بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

زوال الظّن إلاّ فيما أفاد الاستصحاب الظّن فيعمل به ويحكم ببقاء الحكم واقعا لا من جهة اعتبار الاستصحاب بل من جهة حصول الظّن منه.

وإن كان على النّحو الثّالث فلا إشكال أيضا في عدم تعقّل جريان الاستصحاب بالنّسبة إليه للقطع ببقائه عند الشّك.

نعم ، لو فرض الشّك في بقاء الحكم من جهة النّسخ ، جرى فيه أصالة عدم النّسخ التي هي من أقسام الاستصحاب عند المشهور ـ وإن لم يكن الأمر كذلك عندنا حسبما ستقف عليه في محلّه إن شاء الله تعالى ـ. كما أنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب بهذا المعنى في القسم الثّاني ـ كما إذا شك في نسخ الحكم المترتّب على الموضوع المعلوم في الشّريعة ـ ولكن هذا خروج عن محلّ البحث ؛ فإنّ الكلام في الشّك في بقاء الحكم من جهة الشّك في بقاء موضوعه.

في معنى وقوع الموضوع موردا لتنزيل الشارع إثباتا ونفيا

وإن كان على النّحو الرّابع فلا إشكال أيضا في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ للقطع بوجود ما هو المناط فيه في صورة الشّك ـ كما يقطع بوجوده في صورة العلم ـ فلا يعقل إجراء الاستصحاب في نفس الموضوع الواقعي المجامع لهذا المناط في حالتي العلم به والشّك فيه.

توضيح ذلك : أنّ المقرر في باب الاستصحاب ـ كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ـ وغيره : أنّ الموضوع الخارجي ممّا لا يقبل تعلّق الجعل الشّرعي به لعدم كونه من مقولة الإنشاء والحكم ، وإن كان مخلوقا للشّارع من حيث كونه خالقا. بل مرجع حكم الشّارع ببقائه أو رفعه أو حجيّته ما قام عليه من الأمارات إلى وجوب

٣٨١

الالتزام بما يترتّب عليه في الشرعية من الأحكام ؛ الّذي يرجع إلى الجعل الظّاهري لهذه الأحكام ، وهذا معنى ظاهريّة الموضوعات ، وإلاّ فليست من قبيل الأحكام الّتي لأنفسها وجود ظاهري وإن لم يترتّب عليها أحكام أخر.

فإذا كان الموضوع ممّا يترتّب عليه الحكم في الشريعة فيمكن حكم الشّارع بالبناء على ثبوته في صورة الشّك من الأعدام والوجودات ، وإلاّ فلا يعقل تعلّق الحكم الشّرعي به ، فإذا فرضنا في الفرض عدم تعلّق الحكم الشّرعي بالموضوع الّذي يراد استصحابه لم يمكن إجراء الاستصحاب فيه فالموضوع المشكوك ممّا لم يترتب عليه حكم حتى يمكن استصحابه ، والذي يترتّب عليه الحكم لم يشك في بقائه.

نعم ، فيما حكمنا بعدم جريان الاستصحاب فيه لو فرض هناك حكم ومحمول آخر ـ غير ما فرضنا تعلّقه بالموضوعات بملاحظة العنوانات المسطورة ـ متعلّق بذات الموضوع لم يكن إشكال في جريان استصحاب الموضوع ، ليترتب الحكم المفروض عليه ، فقد يكون لموضوع حكمان بالاعتبارين يجري استصحابه بملاحظة أحدهما عند الشّك في الموضوع دون الآخر ، كما هو واضح.

[ حرمة العمل بما ليس حجة ، تشريعيّة ]

الثّاني : أنّك قد عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة (١) : أنّ حرمة العمل بما ليس بطريق وحجّة في حكم الشّارع ليست ذاتيّة ، بل هي تشريعيّة. فلذا حكمنا بإمكان

__________________

(١) أنظر ص ٣٧٣.

٣٨٢

الاحتياط فيه في صورة الشّك في الحجيّة وعدم حرمة العمل به إذا لم يكن العمل على وجه الالتزام إذا لم يكن ثمّة محذور آخر.

نقل كلماتهم في معنى التشريع

الثّالث : أنّه اختلفت كلمة الأصحاب في الجملة في موضوع التشريع بعد اتّفاقهم على حرمته بالأدلّة الأربعة. فعن المشهور المنصور عند الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) : أنّه إدخال ما لم يعلم أنّه من الدّين في الدّين بقصد أنّه من الدّين ، بمعنى كون عمله على وجه ينسبه إلى صاحب الدّين سواء علم عدم كونه منه أو شك فيه.

والمراد من عدم العلم أعمّ من العلم واقعا وظاهرا أو غير العلم المنتهي إلى العلم. فالتشريع عنوان يجامع العلم بالعدم والشّك إذا لم يكن أخذ المكلّف بأحد الطّرفين بمقتضى الدليل المعتبر ، وإلاّ فلا يكون تشريعا قطعا ، كما عرفت من بيان حده.

