بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

أن ينضمّ إليه ما ذكره الأستاذ العلاّمة في بيان تقريره فتدبّر.

(١١١) قوله قدس‌سره : ( فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التّأمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٦ )

حقّ التقرير في دليل إمكان التعبّد بالظّنّ

أقول : لا يخفى عليك أنّه لو كان المراد من هذا مجرّد نفي الامتناع لم ينفع فيما أراده المدّعي أصلا على ما عرفت ، بل لا بدّ من أن يكون المراد منه إثبات الإمكان العقلي حسبما هو صريح كلام الأستاذ العلاّمة أيضا وليس المقصود إثبات الإمكان الظّاهري أيضا ، حتّى يتوجّه عليه ما أورده عليه الفاضل المتقدّم ذكره ، بل المقصود إثبات الإمكان الواقعي به.

وبيانه على سبيل الإجمال : هو أنّا معاشر العقلاء إذا راجعنا إلى عقولنا وتأمّلنا في إدراك وجه استحالة شيء ولم ندركه ولم تحكم عقولنا بها ، نحكم بأنّه ممكن لا محالة ؛ ضرورة عدم جواز خطأ جميع العقول.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرته من كون الحكم بالإمكان حكما واقعيّا نحكم به على سبيل الجزم واليقين ، فأيّ وجه إذن لتغيير أسلوب عبارة المشهور في بيان الاستدلال مع كون المدّعى إثبات الإمكان الواقعي على سبيل الجزم واليقين؟

لأنّا نقول : فرق بين ما سلكه المشهور في بيان الاستدلال على المدّعى ومسلكنا هذا ؛ حيث إنّ مرجع استدلال المشهور ـ حسبما هو قضيّة ظاهر كلماتهم ـ عدم وجود وجه للاستحالة أوّلا وبالذّات. ومرجع استدلالنا إلى عدم وجدان

٣٢١

وجه للاستحالة ثمّ نحكم بعدم وجوده من باب تلازم عدم الوجدان لعدم الوجود في خصوص المقام. ومن هنا ذكر جمع من أعلام فنّ المعقول منهم الشّيخ الرّئيس ما حاصله : أنّه كلّ ما شككت في إمكانه وامتناعه فذره في بقعة الإمكان.

والمراد بالشّك الشّك الابتدائي الزّائل بعد التأمّل فيما ذكرنا فليس مقصودهم بيان الحكم بالإمكان ظاهرا. نعم ، يحتمل قريبا أن يكون مرادهم التّوقّف عن الحكم هذا.

ولكن يشكل ما ذكرنا : بأنّه بعد الاعتراف بعدم إحاطة العقل ووقوفه على الجهات المحسنة والمقبحة لتجويز الشّارع العمل بالظّن وتجويز وجود ما يقتضي الامتناع بحسب الواقع ونفس الأمر فكيف يدّعي مع ذلك أنّ عدم وجداننا يدلّ على عدم الوجود على سبيل القطع؟ فلا بدّ من أن يكون المراد بالإمكان إذن هو الإمكان الظّاهري حتّى يجتمع مع احتمال وجود ما يقتضي الامتناع بحسب الواقع.

فالمراد أنّ بناء العقلاء قد استقرّ على الحكم بالإمكان بعد الرّجوع إلى عقولهم وعدم وجدانهم وجها للاستحالة حتّى يظهر لهم الامتناع الواقعي فهذه قاعدة ظنيّة معتبرة عندهم في مسألة دوران الأمر بين الإمكان والامتناع ؛ فلا يرد إذن : أنّ بناء العقلاء في أمورهم على الحكم بشيء تعبّدا ممّا لا معنى له ، وعليه يحمل ما هو المعروف بين الحكماء ، بل ربّما يقال : إنّ ظاهره ذلك فلا يحتاج إلى الحمل كما لا يخفى لمن تأمّل فيه هذا.

ويمكن أن يصحّح الوجه الأوّل ـ الّذي بنى تحرير محلّ النّزاع عليه بعض الأفاضل ـ بأن يقال : إنّ المقصود في المقام الردّ على من ادّعى استحالة تعبّد

٣٢٢

الشّارع بخبر الواحد الظّني ـ فأوّل ما دلّ بظاهره على اعتباره وحكم بأنّ المراد منه اعتباره في صورة إفادة القطع ـ فيقال في ردّه : أنّا بعد ما لم نقف على ما يقضي باستحالة التعبّد بغير العلم وقبحه على الحكيم فلا معنى لأن نحكم بعدم جواز وقوعه والتصرف فيما دلّ عليه بظاهره.

لا يقال : كيف لا يجعل المدّعى الإمكان الواقعي؟ مع أنّ الثّابت عند المشهور تعبّد الشّارع بغير العلم على سبيل الجزم ، وهو لا يجامع الحكم بالإمكان ظاهرا كما هو واضح على الأوائل فضلا عن الأواخر.

