بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

وقد يكون في مرتبة يستقلّ العقل بوجوب اطاعته وعدم معذوريّة من خالفه ، ولو كان من جهة ترك الفحص فيسمى فعليّا ، كما أنّ الأوّل يسمّى شأنيّا ، فالحكم الفعلي لا واقعية له بدون ملاحظة حكم العقل.

إذا عرفت ما ذكرنا علمت الوجه فيما ذكرنا أوّلا : من عدم معقولية جعل الظن طريقا بالنسبة إلى الحكم الظاهري ؛ إذ لا نعني بالحكم الظاهري إلاّ ما كان مجعولا للموضوع من حيث تعلق الظن أو الشك به ، فلا واقعية له إلاّ بتحقق الظن ، أو الشك بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

نعم ، يمكن جعل طريق ظني لهذا الطريق الظني ومرجعه أيضا إلى الحكم الظاهري الذي يكون الظن بالحكم الظاهري مأخوذا في موضوعه الذي يتأخر عن الحكم الواقعي بمرتين.

فالحكم الظاهري دائما يكون الشك أو الظن مأخوذا في موضوعه ولا يمكن وجوده بدون أحدهما ، فالظن الذي هو طريق لحكم الشارع إلى حكم متعلقه ، يكون موضوعا بالنسبة إلى الحكم الظاهري دائما فيجتمع فيه اعتباران لا محالة.

نعم ، فيما كان مأخوذا في الموضوع واقعا لا معنى للحكم بكونه طريقا مجعولا إلى متعلقه ، سواء كان الحكم الواقعي المنوط به نظير حكم متعلّقه بأن كان لمتعلّقه مع قطع النظر عنه ، حكم ؛ فانّه أمر معقول بالنّسبة إلى الظن وان لم يمكن بالنسبة إلى القطع من حيث لزوم اللغوية وشبه تحصيل الحاصل في نظر القاطع.

وهذا بخلاف الظن لعدم انكشاف الواقع له ، وهذا هو المراد من حكم متعلّقه

٦١

في قوله : « وإلاّ لم يعقل تعلّق محمول واحد بموضوعين » (١) كما لا يخفى ولم يكن نظيره سواء كان له حكم مع قطع النظر عنه أولا ، فاقسام موضوعية الظن ثلاثة ، وهذا بخلاف العلم ؛ فانّ له إذا كان مأخوذا في الموضوع قسمين ، وعليه ينزل قوله : « سواء كان موضوعا على وجه الطريقيّة لحكم متعلقه ... إلى آخره » (٢).

كما سمعنا منه في مجلس البحث إلاّ أنّ مقتضى قوله : « على وجه الطريقيّة » (٣) سيما بملاحظة ما ذكره بعده من حمل الحجّة عليه في الصورة الاولى دون الأخيرة كون محل الكلام في القسم الأوّل من الظن الطريقي ، فلا بدّ أن يتصور القسمان فيه بملاحظة ما ذكرنا هنا : من أنّه جامع لإعتبارين لا محالة ، فاذا طابق الواقع كان موضوعا للحكم الظاهري على وجه الطريقيّة لحكم متعلقه ، وإذا خالفه كان موضوعا للحكم الظاهري على وجه الطريقيّة لحكم آخر يخالف حكم متعلّقه ، فتأمّل.

والعبارة لا تخلو عن شيء وما ذكرناه غاية ما يوجّه به ، ومع ذلك كان حق المقام : أن يتعرّض لحكم قيام غيره مقامه في الظن الموضوعي ، كما تعرض له في القسم الأوّل ، أي : الظن الطريقي.

وكيف كان قد عرفت : أنّه لا اشكال فيما ذكره ( دام ظلّه ) : من كون الظّن كالعلم قد يؤخذ طريقا بمعنى : ترتب الحكم على نفس متعلّقه ، وقد يؤخذ موضوعا

__________________

(١) لم نجده فيما بأيدينا من نسخ الفرائد أنظر : ج ١ / ٣٥ من الفرائد وهوامشه.

(٢) انظر هامش رقم (٤) من فرائد الأصول : ج ١ / ٣٥.

(٣) نفس المصدر : ج ١ / ٣٥.

