بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

الذي يرجع إلى المعنى الأوّل. ضرورة امتناع إثبات نفس الواقع بالظّن وجعله وسطا له بعد فرض كون الحكم لذات المظنون مع قطع النظر عن الظن كما هو المفروض ، وإلاّ لم يكن الظن طريقا كما هو واضح.

وان شئت قلت : إنّ المجعول في مورد الظن المعتبر أحكام شرعيّة مترتّبة على الظن من حيث كشفه عمّا يكون من سنخ الاحكام المذكورة من الاحكام الشرعيّة المجعولة للموضوعات النفس الامريّة ؛ إذ كما يستحيل جعل الحكم الظاهري بالقضيّة الواقعيّة كذلك يستحيل جعل الحكم الواقعي بالقضيّة الظاهرية ، فالمجعول في القضيّة الظاهرية لا بدّ أن يكون حكما غير الحكم الواقعي ولذا لا يجزي عنه عند كشف خطأ الظّن وهذا أمر ظاهر بعد التأمّل.

وممّا ذكرنا اندفع ما قد يقال : من انّه كما يقول القاطع بالخمريّة فيما لو كان الحكم الشرعي مترتّبا على الخمر : « هذا خمر وكلّ خمر حرام ». يقال : « هذا معلوم الخمريّة وكلّ معلوم الخمريّة حرام » ؛ فانّه من حيث انطباق المعلوم على الواقع في نظر العالم كيف؟ ولو لم يكن لأجل ما ذكر ، لم يكن معنى لتوسيطهما معا كما هو واضح.

ثمّ إنّه لما كان المقصود بالبحث على ما عرفت الاشارة اليه التكلّم فيما كان من الأحوال الثلاثة متعلّقا بالحكم الشرعي على ما هو شأن الاصولي ومقتضى فنّه ذكر التمثيل للمقام بقوله : « فاذا قطع بوجوب شيء ... إلى آخره » (١) ، وأردفه بالمثال في الموضوع توضيحا ومع ذلك العبارة لا تخلو عن شيء.

وقد تبيّن ممّا ذكرنا كله : المراد من نفي تعقل اطلاق الحجّة على القطع وانّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٩.

٤١

المراد الاطلاق على سبيل الحقيقة لا الاطلاق على الاطلاق ، ولعل اختيار هذا التعبير ـ مع عدم كونه شايعا في أمثال المقام وان كان المعنى مستقيما ؛ حيث انّ اللّفظ الموضوع لمعنى يمتنع استعماله في غيره بعنوان الحقيقة ـ كان من باب المبالغة والتّأكيد.

(٦) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه بالنّسبة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ص ٣٠ )

في بيان القطع الموضوعي وصحة حمل الحجّة عليه (١)

__________________

(١) أقول : قد عرفت مختار السيّد المجدد الشيرازي في المقام فيما مرّ ولنذكر لك ما أفاده تلميذه المحقق النائيني قدس‌سره قال : إن القطع بأقسامه لا يمكن أن يطلق عليه الحجة في باب الأدلة وأمّا الحجّة في باب الأقيسة فلا يمكن إطلاقها على القطع الطريقي فقط.

وتوضيح ذلك : أن الحجة تارة : تطلق ويراد منها معناها اللغوي وهو ما يحتجّ به في مقام الإحتجاج وأخرى : تطلق ويراد منها معناها المصطلح عليه عند المنطقي المعبّر عنه بالحجّة في باب الأقيسة وثالثة تطلق ويراد معناها المصطلح عليه عند الأصولي المعبّر عنه بالحجّة في باب الأدلّة.

أمّا الحجّة بالمعنى الأوّل فلا إشكال في كون القطع الطريقي من أظهر أفرادها ومصاديقها بل ينتهي إلى حجيّته كل حجة.

وأمّا الحجّة في باب الأقيسة فحيث انه لا علّيّة ولا معلوليّة بين القطع الطريقي ومتعلّقه فلا يمكن جعله وسطا في الشكل الأوّل فلا يطلق عليه الحجة في الإصطلاح المنطقي. وأمّا القطع الموضوعي فحيث ان نسبته إلى حكمه الثابت له كنسبة العلّة إلى معلولها فيطلق عليه الحجة في باب الأقيسة.

وأمّا الحجّة في باب الأدلّة ـ أعني بها ما يكون مثبتا لمتعلّقه ـ فلا يمكن إطلاقها على القطع