لأنّا نقول : الكلام في الإمكان إنّما هو مع قطع النّظر عن الوقوع ، وبعد ملاحظة وقوع التعبد من الشّارع يقطع بعدم وجه للاستحالة بحسب الواقع من حيث استحالة صدور القبيح عن الحكيم تعالى. إلاّ أن هذا لا ينافي القول : بأن عقولنا لا تحكم بالإمكان واقعا من جهة توقّفه على وقوفه على الجهات الواقعيّة في التعبّد بغير العلم وهو غير واقف عليها فتدبّر هذا.

في منع كون المدرك في الحكم بالإمكان أصالة العدم

وقد يجعل المدرك في الحكم بالإمكان أصالة العدم فإنّ مقتضاها عدم اقتضاء الذّات شيئا من الوجوب والامتناع كما أنّ مقتضاها عدم وجود جهة في الذّات تقتضي الامتناع أو الوجوب.

وفيه : أنّه إن أريد من الأصل ما عليه بناء العقلاء عند الشّك في وجود كلّ حادث على تقدير تسليم بنائهم عليه ، فهو يرجع إلى ما ذكرنا ؛ لأنّ بناء العقلاء على العمل بالأصل ليس من باب مجرّد التعبّد ، بل من باب الظّن ، فهو راجع إلى ما

٣٢٣

ذكرنا في بيان قاعدة الإمكان.

وإن أريد منه ما ثبت من باب التعبّد الشّرعي من جهة أخبار الاستصحاب. ففيه : أنّه لا ينفع إلاّ في ترتيب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على الممكن ، لا في حكم العقلاء بالإمكان كما هو واضح.

هذا مضافا إلى ما عرفت : من أنّ الكلام في المقام ليس في اقتضاء نفس الذات الامتناع أو الوجوب وإنّما هو في اقتضاء ما يعرضها من العناوين الطّارئة عليها وإن كان الرّجوع إلى الأصل بهذا الاعتبار أولى من الرّجوع إليه بالاعتبار الأوّل ، إلاّ أنّه لا يجدي أيضا في حكم العقل ، إلاّ على الوجه الّذي عرفته.

(١١٢) قوله قدس‌سره : ( والجواب ). ( ج ١ / ١٠٦ )

أقول : والوجه في هذا الجواب ظاهر ؛ إذ الإجماع الاصطلاحي لا ينفع في الامتناع والإمكان العقليّين كما هو ظاهر ، فتدبّر. هذا مجمل ما يقال في المقام وقد بقي خبايا في زوايا.

(١١٣) قوله : ( مع أنّ الإجماع على عدم الجواز ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه ( دام ظلّه ) أراد بذلك الكلام المنع من قيام الإجماع على امتناع التعبّد بخبر الواحد من الله على نحو التعبّد به من جانب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام القائمين مقامه أي : يجوز التعبّد به من الله أيضا بعد ثبوت الأحكام منه تعالى بطريق القطع واليقين واختفائها من جهة إخفاء الظّالمين للحقّ هذا.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكره لا يخلو عن التّأمّل والإشكال ؛ إذ محلّ النزاع في جواز التعبّد بأخبار الآحاد ليس خصوص الصّورة الّتي ذكرها الأستاذ العلامة ، مع

٣٢٤

أنّ ثبوت جميع الفروع بالطّريق القطعي بحيث لا يكون لأخبار الآحاد مدخل فيها ليس بمسلّم ، إلاّ أن يراد ثبوته في الجملة ولو للوصي. مع أنّ جواز التعبّد بأخبار الآحاد عن الله تعالى في الفرض أيضا ممّا انعقد الإجماع على خلافه.

وقد أجاب عن هذا الدّليل بعض أفاضل من تأخّر بما هذا لفظه : « والجواب منع الملازمة فإن الدّواعي في الإخبار عنه تعالى متوفرة على الكذب على تقدير القبول ، لما فيه من إثبات منصب الرّئاسة والفوز بمقام النّبوة والرّسالة ، فمع ذلك فالإخبار عن الله تعالى يستدعي مزيد استعداد يندر حصوله فيستبعد قبوله ، ولهذا يحتاج إلى انضمام المعجزة بخلاف المقام (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

(١١٤) قوله : ( وأمّا عن دليله الثّاني فقد أجيب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٧ )

كلام صاحب الفصول في الجواب عن الدليل الثاني

أقول : لا يخفى عليك أنّ المجيب هو الفاضل المتقدّم كلامه في الجواب عن الدّليل الأوّل. وما ذكره الأستاذ العلاّمة وإن كان حاصل كلامه إلاّ أنّ الأولى نقل عبارته بألفاظها لما فيه من مزيد الفائدة فقال قدس‌سره : « والجواب من وجهين :

الأوّل : النّقض بالفتوى ـ بناء على عدم التّصويب كما هو الصّواب ـ أو بشهادة الشّاهدين وما قام مقامها وبالأصول المسلّمة كأصل البراءة وبالظّنون اللّفظيّة ونحو ذلك.

ووجه النّقض : أنّه قد يقع الخطأ في مؤدّى هذه الطرق كما يشهد به الاعتبار

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٢.

