بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

من التّمسك بالآية في العبادات في كلامه قدس‌سره فلا يتوجّه عليه الإيراد المتوهّم فافهم.

(١٧٧) قوله ( دام ظلّه ) : ( فلا يخلو إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٥٧ )

بعض الكلام في أصل مسألة تواتر القراءات

أقول : بالحريّ أوّلا : أن نتكلّم بعض الكلام في أصل مسألة تواتر القراءات ثمّ نعقّبه بالكلام في حكم القراءتين المختلفتين على كلّ من تقديري القول بالتواتر وعدمه ، فنقول :

المشهور بين الأصحاب بل المدّعى عليه الإجماع ـ في « روض الجنان » (١) لثاني الشّهيدين و « جامع المقاصد » (٢) لثاني المحقّقين بعد اتفاقهم على تواتر القرآن في الجملة ـ هو تواتر القراءات السّبع المرويّة عن مشايخها السّبعة. وهم : نافع وأبو عمرو والكسائي وحمزة وابن عامر وابن كثير وعاصم ، هو الّذي صرّح به في محكي « التّذكرة » (٣) ونسب إلى الصّدوق والسيد والشّهيد في « الذّكرى » (٤) والشّيخ الطّبرسي وألحق بالسّبعة ـ في محكيّ « الذّكرى » ـ : أبو جعفر ويعقوب وخلف (٥).

__________________

(١) روض الجنان : ( ط ق ) ٢٦٤.

(٢) جامع المقاصد : ج ٢ / ٢٦٤.

(٣) تذكرة الفقهاء : ج ٣ / ١٤١.

(٤) ذكرى الشيعة : ج ٣ / ٣٠٥. وفي ( ط ق ) ١٨٧.

(٥) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٠٦.

٤٤١

وخالف فيه عليّ بن طاوس في « سعد السّعود » (١) ونجم الأئمّة الشّيخ الرّضي عند قول ابن الحاجب : ( وإذا عطف المجرور أعيد الخافض ) (٢) وجمع ممّن قارب عصرنا فذهبوا إلى عدم تواتر الثّلاثة الأخيرة.

تحرير محلّ النّزاع

وقبل الخوض في المسألة لا بدّ من رسم أمور بها يحرّر محلّ النّزاع والخلاف :

الأوّل : أنّ محلّ النّزاع في تواتر القراءات ما إذا كانت جوهريّة تختلف باختلافها المعنى أو أعمّ من ذلك والّذي نسب إلى الأكثر كون الخلاف مختصّا بالاختلاف الجوهري لا مطلق الاختلاف وإن لم يكن جوهريّا ، وهذا هو الظّاهر. وأمّا اعتبار اختلاف المعنى في محلّ النّزاع كما ادّعاه بعض ، فلم يثبت لنا بل ظاهرهم التّعميم.

الثّاني : أنّ المراد من تواتر القراءات من مشايخها هل تواترها عنهم أو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله « تبارك وتعالى »؟ وجهان. ظاهر غير واحد وصريح ثاني الشّهيدين في « شرح الألفيّة » الثّاني. بل ربّما يقال ، بل قيل : بأنّه لا معنى للاختلاف في تواتر القراءات عن مشايخها مع عدم تواترها عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ هو المدار في ثبوت القرآنيّة.

قال في محكيّ « شرح الألفيّة » واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّ ما ورد من هذه

__________________

(١) سعد السعود : ٢٨٣ وفي طبعة بوستان كتاب : ٢٥٥.

(٢) شرح الكافية : ١ / ٢٢٠.

٤٤٢

القراءات متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل من السّبعة شاذّ فضلا عن غيرهم ، كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشّأن.

والمعتبر القراءة بما تواتر من هذه القراءات وإن ركّب بعضها في بعض ما لم يترتّب بعضها على بعض بحسب العربيّة فيجب مراعاته نحو ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ )(١) فإنّه لا يجوز الرّفع فيهما ولا النّصب وإن كان كلّ منهما متواترا ، بأن يؤخذ رفع ( آدَمُ ) من غير قراءة ابن كثير ، ورفع ( كَلِماتٍ ) من قراءته ؛ فإنّ ذلك لا يصحّ ؛ لفساد المعنى. ونحوه في الفساد ( وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا )(٢) بالتشديد مع الرّفع أو بالعكس. وقد نقل ابن الجوزي في « النشر » عن أكثر القرّاء جواز ذلك. أيضا واختار ما ذكرنا.

وأمّا اتّباع قراءة الواحد من العشرة في جميع السّور فغير واجب قطعا بل لا مستحبّ ؛ فإنّ الكلّ من عند الله نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا من الأمّة وتهوينا على أهل هذه الملّة. وانحصار القراءات فيما ذكر أمر حادث غير معروف في الزّمن السّابق ، بل كثير من الفضلاء أنكر ذلك ؛ خوفا من التباس الأمر. وتوهّم : أنّ المراد من السّبعة : هي الأحرف الّتي ورد في النّقل أنّ القرآن أنزل عليها والأمر ليس كذلك فالواجب القراءة بما تواتر (٣) ». انتهى المحكي من كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) البقرة : ٣٧.

