بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

في حجّيّة قول اللغوي

(١٨٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا القسم الثّاني وهو الظّن الّذي ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ١٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ظهور اللّفظ في المعنى قد يكون مستندا إلى الوضع

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

موجب الظن في هذا القسم :

إمّا الإعتماد على قول من يوثق به من أرباب علوم العربيّة كاللغوي والصرفي والنحوي والبياني بالنسبة إلى مواد المفردات وهيئة الكلمات المفردة والمركبة ونحوها.

وإمّا الإعتماد على أدلّة وأمارات ظنّيّة التي يقرب إلى ذهن المستنبط كون لفظ مفرد أو مركب ظاهرا في معنى عموما أو في نفي نوع خاص من الكلام أو في شخص كلام.

ومن القسم الثاني : جملة مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه ، بل جميع موارد اختلاف علماء العربيّة أيضا.

أمّا القسم الأوّل من القسمين :

فقد يقال : إن ما يرجع منها إلى النقل عن الواضع فهو حجّة ، وما يرجع إلى إجتهادهم فهو محل كلام والأظهر : أن جميعه يرجع إلى اجتهادهم في فهم مداليل الألفاظ من استقراء استعمالاتها من أهل اللسان وفصحائهم.

وأمّا نقلهم عن واضع اللغة من طريق التواتر أو الآحاد فإنّا نقطع بعدمه ، ولو سلّم يجري الكلام في حجّيّة نقلهم أيضا كحجّيّة اجتهادهم بعينه لا بد له من دليل. فلو تمّت الأدلّة الآتية : من إجماع العقلاء والعلماء وانسداد باب العلم فيها نهضت بحجّيّة القسمين. إنتهى حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٣٦٤

٥٢١

الشخصي المحقّق في الحقائق حسبما عرفت وجهه.

وقد يكون مستندا إلى الوضع النّوعي التّرخيصي المتحقّق في المجازات بأقسامها ، ولعلّه المراد بالانفهام العرفي ـ في كلام شيخنا قدس‌سره ـ من حيث إنّ العرف يفهم المعنى ولو بمعونة القرينة العامة أو الخاصّة.

وقد يكون مستندا إلى كثرة الاستعمال كما في المطلق فيما أريد الفرد من الخارج ، أو الشّيوع ، أو غير ذلك من الأمور الغير الرّاجعة إلى الوضع ، أو القرينة بالمعنى الموجود في المجازات ، فإن ظهور المطلق في إرادة بعض أفراده بأحد أسباب الظّهور الغير الرّاجعة إلى قيام القرينة على استعمال المطلق في الفرد غير راجع إلى أحد من القسمين المتقدّمين كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظّهور المذكور إن كان متحقّقا بأحد أسبابه الثّابتة اليقينيّة ، فلا كلام ولا خلاف في اعتباره وطريقيّته من حيث الخصوص من غير ابتنائه على مطلق الظّن على ما عرفت تفصيل القول فيه.

وإن لم يكن متحقّقا ثابتا ، فإن كان هنا ما يقتضي ثبوته ممّا قام الدّليل القطعي على اعتباره من حيث الخصوص ـ سواء اقتضى الوضع الشّخصي الموجود في الحقائق أو الوضع النّوعي الموجود في المجازات ـ فلا كلام في اعتباره وخروجه عن محلّ البحث في المقام.

وإن لم يكن متحقّقا على الوجه المزبور ، فيقع الكلام : في أنّ الظّن بالأوضاع بالمعنى الأعمّ مطلقا أو في الجملة ، هل قام دليل على اعتباره؟ ـ مع قطع النّظر عن حجيّة الظن المطلق في الأحكام ـ أم لا؟

فبالحريّ صرف الكلام أوّلا إلى بيان ما لا كلام في اعتباره في تشخيص

٥٢٢

الأوضاع ممّا هو خارج عن محلّ البحث ، ثمّ تعقيبه بالكلام فيما هو المقصود بالبحث.

اعتبار جملة من الأمور في اثبات الوضع فيما اذا لم يكن معلوما

فنقول : الوضع إن كان معلوما بأيّ سبب كان ـ سواء كان بتصريح الواضع ، أو التّواتر ، أو الآحاد المحفوفة بالقرائن ، أو الاستقراء القطعي ، أو المسلّميّة بين أهل اللغة ، أو التّرديد بالقرائن ، أو غير ذلك ـ فلا كلام فيه ؛ لما عرفت مرارا : من كون اعتبار العلم ذاتيّا. وإن لم يكن معلوما ، فلا خلاف في اعتبار جملة من الأمور في إثباته :

منها : أصالة الحقيقة ، مع فرض وحدة المستعمل فيه ؛ فإنّه لا كلام ولا خلاف في كونها دليلا على الوضع ؛ فإنّهم وإن خالفوا السيّد في جعل الاستعمال بقول مطلق دليلا على الوضع ، إلاّ أنّهم اتّفقوا في كونه دليلا على الوضع في الفرض ، وتفصيل القول فيه في محلّه.