٣٢٥

والاختبار ، وعلى تقديره يجري فيها ما ذكره في خبر الواحد بعينه من لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فيلزم عدم جواز التعويل عليها وهو باطل بالضرورة والإجماع. وربّما أمكن النّقض بالقطع أيضا لوقوع الخطأ فيه وإن كان أقلّ من غيره.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ وهو ـ : أنّه إن أريد بتحليل الحرام أو تحريم الحلال جعل ما هو حرام ظاهرا وتحريم ما هو حلال كذلك ، فالملازمة ممنوعة ؛ إذ ثبوت الأحكام في الظّاهر منوط بمساعدة الأدلّة عليها ولا فرق حينئذ بين أن يعتبر التّحليل والتّحريم المستفادين من خبر الواحد ظاهريّين أو واقعيّين.

وإن أريد تحليل ما هو حرام واقعا وتحريم ما هو حلال واقعا فإن اعتبر التّحليل والتّحريم من حيث الواقع ، فالملازمة أيضا ممنوعة ، وإن اعتبر من حيث الظّاهر فبطلان التّالي ممنوع ؛ فإن ثبوت الأحكام عندنا تابع لحسن تشريعها فقد يحسن وضع القاعدة وتعميمها إلى مواردها تسهيلا لأمر التّكليف وإن ادّى إلى ارتكاب القبيح الواقعي. ومن هذا الباب جواز الاعتماد على الأمارات الشّرعيّة من الاستصحاب وقول ذي اليد والشّهادة مع إمكان الفحص عن الواقعة وتحصيل العلم بها.

ولو قرّر النّزاع في صورة انسداد باب العلم وبقاء التّكليف فالمنع أوضح ؛ إذ قد يحسن الأمر بالقبيح محافظة على ما هو أهمّ منه من فعل الحسن ويحسن النّهي عن الحسن محافظة على ما هو أهمّ من ترك القبيح ، فكما أنّ القبيح قد يكون مقدّمته تعينيّة لما هو أهمّ من فعل الحسن فيجوز لنا ارتكابه بل يجب للتوصّل إليه مع علمنا بقبحه. [ و ] قد يكون الحسن سببا لحصول قبيح ، تركه أهمّ من فعله ،

٣٢٦

فيجوز لنا تركه بل يجب ـ تحرّزا عن حصول القبيح مع علمنا بحسنه ـ فكذلك الحال فيما اشتبه علينا الحال فلم نتمكّن من تميز القبيح عن الحسن فيحسن في حقّنا ارتكاب القبيح أو ترك الحسن للتّوصّل إلى الأهمّ ؛ فيحسن من الشّارع أن يلزمنا به مع قضاء المصلحة لعدم وضع أسباب التّميز.

ومن هذا جملة من الطّرق الشّرعيّة بالنّسبة إلى مواردها الّتي لا سبيل لنا إلى تحصيل العلم بها كأخبار الآحاد والشّهادات ؛ فإنّها وإن لم يستلزم الإصابة للواقع ، بل قد يتخلّف عنها لكنّ الغالب فيها الإصابة ، فجاز أن يحسن منّا الأخذ بها بجميع مواردها ـ حتّى موارد التخلّف مع عدم العلم به ـ وأن يحسن من الشّارع أن يكلّفنا به تحصيلا لما هو الغالب فيها من الإصابة. وأمّا بالنّسبة إلى الموارد الّتي يتمكّن فيها من تحصيل العلم بالواقعة فتسويغ الأخذ بتلك الأمارات مبنيّ على الوجه السّابق.

ثمّ هذا مبنيّ على ما حقّقناه في محلّه : من أنّ حسن الفعل وقبحه ليس من لوازمه وذاتيّاته غالبا بل مبناهما على الوجوه والاعتبارات اللاّحقة له ، فيختلفان باختلاف الأحوال ، فيصحّ في قتل النّفس المحترمة الّذي هو قبيح قبل قيام الشهادة الزّور المعتبرة في ظاهر الشّريعة أن يكون حسنا بعد قيامها ، وهكذا الكلام في نظائر ذلك.

وأمّا ما يجاب به ـ من أنّ الغرض الدّاعي إلى تشريع الأحكام أمران : أحدهما : الوصول إلى لوازمها وجهاتها الواقعيّة ، والثّاني : إظهار الامتثال والعبوديّة. والأمر الأوّل وإن جاز تخلّفه من التّعويل على تلك الطّرق إلاّ أنّ الأمر الثّاني ممّا لا يتخلّف بعد تشريع الشّارع لها والأمر بمقتضاها جميع أنبيائه على ما

٣٢٧

تحقّق في محلّه : من أنّ جهات التكليف لا تنحصر في جهات الفعل ولا يقول به المجيب ـ ممّا لا حاجة إليه في المقام ) (١). انتهى كلامه رفع مقامه

وقد وافق في الجواب المذكور نقضا وحلاّ في الجملة المحقّق القميّ حيث قال ـ بعد جملة كلام له في توجيه القول بالامتناع ما هذا لفظه ـ : « ويمكن دفعه : بأنّا نرى بالعيان أنّ الشارع الحكيم جوّز لنا أخذ اللّحم من أسواق المسلمين وحكم بالحلّ وإن لم يعلم كونه مذكّى ، وكذلك رفع المؤاخذة عن الجاهل والنّاسي وغيرهما ، فعلم من ذلك أنّ تدارك هذا النّقض من شيء آخر من الشّرائع من الأعمال الشّاقة والمجاهدات الصّعبة وسائر التّكليفات ، فلا مانع من أن يجوز العمل بالظّن الحاصل من خبر الواحد ، وإن كان في نفس الأمر موجبا لارتكاب الحرام وترك الواجب » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا الجواب كما ترى يرجع إلى جوابين : ـ

أحدهما : النّقض بما جعله الشارع طريقا في الموضوعات الخارجيّة كسوق المسلمين لحلّيّة اللّحم المأخوذ منه المردّد بين المذكّى والميتة ، وبرفع المؤاخذة عن الجاهل والنّاسي مطلقا.

