بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

جبرئيل يوصيني بالسواك حتّى خفت أن أدرد أو أحفر وما زال يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورث وما زال يوصيني بالمرأة حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها وما زال يوصيني بالمملوك حتّى ظننت أنّه سيضرب له أجلا يعتق فيه ) (١) ومثل قول جبرئيل للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين فرغ من غزوة الخندق : ( يا محمّد إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن لا تصلّي العصر إلاّ ببني قريظة ) (٢) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أمرني بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض ) (٣) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نكلّم النّاس إلاّ بمقدار عقولهم ) (٤) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ جبرئيل أتاني من قبل ربّي يأمرني بما قرّت به عيني وفرح به صدري وقلبي ، قال : إنّ الله تعالى يقول : إنّ عليا أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين ) (٥) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( نزل عليّ جبرئيل فقال : يا محمّد إنّ الله تبارك وتعالى قد زوّج فاطمة عليّا من فوق عرشه وأشهد على ذلك خيار ملائكته ، فزوّجها منه في الأرض ، وأشهد على ذلك خيار أمّتك ) (٦).

ومثل هذا كثير ، كلّه وحي ليس بقرآن ، ولو كان قرآنا لكان مقرونا به

__________________

باختلاف يسير.

(١) أمالي الصدوق : ٣٤٩ ، المجلس : ٦٦ ـ ح ١.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ / ١٨٩ ، عنه بحار الأنوار : ج ٢٠ / ٢٣٣.

(٣) الكافي : ج ٢ / ٩٦ باب المداراة ـ ح ٤.

(٤) الكافي : ج ١ / ٢٣ كتاب العقل والجهل ـ ح ١٥ وفيه : أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.

(٥) اعتقادات للصدوق : ٨٦.

(٦) نفس المصدر : ٨٦.

٤٦١

موصولا إليه غير مفصول عنه ، كما أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام جمعه فلمّا جاءهم به قال : هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف. فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف وهو يقول : ( فَنَبَذُوهُ )(١) الآية ». انتهى كلامه قدس‌سره (٢).

وقوله : ( قد نزل من الوحي ... إلى آخره ) إشارة إلى ما رواه الكليني قدس‌سره وغيره : ( إنّ القرآن الّذي جاء به جبرئيل سبع عشرة ألف آية ) (٣) مع أنّ الموجود منه على المعروف ستّة آلاف آية ومائتا آية وستّ وثلاثون آية ، فحملوا القرآن في هذا الخبر على تمام ما أوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء كان ممّا أريد بألفاظه الإعجاز أو لا (٤).

وقال قدّس الله نفسه الزّكيّة قبل ذلك : « اعتقادنا أنّ القرآن الّذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفتين ليس أكثر من ذلك ومن نسب إلينا بالقول بأنّه أكثر من ذلك فهو كاذب (٥) ». انتهى كلامه رفع مقامه

وأمّا المفيد قدس‌سره ، وإن كان كلامه المحكيّ أوّلا عن « المسائل السّرية » ربّما يستظهر منه : وقوع التّغيير فيما نزل إعجازا ، إلاّ أنّ كلامه أخيرا صريح في حمل ما ورد في هذا الباب على التّغيير من حيث التّأويل والتّنزيل والتّفسير ، ناسبا له إلى

__________________

(١) البقرة : ١٠١.

(٢) اعتقادات الصدوق : ٨٤.

(٣) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٤ باب النوادر ح ٢٨ والحديث برقم ٣٥٨٣ ص ٦٢٥ ط دار الأسوة.

(٤) وفيه من النظر ما لا يخفى كما هو واضح.

(٥) اعتقادات الصدوق : ٨٤.

٤٦٢

جماعة من أهل الإمامة ؛ حيث قال علي ما حكي عنه :

« وقال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة لكن حذف ما كان مثبتا في صحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك كان ثابتا منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآنا. قال الله تعالى : ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً )(١) فسمّى تأويل القرآن قرآنا. وهذا ما ليس فيه بين أهل التّفسير اختلاف (٢) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

كلام السيد الكاظمي في شرحه على الوافية

وقال السيّد الشارح للوافية في شرحه ما هذا لفظه المحكيّ :

« وما جمعه أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنّما كان للذّب عن مناصبهم الّتي ابتزّوها منه والسّتر على فضائحهم الّتي عرفوها فيه ، فقد جاء أنّهم قالوا له : دعه. وقال : إن قتلتموه فاقتلوني معه فإنّ فيه حقّنا ووجوب طاعتنا. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثّقلين لن يفترقا. فقال له الثّاني : لا حاجة لنا به خذه معك كيلا يفارقك ، فإنّهم لمّا فتحوه وجدوا فيه فضائح القوم وأسماء المنافقين وأعداء الدّين ، وأسرّوا النّجوى إن قد جاءكم بما فيه فضائح المهاجرين والأنصار ، فردّوه وأبوا أن يأخذوه وذلك لما اشتمل عليه من التّأويل والتّفسير. وقد كان عادة منهم أن يكتبوا

__________________

(١) طه : ١١٤.