(٢) آل عمران : ٣٧.

(٣) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٠٨.

٤٤٣

وظاهر بعض ، الميل إلى الأوّل واستشكل المحقّق القمّي قدس‌سره في المقام ـ كما يفصح عنه كلامه في « القوانين » ـ حيث قال بعد جملة كلام له فيما يتعلّق بالمقام ما هذا لفظه :

« أقول : الظّاهر أنّ مراد الأصحاب ـ ممّن يدّعي تواتر السّبعة أو العشرة ـ : هو تواترها عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله تعالى ، ويشكل ذلك بعد ما عرفت ما نقلناه في القانون السّابق. نعم ، إن كان مرادهم تواترها عن الأئمّة عليهم‌السلام بمعنى تجويزهم قراءتها والعمل على مقتضاها ، فهذا هو الّذي يمكن أن يدّعى معلوميّتها من الشّارع ؛ لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأ النّاس وتقريرهم لأصحابهم على ذلك ، هذا لا ينافي عدم علميّة صدورها عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقوع الزّيادة والنّقصان فيه ، الإذعان بذلك والسّكوت عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال السّيّد الجزائري فيما حكي عنه بعد منع التّواتر وذكر موافقة السيّد الأجلّ عليّ بن طاوس وجمع له ما هذا لفظه : « إنّهم نصّوا على أنّه كان لكلّ قار راويان يرويان قراءته. نعم ، اتّفق التّواتر في الطّبقات اللاّحقة. وأيضا تواترها عنهم كيف تفيد؟ وهم من آحاد المخالفين استبدّوا بآرائهم كما تقدّم ، واستنادهم إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن ثبت فلا حجّة فيه مع أنّ كتب القراءة والتّفاسير مشحونة من قولهم قرأ حفص كذا وعاصم كذا وفي قراءة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم‌السلام كذا ، بل ربّما قالوا في قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا كما يظهر من

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٠٧.

٤٤٤

الاختلاف المذكور في قراءة ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ )(١) ». انتهى كلامه.

وهو وإن كان مردودا بما ذكره ثاني الشهيدين قدس‌سرهما في « روض الجنان » بعد جملة كلام له في إثبات التّواتر بقوله : « مع أنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرد كتابا في أسماء الرّجال الّذين نقلوها في كلّ طبقة وهم يزيدون عمّا يعتبر في التّواتر ، فيجوز القراءة بها إن شاء الله تعالى » (٢) إنتهى.

إلاّ أنّ الغرض من إيراده التّنبيه على اختياره الوجه الأوّل في ظاهر كلامه.

في ان الانصاف عدم حصول الجزم بتواتر القراءات السبع

والذي يقتضيه الإنصاف : عدم حصول الجزم بتواتر القراءات السّبعة فضلا عن العشرة فضلا عن غيرهم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما المسلّم حصول التّواتر في الجملة ، فإنّ ما ذكره السيّد المتقدّم ذكره من الموهنات ممّا ذكرناه ولم نذكره وإن لم يكن موهنا عند التّأمّل ؛ فإنّ اختيار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأوصياء بعض القراءات في مقام القراءة من جهة أولويّتها لا ينتفي سائر القراءات إلا أنّه لا دليل هناك على تواترها ، فإنّ أقوى ما يتمسّك به بعد دعوى الإجماع في كلام بعض المعتضدة بالشّهرة بين المتأخّرين على تواتر السّبعة ، ما روي بطرق متعدّدة من « أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف » (٣) فإنّه بعد الغضّ عن سنده ـ وإن كان مشهورا بل ادّعى

__________________

(١) الحاكي هو الميرزا القمي في القوانين ج ١ / ٤٠٧ ، وانظر نور البراهين : ج ١ / ٥٣١.

(٢) روض الجنان : ( ط ق ) ٢٦٤.

(٣) لا أصل له في تراث الإمامية بل الموجود نفيه من رأس انظر الكافي : ج ٢ / ٦٣٠ باب

٤٤٥

بعض العامّة تواتره ـ لا ظهور له في المدّعى ، فإنّهم اختلفوا في معناه على ما يقرب من أربعين قولا.

قال ابن الأثير في محكي « نهايته » في الحديث : ( نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها كاف شاف ) (١) أراد بالحرف اللّغة ، يعني على سبع لغات العرب. أي :

أنّها متفرّقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة يمن ، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، على أنّه قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة وعشرة كقوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )(٢) و ( عَبَدَ الطَّاغُوتَ )(٣) وما يبيّن ذلك قول ابن مسعود : إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم إنّما هو كقول أحدكم : هلمّ وتعال وأقبل.

وفيه أقوال غير ذلك وهذه أحسنها (٤). انتهى المحكيّ عنه. ومثله ما عن « القاموس » هذا (٥).