ثانيهما : الالتزام بتدارك النّقض اللاّزم من العمل بقول الشّارع وجعله المفضي إلى مخالفة الواقع ، ولو كان تسهيل الأمر على المكلّف الحاصل من هذا الجعل الظّاهري الموجب للإقدام على إطاعة التّكاليف المهمّة ، وهو يرجع إلى

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٢.

(٢) قوانين الأصول : ج ١ / ٤٣٣.

٣٢٨

الجواب بطريق الحلّ ، وهذا الجواب لا غبار عليه أصلا ، كما ستقف على تفصيل القول فيه.

إلاّ أنّ النّقض عليه بموارد رفع المؤاخذة عن الجاهل والنّاسي قد يتأمل فيه ؛ فإنّه لم يفرض في مورد رفع المؤاخذة تحليل وإنشاء حكم من الشّارع بالإباحة حتّى ينافي غرضه من جعل الأحكام الواقعيّة ، فالّذي يصحّ النّقض به ـ حكم الشّارع بالإباحة الظّاهريّة فيما يحتمل الحرمة الواقعيّة.

وإن أجيب عنه : بأنّ الّذي يقتضيه جعل الأحكام الواقعيّة إلزام الشّارع بالاحتياط عند احتمالها فترخيصه الرّجوع إلى البراءة ورفع المؤاخذة عن الجاهل المخالف لها في الواقع نقض للغرض أيضا ، نعم ، فيما لا يتمكّن من الاحتياط ويترك فيه الواقع قهرا ـ كما في موارد النّسيان ونحوه ممّا يحكم العقل فيه بقبح المؤاخذة على مخالفة الواقع لو اتّفقت ـ لا يجوز النّقض به هذا.

في المناقشة في الجواب النقضي

وأمّا الجواب الّذي حكاه الفاضل المتقدّم بقوله : « وأمّا ما يجاب ... إلى آخره » فلا بدّ أن يكون مبنيّا على كفاية كلّ من الأمرين في الجعل وإن كان فاسدا كما لا يخفى. وأمّا لو كان مبناه على اعتبارهما معا ، كما هو الظّاهر من الجواب فلا محصّل له أصلا ؛ لأنّ تخلّف الأمر الأوّل المفروض في كلام المجيب يكفي مانعا عن جعل الطّريق كما هو ظاهر هذا.

وأمّا ما أفاده الفاضل المتقدّم ذكره ـ في الجواب من الجوابين الرّاجعين إلى النّقض والحلّ ـ فمحلّ نظر في الجملة.

٣٢٩

توضيح ذلك : إنّ نقضه بجميع الأصول اللفظية والعمليّة والأمارات الشّرعية المعتبرة مطلقا في الموضوعات الخارجيّة ، ورأي المجتهد في حقّ العامي في الأحكام الشّرعيّة لا بدّ أن يكون في موضع منعه ، وهو التمكن من تحصيل العلم بالواقعة على ما استظهره هذا الفاضل الأستاذ العلاّمة قدس‌سرهما.

وهو كما ترى لا يستقيم بالنّسبة إلى النّقض بالأصول العمليّة إلاّ على فرض تخصيص مورد النّقض بما يجري في الموضوعات الخارجيّة ، كما أنّه لا يستقيم بالنّسبة إلى الفتوى أيضا بناء على تخصيص اعتبارها بصورة انسداد باب العلم والعجز عن تحصيل العلم بالحكم في مورد الاستفتاء على ما بنى عليه الأستاذ العلاّمة قدس‌سره وأورد عليه بقوله : ( وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه له ... إلى آخره ) مستظهرا ذلك عن الأكثر بقوله : ( حتّى أنّه لو لم يتمكّن من الظّن الاجتهادي ... إلى آخره ).

حيث إنّ منعهم القادر على الاجتهاد بالقوّة من جهة حصول الملكة له القاصر عن إعمال القوّة النّظريّة من جهة فقد الأسباب عن الرّجوع إلى فتوى المجتهد المستخرج فعلا ، وإيجابهم الاحتياط عليه ، يقتضي المنع عن الرجوع إلى الفتوى فيما لو تمكّن من تحصيل العلم بطريق أولى ، وإن كان الحقّ عندنا ـ على ما يظهر ممّا ورد في باب التقليد كتابا وسنّة ـ هو الحكم بالتعميم.