(٢) أوائل المقالات للشيخ المفيد : ٨١.

٤٦٣

التّأويل مع التّنزيل إلاّ أنّ ذلك كلّه كان في التّنزيل.

والذي يدلّ على ذلك قوله عليه‌السلام في جواب زنديق : ( ولقد جئتكم بالكتاب كملا مشتملا على التّأويل والتّنزيل والمحكم والمتشابه والنّاسخ والمنسوخ ) فإنّه صريح في أنّ الّذي جاءهم به ليس تنزيلا كلّه. ويؤيده : ما اشتهر أنّ الّذي جاءهم به كان مشتملا على جميع ما يحتاج إليه النّاس حتّى أرش الخدش. ومن المعلوم : أنّ صريح القرآن غير مشتمل على ذلك وكلّه وأيّ غرض يدعوهم إلى إسقاط ما يدلّ على الأحكام وسائر العلوم وهم أشدّ النّاس حاجة إلى ذلك ».

إلى أن قال : « على أنّه لو اشتمل على ذلك صريحا لم يبق لمحاجّة الإمام وجه إلى آخر ما أفاده بطوله » (١).

وبالجملة : مخالفة ما عند الإمام عليه‌السلام لما في أيدي النّاس في الجملة ممّا لا ينكره أحد. إنّما الكلام في مخالفة ما بين الدّفتين لما نزل إعجازا من جهة التّحريف والزّيادة والنقيصة في الجملة.

فعن جمهور الأخباريّين (٢) وجمع من المحدّثين كالشّيخ الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي وتلميذه ثقة الإسلام الكليني وغيرهما قدّس الله أسرارهم ؛ حيث إنّهم نقلوا الأخبار الدّالّة على التغيير من غير قدح فيها سيّما بملاحظة عنوانهم وقوع التّغيير مطلقا.

__________________

(١) شرح الوافية في علم الاصول للسيد محسن الأعرجي الكاظمي مخطوط وانظر المحصول في علم الاصول للسيد الأعرجي نفسه قدس‌سره مخطوط أيضا.

(٢) انظر رسالة منبع الحياة للسيّد المحدّث الجزائري : ٧١.

٤٦٤

وعن بعضهم : وقوع التّحريف والنقيصة دون الزّيادة (١) مدّعيا عدم النّزاع فيها. وعن بعضهم : كون النّزاع في زيادة غير السّورة بل الآية فإنّ زيادتهما مناف لكون ما بأيدينا إعجازا يقينا مضافا إلى منافاته لصريح القرآن.

المشهور بين المجتهدين عدم وقوع التغيير مطلقا

والمشهور بين المجتهدين والأصوليّين بل أكثر المحدّثين : عدم وقوع التّغيير مطلقا. (٢) بل ادّعى غير واحد الإجماع على ذلك ، سيّما بالنّسبة إلى الزّيادة. وعن المولى الفريد البهبهاني (٣) وجماعة من المتأخّرين نفي الزيادة وأنّ النقيصة لو كانت واقعة ، فإنّما هي في غير آيات الأحكام. بل استظهر بعضهم : وقوع النقيصة في غير آيات الأحكام (٤) ، وكان شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره يميل إلى هذا القول ، أي : وقوع النقيصة في غير الأحكام بعض الميل ، فإنّ القرآن المنزل على ما صرّح به في غير واحد من الأخبار ( أربعة أرباع : ربع في الأئمّة عليهم‌السلام وربع في أعدائهم

__________________

(١) انظر مناهج الأحكام للفاضل النراقي : ١٥٥ ووالده المولى مهدي النراقي حيث ادّعى كون النقيصة فيما لا يضرّ بالإعجاز ، أنظر تجريد الأصول مخطوط وكذا مناهج الأحكام لولده : ١٥٤ ، ولوامع الأنوار العرشيّة : ج ٢ / ٣٧ وحاشية الفرائد لصاحب العروة : ج ١ / ٣٤١ ، ومحجّة العلماء : ج ١ / ١٠٧ و ١٤١.

(٢) منهم : السيد الشريف المرتضى والشيخ الصدوق وأمين الاسلام الطبرسي وجمهور المجتهدين.

(٣) انظر مصابيح الظلام : ج ٧ / ٢٢٤.

(٤) انظر قوانين الأصول : ج ١ / ٤٠٦.