نعم ، لو أتى المكلّف في صورة الشّك في هذا الفرض بأحد الطّرفين الذي قام الدليل عليه بعنوان كونه الواقع الأوّلي ، كان تشريعا أيضا كما هو ظاهر هذا.

ويظهر من غير واحد أنّ التشريع لا يجامع العلم بالعدم بل الشّك ؛ لعدم تأتّي القصد فيهما بل هو عبارة عن إدخال ما علم أنّه من الدّين ، في الدّين بقصد أنّه من الدّين مع كون العلم حاصلا عن تقصير كما في أكثر علوم العوام على خلاف الواقع.

قال في « الروضة » ـ في مسألة استيعاب الرّأس بالمسح ـ : « نعم ، يكره

٣٨٣

الاستيعاب إلاّ إذا اعتقد شرعيّته (١) ». انتهى.

وقال المحقّق الخونساري ـ في محكي شرحه عليها ـ : « أي : وجوبه أو استحبابه فيحرم فعله بهذه النّسبة لحرمة كلّ عبادة لم تكن متلقّاة من الشّارع أو يحرم ذلك الاعتقاد ». ثمّ تأمّل في الوجهين بما يطول المقام بذكره من أراد الوقوف عليه فليراجعه (٢).

وقال بعض أفاضل من قارب عصرنا ـ في جملة كلام له يطعن فيه على ظاهر كلمات القوم :

« وبالجملة : الفعل الّذي لم يدلّ دليل فاعله على شرعيّته ، إمّا يفعله من غير اعتقاد شرعيّته فلا دليل على حرمته ولو تصوّر أو خطر بباله الشّرعيّة. أو يفعله باعتقادها ولا يمكن أن يكون ذلك إلاّ بدليل ». انتهى كلامه.

وقال ـ بعد جملة كلام له ساقه في حكم المقام ـ :

« والتّحقيق : أنّ كلّ فعل لم يثبت من الشّارع ، لا يمكن الإتيان به باعتقاد أنّه من الشّارع. ولكن يمكن فعله بإراءة أنّه من الشّارع أو جعله شرعا للغير ، وهو تشريع وإدخال في الدّين وإن لم يعتقده المشرّع ، وهذا هو البدعة ولذا يطلق البدعة على ما ابتدعه خلفاء الجور كالأذان الثّالث في يوم الجمعة ، وغسل الرّجلين ، وتثليث غسل الوجه في الوضوء ، وصلاة الضّحى ، والجماعة في النّوافل ، ونحو ذلك. مع أنّهم ما كانوا يعتقدون ثبوته من الشارع وإنّما أدخلوه في الدّين

__________________

(١) الروضة البهيّة : ج ١ / ٣٢٥.

(٢) حاشية آغا جمال الخوانساري على الروضة : ٣٢.

٣٨٤

إدخالا ، بل وإن اعتقدوها أيضا (١) ». انتهى كلامه رفع الله في الخلد مقامه.

فتلخّص من جميع ذلك : أنّ المستفاد من كلام هؤلاء عدم تحقق التّشريع إلاّ مع الاعتقاد بأنّه من الدّين ، اعتقادا لا يعذر فيه المعتقد سواء كان عاميّا أو مجتهدا. وهو كما ترى ؛ لأنّ هذا الوهم نشأ من أخذ قيد القصد في تعريف التّشريع وهو لا يمكن مع عدم العلم بكون الشّيء من الدّين.

ولكنّك خبير : بأنّ المراد من القصد ليس ما يتراءى منه في باديء النّظر ، بل المراد منه : الإتيان بالفعل على وجه ينسبه إلى الشّارع إمّا بالقصد ـ كما إذا كان معتقدا كما يتحقّق ذلك في بعض الصور ـ أو بالقول ـ كما إذا أفتى النّاس بما يعلم عدم ثبوته من الشّارع ـ أو بالفعل ـ كما إذا أظهر للنّاس أنّه من الشّارع ـ فالتّشريع يتحقّق في صورة العلم بأنّه ليس من الدّين فضلا عن صورة الشّك هذا.

وبإزاء التوهم المذكور توهّم آخر أضعف منه قد نشأ من بعض الأفاضل هو : أن التّشريع لا يتحقّق إلاّ مع العلم بأنّ الشّيء ليس من الدّين ؛ لأنّ مع الاعتقاد لا يتحقّق التشريع سواء كان المكلّف معذورا فيه أو لا. غاية الأمر كونه مستحقا للعقوبة على فعله إذا كان على خلاف الواقع في الأخير. ولكنّه ليس من جهة التّشريع ، وإلاّ لم يعتبر فيه المخالفة للواقع كما هو ظاهر.

وبالجملة : مجرّد التّقصير مع الاعتقاد لا يوجب تحقّق التّشريع وإلاّ كان المجتهد الغير الباذل وسعه مع حصول الاعتقاد له ، مشرّعا وهو كما ترى هذا.

ولكنّه محلّ مناقشة أيضا ؛ لتحقّق التّشريع بالوجدان في حقّ أكثر العوام المعتقدين المقصّرين.