واستظهار التخصيص عندهم ممّا ذكره قدس‌سره من الاهتمام في شأن العاجز عن إعمال القوّة النّظريّة بالفحوى محلّ نظر ؛ إذ عدم اعتبار الفتوى في حقّ المجتهد لا يلازم عدم اعتباره في حقّ العامي الفاقد للملكة كما هو واضح.

وأمّا نقضه بالقطع بالتقريب الّذي ذكره فهو مبنيّ على ما زعمه من كونه مجعولا شرعيّا كالظّن فيتوجّه عليه النّقض ، وأمّا بناء على ما عرفت تحقيق القول

٣٣٠

فيه ـ من عدم تعلّق الجعل به من الشّارع بل استحالته ـ فلا يتوجّه عليه النّقض أصلا كما لا يخفى ؛ ضرورة أنّه ليس هناك بالفرض جعل من الشّارع وحكم غير الحكم الواقعي في مورد القطع حتّى يترتّب عليه نقض الغرض.

وأمّا الإيراد عليه ـ بناء على مذهبه ـ : بأنّ باب هذا الاحتمال منسدّ على القاطع كما في كلام الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ، فمحلّ نظر ؛ إذ ليس مبنى النّقض في كلامه على إحتمال الخطأ عند القاطع بل تحقّقه في نفس الأمر وهذا المقدار كاف في النّقض بناء على مذهبه هذا.

في المناقشة في الجواب الحلّي

وأمّا جوابه الحلّي : فلأنّه مبني في أوّل كلامه إلى قوله : ( ثمّ هذا مبني على ما حقّقناه في محلّه ... إلى آخره ) على ما بنى عليه الأمر في مسألة التحسين والتقبيح في باب الملازمة ـ من أنّ تشريع الأحكام ليس تابعا لجهات المكلّف به دائما ، بل فيما ساعده جهات التكليف والأمر ، فقد يحسن الأمر بالقبيح لجهة في الأمر به كما أنّه قد يحسن النّهي عن الحسن لجهة في النّهي عنه ـ على ما عرفت من كلامه مفصّلا ويستفاد من كلامه في المقام أيضا من أوّله إلى آخره خصوصا قوله : ( فإنّ ثبوت الأحكام عندنا تابع لحسن تشريعها ... إلى آخره ) ـ كما هو واضح.

فالقبيح الواقعي قد يكون هناك ما يقتضي الحكم بحليّته فالتّحليل ليس نقضا للغرض وهكذا في سائر موارد حكم الشارع على خلاف الواقع ، ولازم إجراء ما أفاده في المقام وتطبيقه عليه وابتناء الجواب عليه كما يفصح عنه كلامه ـ عدم ثبوت التحريم واقعا عند قيام الأمارة على الحليّة مثلا وإن كان الفعل قبيحا

٣٣١

في نفس الأمر وهو التصويب الباطل. وكلامه قدس‌سره ـ كما هو صريح قوله في النّقض بالفتوى على ما عرفت ـ مبني على القول الصّواب الّذي عليه مبني كلام ابن قبة أيضا من التخطئة.

وبالجملة : ابتناء الجواب على ما ذكره مستلزم لأمر باطل باعتراف الخصم ، وإن لم يكن مستلزما لمحذور في غير المقام هذا.

وفي قوله : ( ثمّ هذا مبني ... إلى آخره ) تصريح ، سيّما بملاحظة تمثيله بالشّهادة على القول بكون الأمارات من الاعتبارات والعناوين الموجبة لحسن الأفعال وقبحها على ما يستظهر من الشّيخ والعلاّمة قدس‌سرهما في « العدّة » و « النّهاية » على ما سيجيء من كلامهما المنقول في « الكتاب ».

وهذا وإن كان مشتركا مع كلامه الأوّل في استلزامه للتصويب الباطل كما هو ظاهر ، إلاّ أنّه ينافيه من جهة أخرى ، فلا معنى لجعله مبناه ، حيث إنّ حاصل كلامه الأوّل يرجع إلى نفي التّلازم بين التحسين والتّقبيح العقليّين وحكم الشّارع على طبقهما مع الاعتراف بالقبح الواقعي من غير فرق بين الأقوال في مسألة التّحسين والتّقبيح من حيث كونهما ذاتيّين مطلقا ، أو بالوجوه والاعتبار مطلقا ، أو التّفصيل بين القبح والحسن إلى غير ذلك.

وكلامه اللاّحق الّذي جعله مبنى كلامه السّابق ، يرجع حاصله إلى أنّ حسن الفعل ـ بأيّ قول فرض في تلك المسألة ـ مشروط بعدم قيام الأمارة على خلافه كما مثّل به بقوله : « فإذا قامت الأمارة على إباحة ما كان حراما فلا قبح له أصلا ». وهذا غير ما فرضه أوّلا من التّقييد في اقتضاء القبح للتّحريم بما إذا ساعده جهات التكليف.

٣٣٢

وبالجملة : لما كان ما أفاده قدس‌سره في الجواب الحلّي لازما للتّصويب الباطل عنده وعند ابن قبة فلا معنى للاعتماد عليه وإن كان المجيب غير ملتفت إلى هذا اللاّزم الباطل ، فالالتزام بالتدارك في الجواب الحلّي لا بدّ أن يكون على وجه لا يستلزمه اللاّزم الباطل كما عرفته من المحقّق القمّي قدس‌سره إجمالا وستعرف من شرح القول فيما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره من تفصيل الكلام في وجوه جعل الأمارة الغير العلميّة.

