بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

الفعل غالبة على مصلحة الواقع فلا يعقل إذن بقاء الحكم الثّابت للعالم في حقّ الجاهل الظّان بخلافه. ومن هنا ذكر الأستاذ العلاّمة : أنّ هذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظّان بخلافه.

نعم ، لو قامت على طبق الحكم الثّابت للعالم لم يكن له أثر بالنّسبة إلى أصل الحكم المجعول بل هو من مقتضيات المصلحة الواقعيّة المشتركة بين العالم والجاهل لو لا قيام الأمارة على الخلاف.

نعم ، له أثر في المنع عن وجود الظّن بالخلاف الّذي يسمّى مانعا مسامحة ما دام الوجود لاستحالة اجتماع الظّنين على طرفي النّقيض أو قيامهما على المتضادّين كما هو غنيّ عن النظر.

وهذا الوجه كما ترى أيضا راجع إلى التّصويب في الجملة. ولا يبعد قيام الإجماع على بطلانه كالوجه الأوّل ، إلاّ أنّ مخالفة الشّيخ والعلاّمة قدس‌سرهما ربّما يوهن الإجماع. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ غرضهما مجرّد إبداء احتمال الإمكان العقلي لا الوقوع في الشّرعيّات ، أو الوقوع مع الغفلة عن لزوم التصويب ـ وإن كان مستبعدا ممّن دونهما في الشّأن.

وكيف ما كان ليس هذا الوجه كالوجه الأوّل في لزوم المحال ؛ فإنّ الأمارات تحكي عن الحكم في حقّ العالمين لا عن الحكم في حقّ الظّان. والحكم الأوّلي أيضا مجعول في حقّ المكلّف بشرط عدم قيام الظّن على خلافه ، فلا يلزم دور أصلا.

وهذا بخلاف الوجه الأوّل فإنّ اختصاص الحكم الأوّلي بالعالم مع تأخّر العلم عن المعلوم لا ينفك عن الدّور ، إلاّ أن يجعل المراد من الحكم المختصّ

٣٤١

بالعالم ما يكشف عنه الخطابات أي الإرادة النفسانية لا مدلول الخطاب وهذا غير بعيد عمّن يقول بالكلام النّفسي. فالخطاب يتعلّق بالمكلّف الملتفت الشّاعر ، وبعد العلم بمدلول الخطاب الكاشف عن الإرادة يتعلّق الحكم بالعالم ، فلا يلزم دور هذا.

وأمّا دعوى أنّ القائلين بالتّصويب إنّما يقولون باختصاص الحكم بالعالم في حقّ المتأخّرين عن زمن الخطاب لا مطلقا فلا يلزم دور ـ ففاسدة جدّا كما لا يخفى على المتأمّل.

(١٢٩) قوله قدس‌سره : ( الثّالث : أن لا يكون للأمارة القائمة (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٤ )

__________________

(١) قال سيّد العروة في حاشيته على الفرائد :

قوله قدس‌سره [ الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة إلاّ أن العمل على طبق تلك الأمارة و ... إلى آخره ].

هكذا يوجد في النسخ القديمة وفي بعض النسخ المتأخرة قد أقحم لفظة « الأمر » بين أنّ وأسمها هكذا : إلاّ أنّ الأمر بالعمل على طبق الأمارة ... إلى آخره ، وكذا في كلّ ما عبّر بمثل هذه العبارة ـ فيما بعد ـ زيد لفظ « الأمر » وهو ناظر إلى جعل المصلحة في الأمر دون المأمور به ولا يخفى أن الصحيح هو الأوّل بشهادة قوله فيما بعد : « وتلك المصلحه لا بد أن تكون مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ... إلى آخره ».

إذ لا ريب أن مصلحة الأمر لا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ولا يلزم أن يكون حكمة الأمر مصلحة راجعة إلى المكلف ، ولكن لو جعلنا الأمر تابعا لمصلحة المأمور به فلا بد من أن يكون في المأمور به ولو بعنوانه الثانوي أو العنوان الأعم من عنوان الحكم الواقعي الأولي مصلحة ، فيتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، ويتّضح ما ذكرنا بملاحظة كلام

٣٤٢

__________________

المتن [ الفرائد ] إلى آخر المبحث ، فتدبر. إنتهى حاشية الفرائد : ١ / ٢٨٦.

* * *

* وقال المحقق الميرزا النائيني قدس‌سره في الفوائد تحت عنوان : تنبيه [ والعبارة لمقرّره الكاظمي ] :

نقل شيخنا الاستاذ [ النائيني ] مد ظله : أن العبارة التي صدرت من قلم الشيخ قدس‌سره في الوجه الثالث كانت هكذا : « الثالث : ... إلاّ أن بالعمل على طبق الأمارة والإلتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع ... » ولم يكن في أصل العبارة لفظ « الأمر » وإنّما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب.

والإنصاف : أن زيادة لفظ « الأمر » ممّا لا حاجة إليه لو لم يكن مخلاّ بالمقصود.