٤٢

أقول : لا ريب في أنّ إعتبار العلم لنفسه أو للجعل ـ كما سبق إلى بعض الاوهام ـ إنّما يتعقّل فيما يترتّب على متعلّقه حكم ، وإلاّ فلا معنى للتكلّم في اعتباره وان كان كشفه عن متعلّقه وطريقيّته اليه ذاتيا ، فعلى هذا لو لم يترتّب الحكم الشرعي على نفس متعلّقه ، بل عليه بشرط تعلّق العلم به : بان يكون له مدخل في موضوع الحكم واقعا ؛ فانّه أمر معقول ادّعي وقوعه كما انّه المراد من قوله قدس‌سره ، وإن كان ما ذكرنا من التعبير أوضح في تفهيم المراد ، فالجواز في كلامه مقابل الامتناع ، فالمراد به الامكان بالمعنى الاعم فلا ينافي لزوم أخذه في الموضوع على هذا التقدير ، ولذا لم يعقل التكلّم في إعتباره حينئذ فيصير حاله حال سائر ماله دخل في موضوع الحكم من أوصاف المكلّف وغيرها من حيث التمحّض في الموضوعيّة ، وان صحّ حمل الحجّة عليه بالمعنى المتقدّم ؛ لكونه وسطا حينئذ لا محالة كغيره ممّا له دخل في موضوع الحكم إلاّ أنّه لا يعقل البحث في اعتباره على ما عرفت ، كما أنّه لا معنى لحمل الحجّة عليه بالمعنى المعهود المراد منها كلّما يطلق في باب الأدلّة عند الاصوليين ؛ فانّه ليس الوسط بقول

__________________

مطلقا طريقيا كان أو موضوعيّا ، أمّا الأوّل فلعدم جواز وقوعه وسطا في الشكل الأوّل مطلقا.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا يمكن كونه وسطا لإثبات متعلّقه حتى يمكن إطلاق الحجة عليه في باب الأقيسة.

وبالجملة : القطع الطريقي لا يمكن إطلاق الحجة عليه إلاّ بالمعنى الأوّل اللغوي والقطع الموضوعي لا يكون حجة إلاّ في الإصطلاح المنطقي والبيّنة وأمثالها حجة في باب الأدلّة فقط ، والظواهر يطلق عليها الحجّة بكلا الإصطلاحين بإعتبارين. إنتهى. أجود التقريرات : ج ٣ / ١٤ ـ ١٦.

٤٣

مطلق ، بل قسم منه وهو الوسط لاثبات حكم متعلّقه وان لم يثبت لهم اصطلاح فيها.

وهذا الّذي ذكرنا تبعا لما أفاده قدس‌سره لا ينافي ما قضى به ضرورة العقل وتسالم عليه الكلّ : من انّ الأكبر في الشكل الأوّل لا بدّ ان يكون محمولا للاوسط حتى ينتج الشكل ، فلا يعقل ان يكون الشيء وسطا لما هو غير محمول عليه ، بل محمول على غيره ؛ لانّه لا يقصد ممّا يكون وسطا لاثبات حكم متعلّقه ولا يترتّب هذا المعنى عليه في مورد إنطباقه على الجزئيات وهو محمول عليه لا محالة ؛ فانّه إذا قامت البيّنة مثلا على خمرية مايع يقال : « هذا ممّا قامت البيّنة على خمريّته وكلّما قامت البيّنة عليه يجب البناء على كونه واقعا » ويترتّب جميع أحكام الواقع عليه وان لم يكن كذلك في الواقع ، فيحصل من هذين وجوب ترتيب جميع أحكام الخمر على المايع المفروض ، وان كان الحكم المزبور ظاهريا على ما عرفت الكلام فيه ، فلا يترتّب على مورد قيام البيّنة في الجزئيات إلاّ ما هو المحمول لها في كبرى القياس ، هذا.

فإن شئت قلت : انّ الحجّة في باب الأدلّة ما يحمل عليه وجوب ترتيب جميع احكام متعلّقه عند وجوده في مرحلة الظاهر ، وهذا المعنى لا يتحقّق فيما كان للعلم مدخل في موضوع الحكم الشرعي كما هو واضح فتأمّل حتى لا يختلط عليك مرامه قدس‌سره في المقام فتكون ممّن يورد عليه من غير وقوف على المراد رجما بالغيب كما هو متعارف محصّلي زماننا.

٤٤

(٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ ما كان منه طريقا لا يفرق فيه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١ )

في بيان الفرق بين القطعين ـ الطريقي والموضوعي ـ بحسب اللازم

أقول : بعد الاشارة إلى القسمين للقطع أراد التنبيه على ما يترتب عليهما والايماء إلى لوازمهما وما ذكره أوّلا من اللاّزم للقطع الطريقي قد اتضح أمره وارتفع القناع عن وجهه بما عرفت : من كون إعتبار القطع ذاتيا لا يعقل تخلّفه عنه ، فانّ الذّات موجودة في جميع مراتب الخصوصيات ، كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من اللاّزم للقطع الموضوعي ممّا يرتفع القناع عنه بالتأمّل في معنى أخذه في الموضوع ؛ فانّ تعميم موضوع الحكم وتخصيصه انّما هو راجع إلى الحاكم وان كان حكمه بكلّ من الوجهين مبنيّا على الجهات الواقعية المقتضية لتعميم الحاكم أو تخصيصه إذا كان حكيما.

ثمّ أنّه لما كان مجرّد الامكان غير قاض بوقوع أحد طرفي الممكن ، بل يكون اقتضاؤه له بحسب ذاته محالا ، وإلاّ خرج عن الممكن إلى الواجب أو الممتنع فلا محالة يتوقّف الحكم بوقوع أحد الطّرفين على كاشف عنه وهو في المقام الدليل الشرعي بقول مطلق ، وان كان مجموع ما دلّ على أخذ العلم في الموضوع وما يكشف عن حاله عموما أو خصوصا ، فمراده قدس‌سره من دليل ذلك الحكم ، هذا الّذي عرفته فهذا ممّا لا غبار عليه.