(١١٥) قوله قدس‌سره : ( والأولى أن يقال : إنّه إن أراد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد من الأولويّة التّعيين ، إذ قد عرفت فساد الجواب الحلّي من المجيب بما لا مزيد عليه. وإن كان ما أفاده قدس‌سره من الجواب على تقدير إرادة الامتناع أيضا يرجع إلى التصويب في وجه ، إلاّ أنّه أصلحه بالبيان الّذي ذكره في شرح وجوه جعل الأمارة الغير العلميّة.

ثمّ إنّ مراده قدس‌سره من المسألة الّتي انسدّ فيها باب العلم هي المسألة الكليّة النّوعيّة لا الشّخصيّة ، أو الشخصيّة من حيث كونها من أكثر المسائل الّتي فرض انسداد باب العلم فيها لا الانسداد الشخصي ـ وإن لم يفرق في توجيه ما أفاده عليه بين الفرضين ـ كما هو واضح ، إلاّ أنّ استظهار إرادة صورة الانفتاح من حيث كونه أسبق من السيّد وأتباعه يقتضي حمل كلامه قدس‌سره على ما ذكرنا فتدبّر واغتنم.

(١١٦) قوله : ( وعلى الثّاني يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٨ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) مبنيّ على كون المراد من عدم ثبوت الحكم في الواقعة المنسد فيها باب العلم هو عدم ثبوت الحكم الفعلي لا

٣٣٣

عدم ثبوت الحكم الواقعي وإلاّ لم يجامع مع قوله بعده : ( فإن التزم .. إلى آخره ). وإن كان ما ذكرنا خلاف ظاهر التّشبيه بالبهائم والمجانين ، إلاّ أنّ المراد معلوم. فلا يرد إذن النّقض عليه : بأنّه بعد فرض كون المكلّف كالبهائم في الواقعة المنسدّ فيها باب العلم فلا يلزم عليه تحليل الحرام الواقعي وتحريم الحلال الظّاهري.

(١١٧) قوله : ( بل الظّاهر أنّه يدعي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٨ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يورد عليه : بأنّ السيّد وغيره لم يدّعيا انفتاح باب العلم بالنّسبة إلى جميع جهات الأدلة حتّى دلالتها فيما كانت من الكتاب والسنّة. نعم ، بعض من لا خبرة له من الأخباريّين ادّعى قطعيّة دلالة الأخبار أيضا.

وأيضا المراد من الانسداد ليس هو الانسداد الغالبي وبالنّسبة إلى أكثر المسائل ـ حتّى ينافيه قول من يدّعي الانفتاح ـ بل المراد هو الانسداد ولو في مسألة شخصيّة حسبما هو ظاهر كلام الأستاذ العلاّمة أيضا ، ومن المعلوم أنّ الانسداد الشّخصي ممّا ليس محلاّ لإنكار أحد ، ولذا ذكر كلّ من ادّعى الانفتاح من المجتهدين : أنّا نرجع فيما لا سبيل لنا فيه إلى العلم من المسائل القليلة ، إلى ما يحكم به العقل. ومن الأخباريّين : أنّا نحكم بالتّوقف والاحتياط فيه وهو واضح لمن راجع إلى كلمات الفريقين.

(١١٨) قوله : ( بحيث لا يلاحظ فيه المصلحة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٩ )

أقول : لا يخفى أنّ جعل الكشف الظنّي من المصالح ، قد يستشكل عليه فالأولى أن يسقط لفظ « المصلحة ».

٣٣٤

(١١٩) قوله : ( الثّاني أنّه يجب العمل به لأجل أنّه يحدث ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٠٩ )

أقول : ظاهر هذا الكلام بل صريحه ـ كما لا يخفى على من تأمّل في جميع أطرافه من أوّله إلى آخره ـ هو كون قيام الأمارة موجبا لحدوث المصلحة فيما قام عليه ، لا أن يكون المصلحة في سلوكها أو الأمر بها ، فليكن هذا على ذكر منك لينفعك فيما بعد.

(١٢٠) قوله : ( قال في النّهاية في هذا المقام ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٠ )

أقول : حاصل ما ذكره : هو أنّ الجهات المقتضية لجعل الأحكام الشّرعيّة في الأفعال لا تلزم أن تكون ذاتيّة لها في جميعها ، بل يمكن أن يكون باعتبار الوجوه والاعتبارات المفارقة ، الّتي منها أوصاف المكلّف ، الّتي منها الظّن فإنّ للظّن كالعلم تعلّقا بالظّان وتعلّقا بالمظنون ، فمن الحيثيّة الأولى من الأوصاف ومن الثّانية من الطّرق والكواشف ، فلا يمنع إذن أن يكون الفعل حسنا ونحن ظانين بصدق الرّاوي مثلا.