٤٦٥

وربع في القصص والأمثال وربع في القضايا والأحكام ) (١). والدّاعي للتغيير إنّما هو في الربعين الأوّلين.

وممّن صرّح بالإجماع على عدم التّغيير : علم الهدى قدس‌سره قال ـ في جملة كلام له في تقريب عدم حدوث التغيير في القرآن المنزل للإعجاز ـ ما هذا لفظه المحكيّ : « أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن ، فإنّ القرآن كان يحفظ ويدرس جميعه في ذلك الزّمان حتّى عيّن على جماعة من الصّحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتلى عليه ، وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على : أنّه كان مجموعا مترتّبا غير منثور ولا مبثوث ... » إلى آخر ما ذكره (٢).

كلام شيخ الطائفة في التبيان

وقال شيخ الطّائفة قدس‌سره في محكي « تبيانه » : « أمّا الكلام في زيادته ونقصانه ، يعني : القرآن ، فممّا لا يليق به ، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه ، والنّقصان منه فالظّاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا كما نصره المرتضى قدس‌سره وهو الظّاهر من الرّوايات ، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة العامّة والخاصّة : بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى

__________________

(١) الكافي : ج ٢ / ٦٢٨ باب النوادر ـ ح ٣.

(٢) الحاكي هو أمين الاسلام الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : ج ١ / ٤٣ عن السيد المرتضى في جواب المسائل الطرابلسيّات.

٤٦٦

موضع ، لكن طريقها الآحاد الّتي لا يوجب علما ، فالأولى الإعراض عنها وترك التّشاغل بها ؛ لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صحّت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدّفتين ؛ فإنّ ذلك معلوم صحّته لا يعترضه أحد من الأمّة ولا يدفعه ورواياتنا متناصرة بالبحث على قراءته والتمسّك بما فيه وردّ ما يرد : من اختلاف الأخبار في الفروع إليه وعرضها عليه ، فما وافقه عمل عليه وما يخالفه يجتنب ولم يلتفت إليه. وقد وردت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية لا يدفعها أحد أنّه قال : ( إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ـ إن تمسكتم بهما لن تضلّوا ـ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض ) (١) وهذا يدلّ على : أنّه موجود في كلّ عصر ؛ لأنّه لا يجوز أن يأمر الأمّة بالتّمسك بما لا يقدر على التمسّك به ، كما أنّ أهل البيت ومن يجب اتباع قوله ، حاصل في كل وقت. وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحّته ، فينبغي أن يتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ثمّ إنّ لكلّ من الفريقين وجوها من الأخبار وغيرها يطول المقام بذكرها والنّقض والإبرام فيها ، حتّى أنّ النافين لحدوث التّغيير استدلّوا له : بجملة من الآيات الممنوع دلالتها على المدّعى في وجه ، والأخبار الدّالة بظواهرها على حدوث التغيير (٣) وإن كانت كثيرة إلاّ أنّ أكثرها إلاّ ما شذّ ضعيفة السّند. ويمكن

__________________

(١) مرّ تخريج الحديث الشريف.

(٢) أنظر تفسير الصافي : ج ١ / ٥٥.

(٣) قال المحقق المؤسس الطهراني أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

٤٦٧

دعوى تواترها ، فلا يقدح ضعف السّند فيها.

لكن الإنصاف عدم نصوصيّتها فيما ذكره الأخباريّون ، وقوّة احتمال إرادة ما عرفته من وجوه المعاني فيها. وفي جملة من الأخبار إشارة وتلويح بل دلالة عليه عند التّأمل ، ويحتمل قريبا حملها ـ على تقدير عدم الصّارف لها ـ على وقوع النقص فيما ورد في ولاية الأئمّة عليهم‌السلام ومثالب أعدائهم ، فلا تعلّق لها بآيات الأحكام حتّى يتعب النّظر في تنقيحها والكلام عليها ، وخبر الواحد في غير الفروع ليس بحجّة حتّى يلزم البحث عنها (١).

__________________

« التحقيق : ان أكثر ما في هذه الروايات ما بين التفسير وبين الأحرف التي نزل عليها القرآن وما بين الحديث القدسي فما بأيدينا [ من المصحف الذي هو بين الدفتين ] لا إشكال في كونه من الله تعالى من غير تغيير ولا تبديل بوجه من الوجوه ، فعدم كون بعض ما في تلك الروايات قرآنا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة مثل : « لو أن لابن آدم واديين من المال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ويتوب الله على من تاب » و « اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك » ؛ فإنّ عدم كون هذا النحو من الكلام معجزا وفوق طاقة البشر ، بل كونه بالعكس وعدم كونه لائقا بالفصحاء من البديهيّات ويكشف عن ذلك إختلاف الروايات في أمثال هذه الآيات اختلافا شديدا ». انتهى محجّة العلماء : ج ١ / ١٧٨.

