظهر الجواب عن قبح

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٩.

٩٦

التجري ... إلى آخره ) (١). لا يخلو عن مسامحة واضحة بعد ما عرفته ، فالقول بأنّ التجري قبيح من أي وجه كان لا يجامع القول بعدم حرمة الفعل.

نعم ، لو قيل : بأنّ التجري من الاوصاف والحالات الغير الصادقة على الفعل ، لم يكن وجه لإيجاب قبحه تحريم الفعل وكان الاستاذ يحتمل ذلك فتدبّر ، هذا مجمل الكلام بالنسبة إلى ما يقال من المناقشة على الوجه الثاني والثالث.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّا نلتزم بالشق الرابع ، وهو استحقاق من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادف ولا يتوجه عليه شيء ؛ لأنّا لا نقول : بأنّ العقاب للمصادفة وعدم العقاب لعدم المصادفة ؛ حتّى يقال : بأنّه يلزم القول باناطة العقاب وعدمه بالأمر الغير الاختياري ، بل نقول : إنّ من صادف قطعه الواقع يستحق العقاب ؛ لأنّه عصى الله وخالفه مع اجتماع جميع شرايط التكليف له من العلم والاختيار وغيرهما.

ومن لم يصادف لا يستحق العقاب ؛ لأنّه لم يعص الله ؛ لأنّ العصيان عبارة عن الاتيان بما هو مبغوض للمولى ومتعلق لنهيه مع اجتماع جميع شرايط التكليف في الفاعل ، والمفروض أنّ من لم يصادف قطعه الواقع لم يأت بما هو متعلّق لنهي المولى واقعا ، غاية الأمر : ان عدم إتيانه به كان من جهة عدم مصادفة قطعه للواقع إتفاقا.

والحاصل : أنّ استحقاق العقاب انّما يترتب بحكم العقل على معصية المولى الحاصلة باتيان ما هو مبغوض له مع اجتماع شرايط التكليف التي ترجع حقيقة

__________________

(١) نفس المصدر.

٩٧

إلى شرط المبغوضيّة الفعليّة التي هي مناط الاستحقاق ، فلا معنى لثبوت استحقاق العقاب في غير الصورة ، سواء كان هناك اعتقاد بالمبغوضيّة أم لا.

ضرورة أنّ الاعتقاد لا يوجب تعلق النّهي بالمعتقد على ما اعترف به الخصم أيضا ، ولازم هذا المعنى إختيار الشق الرابع ، وليس فيه اناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار حسبما عرفت توضيحه ، هذا.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده بقوله : « قولك أن التفاوت ... » (١) إلى آخره.

فان منع حسن التفاوت بين الأمرين أي : الاستحقاق وعدمه ، مستند إلى كون الثاني من جهة الأمر الغير الاختياري مع عدم القبح فيه ، فحصل التفاوت من جهة الأمر الغير الاختياري إلاّ أنّ ما ذكرنا من التحرير أوضح.

فانّ المقصود منه وان كان ما ذكرنا كما عرفت ، إلاّ أن [ المتوهّم ](٢) في بادي النظر ، ربّما يتوهّم تسليمه ( دام ظلّه ) بصحّة اناطة استحقاق العقاب وعدمه بما هو خارج عن الاختيار ، مع أنّها ممّا تشهد ضرورة العقل بفسادها وقد أعترف به ( دام ظلّه ) في كلامه السابق وان كان هذا ليس مرادا قطعا ، بل المراد حسبما عرفت نفي ما ربّما يظهر من كلام المستدلّ : من أنّ عدم العقاب أيضا لا يمكن أن يكون من جهة الأمر الغير الاختياري ، فاراد بهذا الكلام الاشارة إلى فساد هذا التوهّم.

فالمقصود من منع عدم حسن الاناطة انّما هو باعتبار مجموع العقاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٠.

(٢) في الأصل : ( التوهّم ) والصحيح ما أثبتناه.

٩٨

وعدمه ولو كان راجعا في الحقيقة إلى الأخير ، لا باعتبار كل واحد بمعنى صحّة إناطة كلّ من العقاب وعدمه بالأمر الغير الاختياري ، مضافا إلى ما عرفت : من كون عدم العقاب مستندا حقيقة إلى عدم ثبوت المقتضى له وان كان له نحو من الاستناد إلى عدم المصادفة أيضا ، وهو ممّا لا ضير فيه كما هو واضح.