فإذا كان الأمر كذلك فلا قبح في أمر الشّارع بسلوكه في زمان التمكّن من تحصيل الواقع ؛ لأنّ المفروض أنّ بواسطة قيام الظّن تحدث مصلحة ـ فيما قام عليه ـ غالبة على مفسدة فوت الواقع على تقدير مخالفة الأمارة ، فلا يلزم تفويت للمصلحة ونقض للغرض هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ظاهر كلام العلاّمة هذا هو حدوث المصلحة في المظنون بواسطة قيام الظّن مطلقا ، لا على تقدير المخالفة فالاستشهاد بكلامهما إنّما هو لمجرّد عدم امتناع إيجاب الظّن لحدوث المصلحة فيما قام عليه ولو في الجملة فتأمّل.

٣٣٥

ومن هنا ذكر العلاّمة : أنّ ظنيّة الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم .. على ما ستقف على تفصيل القول في عدم التّنافي بينهما على التقدير المذكور.

(١٢١) قوله قدس‌سره : ( وأغمضنا النّظر عمّا سيجيء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما يحكم بعدم كونه تصويبا فيما سيجيء لا دخل له بالمشار إليه وما هو محلّ السّؤال والفرض ؛ لأنّ ما يحكم بعدم كونه تصويبا فيما سيجيء إنّما هو فيما لو فرض وجود المصلحة الجابرة في سلوك الأمارة أو أمر الشّارع بالعمل بها لا فيما قامت عليه حسبما ستقف عليه. وما هو محلّ السّؤال والفرض إنّما هو فيما لو فرض حدوث المصلحة فيما قامت عليه بواسطة قيامها حسبما عرفت الإشارة إليه منّا.

ولا إشكال في كون الثّاني تصويبا مجمعا على بطلانه عدا ما عرفت من العلاّمة حسبما اعترف به الأستاذ العلاّمة فيما سيجيء كما أنّه لا إشكال في عدم كون الأوّل تصويبا على ما ستقف عليه.

(١٢٢) قوله : ( من جهة أنّه أمر ممكن غير مستحيل ). ( ج ١ / ١١١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما سيذكره فيما بعد من فرض المصلحة في سلوك الطّريق على تقدير كونه تصويبا لا يكون الدّليل على بطلانه غير الإجماع. وأمّا التّصويب بمعناه المعروف فلا إشكال في استحالته عقلا عندهم في الجملة حسبما يقف عليه المراجع إلى كلماتهم في مسألة التّصويب والتخطئة وإن كان لنا طريق إلى تصويره فيما سيجيء يخرجه عن الاستحالة.

٣٣٦

(١٢٣) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يقال : إنّ كلامه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ كلام ابن قبة الّذي هو من أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم مبنيّ على بطلان التّصويب ؛ لأنّه لا يتصوّر على مذهب المصوّبة تحريم الحلال وتحليل الحرام كما هو واضح.

[ التعبّد بالأمارات غير العلميّة ]

(١٢٤) قوله : ( والثّاني : أن يكون ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ظاهر هذا الكلام فرض وجود المصلحة الجابرة في سلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها ، لا وجودها فيما قامت عليه فليكن هذا في ذكرك لينفعك فيما بعد.

(١٢٥) قوله : ( أمّا القسم الأوّل : فالوجه فيه لا يخلو عن أمور ). ( ج ١ / ١١٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه بقي هنا قسم رابع لم يتعرّض له الأستاذ العلاّمة وهو أن يكون الأمارة مساوية للعلوم الحاصلة للمكلّف من حيث المطابقة للواقع. ولا إشكال في استقلال العقل بجواز أمر الشّارع بسلوك الأمارة على هذا التّقدير ومن باب مجرّد الطّريقيّة ؛ لعدم جريان دليل القبح وهو كون أمره بسلوك الأمارة في معرض تفويت الواقع ونقض الغرض.

نعم ، يحتاج الجعل على تقدير المساوات ودوام المطابقة إلى مرجّح وإن لم يترتّب عليه نقض الغرض ، لكنّه مطلب آخر غير تفويت الواقع ، ونقض الغرض المترتّب على جعل الأمارة على تقدير المخالفة للواقع ، كما أنّ صلاحيّة فرض الدّوام للجعل إنّما هو عند الاحتمال وعدم انحصار المصحّح فيه ، وإلاّ لم يعقل

٣٣٧

هناك جعل كما هو واضح ، كما أنّ غير الاحتمال الأوّل إنّما هو في حقّ نوع المكلّفين لا في حقّ كلّ مكلّف حتّى المحتمل ، وإلاّ أشكل الأمر على ما عرفت بعض الكلام فيه سابقا.

ثمّ إنّه قد يقال بالتّدافع بين كلاميه في مقام الإجمال والتّفصيل في معنى الانفتاح فتدبّر.