ومنها : أصالة الحقيقة مع تعدّد المستعمل فيه في الجملة ؛ فإنّه لا خلاف أيضا في كونها دليلا على الوضع وتفصيل القول فيه في محلّه.

ومنها : انتفاء المناسبة المصحّحة للتجوّز بين مستعملات اللّفظ ؛ فإنّه شاهد على تعلّق الوضع بالنسبة إلى الجميع.

ومنها : أصل العدم ، ويثبت به تارة : مبدأ الوضع فيما إذا ثبت الوضع عندنا في الجملة ، وأخرى : بقاؤه فيما شك فيه ولا كلام فيه. ومن هنا ذكروا : أنّ الأصل مع المنكرين للحقيقة الشرعيّة.

٥٢٣

ومنها : تبادر المعنى وسبقه إلى الذّهن من نفس اللّفظ من غير توسيط القرائن الخاصّة ، أو العامّة ، أو الشّيوع ، أو كثرة الاستعمال ، أو أكمليّة بعض الأفراد ـ سواء كان في الألفاظ البسيطة أو المركّبة أو الهيئات ـ ؛ فإنّه لا كلام في كونه دليلا على الوضع ، كما أنّ تبادر الغير ، دليل على المجاز ؛ كالتّبادر بواسطة القرينة ؛ فإنّه أيضا دليل على المجازيّة وتفصيل القول فيه يطلب من محلّه.

ومنها : عدم صحّة السّلب عنه حال الإطلاق ولا كلام فيه في الجملة وإن كان فيه أبحاث بحسب شقوقه ، وأنظار في أصله ، مذكورة في محلّه ، كصحّة السّلب الّتي جعلوها دليلا على المجاز.

ومنها : الاطّراد ؛ فإنّه دليل على الوضع ، كما أنّ عدمه دليل على المجاز. ولا كلام في ذلك ، وإن كان هناك مناقشات عليه ، فإنّها لا تنافي مسلّمية أصل المطلب. ألا ترى ما وقع بينهم في التّبادر من المناقشات من لزوم الدّور وغيره ) مع اتّفاق الكلّ على جعله دليلا على الوضع؟

في ما وقع الخلاف في اعتباره في مقام إثبات الوضع

إذا عرفت ذلك ، فاستمع لما يتلى عليك فيما وقع الخلاف في اعتباره في إثبات الوضع به ممّا هو مقصود

بالبحث في مقامين :

أحدهما : فيما قيل باعتباره بالخصوص في المقام.

ثانيهما : فيما ذكره بعض من حجيّة مطلق الظّن في اللّغات مع قطع النّظر عن حجيّة مطلق الظن في الأحكام.

والكلام في الأوّل : قد يقع في قول اللغوي ، وقد يقع في غيره ـ ممّا قيل

٥٢٤

باعتباره بالخصوص ـ وجعله دليلا على الوضع الشخصي الموجود في الحقائق كصحّة التّقسيم وحسن الاستفهام والاستثناء بل مطلق التّخصيص والاستقراء النّاقص ، بل مطلق الاستعمال على مذهب السيّد ، إلى غير ذلك.

والّذي يقصد بالبحث في الجملة في المقام الأوّل : هو التكلم في اعتبار قول اللّغوي ونقله ، في تشخيص الأوضاع من حيث الخصوص لا غيره ـ ممّا قيل باعتباره ، فإنّ القول به ضعيف مدركا وقائلا في أكثرها ، بل قد يقال : إنّ مرجع النّزاع فيها إلى الصّغرى ؛ من حيث إنّ المثبت يدّعي كونها أمارة على الوضع وكاشفا عنه ظنّا. والنافي يدّعي كونها أعمّ من الوضع فليس كاشفا عنه.

فالنّزاع فيها يرجع إلى النّزاع في الصّغرى ، مع التّسالم على كون مطلق الظّن حجّة في إثبات اللّغات حقيقة وإغماضا فلا تعلّق للبحث فيها بما هو المقصود في المقام فتأمّل.

* * *

٥٢٥

المقام الأوّل :

البحث في اعتبار قول اللغوي بالخصوص (١)

وأمّا قول اللغوي فالبحث فيه : إنّما هو من حيث قول اللغوي مع قطع النّظر عن اجتماع شروط الشّهادة فيه من العدد والعدالة ، وإلاّ فلا كلام في خروجه عن محلّ الكلام ـ على ما استظهره شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » ـ بناء على ما حكى الإجماع عليه جماعة من الأعلام : من اعتبار البيّنة في الموضوعات مطلقا إلاّ فيما قضى الدّليل الخاصّ على اعتبار أزيد من العدلين فيه.