ولعلّ نظر من أضافها إلى أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الحجّيّة والطريقيّة ، وهي من الأحكام الوضعيّة التي لا تتعلّق بعمل المكلّف ابتداء ، فليس في البين عمل يمكن اشتماله على المصلحة ، بل لا بدّ وأن تكون المصلحة في نفس الأمر والجعل ، بخلاف الأحكام التكليفيّة ؛ فإنّه لمّا كان الأمر يتعلّق بعمل المكلّف إبتداء ، فيمكن أن تكون المصلحة في العمل هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ؛ فإنه ـ مضافا إلى ما تقدم في مباحث القطع : من أنه لا معنى لاشتمال نفس الأمر على المصلحة ـ يرد عليه :

أنه إن قلنا : بأن الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة ـ كما عليه الشيخ قدس‌سره ـ فالحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الحجّيّة والطريقيّة لا بدّ وأن يتعلّق بعمل المكلف ، وذلك العمل هو الذي يشتمل على المصلحة السلوكيّة.

وإن قلنا : إنّ الأحكام الوضعيّة متأصّلة في الجعل ـ كما هو الحق عندنا على ما سيأتي بيانه ـ فالمصلحة إنّما تكون في المجعول لا نفس الجعل ؛ بداهة أن النجاسة أو الطهارة المجعولة هي

٣٤٣

__________________

التي على المفسدة والمصلحة ، لا أن المصلحة في نفس جعل النجاسة والطهارة ، وكذا الحال في سائر الأحكام الوضعيّة.

فالإنصاف : أن إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعلّه يخلّ بما هو المقصود :

من كون المصلحة في السلوك وتطبيق العمل على المؤدّي. إنتهى.

فوائد الأصول : ج ٣ / ٩٨ ـ ٩٩.

* * *

* وعلّق المحقق آغا ضياء العراقي على قول المحقق النائيني هنا بقوله :

أقول : غرض من أضاف « الأمر » في المقام إنّما هو إمكان الجعل ولو لمصلحة في التسهيل على العباد بلا لزوم الإلتزام بمصلحة في عملهم على طبق الأمارة لمصلحة في المؤدى أو لمصلحة في سلوكها ومن البديهي : أن مصلحة التسهيل إنّما كانت قائمة بفعل الشارع ، وليس ذلك إلاّ جعل الطريق من دون أن يكون مفاد جعله حكما تكليفيا أو وضعيّا منتزعا من التكليف أو أصيلا ، فالغرض من أمره نفس جعله بإنشاء أمر أو إنشاء حكم وضعي ، وعليه : ففي زيادة « الأمر » توسعة في نحو الجعل لا مخلّ به كما لا يخفى على الدقيق.

ويا ليت لم يوجّه كلام من زاد « الأمر » بما أفاد كي يرد عليه إشكاله ، فتدبر. وما أفيد أيضا من عدم معقوليّة المصلحة في نفس الأمر إنّما يصحّ في الأوامر الغير الطريقيّة ، وإلاّ ففي الأوامر الطريقيّة إنّما المصلحة في نفسها في فرض مخالفتها ، وفي هذا الفرض لا يكون مفادها إلاّ ترخيصا على خلاف المرام بملاحظة الصبر على المكروه إمكانه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار. إنتهى.

أنظر تعليق المحقق العراقي على الفوائد : ج ٣ / ٩٨ ـ ٩٩.

* * *

* وقال المحقق الإصفهاني بعد كلام طويل له :

٣٤٤

في الوجه الثالث من وجوه جعل الطرق

أقول : لا يخفى عليك وضوح المراد من هذا الوجه ؛ فإنّ المقصود منه : عدم تأثير قيام الأمارة على حكم الفعل الّذي تضمّنت حكمه فيه أصلا ومطلقا ، سواء قامت على طبق حكم العالم أو على خلافه ، بمعنى كون الحكم الواقعي للفعل مستندا إلى مصلحة مشتركة بين العالم والجاهل بحيث لا يؤثّر قيام الأمارة على خلافه بالنّسبة إليها أصلا.

فالحكم الواقعي الثّابت في حقّ العالم ثابت وفعليّ في حقّ الجاهل سواء قامت عنده أمارة على خلافه أو على وفقه أو لم يقم عنده أمارة أصلا. والمراد من الفعليّة : هو وجود الحكم الثّابت للعالم في حقّه على كلّ تقدير وإن لم يؤخذ بمقتضاه كذلك مع وجود مصلحة في حكم الشّارع وأمره بسلوك مقتضى الأمارة وجعله مؤدّاه حكما ظاهريّا وإيجابه البناء على كون مفادها هو الواقع ، فمقتضاه جعل حكم ظاهري في حق من قامت عنده مطلقا ؛ إذ كما قد يكون في الفعل

__________________

إن ما في بعض نسخ فرائد الشيخ الأجل قدس‌سره من فرض المصلحة في الأمر غير صحيح.