__________________

(١) عوائد الأيام : ٣٢٥.

٣٨٥

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ الحقّ هو تعميم التشريع بالنّسبة إلى الأحوالات الثّلاثة في الجملة ، وأنّ القولين في طرفي الإفراط والتفريط.

في أنه قد يقال بجريان أصالة عدم الحجية لإثبات الحرمة التشريعيّة

إذا عرفت ما مهّدنا لك من المقدّمة الشّريفة ، علمت الوجه فيما ذكرنا ـ في قبال ظاهر كلام الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » ـ من عدم جريان أصالة عدم الحجيّة ؛ لأنّ الحرمة ليست من محمولات عدم الحجيّة الواقعيّة حتّى يجري فيه الاستصحاب بل من أحكام التّشريع المتحقّق في صورة الشّك قطعا ، كما في صورة العلم بعدم الحجيّة ، بل لا يتفاوت الحال فيما ذكرنا على جميع الأقوال في التشريع كما هو واضح على من له أدنى دراية هذا.

ولكن قد يقال : بجريان أصالة عدم الحجيّة ؛ نظرا إلى تعلّق الحرمة الشّرعيّة الواقعيّة بموضع التعبّد والتّدين بما لم يجعله الشّارع حجّة وواجب العمل في نفس الأمر لا به بوصف أمر وجداني مقطوع البقاء أو الارتفاع.

توضيح ذلك : أنّك قد عرفت ـ من مطاوي كلمات شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره وكلماتنا ـ : أنّ التشريع الّذي ليس له ذكر في الكتاب والسّنة ، وإنّما ذكره الفقهاء في أبواب العبادات والمعاملات بل في الأصول أيضا واتّفقوا على حرمته.

ولا يبعد مساواته للبدعة المذكورة في الأخبار في وجه كما يتحقّق فيما لو اعتقد الشّرعيّة في الجملة كذلك يتحقّق فيما لو اعتقد عدم الشّرعيّة غاية ما هناك من الفرق بينهما : أنّ التّشريع القصدي يمكن في الأوّل كالقولي والفعلي بخلاف الثّاني : فإنّه لا يمكن فيه التّشريع القصدي إلاّ إذا جعل القصد مجرّد التصوّر

٣٨٦

وإخطار صورة العمل في الذّهن وإن لم يكن معه النيّة والدّاعي أصلا. لكنّه لا معنى له ولم يقل به أحد.

فإذا تحقّق التّشريع في صورتي الاعتقاد فلا يخلو الأمر : إمّا من أن يقال باختلاف حقيقة التّشريع وإنّ له حقيقتين : إحداهما : إدخال ما لم يعلم. الثانية :

إدخال ما علم أنّه من الدّين بالجهل المركّب الناشئ عن التقصير. وإمّا أن يقال بأنّ له حقيقة واحدة لا اختلاف فيها أصلا.

والأوّل فاسد جدّا بحيث لا يزعمه جاهل ، فتعين الثّاني. ولا جامع بينهما إلاّ الإدخال في الدّين. فإذا كان هو الجامع بينهما فلا محالة يجري الأصل عند الشّك في الجعل والحجيّة.

نقل مناقشات في مسألة التشريع والجواب عنها

لا يقال : لم لا يجعل الجامع الإدخال مع الاعتقاد سواء تعلّق بالشّرعيّة أو بعدمها؟

لأنّا نقول : جعل الجامع ما ذكر ، إنّما يستقيم فيما لم نقل بشمول التّشريع لما شك في حجيّته كما هو صريح كلام شيخنا العلاّمة قدس‌سره. وإلاّ فلا بدّ من أن يجعل الجامع غيره ، وليس إلاّ ما ذكرناه.

لا يقال : جعل الجامع ما ذكرته وإن اقتضى جريان الأصل بالنّسبة إلى المشكوك إلاّ أن لازمه الحكم بالتّسوية في الجاهل المركّب بين القاصر والمقصّر مع أنّه خلاف قضيّة كلماتهم ، إذ لم يقل أحد : بأنّ المجتهدين المخطئين في الأصول والفروع مشرّعون ومبدعون فيما اجتهدوا وحكموا به. وكذا العامي القاصر

٣٨٧

المخطئ في الاعتقاد أصولا وفروعا.

لأنّا نقول : أمّا أوّلا : فلأنّه لا مضايقة في ذلك غاية الأمر أنّهم معذورون مع القصور. ألا ترى أنّا نحكم بأنّ السّابّين لمولانا ومولى العالمين من الجنّة والنّاس والملائكة أجمعين أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ـ صلوات الله عليه وعلى أخيه وزوجته الطاهرة وأولاده المعصومين المظلومين من زمن المعاوية إلى زمن عمر بن عبد العزيز ـ من أهل البدع والتّشريع؟ مع أنّ فيهم من يعتقد كون سبّه من السّنن بل الفرائض ، مع قصوره في ذلك الاعتقاد الفاسد المخالف لضرورة الكتاب والسّنة والإجماع والعقل. كيف! وقد ثبت بها أنّ حبّه وولاءه من الإيمان ، وأنّ بغضه موبقة مهلكة وإن لم نقل بكونه وصيّا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم حكمهم بذلك إنّما هو من جهة ظهور النّسبة في التّعمد والالتفات إلى العنوان. ألا ترى أنّ الكذب عند المشهور هو الخبر المخالف للواقع من غير مدخل للاعتقاد فيه أصلا؟ ومع ذلك لا يرتابون في ظهور نسبة الكذب إلى الشّخص في كونه ملتفتا إلى العنوان ؛ ولذا يتأثّر من ينسب الكذب إليه بمجرّد النّسبة فتأمل.