٦٢

وافتراقه عن العلم في كيفية الطريقيّة.

إنّما الاشكال في أنّ ما ذكره للعلم من الاحكام والخواص فيما كان طريقا أو موضوعا هل يجري في الظن أم لا؟

فنقول : أمّا حكم العلم فيما كان طريقا من حيث عدم تعقل الفرق بين اسبابه فلا اشكال في عدم جريانه للظن فيما كان طريقا ، بل عدم الفرق فيه على هذا التقدير أيضا لا بدّ من أن يثبت من الدليل الدال على إعتباره طريقا ؛ فانّ التفصيل بين أسباب الظن وخصوصيّاته فيما كان طريقا أمر معقول ؛ لعدم جريان برهان التناقض فيه من التفصيل بين الاسباب ، بل واقع في الشرعيات في الجملة كما ستقف على تفصيل القول فيه إنشاء الله تعالى.

نعم ، لو كان الدليل على اعتباره العقل على وجه الحكومة كما في زمان الانسداد على فرض تماميّة مقدمات دليله ، لم يكن اشكال في عدم تعقل الفرق بين أسبابه ؛ لأنّ الانكشاف الظّني في زمان الانسداد كالانكشاف القطعي في نظر العقل في عدم امكان الفرق بين خصوصياته ، ولذا اشكل الأمر بخروج القياس وأمثاله.

وهذا بخلاف ما لو كان مستكشفا من بناء العقلاء على أمارة من الامارات كما في بنائهم على العمل بالظن الاستصحابي على القول به ، أو خبر الثقة المفيد للاطمئنان بصدقه ؛ فانّه ربّما يدعى اختصاصه بخصوص الظن الحاصل من الحالة السابقة أو خبر الثقة وان حصل مثله من غيرهما لاختصاص بناء العقلاء الكاشف عنهما بالعمل على الأمارة الخاصة.

٦٣

وان استشكل الاستاذ العلاّمة في الدعوى المذكورة : بأنّ الظن الخاصّ في بناء العقلاء في غاية البعد ؛ لأنّ بنائهم على الاتّكال بالظن ليس إلاّ من حيث الانكشاف الظني المعوّل عليه في أمورهم ، وهذا المعنى لا يختلف في الاعتبار عندهم باختلاف الاسباب.

وأمّا حكم العلم فيما كان طريقا من حيث قيام الأمارات والأصول مقامه ، فلا يعقل جريانه بالنسبة إلى قيام الأمارات المعتبرة إذا كانت في مرتبة واحدة إذ لا ترجيح إذن لبعضها على بعض حتى يجعل احديها اصلا والباقي فرعا.

نعم ، لو فرض تقدم بعضها على بعض في المرتبة بحسب جعل الشارع وفي نظره حكم بكون المقدّم أصلا ، وكون باقي الأمارات قائمة مقامها عند فقدها فيما لم يوجب هذا الترتيب الجعلي خروج المفروض عن محلّ البحث ودخوله فيما كان الظن موضوعا. وبالجملة : المقالة المذكورة بالنّسبة إلى الأمارات لا يخلو اطلاقها عن إشكال.

نعم ، لا ريب في تماميتها بالنسبة إلى الاصول من حيث تأخّر مرتبة اعتبارها عن الامارات المعتبرة بأسرها هذا مجمل القول في جريان حكم العلم إذا كان طريقا في الظن المعتبر إذا كان طريقا أيضا.

وأمّا حكمه فيما كان موضوعا من حيث امكان التفصيل بين الاسباب فلا اشكال في جريانه في الظن إذا كان جزء موضوع ؛ لأنّك قد عرفت : إمكان التفصيل فيما كان الظن طريقا ومن المعلوم انّ المفروض أولى بالامكان كما لا يخفى.

٦٤

وأمّا من حيث قيام الأمارات وبعض الاصول ممّا كان مفاده ترتيب الآثار أو الأصل بقول مطلق على ما عرفت من قيام الاصل مقام الدليل ، فلا أشكال في جريانه بالنسبة اليه على ما عرفت تفصيله في العلم ، إلاّ أنّه لا بدّ من ان يفرض المأخوذ في الموضوع ظنّا خاصا حتى يتكلم في قيام غيره مقامه ، أو ظنّا فعليّا حتى يتكلم في قيام الظّن الشأني مقامه.