أمّا أوّلا : فلأن مصلحة الأمر غير استيفائيّة للمكلف حتى تدعو إلى البعث وتكون موجبة لتدارك ما فات من مصلحة الواقع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ متعلّق الأمر إذا لم يكن فيه بنفسه مصلحة يستحيل أن يتعلق به بعث ؛ فإن البعث إيجاد تسبيبي من المولى لفعل المكلف المحصّل للملاك الموافق لغرض الآمر ، والغرض متعلق بحيثيّة صدوره عن المكلف لا بحيثيّة صدوره من المولى.

لاحظ نهاية الدراية : ج ٣ / ١٣٨.

٣٤٥

مصلحة لجعل حكم واقعي من الشّارع كذلك قد يكون في تشريع الشّارع الحكيم وأمره ـ ولو كان ظاهريّا ـ مصلحة يتدارك بها ما يفوت من الواقع من جهة إطاعته. فإذا قامت الأمارة مثلا على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب هو الظّهر في الواقع ، فنلتزم بوجوب أمرين صلاة الظّهر في مرحلة الواقع وصلاة الجمعة في مرحلة الظّاهر.

وهذا كما ترى ، لا يلزمه التّصويب وغيره من المحظورات بل الالتزام به مناف للتّصويب كيف! والمصوّبة ينكرون وجود الحكم المشترك على الوجه المذكور. إذ المفروض أنّ المصلحة في الحكم لا تؤثر في الحكم الواقعي أصلا.

نعم ، لا بدّ من أن يكون تلك المصلحة قابلة لجبر مفسدة فوت الواقع بواسطة سلوكها ، لو فرض اقتضاؤها لإيجاب الشّارع العمل عليها ولو مع التّمكّن من تحصيل الحكم الواقعي على سبيل العلم واليقين ، كما هو الشّأن في أكثر الظّنون الخاصّة بل كلّها ، فإنّه ممّا ثبت اعتباره حتّى في زمان انفتاح باب العلم.

٣٤٦

(١٣٠) قوله : ( فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الّذي مرجعه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٥ )

في بيان سؤال الفرق بين الوجهين (١)

أقول : لا يخفى عليك : أنّ حاصل هذا السّؤال يرجع إلى أنّ فرض وجود المصلحة في حكم الشّارع في أمره بالعمل بالأمارة لا يجدي في الفرق بين هذا الوجه والوجه السّابق ؛ من حيث استلزامه للتّصويب الباطل عند أهل الصّواب من المخطّئة ، وعدم استلزام هذا الوجه له.

فإنّ معنى العمل بالأمارة إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلا ليس إلاّ فعلها من حيث إخبار العادل بوجوبها أو قيام أمارة أخرى عليه ، بناء على اعتبار هذه الحيثيّة فلا بدّ إذن أن يكون في فعل الجمعة مصلحة فائقة على مفسدة ترك الظّهر على تقدير وجوبها واقعا ؛ لأنّه إن لم يكن فيه مصلحة كذلك كان الأمر بالعمل بالأمارة قبيحا من حيث استلزامه لتفويت الواقع فإذا كانت فيه مصلحة كذلك فلا محالة يكون فعل الظّهر في حقّ من قامت عنده الأمارة على وجوب الجمعة خاليا عن المصلحة الملزمة ، فيقبح إذن الأمر بها من الشّارع ـ بناء على ما استقرّت عليه طريقة العدليّة من تبعيّة الأحكام للجهات الكائنة في الأفعال ـ

__________________

(١) قال سيّد العروة في حاشيته على الفرائد :

لا كرامة في هذا السؤال لكمال وضوح الفرق بين الوجه الثاني والثالث بحيث لا يكون محلاّ للتوهّم كيف؟ والحكم تابع للأمارة في الوجه الثاني ، ومع قطع النظر عن الأمارة ليس سوى المقتضي والشأنيّة ، وفي الوجه الثالث هنا حكمان : أحدهما متعلّق بنفس الفعل. وثانيهما :

متعلّق بتصديق العادل وبتطبيق العمل على الأمارة. انتهى حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٢٨٧

٣٤٧

فيلزمه انحصار الحكم في المفرض بوجوب صلاة الجمعة وهو التّصويب الباطل ؛ لأنّ هذا الانحصار إنّما حصل من الأمارة.

توضيح ما ذكر ـ على سبيل الإجمال ـ : هو أنّه إذا فرض قيام الأمارة على وجوب ما يكون حراما في الواقع أو حرمة ما يكون واجبا في الواقع :

فإمّا أن نقول بوجود كلّ من الجهتين المقتضيتين للحكمين المتضادّين أي :

الجهة الكائنة في العمل بالأمارة والكائنة في الواقع فيلزم اجتماع الضّدين ولزوم التكليف بما لا يطاق. وبطلان التّالي كالملازمة ظاهر.

وإمّا أن نقول بوجود الجهة في الواقع دون العمل بالأمارة فيكون الأمر به إذا لغوا وقبيحا على الحكيم تعالى فلا بدّ على هذا التّقدير من الالتزام بعدم تعلّق الأمر بالعمل بالأمارة وهو خلف.