لا يقال : لازم ما ذكرت من التّعميم ثبوت عقابات متعدّدة في صورة الجهل المركّب مع التّقصير عقاب مخالفة الواقع وعقاب التّشريع والبدعة وعقاب التجري على القول به.

لأنّا نقول : لا ضير في الالتزام بذلك ؛ فإنّه كما يلزمنا ذلك يلزمك أيضا : فإنّك تقول بمعصيته مع الجهل المركّب الناشئ عن التّقصير ، بل ذلك لازم على كلّ قول فإنّه على تقدير كونه التّدين بما لم يعلم أنّه من الدّين وإن علم كونه ليس منه على

٣٨٨

مخالفة العمل للواقع في صورة الشّك عقابات متعدّدة وكذا إذا قلنا : بأنّه التّدين بما علم أنّه ليس من الدّين أو بما علم أنّه منه مع التّقصير في الاعتقاد كما هو واضح.

لا يقال : ما ذكرته إنّما يستقيم فيما لو كان عنوان حرمة التعبّد بغير العلم منحصرا في التّشريع ، لم لا تجعل له عنوانين أحدهما : التّشريع بالمعنى الّذي ذكرته. ثانيهما : نفس العنوان المذكور في الكتاب والسّنة؟ مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(١) وقوله عليه‌السلام : ( حقّ الله على العباد أن يقولوا بما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الظّاهرة في تعلّق الحرمة الواقعيّة بنفس عنوان عدم العلم. فإذا كان التّديّن بما لا يعلم حراما واقعيّا بالنّظر إلى الكتاب والسّنة فلا معنى لإجراء أصالة عدم الحجيّة في مورد الشّك الرّاجع إلى جعل الحكم الظّاهري ، فإنّ ما كان حراما واقعيّا لا معنى لجعل الحرمة الظّاهريّة له.

لأنّا نقول : ما ذكر توهّم.

أمّا أوّلا : فلأنّه بعد جعل التّشريع بالمعنى الذي ذكرناه فلا مناص من حمل ما دلّ على حرمة التعبّد بغير العلم من الكتاب والسّنة على إرادة الحرمة الظّاهريّة على ما يستظهر من قوله عليه‌السلام : « حقّ الله على العباد أن يقفوا عند ما لا يعلمون » كما هو واضح.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) المحاسن : ج ١ / ٢٠٤ باب « حق الله عز وجل على خلقه » ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٦٨ باب « وجوب التوقف والإحتياط » ـ ح ٤٩. باختلاف.

٣٨٩

فيمكن أن يكون المراد منه الحرمة المستندة إلى أصالة عدم الحجيّة ، فيكون دليلا على حجيّتها ؛ نظرا إلى عدم المعنى في الحكم الفعلي بالحرمة الظّاهريّة من جهتين ، مع كون إحدى الجهتين ملازمة للجهة الأخرى دائما. وإنّما يتصوّر ذلك فيما كان هناك انفكاك بينهما في الجملة كما في الحكم بالطّهارة الظّاهريّة من جهة نفس الشّك في الطّهارة الأعم ممّا كان له حالة سابقة وما ليس له حالة سابقة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا مانع ـ بعد الغضّ عمّا استظهرنا من إرادة الحرمة الظّاهريّة المنطبقة على استصحاب عدم الحجيّة ـ من جعل الحرمة الواقعيّة لما كان له حرمة ظاهريّة من جهة عنوان آخر.

ألا ترى أنّه يحكم بالحرمة الظّاهريّة من جهة استصحاب النّجاسة فيما كان له حرمة واقعيّة من جهة أخرى كالغصبيّة مثلا؟ فتأمّل.

لا يقال : إنّ المستصحب في استصحاب عدم الحجيّة ليس ممّا يترتّب عليه الحرمة بلا واسطة فإنّ الموضوع للحرمة التّشريع بمعنى الإدخال الملازم لعدم الحجيّة.

لأنّا نقول : التّعبّد بما ليس بحجّة من مصاديق التّشريع وجزئيّاته وليس ممّا يلازمه وإن هو إلاّ كاستصحاب الإذن للتصرف المأذون فيه مثلا أو استصحاب العدوان في التّصرف العادي فتدبر.