فتبين ممّا ذكرنا كلّه : أنّ ما ذكرنا للقطع من القسمين يجري في الظن أيضا ، وإن قلّ القسم الثاني فيه ، أي : أخذه في الموضوع واقعا. وأمّا الشك فلا يعقل جريان القسم الأول فيه ؛ ضرورة استحالة طريقيّة الشك ، فلا يمكن أن يعتبر طريقا فهو على عكس العلم ؛ فانّه لا يمكن أن يحكم بعدم اعتباره والشك لا يمكن أن يحكم باعتباره طريقا ؛ لخلوّه عن جهة الكشف والطريقيّة وإن أمكن حكم الشارع تعبّدا بالبناء على أحد الاحتمالين كما هو الواقع في جميع موارد الاصول ، لكنّه ليس من طريقيّة الشك في شيء كما هو واضح ، فمن أورد على ما أفاده فقد غفل عن مراده جدّا ، وإلاّ فما ذكر أمر بديهي لا يعتريه ريب.

كما أنّه لا أشكال في عدم جريان القسم الأوّل من القسم الثاني فيه ايضا أي : أخذه في الموضوع على وجه الطريقيّة لما عرفت من خلوه عن الطريقيّة.

نعم ، لا أشكال في جريان القسم الثاني من القسم الثاني فيه أي : أخذه في الموضوع من حيث كونه صفة من الصفات من غير أن يلاحظ فيه جهة الطريقيّة ؛ ضرورة كون الشك كالعلم والظن من حيث كونه وصفا من أوصاف المكلّف ، فالشك يفارق العلم والظن من حيث وجود جهة الطريقيّة حتى يعتبر بهذا اللحاظ ويشاركهما في كونه من أوصاف المكلّف التي يمكن أخذها في الموضوع ، وان

٦٥

كان هذا المعنى بالنسبة اليه مجرد فرض ؛ حيث أنّ الاحكام التي يعبر عنها بالاصول والقواعد ـ سواء كانت في الشبهات الحكمية أو الموضوعية ، وان كان الشك مأخوذا في موضوعها إلاّ أنّها ـ بأسرها أحكام ظاهرية ، لكن لا ريب في إمكان أخذ الشك في موضوع الحكم واقعا بمعنى كون الحكم واقعا تابعا للشك ، ولم يكن حكم مع قطع النظر عنه للواقع اصلا.

نعم ، قد وقع في الشرعيّات أو قال به جمع ، تعلّق الحكم الواقعي بعنوان ينطبق على الشك ويتصادقان كالخوف الذي يترتب عليه الافطار والقصر والتيمّم في باب المسافة والطهارة وان لم يظن بالتضرّر خلافا لمن قال باناطة الحكم بالضّرر الواقعي وجعل الظّن طريقا اليه ، وكعدم العلم بكون الشيء من الدّين المأخوذ في موضوع التشريع على ما عليه الاستاذ العلاّمة وفاقا لجمع من المحقّقين : من لحوق حكم التشريع واقعا لإدخال ما لم يعلم كونه من الدّين في الدّين بقصد كونه منه وان كان لنا كلام فيه سيأتي في محله.

فانّه لا ريب في صدق هذين مع الشّك ، والظّن يشارك العلم في الطريقيّة والموضوعية ويفارقه في كيفية الطريقيّة ؛ حيث أنّ طريقة العلم ذاتيّة وواجبة وطريقيّته لا بدّ من أن تثبت من دليل خارجي ، وليس له بالنظر إلى الذات إلاّ امكان الاعتبار على وجه الطريقيّة ، وان كان أصل طريقيّة الظّن وكشفه عن المظنون من لوازم ذاته.

ومن هنا علم أنّ ما ذكرناه بالنسبة إلى كلّ من العلم والظن والشّك : من إمكان تبعيّة الحكم الواقعي لكلّ منها فانّما هو باعتبار جواز أخذها في موضوع الحكم واقعا حسب ما ينادي به كلماتنا السابقة بمعنى توقّف عروض الحكم

٦٦

للموضوعات الواقعية واقعا على تعلق أحد الاوصاف الثلاثة به حسبما يقتضيه دليل الأخذ.