نعم ، قد يناقش في المثال الأوّل الذي ذكره للشق الأوّل من دلالة الدليل وان لم يكن من دأب المحصّلين في سالف الزمان ؛ حيث ان الظاهر من سياق كلامه أنّه ليس فرضيّا ومبنيّا على قول بعض كالمثال الثاني ، بل مطلب واقعي قرع

٤٥

سمع كلّ أحد ؛ حيث انّه اشتهر : انّ وجوب الاطاعة وحرمة المعصية في حكم العقل تابع للعلم بالحكم.

مع انّ الأمر ليس كما أفاده قدس‌سره فانّ هذه القضية إنّما استفيدت من استقلال العقل بقبح المؤاخذة على مخالفة الاحكام الواقعيّة من غير طريق للمكلّف اليها من غير فرق بين العلم وغيره من الطرق المعتبرة.

ومن هنا تكون جميع الطرق المعتبرة واردة على البراءة العقليّة هذا ، مع انّ المسلّم عنده وعند المشهور حكم العقل بتجويز المؤاخذة على الاحكام المجهولة مع التقصير بترك الفحص. اللهم إلاّ أن يقال : انّ المراد من المطلوبية والمبغوضيّة هو الأعم من الواقعي والظاهري ـ فتأمّل ـ فيندفع الاشكال الأوّل ويبقى الاشكال الأخير بحاله إلاّ أن يحمل كلامه على المهملة وفي حق القاصر. فتأمّل.

وقد يقال : أنّ الاولى التمثيل بجميع الاحكام العقلية في موارد التحسين والتقبيح ؛ فانّها لاحقة للموضوعات المعلومة كما هو شأن الحكم إذا لوحظ بالنّسبة إلى الحاكم وان كان غير العقل وستقف على تفصيل القول في هذا إنشاء الله تعالى.

وأمّا المثال الثاني ، فمبنّي على ما ذهب اليه بعض أصحابنا الاخباريّين من انّ النجاسة في النجاسات تابعة للعنوانات المعلومة لا الواقع ، وهو وإن كان ضعيفا قولا ودليلا ، بل قائلا من حيث طعنه على الفحول ورؤساء المذهب ، إلاّ أنّه يصحّ مثالا للشرعيّات بناء على قوله كما هو واضح ، فهذا المثال كالمثالين الأوّلين للشق الثاني في ابتنائه على مذهب الغير وان كان انطباق المثال الأوّل منهما على المقام من العلم الموضوعي محتاجا الى بيان ستقف عليه إنشاء الله تعالى.

نعم ، الأمثلة المذكورة بعدهما بالنّسبة الى حكم غير القاطع ليست أمثلة

٤٦

للمقام أصلا ، ومن هنا قال قدس‌سره : « وأمثلة ذلك بالنّسبة إلى حكم ... إلى آخره » (١) مشيرا إلى ما ذكرنا ؛ ضرورة أن البحث في حكم القطع بالنّسبة إلى القاطع كما هو الظاهر ، وان كانت أمثلة للقطع المضوعي ، بقول مطلق هذا.

مع أنّه قد يناقش في غير المثال الأخير : بانّ المتبع في حق العامي رأي المجتهد وترجيحه وان كان ظنيّا كما هو المتبع في حق نفسه فلا يكون الحكم معلقا على عنوان العلم. فتدبّر ، ولكنّ الخطب في ذلك كلّه سهل بعد وضوح المطلب ؛ لأنّ المثال غير عزيز والمناقشة فيه ليس من دأب المحصّلين.

(٨) قوله قدس‌سره : ( ثمّ من خواص القطع الذي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣ )

في بيان قيام الامارات وبعض الاصول مقام القطع الطريقي

أقول : هذا فرق آخر بين القسمين من القطع بحسب الخواص والآثار ، ولا إشكال فيما أفاده في القطع الطريقي من قيام الامارات المعتبرة وبعض الاصول ـ ممّا كان مفاده ترتيب الآثار كالاستصحاب والتخيير على تأمّل فيه ، لا مثل البراءة العقلية المقتضية لمجرّد نفي المؤاخذة والاحتياط المقتضى للاجتناب أو الارتكاب في مورد الاحتمال من باب الارشاد لدفع الضّرر المحتمل ـ مقام القطع عند تعذّره أو فقده بالنظر إلى أصل دليل اعتبار الامارة والاصل المذكور ؛ فانّ مفاده تنزيل موردي الامارة والاصل منزلة الواقع وترتيب جميع آثاره عليهما وإن إفترقا في الجملة من حيث التعميم والتخصيص في الآثار بما ستقف عليه في محله انشاء الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٣.