مع أنّ الكليني روى في الحسن كالصّحيح عن الفضيل بن يسار قال : ( قلت

__________________

النوادر وما جاء في الخصال فمحمول على معنى آخر قد يكون إشارة الى التفويض في بيان الشريعة إلى الأئمة عليهم‌السلام وهو غير ما ذكرته مدرسة الخلفاء فقد ورد في كثير من مصادرهم محمولا على تعدد القراءات وهو باطل كما هو واضح وانظر البيان للسيد المحقق الفقيه الخوئي ١٦١ ط دار الزهراء ، الطبعة الرابعة ، بيروت / لبنان.

(١) النهاية في غريب الحديث : ج ١ / ٣٦٩.

(٢) الفاتحة : ٤.

(٣) المائدة : ٦٠.

(٤) الحاكي هو الميرزا القمي في القوانين : ج ١ / ٤٠٧.

(٥) القاموس المحيط : ج ٣ / ١٢٧.

٤٤٦

لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ النّاس يقولون إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال عليه‌السلام : كذبوا أعداء الله ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد ) (١). وهو وإن كان بظاهره معارضا لما رواه في « الخصال » عن الصّادق عليه‌السلام : ( أنّ الأحاديث تختلف عنكم قال : فقال : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه ) (٢) إلاّ أنّه قد يجمع بينهما بحمل الأحرف في رواية الكليني على القراءات وفي رواية « الخصال » على البطون واللغات أو نحوهما.

ويؤيّد هذا الجمع جملة من الرّوايات الواردة في باب بطون القرآن واشتماله على سبعة أبطن. مثل ما رواه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن ولكلّ حرف مصدر ومطلع ) (٣). وفي رواية أخرى : ( أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن ) (٤) وإن كان ربّما يستشهد لإرادة القراءات بما رواه عيسى بن عبد الله الهاشمي كما في محكيّ « الخصال » عن أبيه عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاني آت من الله فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت : يا ربّ وسّع على أمّتي فقال :

__________________

(١) الكافي : ج ٢ / ٦٣٠ باب « النوادر ».

(٢) الخصال : ج ٢ / ٣٥٨. باب « نزول القرآن على سبعة أحرف ».

(٣) هذا الحديث عامي أورده السيد الشريف الرضي في المجازات النبويّة : ٢٥٢ ـ ح ٢٠٠ وعبارته تختلف عما هنا وهي : ما نزل من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مقطع. وانظر مستدرك الوسائل : ج ١٧ / ٣٣١ باختلاف واضح ، والحديث المزبور تجده باختلاف في التعبير في كنز العمال حديث رقم ٣٠٨٦ و ٢٤٦١ وفي الجامع الصغير : ج ١ ـ ح ٢٧٢٧ ، وفي مسند أبي يعلى : ج ٩ / ٨١ بزيادة مكذوبة قطعا.

(٤) عوالي اللالي : ج ٤ / ١٠٧.

٤٤٧

إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ) (١) إلاّ أنّه مع ضعف السّند غير واضح الدّلالة على المراد هذا.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ البحث في المسألة لا دخل له بالبحث في مسألة وقوع التحريف والتّغيير بالزّيادة والنّقص في القرآن. نعم ، ادّعاء تواتر جميع ما في الدّفتين ينافي وقوع الزيادة إلاّ أنّ ظاهرهم الاتّفاق على عدمه ، وإن كان المحكيّ عن بعض الأخباريّين كما سيجيء وقوعها. فما في كلام بعض الأعلام : من جعل النّزاع في وقوع التّحريف والتّغيير موهنا للاتّفاق على التّواتر ، لا بدّ من أن يحمل على ذلك ، وإلاّ كان منظورا فيه.

الثّالث : أنّ المستفاد من صريح كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره وغير واحد وظاهر آخرين : انعقاد الإجماع على جواز القراءة بالقراءات المختلفة وإن لم نقل بتواترها. ولكن المستفاد من كلام ثاني الشّهيدين رحمه‌الله وبعض آخر : ابتناء المسألة على ثبوت التّواتر ؛ فإنّهما قد فرّعا على ثبوت التّواتر جواز القراءة. وهو كما ترى ظاهر فيما استظهرناه من الابتناء كما لا يخفى ، وإن كان ضعيفا. من هنا لم يقع الاستدلال في كلام القائلين بالتّواتر بما ورد مستفيضا : من ( الأمر بالقراءة كما يقرأ النّاس ) (٢) على ما ستقف عليه في مسألة التحريف.

ثمّ إنّ جواز القراءة هل يلازم البناء على تواتر كلّ ما يجوز قراءته من

__________________

(١) الخصال : ج ٢ / ٣٥٨ باب نزول القرآن على سبعة أحرف وعنه الوسائل ج ٦ / ١٦٤ باب وجوب القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبعة المتواترة دون الشواذ والمروية ح ٦.