وأمّا العلم والظن بنفس الحكم والشك فيه ، فلا يمكن أن يعتبر شرطا في وجود الحكم واقعا بمعنى تبعية الحكم الواقعي لتعلّق أحد الاوصاف الثلاثة به ضرورة لزوم الدّور الظاهر على تقديره ، لبداهة توقف كل من الاوصاف الثلاثة على وجود متعلّق لها وتأخرها عنه ، فلو توقف وجوده على وجودها لزم ما ذكرنا من المحذور.

ومن هنا ذكر غير واحد تبعا للعلاّمة : أنّ شرطيّة العلم للتكاليف ليست على حد شرطيّة غيره من الشروط وإلاّ لزم الدّور ، ومن هنا أشكل الأمر فيما تسالموا عليه : من معذوريّة الجاهل في موضوعين وسلكوا لدفع الاشكال الوارد عليه مسالك منحرفة ، وليس هذا كلّه إلاّ من جهة ما عرفت ، وان التزم بعض المتأخرين تبعا للسيّد بكون العلم التفصيلي مأخوذا في الموضوع فيهما مع وضوح فساده إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرنا بتأويل بعيد.

نعم ، لا اشكال في جواز اشتراط تعلّقها بحكم واقعي مجعول للموضوع الواقعي في وجود حكم آخر كما يكون الأمر كذلك بالنّسبة إلى الظن القائم بالحكم الشرعي الكلّي والشّك المتعلّق به ، إذا فرض تعلّق حكم به ؛ فانّهما من حيث تعلّقهما بالحكم الواقعي أخذا موضوعين في الحكم الظاهري ، كما أنّه لا اشكال في جواز اشتراط تعلقها بحكم في حكم واقعي آخر.

فان قلت : كيف تقول باستحالة كون العلم شرطا في التكليف الواقعي

٦٧

والحكم النفس الأمري مع أنّ كلماتهم مشحونة في باب بيان شرايط التكليف من القول بشرطيّة العلم وأنّه من الشرايط الأربعة ولم يعهد من أحد أنكار هذه المقالة.

قلت : المراد من كونه شرطا في التكليف كونه شرطا في التكليف الفعلي لا التكليف الشأني ، فلا يلزم محذور فشرطيّته للتكليف ليس كشرطيّة ساير الشرايط من القدرة والبلوغ والعقل فانّها شرايط للتكليف الشأني دائما.

نعم ، البلوغ ليس شرطا في جميع الاحكام بناء على القول بشرعيّة عبادة الصّبي فيكون الصّبي بالنّسبة إلى الحكم الاستحبابي مثلا كالبالغ في الجملة. فافهم.

وعلى ما ذكرنا يحمل ما صرح به العلاّمة في « التهذيب » : من أنّه لا يمكن أن يجعل العلم شرطا في التكليف ، وإلاّ فيلزم الدّور ؛ لتأخّر العلم عن المعلوم ، ولو توقف المعلوم على العلم لزم تأخّره عنه أيضا فيلزم الدّور. وما حكى عنه في « المنتهى » « من أنّه لو علم الغصب وجهل التحريم لم يكن معذورا ؛ لأنّ التكليف لا يتوقّف على العلم به وإلاّ لزم الدور المحال ) (١) انتهى.

فمراده من التكليف هو التكليف الواقعي الشأني ، وإلاّ فاشتراط التكليف الفعلي بالعلم أو ما يقوم مقامه ممّا يستقلّ به العقل ولم يخالف فيه أحد ولا يلزمه الدّور المحال أصلا ، لاختلاف المعلوم والمشروط كما لا يخفى.

ومنه يظهر : اندفاع ايراد بعض أفاضل من عاصرناه عليه : بأنّ اشتراط التكليف بالعلم في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا يلزمه محال جزما.

__________________

(١) منتهى المطلب : ج ٤ / ٢٣٠.