والكلام في اعتباره من حيث الخصوص لا ينافي اعتبار إفادته الظّن الشخصي بالوضع كما في جملة من نظائره كما لا يخفى ، وإن أوهم كلام بعض المحقّقين ابتناء القول بحجيّته على اعتبار مطلق الظّن في اللّغات ، فيخرج عمّا هو المقصود بالبحث.

كما أنّه لا ينافي انسداد باب العلم في غالب موارده على تقدير التسليم

__________________

(١) انظر كلام الميرزا النائيني في فوائد الأصول : ج ٣ / ١٤١ فما بعد ، وكذا في أجود التقريرات : ج ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٧.

٥٢٦

وملاحظته من غير أن يجعل علّة لجعله واعتباره ، كما يكون الأمر كذلك في كثير من الظّنون الخاصّة كظواهر الألفاظ ونحوها ؛ ولذا يحكم باعتبارها مع التّمكن من تحصيل العلم في مورد العمل بها. وهذا هو الفرق بين جعل الانسداد حكمة وعلّة يدور الحكم بالحجيّة مدارها.

ثمّ إنّ البحث في اعتبار قول اللّغوي من حيث الخصوص إنّما هو فيما وقع اللّفظ موضوعا للأحكام الشّرعية في الكتاب والسّنة. وأمّا إذا وقع في خطبة أو رواية غير متعلّقة ببيان الأحكام ونحوها ، فيمكن القول بخروجه عن محلّ الكلام ، كما لا يأباه كلام شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ويستفاد من كلام غيره أيضا.

كلام صاحب الحاشية على المعالم

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أنّ المشهور بينهم اعتباره من حيث الخصوص ، بل ادّعى عليه الإجماع بل الاتفاق قولا وعملا غير واحد. وذهب النّراقي في « المناهج » إلى القول بعدم اعتباره من حيث الخصوص. وهو الّذي اختاره شيخنا قدس‌سره في « الكتاب ». قال بعض المحقّقين في تعليقه على « المعالم » ـ بعد عدّه من المثبتات للأوضاع نقل المتواتر والآحاد وحكمه باعتبار الأوّل ـ ما هذا لفظه :

« ويدلّ على حجيّة الثّاني : عموم البلوى باستعلام اللغات مع عدم حصول الغناء عنها مع انسداد طريق القطع في كثير منها ، فلا مناص عن الأخذ بالظّن فيها وجريان الطّريقة من الأوائل والأواخر على الاعتماد على نقل النّقلة والرّجوع إلى الكتب المعتمدة المعدّة لذلك من غير نكير ، فكان إجماعا من الكلّ.

والقول : بعدم إفادة كلامهم للظّن ، لاحتمال ابتنائه على بعض الأصول

٥٢٧

الفاسدة كالقياس في اللغة أو عدم التّحرج عن الكذب ؛ لبعض الأغراض الباطلة مع انتفاء العدالة عنهم في الغالب وفساد مذهب أكثرهم.

فاسد بشهادة الوجدان ، والدّواعي عن التحرّج عن الكذب قائمة غالبا ، لو لا قيام الدّواعي الإلهيّة. نعم لو فرض عدم إفادته للظّن بقيام بعض الشّواهد على خلافه ، فلا معوّل عليه.

وربّما يناقش في حجيّة الظّن في المقام ؛ لأصالة عدمها وعدم وضوح شمول أدلّة خبر الواحد لمثله. وضعفه ظاهر ممّا عرفت ، مضافا إلى أنّ حجيّة أخبار الآحاد في الأحكام مع ما فيها من وجوه الاختلال وشدّة الاهتمام في معرفتها يشير إلى حجيّتها في الأوضاع بطريق أولى » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهو كما ترى : مشتمل على التّمسك بانسداد باب العلم باللّغات وغيره ممّا يقضي بحجيّته من حيث الخصوص ، والجمع بينهما كما ترى ، اللهم إلاّ أن يكون غرضه إثبات حجيّته بقول مطلق من غير تفصيل بين الوجهين فتدبّر.

كلام صاحب الفصول في المقام

وقال أخوه المحقّق في « فصوله » ـ فيما يتعلّق بالمقام ـ ما هذا لفظه :

« يعرف كلّ من الحقيقة والمجاز بعلامات ودلائل. منها : نصّ أهل اللغة عليه مع سلامته من المعارض ، وممّا يوجب الرّيب في نقله كالتمسّك بما لا دلالة فيه

__________________

(١) هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين : ٤١ ط ق وج ١ / ٢١٣ ط جماعة المدرسين.

٥٢٨

على دعواه مع الاقتصار عليه. وكذا الخبير بكلّ اصطلاح إذا أخبر كذلك ، وهذا ممّا لا يعرف فيه خلاف ».