وإمّا أن نقول بوجود الجهة في العمل بالطّريق دون الواقع فيلزم التّصويب الباطل ، وهذا ليس إلاّ مفاد الوجه الثّاني. هذا حاصل ما يقال في بيان السؤال المذكور.

(١٣١) قوله : ( قلت : أمّا رجوع الوجه الثّالث إلى الوجه الثّاني ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٦ )

في بيان الفرق بين الوجه الثالث والثاني

أقول : وضوح الفرق بين الوجهين ممّا لا يكاد أن يخفى ـ على الأوائل فضلا عن الأواسط والأواخر ـ فإنّ مرجع الوجه الثّاني : إلى إنكار وجود الحكم الواقعي في حقّ من قامت الأمارة على خلافه في الواقع من جهة عدم وجود الجهة المقتضية له واقعا ، لفرض اشتراط وجوده بعدم قيام الأمارة على الخلاف ،

٣٤٨

فيكون الحكم الواقعي في حقّه ما أفادته الأمارة.

ومرجع الوجه الثّالث : إلى بقاء الحكم الواقعي على حاله حتّى في حقّ من قامت الأمارة على خلافه ؛ لكون الجهة المقتضية له غير مقيّدة بعدم قيام الأمارة على الخلاف. وأمّا وجود المصلحة في الأمر بالعمل بالطّريق فهو غير مانع عن وجود المفسدة واقعا فيما قام على حكمه.

لأن معنى التدارك ليس منع المتدارك بالكسر ـ عن وجود المتدارك ـ بالفتح ـ كيف! وهو خلاف قضيّة معنى التّدارك كما هو واضح ـ على من له أدنى خبرة ـ بل جبر ما وقع المكلّف فيه من المفسدة من جهة سلوك الأمارة ، فكيف يعقل إذن أن يكون وجود المصلحة مانعا عن أصل وجود الجهة في الفعل واقعا؟

وبعبارة أخرى :

مرجع الوجه الثّاني : إلى جعل مدلول الأمارة في حقّ من قامت عنده أمارة على خلاف حكم العالمين حكما واقعيّا بحيث لو فرض زوال جهل المكلّف وعلمه بالتّكليف لم يكن عليه شيء أصلا ؛ لإتيانه بما هو المكلّف به له في الواقع بالفرض. فيكون انقلاب علمه بالجهل ، نظير صيرورة المسافر حاضرا بعد الإتيان بصلاة القصر.

ومرجع الوجه الثّالث : إلى وجوب ترتيب آثار الواجب الواقعي على ما قامت أمارة على وجوبه ما دامت قائمة. أي : ما لم يعلم المكلّف بالواقع الّذي يعبّر عنه بالحكم الظّاهري المجعول في حقّ الجاهل بالحكم الثّابت له في الواقع من حيث جهله له. فيجب إذا علم به ترتيب جميع آثار الواقع على مؤدّى الأمارة والالتزام بكون مؤدّاها هو الواقع النّفس الأمري من حيث ترتيب آثاره عليه ما

٣٤٩

دامت الأمارة قائمة ؛ لأنّه معنى طريقيّته إلى الواقع وكون مؤدّاها منزّلا منزلة الواقع بالجعل الظّاهري. فيجب إذن ترتيب جميع آثار الواجب الواقعي ، قبل الإتيان من جواز الدخول فيه بقصد الوجوب ونحوه ، وبعده من جواز فعل النّافلة ونحوه بعده إن قلنا بكون الموضوع في النّافلة في وقت الفريضة ، الفريضة الواقعيّة.

وأمّا إن قلنا بكون الموضوع فيه الفريضة الفعليّة المنجزة فجواز الإتيان بالنّافلة بعده ليس من البناء على كونه الفريضة الواقعيّة حتّى يكون حكما ظاهريّا بل من حيث تحقّق موضوعه قطعا ، فيكون حكما واقعيّا فإذا فقدت : بأن علم من قامت عنده بالحكم الواقعي فلا يخلو الأمر من أنّها : إمّا أن يكون قائمة على وفق حكم العالمين ، أو على خلافه.

وعلى الأوّل فلا إشكال ، لعدم وجوب وجود المصلحة في سلوك الطّريق حتى يتكلّم فيه.

وعلى الثّاني : فلا يخلو الأمر من أنّه : إمّا أن يفرض عمل المكلّف بمقتضى الأمارة وفوق شيء من المصلحة الواقعيّة بواسطة سلوكها ، وإمّا أن لا يفرض ذلك. وعلى الثّاني فلا إشكال أيضا لما عرفت.

وعلى الأوّل : فيجب أن يكون في سلوك الأمارة ما تدارك به ما فات من مصلحة الواقع من الجاهل وما وصل إليه من مفاسد المحرّمات الواقعيّة الّتي ينافي وقت الواجب كفعل النّافلة بناء على شمول ما دلّ على المنع عنها في وقت الفريضة ، الفريضة الواقعيّة ونحوه لا مثل قصد الوجوب فيما ليس بواجب ؛ فإنّه جائز واقعا.