(١) قلت : عدم حجية خبر الواحد في غير الفروع ، لمن يقول بحجيته تعبدا ، من المشهورات بل المسلّمات المطبق على الإذعان بها بين الأكابر والأصاغر ، مع ان في صحتها كلاما لدى المحققين بل لا ينبغي التأمل في بطلانها ، أصلا وفرعا مع ان الصحيح هو أن الحجيّة تدور مدار الوثوق والإطمئنان بلا فرق بين الاصول والفروع والمعارف التوحيدية والاخلاقية وغيرها كما عليه قدماء أصحابنا « رضوان الله تعالى عليهم » بل هو الذي جرى عليه الناس من آدم الى يومنا هذا بل والى يوم القيامة ولذلك شرح يطول ليس هاهنا محله.

٤٦٨

فلعلّه إليه أشار الشّيخ قدس‌سره : من أنّها أخبار آحاد لا يوجب علما ، مع أنّ المسلّم من مذهبه حجيّة خبر الواحد في الفروع ، بل على تقدير تسليم وقوع النّقيصة في آيات الأحكام لا يعلم بقدح النّقص فيما بأيدينا من آيات الأحكام من حيث احتمال كون ما نقص مشتملا على حكم مستقلّ لا دخل له بالأحكام المستفادة من ظواهر ما بأيدينا من الآيات هذا (١).

كلام السيد المحدث الجزائري قدس‌سره في منبع الحياة

وللسيّد الفاضل نعمة الله المحدّث هنا كلام طويل نورد بعضه ، فإنّه استدلّ على وقوع التّغيير في القرآن المنزل للإعجاز في رسالته المحكيّة المسمّاة « بمنبع الحياة » بوجوه :

« منها : الأخبار المستفيضة بل المتواترة مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سئل عن المناسبة بين قوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى )(٢) وبين قوله : ( فَانْكِحُوا )(٣) فقال : قد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن. وما روي عن الصّادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ )(٤) قال : كيف تكون هذه الأمّة خير أمّة وقتلوا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ليس هكذا نزلت ، وإنّما نزلت خير أئمة. أي :

__________________

(١) اذا فتحنا باب الإحتمال أمكن أن يقال باحتمال معاكس لهذا الإحتمال مع انه لا داعي للبناء على الإحتمالات.

(٢) النساء : ٣.

(٣) النساء : ٣.

(٤) آل عمران : ١٠٩.

٤٦٩

الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام.

ومنها : الأخبار المستفيضة في أنّ آية الغدير هكذا نزلت : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ )(١)(٢) إلى غير ذلك ممّا لو جمع لصار كتابا كثير الحجم.

ومنها : أنّ القرآن كان نزل منجّما على حسب المصالح والوقائع ، وكتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا من الصّحابة وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد كانوا في الأغلب ما يكتبون إلاّ ما يتعلّق بالأحكام وما يوحى إليه في المحافل والمجامع ، وأمّا الّذي كان يكتب ما ينزل في خلواته ومنازله فليس هو إلاّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنّه كان يدور معه كيفما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى لقاء حبيبه وتفرّقت الأهواء بعده ، جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن كما أنزل وشدّ بردائه ، وأتى به إلى المسجد فقال لهم : هذا كتاب ربّكم كما أنزل. فقال لعنه الله : ليس لنا فيه حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان. فقال عليه‌السلام : لن تروه ولن يراه أحد حتّى يظهر القائم عليه‌السلام ) (٣).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« وهذا القرآن كان عند الأئمّة عليهم‌السلام يتلونه في خلواتهم وربّما اطّلعوا عليه بعض خواصّهم ، كما رواه ثقة الإسلام الكليني عطّر الله مرقده بإسناده إلى سالم بن

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) تفسير على بن ابراهيم القمي : ج ٢ / ٢٠١.

(٣) وورد ما يقرب منه في بصائر الصفّار / ٢١٣ باب « في الأئمة ان عندهم جميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ح ٣.

٤٧٠

سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها النّاس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : مه! كفّ عن هذه القراءة واقرأ كما يقرؤها النّاس حتّى يقوم القائم عليه‌السلام ، فإذا قام قرأ كتاب الله على حدّه وأخرج المصحف الّذي كتبه علي عليه‌السلام (١).