إلى أن قال ـ بعد بيان حكم التعارض :

« ثمّ التّعويل على النقل مقصور على الألفاظ الّتي لا طريق إلى معرفة حقائقها ومجازاتها إلاّ بالنّقل ، وأمّا ما يمكن معرفة حقيقته ومجازه بالرّجوع إلى العرف وتتبّع موارد استعماله حيث يعلم أو يظنّ عدم النّقل ، فلا سبيل فيه إلى التعويل فيه على النّقل.

ومن هذا الباب : أكثر مباحث الألفاظ المقرّرة في هذا الفنّ : كمباحث الأمر والنهي والعام والخاصّ. ولهذا تراهم يستندون في تلك المباحث إلى غير النّقل.

والسّر في ذلك أنّ التّعويل على النّقل من قبيل التّقليد ، وهو محظور عند التمكّن من الاجتهاد. ولأنّ الظن الحاصل منه أضعف من الظن الحاصل من غيره ، كالتّبادر وعدم صحّة السّلب ، بل الغالب حصول العلم به ، فالعدول عنه عدول عن أقوى الأمارتين إلى أضعفهما وهو باطل » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فكأنّه ذهب إلى كون حجيّة قول اللغوي من الظن الخاصّ المقيّد بعدم طريق المعرفة للرّاجع إليه ، ويحتمل ضعيفا أن يكون مبنى كلامه على كون حجيّته من باب دليل الانسداد والظن المطلق ، إلاّ أنّ الترجيح المذكور في كلامه لا يجامعه.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٢.

٥٢٩

كلام الفاضل النّراقي في المقام

وقال الفاضل النراقي في « المناهج » ـ بعد ذكر الاختلاف في حجيّة نقل اللّغوي واختياره عدم حجيّته مطلقا ، لا من باب حجيّة مطلق الظن في اللغات ولا من باب حجيّته من حيث الخصوص ـ ما هذا لفظه :

« وثانيهما : الإجماع على حجيّة خبر الواحد في اللغات ؛ فإنّ المفسّرين والمحدّثين والأصوليّين والفقهاء والأدباء على كثرتهم واختلاف فنونهم ، لم يزالوا في تعيين المعاني يستندون إلى اللغويين ويراجعون الكتب المدوّنة في هذا الشّأن ، قد جرت بذلك عادتهم واستمرّت به طريقتهم ، حتّى أنّهم في مقام التخاصم إذا استند أحدهم إلى نصّ لغوي ألزم به خصمه أو عارضه بما يقابله ، ولم يقل هذا خبر واحد.

ويكفيك في ذلك اعتناء الأكابر والأماثل بجمع اللغة وتدوينها وضبطها حتّى صنّفوا فيها كتبا مشهورة ، وما ذلك إلاّ ليكون مرجعا للعلماء. والغرض الأصلي شرح القرآن والحديث على ما صرّحوا به في مفتتح كتبهم وبيانهم لفضيلة علم اللغة.

وكلّ ذلك إنّما يتأتّى على حجيّة خبر الواحد في اللّغة ، فيكون حجّة ، وإلاّ لزم بطلان هذا العلم إعياء المدوّنين فيه مع أنّ تدوينه قد حصل في المائة الثّانية في زمان الصّادقين عليهما‌السلام وشاع في الثّالثة ولم ينقل من أحد من الأئمّة عليهم‌السلام إنكاره » (١).

__________________

(١) مناهج الاصول : ٩ ضمن البحث في قوله : منهاج : قد ذكروا معرفة الوضع ... إلى آخره.

٥٣٠

انتهى كلامه رفع مقامه.

وممّن ادّعى الإجماع على ذلك علم الهدى قدس‌سره على ما حكاه في « الكتاب » (١) بل مقتضى ما حكي (٢) عنه اتّفاق المسلمين عليه ، وبالغ في ذلك الفاضل السّبزواري (٣) ؛ حيث ادّعى اتّفاق العقلاء عليه في كلّ عصر وزمان هذا (٤).

مقتضى الاصول عدم حجية قول اللغوي بالخصوص

والّذي يقتضيه الأصول عدم اعتبار قول اللّغوي من حيث الخصوص ، بالمعنى الّذي عرفته. والمناقشة في جريان أصالة عدم حجيّة الظن في المقام ، كما ترى.

وليس للقائل بحجّيته إلاّ عموم ما دلّ على حجيّة خبر الواحد ، بل فحواه ـ بالتّقريب الّذي عرفته في كلام بعضهم ـ والإجماع المدّعى عليه بالتّقريبات المختلفة التي عرفتها.