٦٨

ثمّ إنّ عدم إختلاف الحكم الواقعي فيما لا يكون العلم أو الظّن مأخوذا في موضوعه باختلاف المكلفين بحسب العلم والجهل والظن ممّا لا أشكال فيه ، وإلاّ لزم الخلف ، مضافا إلى لزوم التصويب الباطل عندنا بالأدلة السمعيّة ، بل بالبراهين العقلية أيضا في الجملة ببعض معانيه كما ستقف على تفصيل القول فيه انشاء الله تعالى.

وأمّا إختلاف الحكم الظاهري بحسب اختلافهم في الاحوال الثلاثة فممّا لا شبهة في جوازه في الجملة ؛ لأنّ الحاصل لكلّ مجتهد من القياس المعروف المؤلّف من الصّغرى الوجدانية وهي : انّ هذا ما أدّى اليه ظنّي والكبرى البرهانية.

وهي : أن كلّ ما أدّى اليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي هو العلم بحكم الله الظاهري.

ومن المعلوم اختلاف افهامهم في تحصيل الحكم من الأدلة الظنية ، ولذا لا يكون معنى للخطأ بالنّسبة اليه على تقدير انكشاف الخلاف بطريق القطع ، أو الظّن المعتبر ، بل بحصول أحد الادراكين ينقلب الموضوع إلى موضوع آخر.

نعم ، قد تفرض بالنّسبة إلى الحكم الظاهري أيضا كما لو فرض حكم الشارع بحجيّة شيء واقعا غير مشروط بحصول الظن منه قد جهله المكلّف أو ظنّ خلافه كما لو فرض القول بحجيّة خبر الواحد على هذا الوجه.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ الحكم الظاهري قد يكون له واقعية لا تختلف بحسب أحوال المكلّفين كالحكم الواقعي ، نعم ، لا فعلية له إلاّ بعد العلم به أو الظن المعتبر ، وقد لا يكون له واقعية ، بل يختلف باختلاف الظنون كما لو فرضنا الحجية معلّقة

٦٩

على وصف الظن ، هذا بالنّسبة إلى الحكم الواقعي والظاهري بقول مطلق.

وأمّا الحكم الفعلي ، فلا إشكال في إختلافه بحسب إختلاف الأحوال ، كما هو غير مخفي على الفطن ، إلاّ أنّك قد عرفت فيما قدّمنا لك أنّ الحكم الفعلي ليس ممّا أنشاه الشارع في قبال الحكم الواقعي ، بل هو عينه ذاتا وغيره اعتبارا.

ثمّ ، إعلم أنّ الحكم الواقعي والظّاهري قد يجتمعان بمعنى وجودهما مستقلا لا تصادقهما ؛ إذ هما متباينان بالنظر إلى المفهوم كما لا يخفى ، وقد يفترقان ؛ إذ لا يمكن القول : بأنّ الأمارة المطابقة للواقع خارجة عن تحت ما دلّ على إعتبار نوعها ولا تنافي بين إجتماع الحكم الظاهري والواقعي أصلا سواء كانا متوافقين أو متخالفين كما هو قضية كلماتهم وان كان لنا فيه إشكال سيأتي في محلّه إنشاء الله تعالى.

ولكن يظهر من بعض أفاضل من تأخر : عدم إمكان اجتماعهما بمعنى : ارتفاع الاثنينيّة عنهما إلاّ في عالم العقل ، ومبنى ما ذكره على ما وقع منه من الالتباس في معنى الحكم الظاهري حيث قال في باب الاجتهاد :

« ثمّ اعلم أنّ المراد بالحكم الظاهري ما وجب الأخذ بمقتضاه والبناء عليه سواء طابق الواقع أو لا ، وبالحكم الواقعي ما كان تعلقه مشروطا بالعلم سواء حصل الشرط وتعلق أولا ، فالنسبة بينهما عموم من وجه » إلى أن قال :

« ثمّ ، الحكم الظاهري ان طابق الواقع بأن كان هو الحكم الثابت للواقعة بشرط العلم فواقعي أوّلي وإلاّ فواقعي ثانوي » (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) الفصول : ٤٠٩.

٧٠

وأنت خبير بما وقع منه من الخلط بين الحكم الظاهري والفعلي ، فجعل الحكم الظاهري عين الحكم الفعلي ، وأنت بعد التأمّل فيما قدّمنا لك تعرف ما يتوجّه عليه فلعلّ مبناه على إصطلاح خاصّ له للحكم الظاهري والواقعي هذا.