لا يقال : ما ذكرته إنّما يستقيم في التّشريع المحرّم شرعا وأمّا الّذي يحكم العقل بقبحه فهو الإدخال المعلوم عند العقل فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

لأنّا نقول : مورد الاستصحاب الموضوع للحكم الشّرعي لا العقلي وإن هو إلاّ نظير استصحاب الضّرر ؛ فإنّه يترتّب عليه الحكم الشّرعي بالحرمة لا الحكم

٣٩٠

العقلي بالقبح ، ولا ينافي ذلك ثبوت التّلازم بين الحكمين حسبما ستقف عليه في الجزء الثّالث من التّعليقة (١) إن شاء الله تعالى.

هذا بعض الكلام في المقام وعليك بالتّأمّل فيه فإنّي لم أجد الكلام محرّرا فيه كما هو حقّه في كلمات الأعلام.

في ان ما ذكر يجري في موارد البراءة والإشتغال

ثمّ إنّ ما ذكرنا ليس مختصّا بالمقام بل يجري في جميع ما كان الأمر فيه كما عرفته فيه كما في موارد جريان أصالة البراءة والاشتغال ونحوهما من الأصول المتحقق موضوعها في صورة الشّك يقينا ؛ لأنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة في باب البراءة مترتّب على نفس عدم وصول البيان إلى المكلّف وعدم علمه بالتّكلف المتوجّه إليه واقعا.

وهذا المناط كما لا إشكال في وجوده في صورة العلم بعدم البيان كذلك لا إشكال في وجوده في صورة الشّك. وليس حكم العقل في باب البراءة مبنيّا على عدم التّكليف واقعا وكذلك حكم العقل في مورد الاشتغال مبنيّ على وجوب دفع الضّرر اليقيني أو المحتمل.

وبعبارة أخرى : لزوم التخلّص عن العقاب على وجه اليقين ؛ فإنّ حكم العقل بوجوب الإطاعة اليقينيّة للأمر المتوجّه من المولى إلى العبد مبنيّ على وجوب التخلّص عن العقاب لا على وجود الحكم الواقعي. ومن المعلوم وجود هذا المناط في صورة الشّك في حصول البراءة عن التّكليف اليقيني ، فلا معنى إذن

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ١١٣.

٣٩١

لاستصحاب عدم التّكليف الواقعي ، أو التّكليف الواقعي. ومن هنا يعرف النّظر فيما اشتهر بينهم من استصحاب البراءة والاشتغال.

نعم ، لو كان حكم العقل في البابين مترتّبا على عدم التّكليف واقعا أو وجوده كذلك صحّ ما ذكروه ولكنّه كما ترى لا معنى للقول به.

في الإشكال في جريان استصحاب الطهارة في مورد قاعدة الطهارة

فإن قلت : كيف تحكم بأنّ إجراء الاستصحاب في المقام وأشباهه ممّا لا معنى له؟ مع أنّ من المشهورات المسلّمات الّتي لا ينكرها أحد استصحاب الطّهارة في الشّيء المسبوق بها.

مع أنّ الشبهة المذكورة تجري فيه أيضا ؛ فإنّ نفس الشّك في الطّهارة والنجاسة موضوع لحكم الشّارع بالطّهارة في قاعدة الطّهارة ، فلو صحّ ما ذكر لمنع من إجراء استصحاب الطّهارة أيضا ، فليجعل قاعدة البراءة واستصحابها من قبيل قاعدة الطّهارة واستصحابها ، فالمتعيّن إذن القول بكون الاستصحاب في المقام وأشباهه ممّا لا يحتاج إليه ، لا ممّا لا يجري.

قلت : قد عرفت قيام البرهان القطعي على امتناع جريان الاستصحاب في الفرض وأمثاله ولم يكن الأمر فيه من الوضوح بحيث يحتاج إلى البيان والإعادة.

وأمّا النّقض بقاعدة الطّهارة واستصحابها ، ففاسد جدّا ؛ لفساد القياس ووضوح الفرق ؛ لأنّ المتمسّك باستصحاب الطّهارة لا يريد به إبقاء الطّهارة الظّاهريّة المستفادة من قاعدة الطّهارة ، وإنّما يريد إثبات الطّهارة الواقعيّة في صورة الشّك في بقائها فالمستصحب هي الطّهارة الواقعيّة.

٣٩٢

نعم ، تصير طهارة ظاهريّة باستصحابها فلم يرد أحد باستصحاب الطّهارة إثبات الطّهارة الّتي كانت ثابتة في موضوع الشّك بمقتضى القاعدة ، وإنّما المراد إثبات الطّهارة الّتي كانت موجودة سابقا ومترتّبة على الموضوع الواقعي مع قطع النّظر عن العلم والجهل.

وبعبارة أخرى : فرق بين المنقوض والمنقوض به ؛ لأنّ الطّهارة ممّا يتّصف بالظّاهريّة والواقعيّة ويكون لها وجود ظاهريّ ووجود واقعي مترتب على الموضوع الواقعي مع قطع النّظر عن العلم والجهل ، فلا مانع من إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الطّهارة الواقعيّة المترتّبة على الموضوع الواقعي ، وإن لم يجر بالنّسبة إلى الطّهارة الظّاهريّة المترتّبة على الموضوع المشكوك.