(١٢٦) قوله : ( والثّاني : لا يصحّ إلاّ مع تعذّر باب العلم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٣ )

أقول : لا إشكال فيما ذكره (١) ( دام ظلّه ) فلو ورد أمر من الشّارع بسلوك أمارة في زمان الانفتاح والتّمكّن من تحصيل العلم مع العلم بكون أمره مبنيّا على

__________________

(١) قال الأصولي المحقق المؤسس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

وللنّظر فيه مواقع نشير إلى بعضها :

منها : أن الأقسام ليست مشتركة في المقسم ؛ ضرورة أنّ الأمارة إمّا أن تلاحظ في نفسها أو بالنسبة إلى غيرها. وعلى الأوّل : تنقسم على خمسة أقسام : ما لا يطابق الواقع أصلا ، وما يطابقه دائما ، وما يتساوى فيه الأمران ، وما يزيد فيه أحدهما على الآخر.

وعلى الثاني : إلى ثلاثة : ما يتساوى فيه الأمران ، وما يزيد فيه أحدهما على الآخر فالأغلب ليس قسيما للدائم والغالب.

ومنها : قوله : ( والوجه الأوّل والثالث يوجبان الأمر ... إلى آخره ) ، فإن إيجاب دوام المطابقة للأمر بالعمل مطلقا ممنوع فإنه يمكن أن يكون السبب المفيد للقطع أيضا كذلك فيتساويان بل يمكن أن لا يجوز حيث يكون موارد إصابة الأمارة ممّا لا يضرّ خفائه على المكلّف كالمندوبات والمكروهات والمباحات مع كون سبب القطع على خلاف ذلك فحينئذ لا يجوز الأمر مع المساوات أيضا ، وكذلك الحال إذا كان موارد إصابة القطع أهم فتفطّن. والظّاهر أن تعذّر الباب غلط من الكاتب. انتهى محجّة العلماء : ج ١ / ٥٣

٣٣٨

الطّريقيّة المحضة ، فلا بدّ أن يحمل على غير الوجه الثّاني من الوجهين اللّذين ذكرهما الأستاذ العلاّمة والوجه الّذي ذكرنا.

(١٢٧) قوله : ( أحدها : أن يكون الحكم مطلقا تابعا لتلك الأمارة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٣ )

في الإشارة الى التخطئة والتصويب

أقول : المراد من الإطلاق ـ كما هو ظاهر كون المقتضي لجعل الحكم فيما قامت عليه الأمارة ـ نفس الأمارة سواء قامت على طبق حكم العالمين أو قامت على خلافه ، من حيث سببيّتها لحدوث المصلحة فيما قامت عليه كذلك ، بحيث يكون مع قطع النّظر عن قيام الأمارة عليه خاليا عن المصلحة بكلّ وجه.

فالحكم الواقعي مختص في الواقع بمن كان عالما به من حيث اختصاص المصلحة الموجبة لجعله في حقّ العالمين. فالجاهل مع قطع النّظر عن قيام الأمارة ، لا حكم له أصلا ، بناء على كون الجعل تابعا للأمارة بمعنى تأخّره عن وجود الأمارة ولو طبعا ، أو محكوم بما يعلم الله تعالى أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، فيكون قيام الأمارة إذن كاشفا عن جعل الحكم على طبقها قبل قيامها ؛ ضرورة تقدّم المنكشف على الكاشف بحسب الوجود ، فعلى كلّ تقدير : يكون الحكم الواقعي مختصّا بالعالمين به وإن اتّفق اشتراك الجاهلين معهم في بعض التّقادير من حيث اقتضاء سبب جعل الحكم في حقّهم ذلك أحيانا من باب الاتّفاق فهو نظير توافق السّببين بحسب الاقتضاء في مورد من باب الاتفاق.

٣٣٩

وهذا المعنى ـ كما ترى ـ تصويب باطل لم يستشكل أحد في بطلانه من الخاصّة وإن كان ربّما يوهم عبارة العلاّمة جوازه ، بل هو أفحش من جميع ما يتصور من المعاني للتّصويب لعدم الإشكال في استحالته عقلا من وجوه غير مخفيّة على المتأمّل.

(١٢٨) قوله : ( الثّاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لتلك الأمارة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١١٤ )

في الوجه الثاني من وجوه جعل الطرق (١)

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد من الفعلي في المقام ليس ما هو المراد منه في سائر المقامات ـ من معناه المعروف : الّذي يكون مقابلا للحكم الشأني أي : ما يكون هو المناط في استحقاق الثّواب والعقاب في مقابل ما يكون موجودا في الواقع حتّى في حقّ من قامت الأمارة على خلافه غير مؤثّر في استحقاق الثّواب والعقاب مؤثرا في غيرهما ـ بل المراد منه تبعيّة الحكم الواقعي في الواقع لقيام الأمارة في الجملة ، كما إذا قامت على خلاف ما هو المجعول في الواقع بمعنى : أنّ في كلّ واقعة مصلحة مشتركة بين العالم والجاهل مقتضية لجعل الحكم لكلّ منهما بشرط عدم قيام أمارة على خلافه بحيث يكون قيام الأمارة على الخلاف مانعا من تأثيرها في الواقع ؛ فإنّ قيامها على خلاف الواقع يوجب حدوث مصلحة في

__________________

(١) قال سيّد العروة في حاشيته على الفرائد :

هذا الوجه مختار صاحب الفصول ومرجعه إلى التصويب الباطل. حاشية الفرائد : ج ١ / ٢٨٤.

٣٤٠