أمّا الأوّل فهو مبنيّ على ثبوت عموم لما دلّ على حجيّة خبر الواحد بحيث يشمل المقام ، وهو ممنوع ، كما ستقف على تفصيل القول فيه. وعلى تقدير العموم ؛

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ١٧٤.

(٢) حكاه السيد محمد المجاهد الطباطبائي في مفاتيح الاصول : ٦٢.

(٣) هو العلامة الجليل والفاضل المحقق النبيل الاقا محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري.

(٤) رسالة في الغناء : ٤٦ ـ المطبوعة في موسوعة الغناء والموسيقى ج ١ ـ تحقيق الشيخ المختارى.

٥٣١

فلا شبهة في لزوم تخصيصه بمقتضى منطوق آية النّبأ بغير الفاسق. ولم يلتزم القائل به ، بهذا التّخصيص. وإلاّ فيلزم عليه : القول بعدم اعتبار أقوال المعروفين من اللغويين هذا.

مع إمكان أن يقال : إنّ إخبارهم راجع إلى الاجتهاد والخبر الحدسي. وستقف أنّه ليس هنا ما يقتضي بحجيّة الخبر الحدسي الغير الرّاجع إلى الحسّ على تقدير العموم ، اللهمّ إلا أن يقال : إنّ إخبارهم يرجع إلى الحسّ ؛ من حيث إنّهم يستنبطون المعنى الموضوع له من استعمال أهل اللّغة واللّسان مجرّدا عن القرينة ، بل من اطّراد الاستعمال المذكور وكثرته ، وهو من لوازم الوضع وآثاره الغير المنفكّة عنه ، والأمر وإن كان كذلك في الجملة إلاّ أنّه ليس دائميّا كما لا يخفى والمائز غير موجود فتدبّر.

هذا كلّه مع أنّ شأن اللغوي وديدنه على ذكر المستعمل فيه والمعنى ، أعمّ من أن يكون موضوعا له ، وليس غرضه متعلّقا ببيان خصوص الوضع ، والمميّز غير موجود غالبا.

وأمّا التمسّك بالفحوى فهو كما ترى ، غاية الأمر : وجود مجرّد الأولويّة الاعتبارية على تقدير التسليم ـ مع أنّها غير مسلّمة ـ ؛ لأنّ المعتبر في قياس الأولويّة إحراز المناط ظنّا ، وأولوية وجوده وآكديّته في الفرع. وهما في حيّز المنع. مع أنّ المعتبر في الأصل عند الأكثر ، أمور لا يعتبرونها في الفرع. وفي الفرع عند القائل به الظّن الشخصي في موارده وهو غير معتبر عند الأكثر في الأصل فتدبّر.

وأمّا الثّاني : فهو في الجملة مسلّم ، إلاّ أنّه على إطلاقه بحيث ينفع الخصم ممنوع.

٥٣٢

توضيح ذلك : أنّ الرّجوع إليهم قد يكون من جهة حصول العلم بالمستعمل فيه من قولهم من جهة القرائن أو إرسالهم له إرسال المسلّمات كما هو الغالب. وقد يكون من جهة عدم الاهتمام بشأن المطلب كما إذا أريد تفسير خطبة أو رواية غير متعلّقة بالأحكام ، وأمّا الرّجوع إلى واحد منهم بقول مطلق في الأحكام ـ ولو مع حصول الظن ـ فليس اتفاقيّا.

ودعواه في حيّز المنع كدعوى الإجماع القولي على ذلك هذا. مع أنّ عدم العلم بعنوان الرّجوع إليهم يكفي في الحكم بالمنع والرّجوع إلى أصالة عدم الحجيّة ، وليس على النّافي إثبات العنوان كما لا يخفى. ومنه يظهر النّظر فيما أفاده الفاضل السبزواري ؛ فإنّ الرّجوع إلى أهل الخبرة في الجملة مع عدم العلم بالجهة لا يجدي شيئا.

ودعوى : أنّ الرجوع إليهم من حيث إنّهم أهل الخبرة من غير اعتبار أمر آخر ـ كما ترى ـ كيف! وظاهرهم : الاتفاق على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه في الرّجال ، بل بعضهم : اعتبر التّعدد ، وبعضهم : بنى اعتبار التّعدد على كون التّعديل شهادة أو رواية. بل ظاهرهم : الاتّفاق على اعتبار التعدّد مضافا إلى اعتبار العدالة في مسألة التّقويم وأشباهها. فكيف يدّعى مع ذلك أنّ عنوان المرجع ، نفس كونهم أهل الخبرة؟

قوة ما أفاده الفاضل النراقي في رد الإجماع

ولقد أفاد الفاضل النّراقي قدس‌سره في ردّ الإجماع المدّعى في المقام بقوله :

« وفيه : منع الإجماع وما استدلّ به عليه من استناد العلماء واعتنائهم إلى جمع

٥٣٣

اللّغات وبيان المعاني في الكتب لا يثبته ، فإنّ استناد العلماء بمجرّد قول واحد من دون قرينة ، ممنوعة. ولو سلّم ، فاستنادهم بحيث يثبت الإجماع غير ثابت. ولو سلّم ، ففي مقام التكليف غير مسلّم. مضافا إلى أنّ قول الخصم بمجرّد الاستناد إلى قول واحد غير معلوم.