فإنّ الوجوب الّذي يقصده الجاهل في الفرض هو الوجوب الظّاهري

٣٥٠

المتحقّق قطعا فليس فيه مفسدة من حيث قصد الوجوب فيما ليس بواجب ، لكن يجب عليه أن يترتّب إذن أحكام عدم الإتيان بالواقع من أوّل الأمر ، لكون قضيّة اشتراك الحكم الواقعي بين العالم والجاهل بقاء الأمر الواقعي في حقّه ، لو فرض عدم فوته بواسطة سلوك الأمارة القائمة على خلافه ، ومع فوته قد فات عنه الواجب الواقعي بواسطة سلوك الأمارة وهو لا يمكن ، إلاّ بفرض بقاء الحكم الواقعي على كلّ تقدير. فكيف يمكن مع هذا القول برجوع الوجه الثّالث إلى الوجه الثّاني؟

(١٣٢) قوله : ( فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظّهر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٨ )

في ملازمة التخطئة والتصويب للإجزاء وعدمه

أقول : لمّا كان مقتضى جعل الأمارة على الوجه الثّالث بقاء الأمر الواقعي ما دام موضوعه باقيا ـ لعدم تصرّف الأمارة القائمة على خلافه شيئا فيه بالفرض وتدارك المصلحة الموجودة في سلوكه ما فات من المكلّف به ـ يلزمه بحكم العقل ـ مع قطع النّظر عن قيام الدّليل الشّرعي على الخلاف الرّافع لموضوع حكم العقل ـ الإتيان بمقتضى الأمر الواقعي في الوقت ، لو كان انكشاف الخلاف فيه لبقائه المقتضي للامتثال بحكم العقل.

كما أنّه يلزمه بحكم العقل وجود مصلحة في سلوكه بقدر ما يتدارك به المصلحة الفائتة من المكلّف في فعل الواجب في أوّل وقته ثمّ الأقرب إليه فالأقرب.

ومن هنا قلنا تبعا للمحقّقين إنّ امتثال الأمر الظّاهري الشّرعيّ لا يقتضي

٣٥١

الإجزاء عن الأمر الواقعي ـ بالنّظر إلى القاعدة بالنّسبة إلى حكم الإعادة ـ وإن جوّز العقل ورود الدّليل على الإجزاء من حيث كشفه عن وجود مصلحة يتدارك بها أصل مصلحة الواجب فتأمّل.

إلاّ أنّه ليس ممّا يحكم به العقل قبل ورود الدّليل على الإجزاء ؛ لأن الذي يحكم به لزوم وجود مصلحة فيه يتدارك بها مقدار ما فات من مصلحة الواجب في أوّل الوقت واحتماله لا يجدي في رفع حكم العقل كما هو ظاهر.

كما أنّه يلزمه الإتيان به في خارج الوقت على القول بكون القضاء بالأمر الأوّل لو كان انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت مع وجود مصلحة في أمر الشّارع بسلوك الأمارة يتدارك بها ما يفوت من الجاهل بواسطة ترك الفريضة في آخر وقتها. ومن هنا يعلم : أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء بالنسبة إلى القضاء أيضا ، بناء على هذا القول.

وأمّا على القول بكونه بالأمر الجديد الدّال على وجوب تدارك ما فاتت في الوقت ، كما هو قضيّة التحقيق الّذي عليه المحقّقون نظرا إلى كون الوقت قيدا لأصل المطلوب بالأمر الأوّلي.

فإن قلنا : بأنّ المراد من الفوت هو مجرّد عدم الإتيان بالواجب وتركه في وقته ـ وإن تدارك ما فات من مصلحة فعله في الوقت زائدا على تدارك المصلحة الزائدة الغير الملزمة الثّابتة في أوّل وقته ـ فلا إشكال في أنّ قضيّة الأصل عدم الإجزاء أيضا بالنسبة إلى القضاء.

وإن قلنا : بأنّ المراد من الفوت : هو ترك الواجب في الوقت من حيث إنّ فيه مصلحة غير متداركة ، فلا إشكال في أنّ قضيّة الأصل الإجزاء بالنسبة إلى القضاء ،

٣٥٢

إلاّ على وجه أشار إليه شيخنا الأستاذ العلاّمة فيما ستقف عليه من كلامه.

فعلم من ذلك كلّه : أنّ لازم جعل الطريق على الوجه الأوّل والثّاني الذي ذهب إليه مخالفونا ـ هو الإجزاء مطلقا. بل لا يعقل عدم الإجزاء بناء عليه ولازم جعل الطريق على الوجه الثّالث ـ عدم الإجزاء.

ومن هنا ذكر جماعة من الأصحاب منهم : ثاني الشّهيدين من ثمرات القول بالتّصويب والتخطئة الإجزاء وعدمه (١).

نعم ، ناقش شيخنا الأستاذ العلاّمة ( أدام الله إظلاله ) فيما سيجيء من كلامه في كلام ثاني الشهيدين في « تمهيد القواعد » من حيث التّمثيل. وقال : ( وإن كان لتمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر ) (٢).