ولعلّنا نتكلّم في هذه المطالب بعض الكلام بعد هذا إنشاء الله تعالى في ضمن أجزاء التعليقة.

وهنا مطالب أخر دقيقة طويناها احترازا عن حصول التطويل الموجب للملال.

* * *

٧١
٧٢

تنبيهات المقصد الأوّل

( القطع )

٧٣
٧٤

التنبيه الأوّل :

الكلام في التجرّي

(١٥) قوله : ( أنّك قد عرفت : أنّ القاطع لا يحتاج ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧ )

في بيان أنّ تأثير العلم في وجود عنوان للمعلوم على تقدير المخالفة

ليس من فروع العلم الطريقي فقط ، بل يجري في الموضوع أيضا

في الجملة

أقول : لا يخفى عليك أنّ ظاهر هذا الكلام يعطي كون ما ذكره ( دام ظلّه ) من فروع العلم الذي كان طريقا محضا ويترتّب الحكم الشرعي على متعلّقه.

وأمّا العلم الذي كان موضوعا فلا يجري فيه هذا الكلام ؛ لأنّه بعد حصوله يتحقّق الحكم الواقعي لا محالة سواء كان القطع موافقا للواقع أو مخالفا ، ولقد كان يذكر هذا الكلام في مجلس البحث أيضا ، ولكنّك خبير بأنّه يجري بالنّسبة اليه أيضا في الجملة.

بيان ذلك : أنّه قد يكون أخذ العلم في الموضوع على وجه يكون الحكم

٧٥

واقعا تابعا للموضوع المعلوم من حيث أنّه معلوم وإن كان العلم مخالفا للواقع ، ومرجع هذا في الحقيقة إلى الإعراض عن الواقع وجعل الحكم تابعا للعلم ، وقد يكون أخذ العلم في الموضوع على وجه يكون وجود الحكم واقعا تابعا للموضوع الواقعي المقيّد بالعلم بمعنى أخذ الأمرين في موضوع الحكم معا ، ولازمه عدم عروض الحكم الواقعي للموضوع الواقعي الذي لم يتعلّق به العلم ولا لما علم ، وإن كان العلم مخالفا للواقع.

أمّا أخذه في الموضوع على الوجه الأوّل فلا إشكال في عدم جريان ما ذكره ( دام ظلّه ) بالنّسبة إليه ، لما ذكره من الوجه.

وأمّا أخذه على الوجه الثاني فلا إشكال في جريان ما ذكره بالنّسبة اليه كما هو غني عن البيان ، وظاهر لأوائل الافهام.

ثمّ إنّ مرجع النزاع في هذا الأمر ليس إلى ما يتوهّم ـ من تأثير العلم في تحريم ما ليس بحرام واقعا ووجوب ما ليس بواجب كذلك ، وعدم تأثيره فيه ، حتى يدفع القول باستحقاق المخالف بمقتضى القطع للعقاب وان لم يكن موافقا للواقع ؛ فانّه من الامور التي لا ينبغي التكلّم في بطلانه والبحث عنه ؛ ضرورة عدم تأثير العلم في حكم الشارع ، وإلاّ فيلزم الخلف في بعض الموارد أو ما هو مثله في الاستحالة في بعض آخر منها كما هو واضح ، ـ بل إلى تأثير العلم في وجود عنوان للمعلوم على تقدير المخالفة ـ كالتّجري مثلا ـ ولذا اختلفوا في حرمته في نفسه ، فالقولان في المسألة أو الأقوال فيها على ما ذكرنا من المثال ، مبنيّان على حرمة التّجري مطلقا ، أو عدمها مطلقا ، أو التفصيل.

٧٦

ثمّ إنّ المراد من حجيّة القطع على المكلّف مطلقا أو إذا صادف الواقع من الشّارع ـ التي في كلام الاستاذ العلاّمة في بيان تحرير النزاع ليس ما تقدّم القول منه بأنّه محال عقلا ، بل المراد على ما يفصح عنه كلامه أيضا ـ هو مؤاخذة الشارع المكلف على مقتضى قطعه ، فلا يكون بين كلاميه في المقامين تهافت.