٤٧

والمفروض انّ الموضوع للآثار نفس الواقع من غير مدخليّة للقطع فيه أصلا ، فإن شئت قلت : انّ الحكم إذا كان مترتبا على الواقع جاز الرجوع إلى الأمارات والاصول بقول مطلق عند فقد العلم به ؛ لأنّ موضوع الأمارات والاصول عدم العلم بالحكم الواقعي وان افترقا من وجه آخر ستقف عليه في محله إنشاء الله تعالى من غير فرق في ذلك بين أقسام الاصول وما كان لسانه ترتيب الآثار وغيره ؛ لأنّ المراد من القيام مقام العلم الرجوع اليه عند فقده ، لا المعاملة معه معاملة العلم.

ومن هنا كانت النسخة في ابتداء الأمر ( قامت الأمارات والاصول ) من غير ذكر ( البعض ) فاهماله أولى من ذكره ، فانّه يكون مبنيّا على ما يترائى في بادي النظر من لفظ القيام مقامه وبعد أدنى تأمّل يظهر كون المراد الرجوع إلى الأصل عند فقد العلم فتعيّن تركه.

وانّما الاشكال فيما أفاده في القسم الثاني من القطع ؛ فانّه قد يستشكل عليه :

تارة : بسؤال الفرق بين القسمين من القطع الموضوعي في قيام الامارات والاصول ؛ فانّ بعد أخذ القطع في موضوع الحكم كما هو المفروض يرتفع موضوع الحكم قطعا عند فقدان القطع ، فلا معنى لاعتبار الأمارة بالمعنى الذي تقدّم وان كان أخذه في الموضوع بلحاظ الطريقيّة ؛ فانّ هذا اللّحاظ لا يوجب انقلاب الواقع.

وأخرى : بسؤال الفرق بين أصل دليل اعتبار الامارة والاصل والدليل الخاص الخارجي في الثاني من قسمي القطع الموضوعي ؛ فانّ أخذ العلم من

٤٨

حيث كونه علما ووصفا إن كان مانعا من قيام الامارات والاصول من حيث إرتفاع الموضوع بانتفاء القطع وعدم ترتيب الأثر على الواقع فلا معنى للفرق بين أقسام الدليل ؛ لأنّ الدليل الخاص الخارجي لا يجعل غير المعقول معقولا ، وان لم يكن مانعا فلا فرق أيضا هذا.

ويجاب عن السؤال الأوّل بوجوه :

منها : أنّ معنى أخذ العلم في الموضوع بلحاظ الطريقيّة بحيث لا تعلّق له في حسن الفعل وقبحه كون الحكم في الحقيقة عارضا في القضيّة المعقولة اللبيّة لنفس الواقع وذي الطريق باللّحاظ التجريدي وإن كان ملحوظا جزءا للموضوع في القضيّة الملفوظة الكاشفة عنها فإذن لا معنى لمنع قيام الأمارة مقامه فتأمّل.

ومنها : أنّ مفاد أدلّة الأمارات مثلا تنزيل الأمارة منزلة القطع فيما كان مترتّبا عليه بلحاظ الطريقيّة لا مطلقا ، لا تنزيل موردها منزله الواقع ، فافترق القسمان من القطع الموضوعي على هذا وظهر وجه قيام الأمارة مقامه في الأوّل دون الثاني.

وهذا مع عدم إستقامته في نفسه ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه إنشاء الله تعالى ـ يوجب الحكم بعدم قيام الإمارة مقام القطع في الطريقي منه وهو كما ترى.

والقول : بأنّ مفاد دليل الأمارة تنزيل الظن منزلة القطع فيما يعامل معه من حيث طريقيّته سواء كان طريقا محضا أو موضوعا بلحاظ الطريقيّة ، كما ترى ؛ فانّ تنزيل الشارع إنّما يفيد في الآثار المجعولة لا غيرها وإعتبار العلم فيما كان طريقا من حيث ترتيب الحكم على متعلقه من لوازم ذاته كما عرفته مرارا ، مع أنّ ما ذكر

٤٩

ممّا لا يساعد عليه دليل الأمارة جدّا.

ومنها : أنّ ما أفاده قدس‌سره في القسم الأوّل من الموضوعي يرجع إلى عدم كونه مأخوذا في الموضوع فيرجع إلى القسم الأوّل ؛ فانّك قد عرفت فيما سبق : انّه يصحّ أن يقال فيما لو كان الحكم معلّقا على نفس الواقع من حيث : هو أنّ المعلوم كذا من حيث انطباقه على الواقع من غير أن يكون له دخل في الموضوع وعروض الحكم عليه ، فليس للقطع المأخوذ في الموضوع واقعا المقابل للقسم الأوّل قسمان واقعا وإنّما ينقسم ما كان مأخوذا في الموضوع في ظاهر الدليل بين ما يرجع الى القطع الطريقي وبين ما يرجع إلى القطع الموضوعي.

وبعبارة أخرى : المراد بعد الفراغ عن تقسيم القطع إلى قسمين غير منقسمين واقعا ، أنّ الدليل الذي يظهر منه في بادي النظر كون القطع مأخوذا في الموضوع قد يظهر عند التأمّل ولو باعانة الدليل الخارجي عدم كون المراد منه ظاهره ، بل خلافه كقوله تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ )(١) الآية.