وأمّا الاعتناء إلى الجمع والتّأليف ، فهو لم يقع إلاّ من بعض علماء العامّة ، ولم يتعرّض من أصحابنا له إلاّ أقلّ قليل ، وعدم إنكار الباقين لا يفيد تخصيص فائدته بالأخبار والكتاب ، بل يفيد في الأشعار والتّواريخ والمثل والمحاورات الّتي لا بأس بالعمل بالظن فيها. وكم جمع من كتاب غير مفيد لم ينكر على صاحبه؟ مع أنّ الغرض قد لا يكون العمل بالظن في التّكليفات ، ككتب لغات الفرس ... ) (١) إلى آخر ما ذكره.

ونعم ما أفاد : من أنّ الغرض من ثبت الكتب : قد يكون مطلبا آخر ، غير العمل بمجرّد التثبت ؛ إذ قد يكون الغرض : ترتّب وضوح المطلب ولو بعد الاعتضاد أو انضمام القرائن هذا.

مع أنّ كون غرض صاحب الكتاب ذلك لا يوجب بمجرّده لزوم العمل بكتابه وترتيب التّكاليف والأحكام الشّرعيّة عليه هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

__________________

(١) مناهج الأصول : ٩ ضمن البحث في المناهج السابق الذكر.

٥٣٤

وأمّا الكلام في المقام الثّاني :

وهو حجيّة مطلق الظّن الشّخصي واعتباره في اللّغات والأوضاع بقول مطلق ، فيدخل فيه قول اللّغوي المفيد للظّن.

فملخّصه : أنّ صريح غير واحد من المتأخّرين ، بل بعض المتقدّمين : القول بحجيّة مطلق الظّن في اللّغات والأوضاع ، مع القول بعدم حجيّة مطلق الظن في الأحكام. وصريح جماعة : إنكار الحجيّة على هذا القول ـ على ما عرفت : من كونه محلّ البحث والإنكار ـ. وهو الأقوى ؛ لأصالة عدم الحجيّة ؛ لأنّها الأصل في مطلق غير العلم ولا مخرج عنها إلاّ ما تمسّك به القائل بالحجيّة وهو ضعيف كما ستقف عليه بعد إيراده هذا.

وأمّا التمسّك بالأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك للمختار ، بتقريب : أنّ الوضع المشكوك مسبوق بالعدم ، فلا ينتقض الأمر العدمي المتيقّن بالشك ـ كما في كلام بعض الأفاضل ممّن (١) تأخّر ـ فهو ضعيف عندنا ؛ من حيث إنّ مبنى التّعبّد على ترتيب المحمولات الشّرعيّة للمستصحب بلا واسطة وجعلها في مرحلة الظاهر ، إذا كان المستصحب من الموضوعات ، فلا يشمل الموضوعات اللّغويّة إثباتا ونفيا كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه.

نعم ، بعد الحكم بعدم اعتبار الظن في مرحلة الظّاهر ، يرجع إلى الأصول بالنّسبة إلى الآثار كما هو الشّأن في جميع ما يحكم بعدم حجيّة الظن القائم عليه موضوعا كان أو حكما شرعيّا هذا.

__________________

(١) المولى أحمد النراقي عليه الرّحمة.

٥٣٥

في أدلة القائلين بالحجيّة (١)

وأمّا القائلون بالحجيّة فقد تمسّكوا بوجوه :

الأوّل : الإجماع على اعتبار الظّن في اللّغات. ذكره غير واحد من الأصوليّين (٢). ويشهد له كون اختلافهم في جملة من الأمور ـ التي اختلفوا في حجّيتها ، كالتّقسيم وحسن الاستفهام وغيرهما ـ راجعا إلى النّزاع في الصّغرى. بل اختيار القائلين بالقياس ، عدم اعتباره في المقام ؛ من حيث عدم حصول الظّن بالمناط ، وكون اللّغات توقيفيّة أوّل شاهد على كون أصل حجيّة الظّن مسلّما عندهم.

ومن هنا اتّفقوا على اعتبار الاستصحاب في الموضوعات اللّغويّة ، وحكموا ـ بعد تبادر المعنى في العرف اللاّحق بكونه معنى أصليّا سابقا للّفظ ؛ من جهة أصالة عدم النقل وتعدد الوضع الراجعة إلى الظن بوحدة المعنى.