(٢) الكافي : ج ٢ / ٦٣٣ باب النوادر : ح ٢٣ عنه الوسائل : ج ٦ / ١٦٣ باب وجوب القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبعة المتواترة دون الشواذ والمروية ـ ح ١.

٤٤٨

القراءات المختلفة ظاهرا؟ ـ بمعنى إلحاقها بالمتواتر حكما فيبنى على قرآنيّة كلّ واحدة من القراءات فيكون حجّة فعليّة مستقلّة ولو عند التّعارض والاختلاف في المعنى مثل الآيات المتواترة المتعارضة ـ أو لا يلازمه؟

وعلى الثّاني : هل قام دليل على البناء على ذلك من الخارج أم لا؟

وعلى تقدير عدم الملازمة وعدم قيام الدّليل على البناء من الخارج هل يكون المنقول بأخبار الآحاد في المقام كالمنقول بأخبار الآحاد في الأحكام ـ في الحكم بحجيّته إذا جامع شرائطها من حيث الشّأن فيمكن إلحاق المتعارضين منها بالمتعارضين من الأخبار في الأحكام ـ أو لا يكون كالمنقول بأخبار الآحاد في الأحكام ـ بمعنى عدم قيام دليل في المقام على حجيّة خبر الواحد ، فهي بمنزلة آية محكيّة بخبر الواحد؟

الظّاهر عدم التّلازم بين جواز القراءة والبناء على القرآنية بالنّسبة إلى سائر الآثار والأحكام كما هو ظاهر ما ورد في جواز القراءة عند التّأمّل ، كما أنّ الظاهر عدم قيام دليل من الخارج على ذلك ، وأمّا الحكم بحجيّة المنقول بالآحاد من القراءات المختلفة كالآية المستقلّة المنقولة بخبر الواحد فلا يبعد على تقدير عموم فيما دلّ على حجيّته كما ستقف على حقيقة القول فيه في محلّه.

ثمّ إنّ لحوق حكم المتعارضين من الأخبار في الأحكام للمتعارضين من القراءات المختلفة على القول بحجيّة النّقل شأنا في المقام فهو مطلب آخر ستقف عليه عن قريب.

٤٤٩

الكلام في حكم ما يختلف من القراءات

إذا عرفت ما نبّهناك عليه من الأمور تمهيدا فيقع الكلام في حكم ما يختلف من القراءات على كلّ من الأقوال والتقادير السّابقة.

فنقول : إنّ الاختلاف في القراءة قد لا يوجب الاختلاف في المعنى ( كملك ومالك ) وقد يوجب الاختلاف فيه كقراءة التخفيف والتّشديد في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(١) حيث إنّ ظاهر تخفيف الفعل حصوله من غير تحصيل فيكون مقتضاه مفهوما جواز المقاربة بعد حصول النّقاء وقبل الغسل. وظاهر تشديده تحصيل المبدأ فيكون مقتضاه منطوقا ـ عدم جواز المقاربة قبل الغسل إن حصل النّقاء.

وكقراءة الجرّ والنّصب في قوله : ( وَأَرْجُلَكُمْ )(٢) بناء على عموم البحث لما يشمل المقام من الاختلاف في الهيئة والإعراب هذا. مع قطع النّظر عمّا ثبت في مذهبنا من تعيين قراءة الجرّ من حيث العطف على الرّؤوس ونحوهما من موارد الاختلاف في القراءة الموجب لاختلاف المعنى.

أمّا القسم الأوّل : فالكلام فيه إنّما هو من حيث جواز القراءة المدلول عليه بالأخبار المدّعى عليه الإجماع ، وإن كان الحكم به على الإطلاق حتّى بالنّسبة إلى الشّواذ والقراءات الغير العشرة الّتي لم يتعارف القراءة بها عند النّاس لا يخلو

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) المائدة : ٦.

٤٥٠

عن إشكال ، فالاحتياط لا ينبغي تركه في الصّلاة وغيرها من مواضع وجوب القراءة أو حرمة مسّ ما يكشف منها إذا كان الاختلاف ماديّا أو غيرهما من آثار القرآن وأحكامه ، وإن كان ربّما يقال بكون جواز القراءة ملازما لسائر الأحكام. ولمّا كان المقصود بالبحث شرح القول في القسم الثّاني ، فنطوي بسط القول في حكم هذا القسم ونقتصر على هذا الإجمال.

وأمّا القسم الثّاني : فإن كان بين القراءات المختلفة ما يكون نصّا بحسب الدّلالة أو أقوى دلالة وظهورا بالنّسبة إلى غيره ، فلا إشكال في تعين الأخذ به وصرف الآخر عن ظهوره ، على تقدير القول بحجيّة كلّ قراءة ونقل شأنا كأخبار الآحاد في الأحكام فضلا عن القول بلزوم البناء على قرآنيّة كلّ قراءة وإلحاقه بالمتواتر أو القول بتواتر كلّ قراءة كما هو واضح.