وقد يوجّه هذا الحديث الشّريف وأمثاله ـ ممّا دلّ على ثبوت شيء آخر نقص من هذا القرآن الّذي في أيدينا ـ بأنّ المراد : إمّا نقص المعنى وتغييره إلى ما ليس مراده تعالى ، أو نقص ما فسّروا به ، يعني : أنّهم كتبوا في مصاحفهم تفسير الآيات ، وكان أصحابهم يتلفّظون بها ، فمنعوهم عن ذلك. أو أنّ أصحابهم كانوا يفسّرون الآيات بما سمعوا من أئمتهم لم يكن إظهاره صلاحا لوقتهم فأمروهم بالكفّ عن ذلك حتّى يظهر القائم ، لا أنّه كان شيء في القرآن داخلا فأخرجوه هو بعيد ) ثمّ قال : ( وهذا الحديث وما بمعناه قد أظهر العذر في تلاوتنا من هذا المصحف والعمل بأحكامه ) (٢). انتهى ما أردنا نقله من كلامه ».

وقد عرفت : أنّ المسألة بعد التّسالم على العمل حسبما عرفت مرارا كونه من ضروريّات دلالة الأخبار المتواترة حتّى المانعة من التّغيير ؛ معلّلة : بأنّ علم الكتاب عند الأئمّة عليهم‌السلام ، وأنّه ما ورّثه الله غيرهم حرفا ، الصّريحة في : أنّ العلم بباطنه الّذي هو من توريث الله تعالى ـ لا العلم بظواهره الواضحة عند كل أحد ـ مختصّ بالأئمّة عليهم‌السلام ؛ حيث إنّه لم يذكّر في خبر لها تعليل المنع بحدوث النّقص ، إذ

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٦٣٣ باب النوادر ـ ح ٢٣ باختلاف يسير وأورده الصفّار في بصائر الدرجات : ٢١٣ ـ ح ٣.

(٢) حكاه المحقق القمّي في القوانين : ج ١ / ٤٠٣ ، وأنظر منبع الحياة : ٦٦ ـ ٦٨.

٤٧١

النّقص في القرآن ليست مسألة عمليّة يبحث عنها وإنّما هي مسألة علميّة لا يترتب عليها فائدة أصلا.

وقد أغرب بعض الأصحاب (١) واحتمل أو استظهر : سوق ما دلّ على حجيّة الكتاب قولا وفعلا وتقريرا على التّقيّة. وهو كما ترى لا يحتمله الأخبار يقينا حتّى المانعة من التّفسير الواردة في ردّ المخالفين. ومثله في الضّعف ما تحمله بعض آخر (٢) : فاحتمل حمل الأخبار الصّريحة في حجيّة الكتاب على حجيّته في مرحلة الظّاهر ، بمعنى كون التكليف الظّاهري : العمل بالكتاب حتّى يظهر القائم عليه‌السلام ، وهو أيضا كما ترى ، مع أنّه لا يضرّ القائل بحجيّته ووجوب العمل به وعدم مانعيّة الأخبار الدّالّة على حدوث التّغيير في الكتاب المنزل للإعجاز عن حجيّة ما بأيدينا هذا.

وقد يوجد في بعض الكتب : التمسّك في المسألة بأصالة عدم النّقيصة لنفي النّقص فيما أنزل إعجازا ، كما أنّه قد يتمسّك لنفي الزّيادة : بأصالة عدمها. وقد يعارض أصالة عدم النّقيصة بأصالة عدم اشتمال ما بأيدينا لتمام ما نزّل تدريجا وأصالة عدم الزّيادة بأصالة عدم كون المشكوك قرآنا.

وأنت خبير بأنّ الأصلين مع الغضّ عن المعارضة المذكورة ، لا يفيدان على القول بنفي الأصول المثبتة ، لو كان النّقص قادحا ، وعلى تقدير عدم قدحه ـ على تقدير العلم به ـ لا معنى لجريان الأصل أيضا كما لا يخفى.

ولنختم الكلام في المسألة بذكر السورة التي حكاها صاحب كتاب دبستان

__________________

(١ و ٢) المحقق القمي في القوانين : ج ١ / ٤٠٥ ، والفاضل النّراقي في المناهج : ١٥٤.

(١ و ٢) المحقق القمي في القوانين : ج ١ / ٤٠٥ ، والفاضل النّراقي في المناهج : ١٥٤.