فإنّ الظاهر منه كون التبيّن مأخوذا في موضوع الحكم وهو الذي يظهر أيضا من بعض الاخبار إلاّ أنّ مقتضى التأمّل بالنظر إلى كثير من الأخبار ، وكلمات الاصحاب خلافه ، ومن هنا حكموا من غير إشكال بالرجوع إلى إستصحاب الليل عند الشك في الطلوع مطلقا.

نعم ، الحكم بسقوط القضاء عندهم بعد انكشاف الخلاف موقوف على الفحص في الرجوع إلى الاستصحاب ، وهذا حكم على خلاف القواعد ؛ لمساعدة

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٥٠

النص الخاصّ ولا تعلق له بما هو المقصود من الرجوع إلى الاستصحاب.

وقد لا يظهر الخلاف فيقضي بمقتضى الظاهر في الثاني ما لم ينكشف الخلاف بخلافه في الأوّل ، وأين هذا الذي يرجع إلى تشخيص الصغرى من حديث أصل تقسيم القطع؟ وهذا هو الظاهر من قوله : « فان ظهر ... إلى آخره » (١) في موضعين ، وقوله قدس‌سره ـ في بعض النسخ الموجودة عندي بعد الفراغ عن حكم الشق الأوّل من القطع الموضوعي ـ : ويظهر ذلك إمّا بحكم العقل بكون العلم طريقا محضا ، وإمّا بوجود الأدلة الأخر على كون هذا الحكم المنوط بالعلم ظاهرا متعلقا واقعا على نفس المعلوم كما في غالب الموارد.

وكيف كان : لا اشكال في انّ الظاهر من كلامه ، بل صريحه بعد التأمّل هذا الوجه وعليه فلا أثر للسؤال المزبور أصلا.

وأمّا الوجه الثاني فقد عرفت ما فيه مع عدم مساعدة كلامه عليه. وأمّا الوجه الأوّل فممّا لا معنى له أصلا إن لم يرجع إلى الوجه الأخير هذا.

في بيان الجواب عن السؤال الثاني

ويجاب عن السؤال الثاني تارة : بما هو مبني على الوجه الأخير في الجواب عن السؤال الأوّل. وأخرى : بما ليس مبنيّا عليه.

أمّا الأوّل : فبأن يقال : أنّ الفرق بين الدليلين ـ بعد ظهور دليل أخذ العلم في الموضوعية وعدم صارف عنه ـ أنّ أصل عمومات أدلّة الأمارات والاصول ليست

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٣.

٥١

ناظرة اليه ؛ فانّها في مقام تنزيل موارد الأمارات منزلة الواقع ، بل يكون الدليل المزبور حاكما عليها ناطقا بأنّ الموضوع الفلاني ليس الحكم فيه مترتّبا على الواقع من حيث هو ، وهذا بخلاف الدليل الخاصّ الخارجي ؛ فانّه لا معنى له إلاّ بجعله صارفا عن ظاهر دليل أخذ العلم في الموضوع وبعد ذلك نحكم بقيام جميع الأمارات مقام العلم وان كان الدليل المفروض مختصّا ببعضها والوجه فيه ظاهر.

وأمّا الثاني : فبأن يقال : أنّ مفاد الدليل الخاص ليس حجيّة الأمارة وأعتبارها طريقا ، بل تنزيل وصف وموضوع منزلة وصف آخر ولو لم يكن ظاهرا في هذا المعنى فلا بدّ من أن يحمل عليه تصحيحا للكلام ، وهذا بخلاف الدليل العام ؛ فانّه ظاهر في الحكم بحجيّة الأمارات ولا صارف لها ، ومقتضى هذا الوجه كما ترى الاقتصار في الحكم بالقيام على الأمارة وردّ الدليل الخاص فيها.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرنا تعلم أنّ الأوجه منهما الأوّل ، بل هو الوجه. وأمّا الثاني : فمع بعده جدّا عن مساق كلامه الظاهر في الوجه الأخير ، فاسد جدا ، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

(٩) قوله قدس‌سره : ( كما إذا فرضنا أنّ الشارع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤ )

أقول : وهو الظاهر في باديء النظر من بعض الاخبار الظاهرة في إناطة غرض الشارع فيها بالحفظ ، وإن لم ينحصر دليل القائل من القدماء بعدم إعتبار الظّن فيها به كما يظهر لمن راجع الفقه.

وأمّا أصالة عدم الزائد المقتضية للبناء على الأقل فلم يقل بها أحد من الإماميّة عند الشك في عدد الرّكعات حتى في الأخيرتين من الرباعية ، فلو أبدل بأصالة البناء على الأكثر المستفادة من الروايات مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا أجمع لك

٥٢

السهو كلّه في كلمتين؟ متى شككت فابن على الأكثر » (١) لم يتوجّه عليه شيء فتأمّل (٢).

وإن كان الخروج عنها في الثّنائية والثّلاثية والأوليين من الرباعيّة من جهة الاخبار الخاصة ، إلاّ أنّ ما ذكر يصلح وجها أيضا ولكنّ الخطب في ذلك هيّن بعد ابتنائه على التمثيل.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( ومن هذا الباب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤ )

أقول : والوجه فيه ما ورد في بعض أخبار الشهادة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن الشهادة : « هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد وإلاّ (٣) فدع » (٤) وقول الصادق عليه‌السلام في خبر عليّ بن غياث « لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (٥) إلى غير ذلك من الرّوايات ؛ فانّ ظاهره اعتبار وصف العلم في

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٣٤٠ ـ ح ٩٩٢ باب أحكام السهو ـ باختلاف يسير ، عنه الوسائل : ج ٨ / ٢١٢ باب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ ح ١.