وهذا بخلاف حكم العقل بحرمة العمل بما وراء العلم من باب التّشريع والافتراء ؛ فإنّه لا ينقسم إلى القسمين بل يكون واقعيّا بقول مطلق ؛ لأنّ حكم العقل بحرمة التشريع لا يعقل له جهة ظاهريّة أصلا ؛ فإنّه بعد العلم بورود الدّليل على المشروعيّة والجواز لا يعقل معنى للتّشريع ، وقبله يكون التشريع المحرّم متحقّقا قطعا حسبما عرفت تفصيل القول فيه.

وكذلك الكلام بالنّسبة إلى حكم العقل في قاعدة الاشتغال والبراءة ، بل الأمر في جميع موارد حكم العقل كذلك. والوجه فيه ؛ أنّ الحكم العقلي لا يتّصف بالظّاهريّة في مورد من الموارد ؛ لأنّ الحكم لا يعقل له جهة اشتباه بالنّسبة إلى نفس الحاكم سواء كان هو العقل أو غيره ، وإنّما يعرض الحكم في القضايا العقليّة على الموضوعات المعلومة الغير المنفكّة عن الحكم ، فإن علم بالموضوع حكم حكما قطعيّا. وإن لم يعلم ، لم يحكم قطعا ؛ فإنّ الموضوع في القضايا العقليّة : هي

٣٩٣

العلّة التّامّة هذا.

وقد عرفت بعض الكلام فيه في أوّل التّعليقة وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث من التّعليقة عند التكلّم في عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة (١).

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا من التّفصّي عن النّقض بقاعدة الطّهارة واستصحابها إنّما هو مبني على كون الطّهارة من الأحكام الشّرعيّة المجعولة. أمّا إذا قلنا بأنّها ليست من الأمور المجعولة وإنّما هي من الاعتبارات المنتزعة من الأحكام التكليفيّة أو من الأمور الواقعيّة الّتي كشف عنها الشّارع ـ على ما هو التّحقيق عندنا من عدم تعلّق الجعل بغير الأحكام الخمسة التّكليفية حسبما ستقف عليه في باب الاستصحاب ـ فالتّفصّي من النّقض بهما أيضا ظاهر لمن له أدنى دراية ؛ لأنّ المستصحب على الأوّل : يجعل الحكم الواقعي التّكليفي الّذي يكون منشأ لانتزاع الطّهارة. وعلى الثّاني : الأمر الواقعي الغير المجعول كما في استصحاب جميع الموضوعات الخارجيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه بناء على القول باجتماع القاعدة والاستصحاب وجريانهما في مورد واحد. وأمّا لو قلنا بعدم جريان القاعدة في مسبوق الطّهارة بناء على القول باعتبار الاستصحاب من جهة حكومته على القاعدة ـ بناء على ما هو التّحقيق الّذي ستقف عليه : من أنّ كلّ ما يكون حاكما على غيره في صورة تنافي مدلوليهما ، يكون حاكما عليه في صورة توافق مدلوليهما فالأمر أوضح كما هو واضح.

__________________

(١) ج ٣ / ١١٣ ط حجرية.

٣٩٤

فإن قلت : ما ذكرته في التّفصّي من النّقض بقاعدة الطّهارة واستصحابها يجري في قاعدة الاشتغال واستصحابه حرفا بحرف ، وإن لم يجر بالنسبة إلى مسألة التشريع ؛ لأنّ الطّهارة كما تكون على قسمين كذلك الاشتغال يكون على قسمين : واقعيّ وظاهريّ ، فلم منعت من عدم جريان استصحاب الاشتغال مقيسا له بأصالة عدم الحجيّة؟

قلت : نمنع من جريان ما ذكرنا في الطّهارة بالنّسبة إلى الاشتغال ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ حكم العقل بلزوم التخلّص عن العقاب حكم واقعي غير مأخوذ فيه الشك ، غاية الأمر : أنّه توجد في صورة الشّك أحيانا من جهة وجود مناطه فيها لا من جهة كون الشّك مأخوذا في موضوعه.

وبالجملة : قد عرفت : أنّه لا معنى لتقسيم حكم العقل إلى الظّاهري والواقعي ؛ لأنّه لا يحكم إلاّ على الموضوعات المعلومة والقضايا الأوليّة ، غاية الأمر ؛ وجود موضوع حكمه في بعض صور الشّك أيضا.

في أن قياس الاصول الشرعيّة بالأصول العقليّة فاسد

فإن قلت : ما ذكرته في الأصول العقليّة يجري في الأصول الشّرعيّة أيضا طابق النّعل بالنّعل ؛ لأنّ حكم الشّارع بالبناء على طهارة ما لم يعلم قذارته ، حكم واقعيّ لهذا الموضوع يجامع الشّك والظّن بالخلاف في الجملة ، فلا يكون إذن ظاهريّا.