٤٧٢

المذاهب (١) بعد ذكر جملة من عقائد الشيعة عن بعض علماء الشيعة عند ذكر مطاعن الثالث حيث أنّه احرق المصاحف واتلف السور التي كانت في فضل أمير المؤمنين عليهما‌السلام وأولاده الطاهرين عليهم‌السلام فانّ ما ذكروه من الكلمات الساقطة أو المحرفة كثيرة مذكورة في كثير من كتب علماء الشيعة والسورة هذه :

بسم الله الرحمن الرحيم

( يا أيّها الذين آمنوا آمنوا بالنورين انزلناهما يتلون عليكم آياتي ويحذر انكم عذاب يوم عظيم* نور ان بعضهما من بعض وأنا السميع العليم* انّ الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات نعيم*

__________________

(١) قال الشيخ آغا بزرك في الذريعة : « دبستان مذاهب في الملل والنحل فارسي طبع في بمبئي سنة ١٢٦٢ ه‍ مرتّب على إثني عشر تعليما وفي كل تعليم أنظار ، وفهرس التعليمات على الترتيب :

١ ـ پارسيان ٢ ـ هندوان ٣ ـ فراتبتيان ٤ ـ اليهود ٥ ـ النصارى ٦ ـ المسلمين ٧ ـ الصادقية ٨ ـ الواحدية ٩ ـ روشنينان ١٠ ـ الإلهيّة ١١ ـ الحكماء ١٢ ـ الصوفية.

وبما أنه لم يذكر المؤلف اسمه فيه ، اختلف في مؤلفه كما ذكره السيد محمد علي داعي الإسلام في أول فرهنك نظام فحكى عن سرجان ملكم في تاريخ إيران : أن اسم المؤلف محسن الكشميري المتخلص في شعره بفاني ...

إلى أن قال : وذكر ان المروّج للشيعة الأخباريّة في عصره كان المولى محمد أمين الأسترآبادي ...

إلى أن قال :

وبالجملة : لا شك في أن المؤلف من شعراء أواسط القرن الحادي عشر الذين استوفى جلّهم النصر آبادي في تذكرته » ـ أنظر الذريعة : ج ٨ / ٤٨ برقم ١٢٥.

٤٧٣

والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم* ظلموا انفسهم وعصوا الوصي الرّسول اولئك يسقون من حميم* انّ الله الذي نور السماوات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين اولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم* قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فاخذتهم بمكرهم انّ أخذى شديد اليم* انّ الله قد أهلك عادا وثمود بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون* وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون اغرقته ومن تبعه أجمعين* ليكون لكم آية وانّ اكثركم فاسقون* انّ الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون* انّ الجحيم ماواهم وانّ الله عليم حكيم* يا أيّها الرّسول بلّغ انذاري فسوف يعلمون* قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمى معرضون* مثل الذين يوفون بعهدك إنّي جزيتهم جنات النعيم* انّ الله لذو مغفرة وأجر عظيم* وانّ عليّا من المتّقين* وانا لنوفّيه حقّه يوم الدين* فما نحن ممّن ظلمه بغافلين* وكرّمناه على اهلك أجمعين* فانّه وذريّته لصابرون* وانّ عدوّهم امام المجرمين* قل للذين كفروا بعد ما آمنوا اطلبتم زينة الحياة الدّنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الامثال لعلكم تهتدون* يا أيّها الرّسول قد انزلنا اليك آيات بينات فيها من يتوفّاه مؤمنا ومن يتولّيه من بعدك يطهارون* فاعرض عنهم إنّهم معرضون* إنّا لهم محضرون* في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون* انّ لهم في جهنّم مقاما عنه لا يعدلون* فسبح

٤٧٤

باسم ربّك وكن من الساجدين* ولقد ارسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل* فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعنّاهم إلى يوم يبعثون* فاصبر فسوف يبصرون* ولقد آتينا بك الحكم كالذين من المرسلين* وجعلنا لك وصيّا لعلهم يرجعون* ومن يتول عن امري فإنّي مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلا فلا تسئل عن الناكثين* يا أيّها الرسول قد جعلنا لك في اعناق الذين عهدا فخذه وكن من الشاكرين* ان عليّا قائم الليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجوا ثواب ربّه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون سيجعل الأغلال في أعناقهم فهم على اعمالهم يندمون* انا بشرناك بذريته الصالحين* وانّهم لأمرنا لا يخلفون* فعليهم منّي صلوات ورحمة أحياء وأمواتا يوم يبعثون* وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي انّهم قوم سوء خاسرين* وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون* والحمد لله رب العالمين ).

وهذه السورة وان لم اقف عليها من غير الكتاب المذكور وظاهره أنه أخذه من كتب الشيعة.

نعم ، عن الشّيخ محمّد بن عليّ بن شهر آشوب : المازندراني المعروف في كتاب « المثالب » : « أنّهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية ». ولا يبعد إرادة هذه السّورة (١).

__________________

(١) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من تراث ابن شهر آشوب وسورة الولاية أمر موهوم لا واقع له خارجا.

٤٧٥

ولكنّك خبير بأنّها ليست من القرآن المنزل إعجازا قطعا ؛ إذ يقدر كلّ عارف بلغة العرب أن يأتي بمثلها ، مع أنّه قال سبحانه : ( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ )(١) الآية (٢).