(٢) وجه التأمّل : انّه يمكن الرجوع الى اصالة عدم الزائد على مذهب الاماميّة في باب الشك في الركعات بالتقريب الذي ذكره بعض أفاضل المتأخرين في بيان دلالة بعض أخبار الاستصحاب عليه وعلى وجوب البناء على الأكثر كما ستقف على تفصيل الكلام فيه في محله وهذا وان كان منظورا فيه عندنا إلاّ أنّ المقصود بيان امكان الرجوع إلى الاصل المذكور على مذهب الخاصة أيضا. منه دام ظلّه العالي.

(٣) وفي المصدر : فاشهد أو دع.

(٤) الشرائع للمحقق : ج ٤ / ١٣٢ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٣٤٢ ـ ح ٣ ، والحديث عامي ، أنظر نصب الراية للزيلعي : ج ٥ / ٨٢ ، وكنز العمّال : ج ٧ / ٢٣ ـ ح ١٧٧٨٢.

(٥) أورده المشائخ الثلاثة إلاّ ان في الفقيه : عن عليّ بن غراب. انظر الكافي : ج ٧ / ٣٨٣ باب :

٥٣

المشهود به في جواز اداء الشهادة.

ومن هنا ذهب بعض الى عدم جواز الشهادة عند فقده وان كان خلاف المشهور ولا ينافي ذلك كون غيره من أحكام الملك مترتبا على الواقع بالنظر إلى أدلّتها كقوله : « لا يحلّ مال امرىء لامرىء إلاّ بطيب نفسه » (١) وغيره ، فكم من مثل هذا التفكيك بين الحكمين بالنظر إلى العلم فلا تنافي بين كون الاستناد إلى العلم في مقام ترتيب آثار الملك وعمل نفس الشاهد من باب الطريقيّة المحضة وبين كونه مأخوذا في الموضوع في مقام أداء الشهادة. فافهم وتدبّر حتّى لا يختلط عليك الأمر في متعلّق الظرف في قوله قدس‌سره : « في مقام العمل » (٢).

(١١) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يثبت من الخارج ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤ )

أقول : لا يلزم ان يكون مفاد الدليل الخارجي الكلية التي ذكرها قدس‌سره وإن كان لازم ما ورد في الأمارة الخاصّة بعد كشفه عن تعلّق جواز الشهادة بالواقع ، التعميم على ما نبّهناك عليه.

__________________

الرجل ينسى الشهادة ويعرف خطه بالشهادة ـ ح ٣ ، والفقيه : ج ٣ / ٧٢ ـ ح ٣٣٥٩ ، والتهذيب : ج ٦ / ٢٥٩ ـ ح ٦٨٢ ، وكذا الإستبصار : ج ٣ / ٢٢ ـ ح ٦٥ ، عنها الوسائل : ج ٢٧ / ٣٤١ باب ٢٠ من أبواب كتاب الشهادات « انه لا تجوز الشهادة إلاّ بعلم » ـ ح ١.

(١) لم نجده بهذا التعبير في الجوامع الحديثية المعتبرة والموجود في الكافي ج ٧ / ٢٧٥ ـ ح ٥ : لا يحل دم امرىء مسلم ولا ماله إلاّ بطيب نفسه ... ومثله في الفقيه ج ٤ / ٩٣ ـ ح ٥١٥١ ، أورده الحر في الوسائل : ج ٢٩ / ١٠ ـ ح ٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤.

٥٤

(١٢) قوله : ( كما يظهر من رواية الحفص الواردة في جواز الاستناد .. إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤ )

أقول : الرّواية مذكورة في أكثر كتب الاخبار والفتاوى وهي من الروايات المشهورة رواها حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل ، أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم ، قال الرجل : اشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعله لغيره من أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك.

ثمّ تقول ـ بعد ذلك ـ : الملك لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله اليك ، ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق » (١).

وقد يدّعى دلالة بعض الروايات الأخر عليه أيضا ، ولكنّا لم نتحقّقها ودلالة الرواية على جواز الاستناد إلى اليد في الشهادة ممّا لاخفاء فيها ، بل دلالتها على جواز الاستناد في الشهادة إلى كلّ ما يجوز الاستناد اليه في مقام العمل كما ادّعاه ( دام ظلّه ) في ظاهر كلامه ظاهرة ؛ حيث انّ ظاهر قوله : « من أين جاز لك ... » الحديث ، ثبوت التلازم بين ترتيب أحكام الملك بمقتضى الأمارة الشرعية وجواز الشهادة من غير اختصاص ذلك باليد وإن وقعت موردا للسؤال. فتأمّل.