نعم ، على القول بعدم دليل على حجيّة النّقل في المقام على تقدير عدم التّواتر موضوعا وحكما كما هو الظّاهر من حيث إنّ العمدة في إثبات حجيّته الإجماع بكلا قسميه قولا وعملا والأخبار المتواترة معنى وشيء منهما لا يقضي بحجيّة نقل غير السّنة بأقسامها ، لا ينبغي الارتياب في عدم الفرق بين النصّ والظّاهر فضلا عن الأظهر والظّاهر ؛ إذ لحوق حكم التّعارض فرع حجيّة المتعارضين.

ومن هنا يعلم أنّه لا ينبغي الإشكال في عدم إجراء سائر أحكام التّعارض من الرّجوع إلى سائر المرجّحات عند فقد المرجّح من حيث الدّلالة أو التّخيير عند التعادل. نعم ، إذا علم بصدور بعضها إجمالا فلا محالة يؤخذ بالجامع المستفاد من المجموع ولو كان قضيّة سلبية هذا.

٤٥١

وإن لم يكن بينها ذو مزيّة بحسب الدّلالة كانت متساوية من جهتها فإن قلنا بتواتر القراءات أو إلحاق كلّ واحد بالمتواتر والحكم بقرآنيّة الجميع ، فلا إشكال في الحكم بالإجمال والوقف والرّجوع إلى ما يكون متكفّلا لحكم مورد التّعارض بالعموم أو الإطلاق إن كان موجودا ، وإلاّ فإلى الأصول العمليّة من غير فرق بين أن يكون هناك مرجّح من غير جهة الدّلالة أو لم يكن هناك مرجّح ؛ إذ مرجع التّرجيح من غير جهة الدّلالة إلى الطّرح كالتخيير ، ولو كان من جهة المضمون ولو إجمالا وهو فيما تعيّن طرح أحد المتعارضين ولو من حيث جهة الصّدور.

فإن شئت قلت : المرجع بعد تكافؤهما بحسب الدّلالة في الفرضين القواعد المقرّرة في الشّرع بالمعنى الأعمّ من الأصول اللّفظيّة والعمليّة كلّ في مورده على ما هو التّحقيق وعليه المحقّقون : من عدم جريان التّخيير بين أصالتي الحقيقة ، ولا معنى للرّجوع إلى سائر المرجّحات أو التّخيير من حيث طرح السّند بعد

فرض قطعيتهما ، أو البناء على إلحاقهما بالمتواترين من حيث عدم تطرق الطّرح من حيث السّند فيهما.

وإن لم نقل بتواتر القراءات ولا بإلحاق بالمعنى الّذي عرفته فإن لم نقل بشمول دليل نقل الواحد للنّقل في المقام فقد عرفت حكمه ، وإن قلنا بالشّمول وحجيّة كلّ نقل شأنا ، فالمتعارضان في الفرض كالمتعارضين من الرّوايات في الأحكام قابلان لأن يلحقهما حكمهما من التّرجيح من غير جهة الدّلالة فيما لو فرض هناك مرجّح من سائر الجهات ، والتّخيير من حيث الأخذ بالصّدور فيما لم يكن هناك مرجّح.

فإن قلنا بوجود ما يقضي بالتّرجيح والتّخيير بين مطلق المتعارضين من

٤٥٢

الأدلّة من غير فرق بين الرّوايات في الأحكام وغيرها ـ كما يظهر من دعوى العلاّمة قدس‌سره وغيره الإجماع على وجوب الأخذ بأقوى الدّليلين مطلقا ـ فيحكم بالتّرجيح والتخيير في المقام أيضا ، في مورد وجود المزيّة وعدمها.

وإن لم نقل بعموم في دليل التّرجيح والتّخيير لمطلق المتعارضين وأنّ غاية ما هناك قيام الدّليل عليهما في المتعارضين من الرّوايات كالأخبار العلاجيّة فيحكم بالتّوقّف من حيث كونه مقتضى الأصل في تعارض ما كان مناط اعتباره الطّريقيّة والرّجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما على تقدير وجوده ، والتّخيير العقلي على تقدير عدم وجوده كالتّخيير بين الاحتمالين في دوران الأمر بين المحظورين. كما أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الحكم بالتّخيير العقلي مطلقا على تقدير القول بالسّببيّة في مناط الاعتبار بالتّخيير الّذي يحكم به في مطلق المتزاحمين من الواجبات.

وإن جوّزنا التّفكيك بين التّرجيح والتّخيير في حكم المتعارضين من غير الرّوايات فيمكن الحكم بالتّرجيح عند وجود المرجّح من غير جهة الدّلالة ، دون التّخيير في المقام نظرا إلى عدم الدّليل ، فيحكم بالتوقّف عند التعادل بالمعنى الّذي عرفته. كما أنّه إذا قلنا بحجيّة المتعارضين من حيث السّببية في مورد ولم يقم هناك دليل على التّرجيح بالمزيّة فيحكم بالتخيير ، وإن كان هناك مرجّح هذا.