وهو كما ترى في محلّه ؛ لاختصاص النّزاع في مسألة التخطئة والتصويب بالأمارات القائمة على الأحكام الشرعية الفرعيّة لاتفاقهم على كون المصيب في الموضوعات واحدا ؛ إذ ليست قابلة للجعل الشّرعي حتّى يقال بتعلّق الجعل بها عند قيام ظنّ المجتهد بها أو قبله على طبقه حسبما يعلم الله تعالى أنّ الأمارة تؤدّي إليه بحسب حصول الظّن للمجتهدين المختلفين كما اتّفقوا على كون المصيب في العقليّات من المجتهدين المختلفين وفي مداليل الكتاب والسّنة واحدا ؛ إذ ليست ممّا يتعلّق بها الجعل ويقبل الاختلاف باختلاف الآراء وإنّما الاختلاف والنّزاع بين أهل الصّواب من المخطّئة وأهل الخطأ من المصوّبة في

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ١١٩.

٣٥٣

الأمارات القائمة على الأحكام الشّرعيّة الكليّة.

(١٣٣) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يراد غاية ما يلتزم به في المقام ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ١١٩ )

في ان القضاء مترتب على مجرد الفوت أم لا؟

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يتوهّم من العبارة كون المراد من الحكم الظّاهري عنده قدس‌سره مجرّد المعذوريّة.

لكنّه كما ترى توهّم فاسد لا يليق بأدنى جاهل على ما عرفت سابقا ، بل المراد كون العذر لازما عقليّا للحكم الظّاهري.

وكيف كان : فتوضيح ما أفاده قدس‌سره من النّظر في عدم وجوب القضاء على تقدير ترتّبه على الفوت بمعنى فوات مصلحة الواجب ـ : هو أنّ الّذي يحكم العقل بلزوم وجوده في تشريع الحكم الظّاهري وأمر الشّارع بسلوك الأمارة هو مطلق ما يرفع قبح الجعل من الشّارع مع التّمكن من الواقع ، ويكفي فيه محض تسهيل الأمر على المكلّفين القادرين ، الّذي هو لازم الوجود لجعل الحكم الظّاهري.

ضرورة أن تعيين تحصيل العلم بالواقع لا يخلو من حرج وضيق نوعيّ وإن لم يكن حرجا في جميع الموارد ، وهذا المقدار يكفي في تشريع الحكم الظّاهري ، كما أنّه قد يكتفى به في تشريع الحكم الواقعي على خلاف ما فيه المصلحة الملزمة والّذي يعود إلى المكلّف في تشريع ما يكون مبنيّا على التّخفيف ورفع الحرج هي مصلحة سائر التّكاليف السّهلة ونوع أحكام الشّرع. بل الحكمة في تشريع

__________________

(١) كذا وفي نسخة الفرائد المطبوعة : « إلاّ أن يقال : إن غاية ما يلزم في المقام ... إلى آخره ».

٣٥٤

الأحكام وتبليغها على وجه التّدريج هي ما ذكرنا.

ومن هنا ورد أنّه : « لم يمت بمكّة بعد البعثة في عشر سنين من أظهر التوحيد واعتقد به وبالنبوّة إلاّ أدخله الله تعالى الجنّة » (١) حيث لم يقع التّكليف إلاّ بالشّهادتين من حيث الإرفاق والمداراة حتّى تميل النّفوس بالإسلام ويرجع إليهم فائدة الإيمان. ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّي بعثت على السّمحة السّهلة ) (٢).

والمصلحة المذكورة كما ترى لا تمنع من صدق فوت مصلحة شخص الواجب في مورد مخالفة الأمارة للواقع فيمكن أن يقال ـ علي هذا ـ : كون مقتضى القاعدة : وجوب القضاء على تقدير ترتّبه على الفوت بالمعنى الّذي عرفته فافهم.

فإن شئت قلت : إنّ مرجع ما ذكر إلى عدم لزوم المصلحة المتداركة في موارد الفوت أصلا ، وإنّ المسوغ

لجعل الحكم الظّاهري ـ والوسائط بين الحجّة وخلقه ممّا يفضي إلى تفويت الواقع أحيانا ـ إدراك مصالح سائر الأحكام. وهذا كما ترى لا يختلف فيه الحال بين أنحاء انكشاف الخلاف.

(١٣٤) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٩ )

في وجه القول بإقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء

أقول : لا يخفى عليك أنّ القائل باقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء من المخطّئة لا بدّ من أن يقول : بأنّ المقدار المتقدّم من المصلحة في تشريع الأحكام

__________________

(١) أنظر أصول الكافي : ج ١ / ٥٣ « باب » ـ ح ١٥١١ ط دار الأسوة.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٠ / ٥٤٨.