نعم ، هنا إشكال في فهم ما استند اليه الإمام عليه‌السلام من التلازم بين المطلبين ـ

__________________

(١) الكافي : ج ٧ / ٣٨٧ ـ ح ١ ، والفقيه : ج ٣ / ٥١ ـ ح ٣٣٠٧ ، والتهذيب : ٦ / ٢٦١ ـ ح ٦٩٥ ـ ١٠٠ ، والوسائل : ج ٢٧ / ٢٩٢ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى باب ٢٥ ـ ح ٢.

٥٥

أي : جواز الشراء والحلف على أنّه ملك المشتري والشهادة على أنّه ملك البايع ـ من حيث أنّه لا يشترط في الأوّل ملكيّة البايع ، بل يكفي صحّة تصرفه وجواز بيعه ولو بالولاية والوكالة فلا يلازم الأوّل الثاني.

والقول : بأنّ استدلال الإمام عليه‌السلام يكشف عن كون اليد دليلا على الملك وممّا يجوز استناد الشهادة اليها ، فاسد ظاهرا ؛ من حيث إبائه عن إستدلال الإمام عليه‌السلام ؛ فانّه انّما استدل بأمر كان مفروغا عنه عند السائل حسبما هو قضية ظاهر الاستدلال في جميع المقامات.

وهنا إشكال آخر على الرواية أيضا وهو : أنّ اختلال السوق انّما يلزم من عدم الحكم بالملكيّة على تقدير تسليمه وعدم القدح فيه بما عرفته لا من عدم الشهادة بالملكية هذا.

وعلى كل تقدير لا يقدح عدم فهم كلامهم في الاستدلال بالرواية فيما هو الظاهر منه من اعتبار اليد وجواز الاستناد اليها في الشهادة في الجملة ، وان شئت شرح الكلام في ذلك فراجع الى ما كتبناه في القضاء (١).

(١٣) قوله : ( وممّا ذكرناه يظهر انّه لو نذر أن يتصدّق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّ اطلاق القول بعدم قيام الاستصحاب مقام القطع في المثال ممّا ليس في محلّه ، بل ينبغي أن يفصّل في الحكم بعدم القيام بين أن يكون أخذ اليقين في الحياة على الوجه الأوّل أو على الوجه الثاني فيحكم به في الثاني دون الأوّل. لكنّه كما ترى ، بمكان من الضعف والسقوط.

__________________

(١) كتاب القضاء للآشتياني : ج ٢ / ١٠٦٣.

٥٦

كالإيراد عليه : بأنّ استصحاب الحياة إنّما يجدي بالنّسبة إلى الاحكام الشرعية المترتبة عليها لا بالنّسبة إلى حكم النذر المتعلّق بها ونحوه ممّا يكون موضوع الحكم الشرعي فيه الأمر العادي ابتداء كالوفاء والالتزام ونحوهما ؛ فانّ وجوب إعطاء الدرهم من حيث أنّه وفاء بالنذر لا يثبت إلاّ باثبات كونه وفاء فلا يجدي الأصل ، فانّ هذا كما ترى أشدّ ضعفا ؛ فانّ معنى استصحاب الموضوع للحكم الشرعي ليس استصحاب ما هو تمام الموضوع ، كيف؟ والحكم الشرعي إنّما يتعلق دائما بفعل المكلّف وان كان له تعلّق بالموضوعات الخارجية ، ولازم ما ذكر عدم جريان الاستصحاب في جميع الموضوعات الخارجية.

(١٤) قوله : ( ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا في كون القطع ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٥ )

في بيان أن طريقيّة الظن وموضوعيته إنّما هو بالنسبة

إلى الحكم الواقعي

وأمّا بالنسبة إلى الظاهري يكون موضوعا دائما

أقول : هذا الذي ذكره ممّا لا ينبغي أن يعتريه ريب ولا إشكال ، ولكن لا بدّ من أن يعلم أنّ طريقيّة الظن إنّما يتصور بالنّسبة إلى الحكم الواقعي ، المعلّق على الموضوع الواقعي ، كما أنّ المراد بموضوعيّته في مقابل طريقيّته إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي بمعنى كون الحكم الواقعي تابعا للموضوع المظنون ، كما أنّ المراد من موضوعية العلم كان ذلك.

__________________

(١) وانظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٤٨ ـ تعليقة رقم ١٥.

٥٧

وأمّا بالنّسبة إلى الحكم الظاهري المستفاد من أدلّة أعتباره فهو موضوع دائما ؛ إذ من المستحيل عقلا صيرورة الظن طريقا بالنّسبة إلى الحكم الظاهري وتوضيح ما ذكرناه وتحقيقه على وجه يرتفع القناع عن وجه المرام متوقف على بيان المراد من الحكم الواقعي بقول مطلق والظاهري.

المراد من الحكم الواقعي والظاهري

فنقول : أمّا الحكم الواقعي فهو الحكم المجعول للموضوعات بالجعل الأوّلي الابتدائي سواء كان المعروض له الأمر النفس الامري أو هو من حيث تعلّق العلم أو الظن أو الشك به أو ما ينطبق على الظن والشّك كالخوف مثلا من غير فرق في ذلك بين أخذ بعض الحالات فيه كالحضر والسفر والاختيار والاضطرار ونحوها وعدمه.