قال المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » :

« ثمّ إنّ ما توافقت فيه القراءات فلا إشكال ، والمشهور في المختلفات : التّخيير ؛ لعدم المرجّح. ويشكل الأمر فيما يختلف به الحكم في ظاهر اللّفظ مثل ( يَطْهُرْنَ ) و ( يَطْهُرْنَ ) فإن ثبت مرجّح كما ثبت التّخفيف هنا ، فيعمل عليه ،

٤٥٣

وممّا يؤيّد ما ذكرنا وقوع الخلاف في هذه الآية ، وإلاّ تعيّن التّخيير في العمل » (١). ثمّ قال بعد نقل كلام العلاّمة قدس‌سره في « المنتهى » (٢) في ترجيح قراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عيّاش وأبي عمرو بن العلاء مع نفيه الخلاف عن صحّة الصّلاة بالقراءة المرجوحة مثل قراءة الحمزة والكسائي ما هذا لفظه :

« لا عمل بالشّواذ ، لعدم ثبوت كونها قرآنا وذهب بعض العامّة إلى أنّها كأخبار الآحاد يجوز العمل بها وهو مشكل ؛ لأنّ إثبات السّنة بخبر الواحد قام الدّليل عليه بخلاف الكتاب. وذلك كقراءة ابن مسعود في كفّارة اليمين ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) متتابعات (٣) فهل ينزّل منزلة الخبر لأنّها رواية؟ أم لا ؛ لأنّها لم تنقل خبرا؟ والقرآن لا يثبت بالآحاد ، ويتفرّع عليه وجوب التّتابع في كفّارة اليمين وعدمه ولكن ثبت الحكم عندنا من غير القراءة (٤) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ قوله في أوّل كلامه : ( لعدم المرجّح ) مشتبه المراد فإنّه لم يعلم كون مراده نفي الذّات ووجود المرجّح في القراءات المختلفة كما يقتضيه الجمود على ظاهر اللّفظ في باديء النّظر ، أو نفي العنوان والوصف؟ أي : نفي التّرجيح بالمزيّة في المقام ، ثمّ على تقدير الثّاني : هل المراد نفي التّرجيح مطلقا؟ حتّى بقوة الدّلالة أو نفي التّرجيح بغيرها؟

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٠٩.

(٢) منتهى المطلب : ط ق / ٢٧٣ وج ٥ / ٦٤ ط الآستانة الرضويّة.

(٣) المائدة : ٨٩ ، وفي المصحف الشريف برواية حفص عن عاصم : ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) من دون لفظة « متتابعات ».

(٤) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٠٩.

٤٥٤

ثمّ إنّ كلامه أخيرا في الإشكال على ما حكاه عن بعض العامة في حكم الشّواذ مبنيّ على القول بحجيّة نقل الواحد من حيث الخصوص ، فإنّه قد يتأمّل في شمول دليله لنقل الكتاب من حيث إنّ عمدته الإجماع بكلا قسميه المفقود في المقام ، والأخبار المتواترة ولا عموم لها لنقل غير السّنة. وأمّا على ما بني عليه الأمر في حجيّة خبر الواحد وغيره من الأدلّة من الظّن المطلق فلا معنى لإشكاله كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا كلّه تعرف المراد ممّا أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره بقوله : ( وعلى الثّاني : فإن ثبت جواز الاستدلال ... إلى آخره ) (١) فإنّ مراده إلحاق كلّ قراءة بالمتواتر وفي جميع الأحكام والحكم بقرآنيّة جميعها. وبقوله : ( وإلاّ فلا بد من التّوقّف في محلّ التّعارض ... إلى آخره ) (٢) فإنّ مراده فيما بني على شمول دليل نقل الواحد للنّقل في المقام ، وإلاّ فلا معنى للتّرديد بين صورة وجود المرجّح وعدمه ؛ فإنّه لو بني على عدم الشّمول لم يكن معنى لتأثير المرجّح في المقام كما هو واضح. كما أنّ الأوّل من شقّي التّرديد لا بدّ أن يكون مبنيّا على التّفكيك بين التّرجيح والتخيير في حكم المتعارضين على ما عرفت الإشارة إليه ، وإلاّ لم يكن معنى للتّوقف في المقام.

إذا عرفت هذا فاستمع لما يتلى عليك في بيان حال المثال الّذي أورده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » لما اختلف فيه القراءة وتطبيق ما أفاده

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٥٨.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ١٥٨.

٤٥٥

على الوجه الكلّي عليه. فنقول :

قد يقال : بوجود المرجّح من حيث الدّلالة لقراءة التّشديد من حيث إنّ المنع المستفاد منها من المقاربة قبل الغسل بالمنطوق ، والجواز المستفاد من قراءة التخفيف من جهة مفهوم الغاية. وهو وإن كان قويّا بالنّسبة إلى جملة من المفاهيم إلاّ أنّه ضعيف بالنّسبة إلى المنطوق نوعا.