قلت : قياس الأصول الشّرعيّة بالأصول العقليّة قياس فاسد ؛ لأنّا لا نعني بالحكم الظّاهري إلاّ ما كان ثابتا لشيء بوصف عدم العلم بالحكم الواقعي

٣٩٥

المجعول له بحيث كان عدم العلم به مأخوذا في موضوعه ، وإلاّ فلا ريب في أنّ كلّ حكم بالنّسبة إلى موضوعه حكم أوّلي له ، ولذا سمّي الحكم الظّاهري واقعيّا ثانويّا أيضا ، لكن هذا لا يصير سببا لخروجه عن الحكم الظّاهري بالمعنى الّذي جرى عليه اصطلاح أهل الفنّ ، وهذا بخلاف حكم العقل فإنّه لم يحكم في موضع بشيء من جهة عدم العلم بالحكم الواقعي المجعول للمكلّف.

نعم ، قد يكون المناط في حكمه أمر يوجد اتّفاقا في صورة الشّك أيضا ، ومجرّد هذا لا يوجب عدّ حكم العقل في الحكم الظّاهري فيقال مثلا : أنّ حرمة التّشريع في صورة الشّك بكون شيء من الدّين حرمة ظاهريّة وفي صورة العلم بعدم كونه منه حرمة واقعيّة.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكرته فلم أدرجت الاشتغال والبراءة والتّخيير في عداد الأصول الظّاهريّة المقرّرة لبيان حكم الشّاك في الحكم وسمّيتها أصولا وقسّمت الأصول إلى العقليّة والشّرعيّة؟

قلت : تسميتها أصولا مبنيّة على التّسامح ـ بملاحظة وجود مناط حكم العقل في صورة الشّك ـ فتأمّل. أو نقول : تسميتها أصولا باعتبار استفادتها من الشّرع أيضا كما ستقف عليها في محالها فتأمّل.

فإن قلت : ما ذكرته بالنّسبة إلى حكم العقل بوجوب التخلّص عن العقاب أو قبح العقاب من غير إعلام ، أمر مسلّم لا شبهة فيه أصلا لكن المتمسّك باستصحابها لم يرد به استصحاب هذا الحكم العقلي حتّى يتوجّه عليه ما ذكر ، بل أراد به نفس اشتغال الذّمة وعدم التكليف الواقعي الّذي يعبّر عنه بالبراءة الأصليّة الّتي لا مجال لإنكار وجودها بحسب الواقع مع قطع النّظر عن العلم والجهل ووجودها بحسب

٣٩٦

الظّاهر مع عدم وجودها في الواقع ؛ لأنّ الاشتغال والبراءة بهذا المعنى مسبّب عن التّكليف وعدمه فكما أنّ وجود التّكليف وعدمه على نحوين ؛ كذلك وجود الاشتغال والبراءة.

وبعبارة أخرى : الاشتغال والبراءة لهما معنيان : أحدهما : حكم العقل بوجوب التخلّص عن العقاب أو قبح العقاب من غير بيان. ثانيهما : ما هو مسبّب عن حكم الشّارع.

والّذي لا يتصف بالظّاهريّة ولا يجري الاستصحاب فيه هو المعنى الأوّل لا المعنى الثّاني.

في ان وجود المعنيين للبراءة والاشتغال لا ينفع في جريان استصحابهما

قلت : وجود المعنيين لهما وإن كان أمرا مسلّما إلاّ أنّهما بالمعنى الثّاني لا يترتّب عليهما أثر شرعيّ بلا واسطة حتّى يحكم بصحّة جريان الاستصحاب فيهما كما هو ظاهر ، وستقف عليه في الجزء الثّاني من التّعليقة. وإلحاق استصحابهما بأصالة عدم الحجيّة كان مبنيّا على إرادة هذا المعنى منهما ، هذا كلّه مضافا إلى كونهما بالمعنى المذكور من الأمور الاعتباريّة المنتزعة من التّكليف وعدمه ، فلا يصيران مورد الأصول فتأمّل.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم : أنّ منع جريان استصحاب الاشتغال والبراءة ليس مبنيّا على كون المدرك في قاعدة الاشتغال والبراءة والتّخيير العقل ، بل يتمّ على تقدير القول بها من جهة الأخبار أيضا والله العالم. هذا بعض ما ساعدنا التّوفيق

٣٩٧

من التّكلّم في حكم المقام وبقي فيه بعض شبهات ومطالب أخر يطول المقام بالتّعرض لها فلعلّنا نذكرها بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الوجوه الّتي يذكرها الأستاذ العلامة لتقرير الأصل عن غيره ، بعضها مطابق للمختار بحسب المفاد وبعضها مخالف له وبعضها ممّا يصلح للأمرين ولا معين لأحدهما إلاّ اجتهاد المجتهد.