٣٥٥

الظّاهريّة المجامع للتخطئة يكفي في جبر مصلحة الواجب ولو انكشف الخطأ في الوقت فضلا عن خارجه. وإن لم يكن مستقيما عندنا ، كما أنّه لا مناص لنا من الالتزام به بعد قيام الدّليل على الإجزاء في مورد من الموارد ؛ فإنّه أمر معقول ممكن عند شيخنا الأستاذ العلاّمة وإن كان مقتضى الأصل عدمه ، فإذا قام الدّليل عليه في مورد كيف يتخلّص من لزوم التصويب الباطل؟ فالإيراد مشترك الورود.

فلا بدّ من تصوير الإجزاء على وجه لا يلزمه التّصويب : بأن يقال : إنّ الشّارع رفع اليد عن المصلحة الملزمة من جهة التّسهيل وإن كان هذا محتاجا إلى الدّليل فيكون مقتضى الأصل عدم الإجزاء. فامتثال الحكم الظّاهري مع كونه ظاهريّا يجزي عن الواقع مع إطلاقه وعدم اشتراطه بشيء بعد قيام الدّليل على القناعة والكفاية فلا يلزمه التّصويب فتأمّل.

فالتسهيل وإن كان قابلا لأن يلاحظه الشّارع في رفع التكليف إلاّ أنّ مجرّد القابليّة والإمكان لا ينفع ما لم يقم دليل على الإجزاء فافهم.

(١٣٥) قوله ( دام ظلّه ) : ( وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢٠ )

أقول : قد عرفت اتّفاق الفريقين على التّخطئة في الموضوعات وأنّ الأمارة القائمة عليها لا يوجب جعلها من جهة استحالة تعلّق الجعل بها ، وأنّ مرجع حجيّة الأمارة القائمة عليها هو ترتيب أحكامها على مؤدّاها ظاهرا ما دامت قائمة ببقاء جهل من قامت عنده الأمارة على الموضوع وأن مآل الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على الأحكام الشّرعيّة أيضا على مذهب المخطئة إلى وجوب الالتزام بها بآثارها في الظّاهر بحيث لا يوجب قيام الأمارة تأثيرا في الأحكام الواقعيّة أصلا.

فلا إشكال إذن فيما أفاده ( دام ظلّه ) ، وإن كان هنا فرق واضح بين مورد

٣٥٦

الأمارة في المقامين : فإنّ الموضوع الخارجي ليس مجعولا ويستحيل تعلّق الجعل بها بخلاف الحكم الشّرعي ؛ فإنّه يستحيل وجوده بدون الجعل واقعيّا كان أو ظاهريّا.

إلاّ أنّ جعل الحكم الواقعي الّذي يحكي عنه الأمارة سابق على جعل الحكم الظّاهري ، ويستحيل جعله بنفس الأمر بالعمل بالأمارة القائمة عليه على ما عرفت توضيح القول فيه في أوّل التّعليقة.

(١٣٦) قوله : ( دام ظلّه ) : وحاصل الكلام ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢١ )

في أنّ الحكم الظاهري واقعي باعتبار

أقول : لمّا كان الحكم الظّاهري أيضا له واقعيّة في حياله ؛ لأنّ ثبوت كلّ محمول لما هو الموضوع له على تقدير الثّبوت والتحقّق لا يمكن أن يكون ظاهريّا إلاّ بظاهريّة أصل ثبوته وإلاّ فقول الشّارع : يجب تطبيق العمل على مقتضى قول العادل كقوله عليه‌السلام ـ يجب الاجتناب عن الخمر ـ له واقعيّة لا يمكن الفرق بينهما من هذه الجهة ، إلاّ أنّه قد أخذ في أحدهما الجهل بحكم آخر فسمّي ظاهريّا في اصطلاح ، ولم يؤخذ في الآخر ذلك فسمي واقعيّا في الاصطلاح بقول مطلق ، على ما ستقف عليه مشروحا في الجزء الثّاني من التعليقة (١) إن شاء الله تعالى.

ومن هنا ذكر الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) ـ في حاصل الفرق بين جعل الأمارة على الوجهين الأوّلين والوجه الأخير ـ : أنّ مرجع الوجهين الأوّلين إلى جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا بحيث لا يكون للجاهل غير مؤدّى الأمارة حكم

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٣ ط حجرية.

٣٥٧

أصلا ومرجع الوجه الأخير إلى جعل وجوب تطبيق العمل بمقتضى الأمارة ترتيب آثار الحكم عليه في الواقع ما دامت الأمارة قائمة.

(١٣٧) قوله : ( وأمّا توهّم أنّ مرجع تدارك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢١ )

أقول : قد عرفت : أنّ الحكم الواقعي على الوجه الثّالث موجود على الإطلاق كما أنّ مصلحته باقية كذلك. والتّدارك المفروض ـ بمصلحة جعل الأمارة الّتي قد عرفتها من كونها التّسهيل على العباد ـ لا ينافي وجود المصلحة الملزمة ، بل يلازم وجودها على ما عرفت تفصيل القول فيه.