وقد يقال : بوجوده لقراءة التّخفيف من حيث إنّ قوله ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(١) في مقام التّأكيد لقوله تعالى قبله ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ )(٢) الظّاهر في زمان التّلبّس بالدّم ، فكأنّه ورد لبيان ما يستفاد منه مفهوما من انتفاء وجوب الاعتزال بعد ارتفاع الدّم وحصول النّقاء وإن كان الحدث باقيا وليس تأسيسا لحكم آخر.

ثمّ على تقدير التكافؤ بينهما فالمرجع ـ بعد الحكم بالإجمال في مورد التّعارض على كلّ من الأحوال الثّلاثة فيما اختلف فيه القراءة أي : تواتره وإلحاقه به والبناء على حجيّته شأنا ـ قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(٣) بناء على كون كلمة أنّى للزمان كما عن جماعة ، وإن كان بعيدا بالنّظر إلى غالب موارد استعمال الكلمة ، فيصير المعنى أيّ زمان شئتم.

فإنّ الخارج من هذا العموم الزّماني على وجه القطع واليقين : هو زمان

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) نفس الآية السابقة.

(٣) البقرة : ٢٢٣.

٤٥٦

التّلبّس بالدّم. فيبقى زمان النّقاء قبل الاغتسال مشكوكا من حيث ابتلاء ما يقتضي خروجه بما ينفيه الموجب لإجمالها فيبقى العموم سليما عن المخصّص ؛ نظرا إلى عدم سراية الإجمال في المخصّص المنفصل إلى بيان العام الظّاهر في إرادة تمام الباقي سيّما في الإجمال الطّاريء من جهة المعارضة.

وعلى تقدير عدم جواز التمسّك بالعموم في المقام بتوهّم سراية الإجمال فلا مناص من الرجوع إلى عمومات الحليّة من حيث كون الشّبهة حكميّة.

ثمّ على تقدير الإغماض عنها ، فلا بدّ من الرّجوع إلى أصالة الحليّة الّتي هي الأصل في الأشياء. ولا معنى لتوهّم الرّجوع إلى استصحاب الحرمة الثّابتة قبل النّقاء على هذا التّقدير يقينا ؛ لانقلاب الموضوع وارتفاعه قطعا ؛ نظرا إلى ما فرضنا من ملاحظة الفعل بالنّسبة إلى كلّ قطعة من الزّمان موضوعا مستقلاّ متعلّقا لحكم مستقلّ ، فليس المانع من الرّجوع إليه العموم ؛ حيث إنّ المفروض إجماله ، بل ارتفاع الموضوع ، فلا معنى للتمسّك باستصحاب حكم الخاص في الفرض. هذا على تقدير حمل كلمة أنّى على الزّمان.

وأمّا على تقدير حملها على المحلّ والمكان ، فلا عموم للآية بالنّسبة إلى الأزمنة ؛ بالمعنى الّذي عرفته ، وإن استفيد منها عموم بالنظر إلى الحكمة والإطلاق بمعنى استفادة دوام الحكم وعدم اختصاصه ببعض الأزمنة فليس هنا عموم للآية يتمسّك به بعد الحكم بحرمة المقاربة في زمان التّلبّس بالدّم ، بل يمكن منع العموم الزّماني لعمومات الحليّة أيضا ، فلا مانع من إجراء استصحاب الحرمة مع قطع النّظر عن المناقشة في بقاء الموضوع وكون المرجع في إحرازه العرف ، وهو حاكم على أصالة الحليّة الّتي هي الأصل في الأشياء.

وهو نظير ما لو خرج فرد من العموم الأفرادي وكان المتيقّن خروجه في

٤٥٧

زمان بحيث كان بعده مشكوكا ؛ فإنّه يجري استصحاب حكم الخاص في الزّمان المشكوك من حيث عدم المانع منه ؛ فإنّ المفروض عدم جواز التمسّك بالعموم في المقام ؛ حيث إنّه ليس الشك راجعا إلى الشّك في التّخصيص.

ومن هنا حكم غير واحد باستصحاب الخيار فيما شك في فوريته من غير التفات إلى قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) وإن خالف فيه المحقّق الثّاني (٢) ؛ نظرا إلى استفادة العموم الزّماني من الآية هذا وسنوضح تفصيل القول في ذلك في الجزء الثّالث من التّعليقة إن شاء الله تعالى (٣).

وممّا ذكرنا كلّه يعرف المراد من قول شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره : ( على الوجهين في كون المقام ... إلى آخره ) (٤) فإنّه يحمل الوجه الأوّل في كلامه على القول بكون كلمة أنّى للمكان بالتّقريب الّذي عرفته. والوجه الثّاني على كونها للزّمان كما صرّح به في الكتاب. والتّفريع على الوجه الأخير ليس من جهة اختصاص الحكم به ، بل من جهة ثبوته له وإن ثبت للوجهين الأولين أيضا.