ومن هنا اتّفقوا على أنّ الأصل مع المنكرين للحقيقة الشّرعية. وفيه : أنّه إن

__________________

(١) وللعلاّمة الأصولي الفقيه الشيخ محمّد رضا النجفي المتوفى سنة ١٣٦٢ ه‍ هنا كلام لطيف ينبغي التأمّل فيه والوقوف عنده لكن لا يخلو من خلط إذ ما ذكره لا خلاف فيه وإنّما الخلاف في موضع آخر شرحه يحتاج إلى تفصيل لا يسع المجال لبسطه. أنظر وقاية الأذهان : ٥٠٨ فصاعدا.

(٢) منهم الفاضل السبزواري في رسالته المعمولة في الغناء ( موسوعة الغناء والموسيقى : ج ١ / ٤٦ ) والسيّد بحر العلوم على ما حكاه صهره على ابنته السيّد محمّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٢ والسيّد الشريف المرتضى انظر الذريعة إلى أصول الشريعة : ج ١ / ١٣.

٥٣٦

أريد ـ من الإجماع على اعتبار الظّن في اللغات ـ الإجماع عليه في الجملة ، فهو مسلّم لا نزاع فيه أصلا ، لكنّه لا يجدي الخصم. وإن أريد الإجماع عليه مطلقا ، فهو في حيّز المنع ، ألا ترى اختلافهم في حجيّة الاستقراء الظّني والشّهرة ونحوهما ممّا يعدّ في المسألة؟

الثّاني : أنّ عادة العقلاء جرت على اعتبار الظّن فيما ينتظم به أمورهم حيث لا طريق إلى العلم ، لأنّ أرباب العلوم النّقليّة ، يعتمدون على الأمارات الظّنية. ألا ترى أنّ النحاة واللّغويّين يعتمدون على استعمالات أهل اللسان نظما ونثرا؟ كأشعار مثل إمرئ القيس. وأهل المعاني على أمور اعتبارية؟ والأصوليّين على كثرة الاستعمال وغلبته؟ والتّجار على المكاتيب؟ إلى غير ذلك. وهذه الطّريقة ممّا أمضاه الشّارع وإلاّ لنهى عن سلوكها في الشّرعيّات.

وفيه : أنّه لم يعلم معنى محصّل لهذا الاستدلال ؛ فإنّه إن كان الغرض منه : كون العادة ، جارية على العمل بالأمارة الظّنية في الجملة على أنحاء مختلفة متشتّتة فيعملون بالظن بالمراد إذا حصل من اللّفظ دون الخارج إذا لم يكن مستندا إلى القرينة المعتبرة وهكذا ، فهذا لا يجدي شيئا ؛ إذ لم يذهب أحد من علماء الإسلام إلى إنكار العمل بالظّن رأسا.

وإن كان الغرض منه كون العادة من العقلاء والشّارع جارية على الأمارات الظّنية مطلقا في جميع الأمور ، بأيّ شيء قامت ، وفي أيّ مسألة كانت فهو مخالف للحسّ الوجدان في العاديّات أو الشّرعيّات. ألا ترى إلى نفي الشّارع لاعتبار الظّن في باب النّجاسة وفي اعتبار البيّنة العادلة وما بمنزلتها في المرافعات؟ إلى غير ذلك.

٥٣٧

وإلى عدم اعتناء العقلاء بمطلق الظّن في الأمور الخطيرة إذا لم يستند إلى أخبار من يعتمد عليه من أهل الخبرة؟ إلى غير ذلك هذا.

مضافا إلى أنّ نهي الشّارع من العمل بالأمارة بل مطلق غير العلم في الكتاب والسّنة ممّا شاع وذاع وبلغ كلّ أحد وقرع سمع كلّ جاهل فضلا عن العلماء.

الثّالث : الإجماع على اعتبار الظن في الموضوعات من كلّ أحد. فإنّ المجتهدين ذهبوا إلى العمل بالظن في الأحكام وموضوعاتها. والأخباريّين منعوا من العمل عليه في الأحكام ، ووافقوا المجتهدين في العمل عليه في الموضوعات.

وفيه : أنّه إن أريد ـ ممّا ذكر ـ ذهاب المجتهدين إلى العمل بالظّن مطلقا في الأحكام والموضوعات واتفاقهم عليه ، وذهاب الأخباريّين إلى المنع عنه في الأحكام مطلقا وإثبات العمل عليه في الموضوعات كذلك ـ فهو افتراء على الفريقين ؛ إذ ما من أحد من العلماء إلاّ أنّه يعمل بالظّن في الجملة في الأحكام ، ولو كان ظواهر الألفاظ في الموضوعات ، ولو كان مثل البيّنة وأصالة الصحة والقرعة ونحوها ، وترك العمل به في الجملة في الأحكام والموضوعات. وإن أريد منه إثبات القضيّة المهملة فقد عرفت : أنّه لا يجدي نفعا في إثبات المدّعى.