ثمّ إنّ التكلّم في المسألة إنّما هو بالنّسبة إلى ما هو الثابت في الواقع مع قطع النظر عن إعتقاد المعتقد حسبما يفصح عنه مقالة الاستاذ العلاّمة أيضا ، كما في جملة من المباحث المعنونة في الاصول والفقه ، وإلاّ فلا معنى للبحث والتكلّم ؛ لأنّه أمر راجع إلى اعتقاده وليس قابلا لوقوع التشاجر فيه من الاعلام ، بل ممّن دونهم في الشأن والمرتبة ، على أنّ إعتقاد المعتقد في محلّ البحث لا يمكن أن يتعلّق بكل من هذه الأقوال على سبيل التخيير والبدليّة ؛ فانّه في علمه مستحق للعقاب قطعا ؛ لاستحالة احتمال الخطأ في إعتقاده حتى يعتقد عدم الاستحقاق على تقدير الخطأ وإلاّ لم يكن عالما وهو خلف.

وبعبارة أخرى : القاطع بالتكليف الالزامي سواء كان قطعه متعلّقا بموضوع الحكم المعلوم ـ كما إذا قطع بخمريّة مايع ـ أو بالحكم الشرعي الكلّي ـ كوجوب الصّلاة ـ يقطع بانّه على تقدير مخالفته لمقتضى قطعه مرتكب لما استقل العقل ودلّت البراهين القطعية على ايراثه لاستحقاق العقوبة وهي معصية المولى ؛ لأنّه لازم إستحالة تعلّق الجعل بالنّسبة إلى العلم كما لا يخفى ، اللهم إلاّ أن يفرض اعتقاده لعدم الاستحقاق على التقدير الذي يعتقد إستحالته.

ولكنّك خبير بما فيه ، فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه :

أنّ حاصل النزاع في المقام يرجع إلى أنّه : هل يكون للقطع تأثير في إحداث

٧٧

عنوان مقتض لاستحقاق العقوبة على تقدير مخالفة القاطع لمقتضى قطعه في الواقع وفي علم الله ـ وإن كان القاطع معتقدا لذلك كما أنّه لا أشكال ، بل لا يعقل الاشكال في استحقاقه العقوبة على تقدير مصادفة قطعه للواقع من حيث معصيته الخطاب الواقعي المعلوم ـ أو لا يكون له تأثير في إحداث ذلك العنوان ـ فيكون العلم الغير المطابق للواقع كالواقع الذي لم يقم عليه ما يقوم مقامه ؛ فانّه لا يعقل الاشكال في عدم استحقاقه العقوبة على ترك الإلتزام به لقضاء العقل على سبيل الضرورة بتبعيّة استحقاق العقوبة للمعصية الغير المتحقّقة بالنّسبة إلى التكاليف الواقعية الغير المنجّزة على المكلّف ـ أو فيه تفصيل؟

إذا عرفت ذلك : فاعلم أنّه ذهب إلى كلّ من هذه الوجوه فريق ، فعن الأكثر المصير إلى الأوّل مطلقا ، بل مقتضى ما استظهره الاستاذ العلاّمة ـ ممّا ذكره في تأخير الصلاة عند ظنّ الضّيق من الحكم بايراثه استحقاق العقوبة ولو على تقدير انكشاف الخلاف ودعوى جماعة الاجماع (١) عليه : من أنّ تعبيرهم بالظّن من باب أدنى فردي الرجحان ـ كون المقام أيضا موردا لما ادّعوا من الإجماع ، وإن كان ربّما يتأمّل في هذا الاستظهار بما ستعرفه (٢) وشيّد أمره بعض أفاضل المتأخّرين.

وعن بعض السّادة الأجلّة المصير إلى الثاني مطلقا وهو شيخ أستادنا وسيّد مشايخه في « المفاتيح » (٣) ويظهر من بعض آخر أيضا.

__________________

(١) انظر منتهى المطلب : ج ٤ / ١٠٧ ، وكشف اللثام : ج ٣ / ١٠٩ ، ومفتاح الكرامة : ج ٢ / ٦١.