(١٥٤) قوله : ( وفيه على تقدير صدق النّسبة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢٨ )

في انه لا مورد لأصالة الإباحة في العمل بالطريق

أقول : لا يخفى على من راجع كلام السيّد ظهوره فيما نسب إليه ، كما أنّه لا يخفى على ذو مسكة فساد ما ذكره بظاهره ؛ فإنّ حكم الطّريق لا يمكن أن يكون غير الوجوب ولو تخييرا والحرمة معيّنا ؛ فإنّه لو علم بقيام الدّليل على حجيّته كان واجب العمل. وإن لم يعلم به كان محرّم العمل بحكم العقل المستقلّ. مضافا إلى دلالة الأدلّة النّقليّة عليه أيضا كما هو ظاهر. فلا مورد إذن لأصالة الإباحة الجارية فيما كان خاليا عن المفسدة.

هذا كلّه على تقدير عدم جواز الرّجوع إلى أصالة عدم الحجيّة على ما عرفت ممّا أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة.

وأمّا على ما احتملنا من جواز الرّجوع إليه فلا يجوز الرّجوع إلى أصالة الإباحة أيضا ؛ لورودها عليها على تقدير وحكومتها عليها على تقدير آخر.

ثمّ إنّ مراده قدس‌سره من التّخيير بين الظّن والأصل ليس الغرض منه وقوع ذلك في الشّرعيّات ـ حتّى يورد عليه : بأنّ الأصل لا يقابل بالظّن ولا يكون طرفا له

٣٩٨

على كلّ تقدير ـ بل الغرض منه : إثبات الوجوب التّعييني أو التّخييري بأحد الوجوه في الجملة ، من غير أن يكون الغرض متعلّقا لتحقيق الحال في ذلك في هذا المقام.

هذا كلّه إن أراد إجراء الأصل في العمل بغير العلم بمعنى التّدين به كما هو الظّاهر على ما عرفت الإشارة إليه في كلام الأستاذ العلاّمة. وأمّا لو أريد إجراؤه في العمل به من دون التزام به فيما لا يستلزم طرح الأصل أو الدّليل الموجود في مقابله ، فلا إشكال في أنّ الأصل فيه الإباحة.

(١٥٥) قوله : ( وفيه منع الدّوران لأنّ عدم العلم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢٩ )

أقول : الوجه فيما أفاده قدس‌سره ظاهر بعد الوقوف على وجه الحرمة في العمل بما لم يكن حجّة ؛ فإنّ حرمة العمل به إن كانت ذاتيّة لاستقام الحكم بالدّوران. ولكنّك قد عرفت : أنّها تشريعيّة وأنّها توجد قطعا في صورة الشّك في الحجيّة. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما أفاده في تحقيق المقام وبين ما احتملنا في معنى التّشريع كما هو واضح.

(١٥٦) قوله قدس‌سره : ( وفيه أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢٩ )

في أنه لا يجب تحصيل الإعتقاد بالأحكام الفرعيّة

إلاّ من جهة حفظ الأحكام

أقول : قد عرفت الوجه في كون تحصيل الاعتقاد مقدّمة عقليّة للفروع ، وأنّ ذلك إنّما يستقيم في التعبّديّات. وأمّا التوصّليّات فليس تحصيل العلم بها مقدّمة عقليّة للعمل بها بل للعلم بوجودها في الخارج.

٣٩٩

كما قد عرفت : أنّ ذلك كلّه مبنيّ على عدم القول بكفاية الاحتياط ، وإلاّ فلا يجب تحصيل الاعتقاد بالأحكام الشّرعيّة أصلا ، لا على وجه العلم ولا على وجه الظّن. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تحصيل الاعتقاد على هذا القول أيضا مقدّمة إلاّ أنّه ليس مقدّمة منحصرة فتدبّر.

نعم ، قد نبّهناك فيما سبق من كلماتنا إلى أنّ للعلم وجوبا نفسيّا كفائيا من حيث حفظ أحكام الشّرع والدّين بقدر الإمكان. كما أنّه قد أسمعناك : أنّ له وجوبا غيريّا فيما توقّف تشخيص ذات الواجب عليه من غير فرق بين التعبّديّات والتّوصّليّات. وعلى كلّ تقدير لا دوران فيما دلّ على وجوبه على أحد الوجهين كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الوجه فيما أفاده قدس‌سره في عدم تعقّل الدّوران والتردّد في موضوع الحكم بالنّسبة إلى الحاكم من حيث استلزامه للتردّد في الحكم الغير المعقول في حقّ نفس الحاكم ممّا لا شبهة فيه عند من له ذوق سليم. مضافا إلى ما ستقف عليه من تفصيل القول فيه في طيّ أجزاء التّعليقة.

(١٥٧) قوله : ( فلأنّ العمل بالظّن في مورد مخالفته ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الحكم بانحصار محلّ الكلام فيما إذا كان العمل بالظّن على خلاف الأصول لا يخلو عن تأمّل ؛ لأنّ ذلك لم يؤخذ في عنوان المسألة ولا في دليله ، بل ملاحظة كلمات الأستاذ العلاّمة والقوم يوجب حصول القطع بأعمّيّة النّزاع.

وأولى منه بالتّأمل والإشكال : تعليل عدم جواز العمل بالظّن بمخالفته الأصل المتيقّن الاعتبار. وكون التّمسّك بقاعدة الاشتغال في إثبات عدم جواز

٤٠٠