بل قد يقال : بانّ العصيان الموجب لاستحقاق المؤاخذة والعقاب يحصل بما يكون بعض مقدّماته خارجا عن الاختيار قطعا كالحياة والقدرة ونحوهما ممّا يكون بافاضة الله تعالى ، فإذن لا ضير في دخل بعض الامور الخارجة عن القدرة في تحقّق العصيان المنوط بالاختيار مع وجود الطلب الالزامي فافهم.

فملخّص ما ذكرنا كلّه : أنّ من يريد القول باستحقاق العقاب لا بدّ من أن يثبت قبح التجرّي وكونه من مقولة الفعل لا الصفات والحالات ، وكان الاستاذ العلاّمة في مجلس البحث مترددا في ذلك ، ولهذا لم يجزم بأحد الطرفين في آخر المسألة في « الكتاب » أيضا ، وان كان ما عرفت من كلامه ظاهرا في جزمه بعدم تأثير التجرّي في حرمة الفعل.

والانصاف أنّ الجزم بأحد الطرفين في غاية الاشكال ، وأمّا غيره من الوجوه ممّا يتمسك بها في المقام فليس بشيء قطعا.

(١٦) قوله : ( كما يشهد به الاخبار الواردة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠ )

أقول : دلالة الأخبار على ما ذكره ( دام ظلّه ) من صحّة إناطة عدم العقاب بالأمر الغير الأختياري ممّا لا إشكال فيه ، فانّ مقتضاها كون قلّة عقاب من قلّ عامل سنّته وعدم إستحقاقه لما يستحقّه من كثر عامل سنته من مقدار الزّيادة من جهة قلّة العامل التي ليست باختيار الانسان.

٩٩

انّما الاشكال باعتقاد من لا خبرة له في دفع ما ربّما يتوهّم في المقام على ما ذكره الاستاذ العلاّمة من الايراد : بأنّ هذه الاخبار كما تشهد لما ذكره الاستاذ العلاّمة : من صحّة إستناد عدم العقاب إلى الأمر الغير الاختياري ، كذلك تشهد على ما ذكره : من عدم صحّة إستناد العقاب إلى الأمر الغير الاختياري ؛ فانّ مقتضى الاخبار كون زيادة العقاب على من اتّفق كثرة العامل بسنّته من جهة الكثرة التي ليست من الامور الأختيارية ، بل العقاب على أصل فعل الغير من العقاب على الأمر الاختياري ، فلا معنى للاستدلال بالرّواية على المدّعى هذا.

مضافا إلى أنّها من أخبار الآحاد التي لا يجوز الاستدلال بها في أمثال المقام على ما هو واضح وستقف عليه.

ولكنّك خبير : بأنّ ما ذكر من الايراد في كمال الوضوح من الفساد.

أمّا الأوّل : فلأنّ مرجع العقاب على كثرة العامل هو العقاب على فعله لا العقاب على نفس الكثرة ؛ لأنّه لم يستفد من الأخبار ولم يقل به أحد ، ومن المعلوم ضرورة صحّة عقاب شخص على فعل غيره إذا كان هذا الشخص سببا لفعل غيره ولو بالسّببيّة الناقصة ، والعقل لا يمنع عن ذلك قطعا ؛ لرجوع فعل الغير إذن إلى إختيار هذا الشخص من حيث سببيّة فعله له. فالعقاب عليه بما يرجع بالأخرة إلى الاختيار ، ومن المعلوم بداهة أنّ الاختيار مطلقا مصحّح للتكليف والمؤاخذة ، ولذا ذكر الاستاذ العلاّمة : أنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح.

وأمّا الثاني : فلأنّ المقصود ليس الاستدلال بكلّ خبر ورد في هذا الباب ، بل الاستدلال بمجموع ما وردت التي بلغت حد التواتر ، فيخرج عن الأخبار التي لا يجوز الاستدلال بها في أمثال المقام ، ولذا ذكر ( دام ظلّه ) : أنّ الأخبار في أمثال

١٠٠