وأمّا الحكم الظاهري فهو الحكم المجعول للشيء بالجعل الثانوي. أي : من حيث الجهل بحكمه الأولي وإن كان لتردّد موضوعه سواء كان من حيث الظن بحكمه الأولي ولو نوعا ، أو من حيث عدم العلم والشك فيه ، أو ما ينطبق عليه في الجملة ، كاحتمال العقاب والتحيّر وعدم بيان التكليف.

فان كان المأخوذ فيه عدم العلم أو ما ينطبق عليه يسمى أصلا عمليا ودليلا فقاهتيّا. وإن كان المأخوذ فيه الظن يسمّى طريقا ودليلا إجتهاديّا من حيث كونه حاكيا عن الواقع وكاشفا عنه ، وهذا بخلاف الأوّل ؛ فانّ الحاصل منه مجرّد القطع بالحكم الظاهري في مقام العمل بعد العجز عن تحصيل الظن المعتبر بالحكم الواقعي ، فكلّ من الاصل ومفاد دليل إعتبار الأمارة وإن كان حكما ظاهريّا ، إلاّ

٥٨

أنّ المأخوذ في أحدهما الظن ولو نوعا ، والآخر الشك الذي هو عبارة عن خلاف اليقين.

فللحكم الظاهري إطلاقان :

أحدهما : ما كان مجعولا في حقّ غير العالم سواء كان شاكا في الحكم ، أو الموضوع ، أو ظانا بأحدهما ، أو بخلافهما ، أو بشرط الأوّل خاصة ، أو بشرط عدم الاخير من الثاني وهذا يسمى بالاصل.

ثانيهما : ما كان مجعولا في حق الظان بأحدهما شخصيا ، أو نوعيّا مطلقا ، أو مقيّدا بعدم قيام الظن الشخصي على الخلاف ، فيرجع هذا إلى اعتبار الظّن المذكور ويسمى بالدليل الاجتهادي من غير فرق بين ما دل على اعتباره من العقل والنقل من الكتاب والسنة والإجماع هذا.

ومنه يظهر أنّ إطلاق الحكم الظاهري على مؤدّى الأمارة إنّما هو بملاحظة دليل اعتبارها وإلاّ فليس حكما أصلا.

وقد يقال ـ في بيان الفرق بينهما ـ : أنّ الأصل ما كان مجعولا في حق الجاهل بمعنى كون الشك مأخوذا في موضوع دليله فهذا أحد الاطلاقين للحكم الظاهري ، والآخر ما كان مجعولا في حقّ الجاهل أي في حال الجهل ، وقد يجتمعان في اطلاق واحد ، ويقال : انّ الحكم الظاهري ما كان مجعولا في حقّ غير العالم سواء كان لا بشرط أو بشرط الظن فتأمّل.

وقد يقال ـ في تفسير الحكم الواقعي ـ : أنّه ما كان مجعولا للموضوعات الواقعيّة من حيث واقعيتها من غير مدخليّة للعلم والجهل فيها ، فيتعلّق به العلم

٥٩

والجهل ويحكي عنه الأمارات.

والحكم الظاهري : ما كان مجعولا في حق غير العالم. وهذا هو المستفاد من كلام بعض المحققين من المتأخرين ومن بعض كلمات شيخنا الاستاذ العلاّمة قدس‌سره وإن كان المستفاد من سايرها ما ذكرنا.

وهذا كما ترى لا بدّ من أن يحمل على الغالب ، وإلاّ فلا بدّ من القول بثبوت الواسطة بين الحكم الظاهري والواقعي ؛ فان ما كان العلم والظن مأخوذين في موضوعه خارج عنهما كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لبعض الافاضل ممّن عاصرناه أو قارب عصرنا كلاما في بيان الحكم الواقعي والظاهري سيأتي التعرض له ولما فيه بعد هذا.

ثمّ إنّ لبعض الافاضل ممّن عاصرناه أو قارب عصرنا كلاما في بيان الحكم الواقعي والظاهري سيأتي التعرض له ولما فيه بعد هذا.

ثمّ إنّ كلاّ من الحكم الواقعي والظاهري قد يكون شأنيّا معلّقا على أقوى الوجهين في الأخير في الجملة ، وقد يكون فعليّا منجزا لا بمعنى أنّ الموجود في الخارج من الشارع والصادر منه إنشاءان وحكمان : أحدهما شأنيّ والآخر فعليّ ، بل بمعنى : ان الانشاء الواحد الصّادر منه قد يتّصف بالشانية ، وقد يتّصف بالفعلية باعتبار حكم العقل بقبح المؤاخذة على مخالفته وعدم وجوب إطاعته ، وحسن المؤاخذة على مخالفته ووجوب اطاعته ، فالشانية والفعلية وصفان واعتباران للحكم المنشأ يعرضانه بملاحظة حكم العقل الناشيء من ملاحظة مرتبة الحكم.

فقد يكون في مرتبة لا يحكم العقل بوجوب اطاعته كما في موارد أصالة البراءة ، حيث انّ العقل مستقل بقبح المؤاخذة على الحكم الذي لم يكن هناك طريق للمكلّف اليه.

٦٠