الرّابع : دليل الانسداد الّذي تمسّك به غير واحد ممّن ذهب إلى حجيّة الظّنّ في المقام مطلقا تصريحا وتلويحا ، بل هو العمدة في كلماتهم في إثبات المطلب وله بيانات في كلماتهم ، أوضحها : أنّه لا ريب ولا إشكال ولا خلاف في أنّ الطّريق الوافي المتكفّل لبيان أغلب الأحكام بل كلّها تفصيلا ، إلاّ ما شذّ وندر ، ـ غير الضّروريّات الدّينيّة ـ الكتاب والسّنة القوليّة ، وموضوع الأحكام الشّرعيّة فيهما

٥٣٨

الألفاظ واللّغات. والدّال على الحكم فيهما أيضا : الألفاظ مادّة وهيئة.

كما أنّه لا ريب في انسداد طريق العلم إلى حقائق الألفاظ ومعانيها الوضعيّة غالبا ، لانحصاره في تصريح الواضع الّذي ليس له عين وأثر ، ولا التّواتر من جانبه والاستقراء القطعي المفقودين في غالب اللّغات ، وانسداد طريق الظّن الخاص الكافي بأغلب اللّغات ؛ إذ ليس الموجود بأيدينا من ذلك إلاّ قول اللّغوي ـ الّذي عرفت الكلام فيه ـ وأنّه ليس دليل على حجيّته بالخصوص.

وعلى تقدير تسليم وجود الطّريق العلمي إلى غالب اللّغات أو الظّن المعتبر بالخصوص على سبيل الإجمال ـ بمعنى ثبوتهما لبيان الموضوع والمفهوم في الجملة ـ يمنع من قيامها على بيان معاني الألفاظ بكنهها وحقيقتها تفصيلا ؛ بحيث لا يبقى شك في المصاديق من جهة الشّبهة المفهوميّة.

إذ غاية ما هناك في الألفاظ الّتي ادّعي وضوح مفاهيمها ثبوت قدر متيقّن لها يعلم بصدقه في كثير من الموارد وله أفراد واضحة ظاهرة ، حتّى في مثل لفظ الماء الّذي ذكروا كون معناه من أوضح المفاهيم العرفية ؛ فإنّه كثيرا مّا يقع الشّك في صدقه من جهة عدم الإحاطة بكنه مفهومه وحقيقته كما هو واضح. وهكذا الأمر في سائر الألفاظ الّتي تكون واضحة المعنى. بل يقال ـ في بيان معانيها ـ كونها معروفة ويكتفون بذلك فكيف حال غيرها من الألفاظ؟

ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ـ في « الكتاب » بعد منع الانسداد ـ : « ولكن الإنصاف : أنّ موارد الحاجة إلى قول اللّغويّين أكثر من أن تحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها ، وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللّغوي كما في مثل ألفاظ

٥٣٩

الوطن والمفازة والتّمر والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى » (١). انتهى ما أفاده في تقريب الانسداد في المقام.

والرّجوع إلى الأصول في موارد الانسداد ، موجب لطرح المعلوم بالإجمال. والتكاليف المتعلّقة بتلك الموضوعات الاستنباطيّة كثير ؛ لكثرة التكاليف الثّابتة إجمالا في مواردها ، والالتزام بالاحتياط في جميع محتملات التّكليف المتعلّقة بها ـ موجب للوقوع في الحرج الشّديد والعسر الأكيد ؛ فيدور الأمر : بين الأخذ بالظّن في تشخيص معاني الألفاظ المنسدّ فيها باب العلم ، أو غيره من الشّك ، والوهم.

والعقل يحكم حكما ضروريّا بتعيّن الأخذ بالظن ، في كلّ ما دار الأمر بين الأخذ بالظّن وغيره. فينتج هذه الكبرى العقليّة الكليّة المنضمّة إلى المقدّمات المذكورة : اعتبار مطلق الظّن في اللّغات ـ على ما ستقف عليه ـ : من كون حاصل مقدّمات الانسداد في كلّ مورد تمت إطلاق النتيجة وعمومها لا إهمالها ، على ما زعمه بعض.

وهذا كما ترى نظير دليل الانسداد الّذي تمسّك به غير واحد لإثبات حجيّة الأخبار بالخصوص ؛ من حيث ثبوت العلم الإجمالي بصدور أكثرها عن الإمام عليه‌السلام ـ كما ستقف عليه في محلّه ـ فمرجع هذا الدليل في الحقيقة إلى الحاجة بإعمال الظن في الموضوعات اللّغوية ، وأنه لو لاه لانسدّ باب الاستنباط ولزم الهرج في الفقه هذا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ١٧٧.

٥٤٠