نعم ، حقّ التّحرير أن يقول : بدل قوله : ( إذ لم يثبت تواتر التّخفيف ) (٥) لفرض الإجمال وعدم قوّة إحدى القراءتين على الأخرى فافهم.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) الفقيه المحقق الجليل الشيخ علي بن عبد العالي الكركي ـ بفتح الكاف الأولى وسكون الرّاء ـ المتوفّى سنة ٩٤٠ ه‍.

(٣) في تعليقة ص ١٥٧ من ج ٣ بحر الفوائد الحجري.

(٤) فرائد الاصول : ج ١ / ١٥٨.

(٥) فرائد الاصول : ج ١ / ١٥٨.

٤٥٨

(١٧٨) قوله قدس‌سره : ( الثّالث : أنّ وقوع التّحريف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٥٨ )

في وقوع التحريف في القرآن وعدمه (١)

أقول : ينبغي التكلّم أوّلا : في أصل وقوع التّحريف والتّغيير والنّقيصة والزّيادة في القرآن بعض الكلام ، ثمّ تعقيبه بالكلام في قدح وقوع التّغيير بالمعنى الأعمّ في حجيّة ظواهر آيات الأحكام وعدمه.

فنقول : إنّه لا خلاف بين علماء الشّيعة في أنّه كان لأمير المؤمنين ( عليه وعلى أخيه الرّسول الأمين وأولادهما المنتجبين ألف سلام وصلاة وتحيّة ) قرآن مخصوص جمعه بعد وفات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عرضه على النّاس والمنحرفين ، وأعرضوا عنه قائلين : إنّه لا حاجة لنا فيه. فحجبه عنهم وأودعه ولده عليه‌السلام يتوارثه إمام عن إمام كسائر خصائص الإمامة والرسالة ، وهو الآن عند الحجّة وإمام العصر عجّل الله فرجه يظهر للنّاس بعد ظهوره ويأمرهم بقراءته ، وقد نطقت به الأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى.

كما أنّه لا خلاف بينهم في مخالفته لما في أيدي النّاس في الجملة ولو من حيث التّأليف وترتيب السّور والآيات بل الكلمات ، وإلاّ لم يكن معنى لكونه من

__________________

(١) انظر البحث المشبع في ذلك في كتاب نفي التحريف عن القرآن لسيدنا الأستاذ الأعظم فقيه العصر السيّد محمّد علي الأبطحي أعلى الله تعالى مقامه الشريف وكذا ما كتبه أصحاب السماحة الأستاذ السيّد علي الميلاني والشيخ محمّد هادي المعرفة والسيّد مرتضى العسكري وتفسير آلاء الرحمن للعلاّمة البلاغي وكذلك تفسير الميزان : ج ١٢ / ١٠٨ في أوائل سورة الحجر.

٤٥٩

خصائصه عليه‌السلام ويدلّ عليه ـ مضافا إلى وضوحه ـ ما رواه الشّيخ المفيد قدس‌سره في محكيّ « إرشاده » عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ( إذا قام قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب فساطيط لمن يعلّم النّاس القرآن على ما أنزله الله تعالى ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنّه يخالف فيه التّأليف ) (١) الخبر. وغيره كما أنّهم لا ينكرون مخالفته لما في أيدي النّاس من حيث اشتماله على وجوه التّأويل والتّنزيل والتّفسير والأحاديث القدسيّة كما صرّح به الصّدوق والمفيد عن بعض أهل الإمامة والسيّد الكاظمي الشّارح لل « وافية » وغيرهم قدست أسرارهم.

كلام الصدوق في إعتقاداته

قال الصّدوق في محكيّ « اعتقاداته » : « إنّه قد نزل من الوحي الّذي ليس بقرآن ، ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية. وذلك مثل قول جبرئيل للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ الله تعالى يقول لك : دار خلقي مثل ما أداري ) (٢) ومثل قوله : ( اتّق شحناء النّاس وعداوتهم ) (٣) ومثل قوله : ( عش ما شئت فإنّك ميّت أحبب ما شئت فإنّك مفارقه واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن النّاس ) (٤) ومثل قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ما زال

__________________

(١) الإرشاد : ج ٢ / ٣٨٦.

(٢) الكافي : ج ٢ / ٩٦ باب المداراة ـ ح ٢ وليس فيه : مثل ما أداري ، عنه الوسائل : ج ١٢ / ٢٠٠ باب « استحباب مداراة الناس » ـ ح ٣.

(٣) الكافي : ج ٢ / ٢٢٨ باب « المراء والخصومة » ـ ح ٢ وفيه : شحناء الرّجال ، عنه الوسائل : ج ١٢ باب « استحباب اجتناب شحناء الرجال وعداوتهم ... » ـ ح ١.

(٤) أمالي الصدوق : ١٩٤ ، المجلس ٤٢ ـ ح ٥ ، وكذا في الخصال : ٧ باب الواحد ـ ح ٢٠

٤٦٠