(١٣٨) قوله ( دام ظلّه ) : ( فلا يعقل عندهم إيجاب العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢١ )

أقول : لا إشكال في صحّة ما أفاده ( دام ظلّه ) بعد التّأمل في كيفيّة الجعل على الوجه الأخير ، فمعنى حجيّة الأمارات بناء على مذهب العامّة ليس هو وجوب تطبيق العمل عليها وجعلها طريقا إلى الواقع ؛ لعدم تعقّل ذلك بناء على مذهبهم. بل وجوب العمل عليها والقطع بأنّ مؤدّاها حكم واقعي وهذا أمر واضح.

والإشكال إنّما هو في تصوير متعلّق الظّن عندهم مع إنكارهم الحكم الواقعي بالمعنى الذي نحن نقول ، فلا يمكن تعلّقه بالحكم المجعول للموضوع من حيث هو. كيف! وهم ينكرون الجعل بهذا المعنى وإلاّ لم يقولوا بالتّصويب. بل لا بدّ من تعلّقه بالحكم المجعول في حقّ العالمين على ما عرفت الإشارة إليه.

٣٥٨

(١٣٩) قوله : ( ففيه : أنّ المراد بالحكم الواقعي الّذي يلزم بقاؤه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٢٢ )

في منع التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري

أقول : لا يخفى عليك أنّ مرجع ما أفاده ( دام ظلّه ) إلى اختيار بقاء الوجوب واقعا مع كون الفعل حراما في الظّاهر ومنع التضاد بينهما ؛ فإنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت متضادّة بأسرها فيستحيل اجتماعها ، إلاّ أنّ التّضاد إنّما هو بين الأحكام الفعليّة لا الواقعيّة مع الفعليّة ، ولذا أجمعوا على صحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة مع الجهل بالموضوع أو الحكم في الجملة.

بل في نسيان الحكم والموضوع أيضا مع عدم التّقصير ، وإن خالف فيه العلاّمة قدس‌سره فيما سيجيء من كلامه في الجزء الثّاني من « الكتاب » مع عدم ارتفاع الحرمة الواقعيّة بالجهل ، أو النّسيان ، وإن قلنا بارتفاع القبح العقلي في الجهل بالموضوع أو نسيانه ، بل في الجهل بالحكم مع عدم التقصير ؛ من حيث إنّ تبعيّة القبح العقلي للعلم بالعنوان وعدم معذوريّة الفاعل عند العقل ، لا يلازم تقييد الحكم الشّرعي بهما ، وإن قلنا بالتلازم كما هو واضح. وسيجيء شرح القول فيه في الجزء الثّالث.

فإنّ الحكم الواقعي ـ الّذي جعل لكلّ واقعة في حقّ كلّ أحد ويلزم بقاؤه مع العلم أو الجهل به عند المخطئة ـ وإن كان حكما وإنشاء في حياله وليس مجرّد الشّأنيّة والمصلحة المقتضية له ـ كيف! واشتراطه بالعلم به مستلزم للدور كما هو ظاهر ـ إلاّ أنّه ليس بمجرّده لازم الامتثال ، ما لم يكن للمكلّف طريق إليه ؛

٣٥٩

لاستقلال العقل بقبح المؤاخذة على ما لم يكن للمكلّف طريق إليه.

ولا يسمّى تكليفا حقيقة ؛ لأنّ التّكليف ليس مجرّد الفعل والإنشاء من المكلّف ولو لم يكن حاملا للمكلّف ـ بالفتح ـ وواصلا إليه ، بل هو الإنشاء المقرون بالحمل بالوصول إليه ، كما في كثير من الأفعال التي هذا شأنها ، كالإقباض والتسليم والإكراه ونحوها. وإن أطلق عليه التّكليف مسامحة ـ كما يطلق الإقباض على ما يلزم حصوله من طرف في تحقق القبض ـ إلاّ أنّه لا تضادّ بينه وبين الحكم الفعلي المنجّز على المكلّف.

فإذا لم يكن تضادّ بينه وبين الحكم الواقعي المنجّز على خلافه ـ كما في المثال الّذي عرفته ؛ فإنّ صحّة الصّلاة ليست فيه ظاهريّة ، بل واقعيّة ـ فعدم التّضادّ بينه وبين الحكم الظّاهري على خلافه بطريق أولى.

في الإشارة الى الإشكال في إجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري

وبعبارة أخرى : إن كان الوجه في عدم جواز اجتماع الوجوب الواقعي والحرمة الظّاهريّة عدم إمكان امتثالهما للمكلّف فهو غير وجيه قطعا ، لعدم وجوب امتثال الحكم الواقعي على المكلّف كما عرفت.

وإن كان الوجه تضادّ أنفسهما وإن لم يلزم امتثال الحكم الواقعي. ففيه : منع التّضادّ بينهما لا لكون الحكم الواقعي عبارة عن المصلحة أو شأنيّة الحكم والإنشاء كيف! وقد عرفت فساده بل هو عبارة عن مدلول الخطابات الواردة في الشّريعة التي يتعلّق بها العلم والظّن والجهل ، ولا ريب في كونها من مقولة الحكم والإنشاء وليست إنشائيتها متوقّفة على العلم ، إلا أنّه لا تضادّ بينها وبين الحكم

٣٦٠