فيما لو علم إجمالا بحصول التغيير

إذا عرفت بعض الكلام في أصل المسألة فاستمع لما يتلى عليك فيما لو علم بحصول التّغيير إجمالا ولم يعلم تفصيلا فنقول :

إنّ التّغيير بقول مطلق قد يوجب اختلاف المعنى وقد لا يوجبه ، سواء كان بالتّحريف أو التبديل أو النّقص أو الزّيادة. فالعلم بحصول التّغيير إجمالا بأقسامه إذا كان أعمّ ممّا يوجبه وممّا لا يوجبه ، لا يوجب العلم إجمالا بالتّغيير بالمعنى ، وإن فرض العلم بما يوجبه في تمام الآيات فلا يقدح أيضا من حيث كون الشّبهة غير محصورة. وإن فرض العلم بما توجبه مع فرض حصر الشّبهة بأن فرضه الشّبهة كثيرة في الكثير ، فلا يقدح أيضا ؛ لعدم انحصار طرف العلم في خصوص آيات الأحكام ، فلعلّ المصروف عن ظاهره ممّا لا يتعلّق بالأحكام الشّرعية ؛ فلا يوجب العلم بتنجّز الخطاب حتّى توجب الإجمال في ظاهر آيات الأحكام. اللهم إلاّ أن

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) بل يقدر أطفال العرب اليوم أن يأتوا بأفصح وأوضح وأعذب منها ألف مرّة بل صبيانهم اليوم إذا تليت عليهم هذه الأضحوكة يضحكون على سخيف عقل صانعها الجاهل بالعربيّة وأصولها فكيف بنسوانهم فضلا عن رجالهم وأهل العلم منهم.

وما أدري لعلّ هذا الأحمق أراد أن يشوّه سمعة المذهب بهذه الخزعبلات.

٤٧٦

يفرق في عدم قدح العلم الإجمالي مع عدم حصر الشّبهة بين الأصول اللّفظية والعمليّة ، أو يفرق فيما لا يوجب تنجّز الخطاب بين الأصول اللّفظية والعمليّة في عدم القدح ، لكنّ الدّعويين في حيّز المنع.

وممّا ذكرنا كله يعرف المراد ممّا أفاده قدس‌سره في « الكتاب » في حكم العلم الإجمالي بحصول التّغيير وعدم قدحه في حجيّة الظّواهر. ودعوى : قدح العلم الإجمالي مع فرض العلم بما يوجب تغيير المعنى في خصوص آيات الأحكام ـ نظرا إلى كون الشّبهة غير محصورة ـ كما ترى.

فالأولى التمسّك بأحد الوجوه المذكورة ، والمنع من قدح العلم بحصول التّحريف بالمعنى الأعمّ الشّامل للأقسام المذكورة ، كما يحمل عبارة « الكتاب » عليه ، لا ما يقابل الزّيادة والنقيصة في ظواهر آيات الأحكام هذا.

مضافا إلى ما عرفت الإشارة إليه : من أنّ التّغيير الحاصل على تقدير تسليمه : إنّما هو قبل ورود الأخبار الكثيرة المتواترة من الأئمّة عليهم‌السلام في باب حجيّة ظاهر الكتاب ، فلو كان التّغيير قادحا في حجيّة الظّواهر من حيث إيجابه لإجمالها ، لم يجز للشّارع الأمر بأخذها. والملازمة كبطلان التّالي ممّا لا خفاء فيها أصلا ، كما لا يخفى.

ومن هنا ادّعى غير واحد الاتّفاق على وجوب العمل بالكتاب على جميع الأقوال في مسألة التّغيير ، وإن كان الأصل في المسألة ـ قبل الإجماع عند بعض المدّعين ـ ما دلّ على : ( لزوم القراءة على ما يقرأ النّاس ) (١) على ما عرفت كلامه.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ / ٦٣٣ باب النوادر ـ ح ٢٣.

٤٧٧

(١٧٩) قوله قدس‌سره : ( قد يتوهّم : أنّ وجوب العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٥٨ )

أقول : يستفاد هذا التّوهم من المحقّق القميّ قدس‌سره وبعض من وافقه في القول بحجيّة الظنّ المطلق ، قال في « القوانين » ـ بعد جملة كلام له في النّقض والإبرام في الاستدلال على حجيّة ظواهر الكتاب بالإجماع في قانون الإجتهاد ـ ما هذا لفظه :

« والحاصل أنّ الإجماع المدّعى في هذا المقام على حجيّة ظواهر الكتاب :

إن كان هو الإجماع المنقول والاستنباطي فيدخلان في عمومات آيات التّحريم ولا دليل على حجيّتهما سوى كونهما ظنّ المجتهد.