(٢) يأتي ص ٨٠.

(٣) مفاتيح الاصول : ٣٠٨.

٧٨

وعن العلاّمة في « التذكرة » (١) التفصيل بين ما إذا استمرّ القطع ولم يظهر خطأه وبين ما لم يستمر ، فحكم بالأوّل في الأوّل وبالثاني في الثاني بناء على جريان ما ذكره في مسألة التأخير بظن الضيق من التفصيل في القطع بالضّيق أيضا بناء على ما استظهره الاستاذ العلاّمة منهم : من أنّ تعبيرهم في المسألة بالظّن من باب التعبير بادنى فردي الرّجحان ، فيشمل كلامهم القطع بالضيق.

ولكنّك خبير بأنّ ما حكاه قدس‌سره من عبارة : « التذكرة » صريح في النفي المطلق على ما عرفت حكايته ؛ فانّ حكمه بالعصيان بالتأخير ـ على تقدير عدم كشف الخلاف ـ من جهة مخالفته للواقع وتركه له كما هو ظاهر ، لا من جهة مخالفته لظنّه من حيث هو ، كما أنّ حكمه بعدم العصيان ـ بعد إنكشاف خطأ الظن ـ من جهة عدم المقتضي له وهو مخالفة الواقع من حيث أنّ مخالفة الظن غير مؤثّرة ، وهذا واضح لمن له أدنى تدبّر ، فتدبّر.

وعن العلاّمة في « المنتهى » (٢) وشيخنا الشهيد قدس‌سره في « الذكرى » (٣) ـ كما حكاه الاستاذ العلاّمة على ما ستعرف من كلامه عن قريب ـ وشيخنا البهائي (٤) عليه الرحمة : التّوقّف في الحكم بالاستحقاق.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ٣٩١.

(٢) لم نجد في المنتهى ما يدل على ذلك ولعلّه يريد نهاية الوصول إلى علم الأصول ، انظر النهاية المذكورة : ج ١ / ١١٠ و ٥١٧ ط مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام ومع ذلك فليس هناك من كلام في الإستحقاق أو التوقف فلاحظ.

(٣) لم نجدها في مظانّها.

(٤) زبدة الاصول : ٧٣ نشر مرصاد.

٧٩

وعن بعض أفاضل مقاربي عصرنا في بحث التقليد تفصيل آخر (١) غريب ستقف عليه عند تعرض الاستاذ العلاّمة لنقله.

في بيان أدلّة مقالة الأكثرين باستحقاق العقاب

واستدلّ للأوّل بوجوه :

الأوّل : الاجماعات المحكيّة في بعض صور الفرض كما في مسألة الظّن بالضّيق بالتقريب الذي عرفت إستظهاره من الأستاذ العلاّمة ، ومن المعلوم عدم الفرق بين الصّور وعدم الخلاف في الحكم بالعصيان المستظهر في باب سلوك الطّريق المظنون الخطر أو مقطوعه ؛ فإنّهم حكموا بأنّه يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد إنكشاف الخلاف (٢) ؛ فانّه لا معنى للحكم بإتمام الصلاة ولو بعد انكشاف الخلاف إلاّ على القول بأنّ الاعتقاد المخالف للواقع مؤثّر في استحقاق العقوبة.

الثاني : بناء العقلاء على الاستحقاق المستكشف من عدم تقبيحهم لمؤاخذة المولى العبد على مخالفته لمقتضى قطعه. ومن المعلوم أنّ بناء العقلاء في المسألة ممّا لا يمكن الاشكال في إعتباره ؛ لكشفه عن حكم العقل القاطع الذي يكون هو المرجع في أمثال المقام ، كما أنّ بناء أهل الشرع وسيرتهم يكشف عن حكم الشارع.

الثّالث : حكم العقل بقبح التجرّي المتحقّق بالفعل الذي يعتقد تحريمه مثلا.

__________________

(١) انظر الفصول الغروية : ٤١٠.

(٢) انظر على سبيل المثال : ذكرى الشيعة : ج ٤ / ٣١٤ ، والروض ط القديمة : ٣٨٨ ، والذخيرة : ٤٠٩ ، وكشف الغطاء : ج ٣ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٠