وإن كان هو الإجماع المحقّق فإن كان على الجملة فهو لا يجدي نفعا. وإن كان على كلّ الظّواهر ـ فمع ما يرد عليه ممّا فصّلناه ـ فيه : أنّه مستلزم لحجيّة الظّن الحاصل من قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) وأمثاله من الظّواهر والظّنون الحاصلة : بأنّ العمل على ظنّ الكتاب لا يجوز ؛ فإنّها عامّة تشمل ذلك أيضا.

فالإجماع على حجيّة الظّواهر حتّى الظّاهر الدّال على حرمة العمل بالظّن عموما يثبت عدم حجيّة الظّن الحاصل من القرآن ، وما يثبت وجوده عدمه فهو محال ». انتهى (٢) كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بما في هذا التّوهم من وجوه المناقشة :

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ فرض قيام القاطع على حجيّة الظّواهر أو غيرها يوجب

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) قوانين الاصول : ج ٢ / ١٠٩.

٤٧٨

خروج المعلوم حجّيّته عن ظواهر الآيات النّاهية موضوعا ـ إذا كان مفادها الحرمة التشريعيّة بأيّ معنى فرض للتشريع ـ فإنّ الحكم بحجيّة الظّواهر مثلا بعد قيام الدّليل القاطع على حجيّتها والالتزام بكون مفادها حكم الله الظّاهري ليس بافتراء وتشريع على الله تعالى ، وقولا بما لا يعلم.

ومنه يظهر ما في كلام المحقّق القميّ قدس‌سره : من لزوم استعمال كلمة الموصول في قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) أو الضّمير في معنيين من حيث إرادة العلم بحجيّته ونفيه ؛ ضرورة أنّ المنهي كلّ شيء لم يعلم به من غير فرق بين الأحكام الأصوليّة والفرعيّة الفقهيّة. ولا يلزم هذا المعنى استعمال اللّفظ في المعنيين أصلا ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه ـ بعد تسليم لزوم التخصيص في الآيات النّاهية عند الحكم بحجيّة أمارة غير علميّة أو أصل من الأصول ـ نقول : إنّ محذور التخصيص إنّما هو من حيث اقتضاء العموم ـ عند الشّك في التّخصيص ـ البناء على عدمه بحكم أهل اللّسان ، وهذا معنى أصالة العموم الّتي هي من الأصول اللفظيّة المعتبرة عند الشّك في إرادة المتكلّم.

فإذا فرض قيام الإجماع على اعتبار ظواهر الكتاب ، فيعلم بعدم إرادتها ممّا اقتضى بعمومه حرمة العمل بها من الآيات النّاهية وغيرها ، فلا يبقى شك في المراد منها ، حتّى يتمسّك بأصالة العموم. فإن شئت قلت : إنّ أصالة العموم غير جارية بنفسها في صورة العلم بالمراد من العام.

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

٤٧٩

وتوهّم : أنّ الدّليل على التّخصيص هو الإجماع ـ المقتضي لحجيّة العمومات النّاهية عن العمل بظواهر الكتاب ، ولا مرجّح لجعل معقده غير الآيات النّاهية عن ظواهر الكتاب فإذا لم يمكن الجمع بين إرادتهما من الإجماع فلا بدّ من الحكم بعدم قيام. الإجماع ؛ للزوم المحال العقلي من قيامه وليس هناك دليل آخر بالفرض على التّخصيص حتّى يجعل مخصّصا ـ فاسد جدّا.

إذ لا نقول : باختصاص الإجماع بغير الآيات النّاهية ؛ ولذا نعمل بها في غير ظواهر الكتاب ، ممّا لم يقم دليل قطعي على اعتباره ، بل نقول : بقيامه على اعتبارهما. ونتيجة ذلك رفع اليد عن الآيات النّاهية بالنّسبة إلى خصوص ظواهر الكتاب ؛ نظرا إلى القطع بعدم الإرادة هذا.

مضافا إلى أنّه لا معنى لصرف الإجماع إلى خصوص ظواهر الآيات النّاهية وإبقائها على الظّهور ، حتّى بالنّسبة إلى ظواهر الكتاب حتّى تصير نتيجة الإجماع على حجيّة ظواهر الكتاب عدم الحجيّة كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلأنّ إرادة العموم من الآيات النّاهية حتّى من ظواهر الكتاب ، توجب المنع عن العمل بأنفسها ؛ فإنّها من غير العلم ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال.

وتوهّم : عدم شمولها لأنفسها ـ كما عن شيخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ـ فيه : ما لا يخفى ؛ لأنّه على تقدير التّسليم ، إنّما هو من جهة الفرق في مناط الحكم وعلّة المنع.

٤٨٠