بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

(٧٩) قوله : ( ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٠ )

أقول : قد عرفت أنّ كلماتهم نصّ في عدم جواز الطرح بحسب الالتزام فكيف يمكن حملها على ما ذكره؟ كما أنّك قد عرفت أيضا أن طرح قول الحجّة بحسب الالتزام ـ ولو كان في الحكم الغير الإلزامي ـ موجب للكفر في وجه ، فكيف يجوز الحكم بجوازه؟ إلا أنّك قد عرفت : أنّه يحتمل أن يكون مراده ( دام ظلّه ) من الالتزام غير ما هو الظّاهر منه فراجع.

(٨٠) قوله : فإنّ ظاهر الشّيخ رحمه‌الله الحكم بالتّخيير الواقعي وظاهر المنقول عن بعض ... إلى آخره. ( ج ١ / ٩٠ )

أقول : ظهور كلام الشيخ « عليه الرّحمة » في التّخيير الواقعي المستلزم لطرح قول الإمام عليه‌السلام إنّما هو من جهة أنّه حكم بعدم جواز اتّفاق الأمّة بعد الخلاف على أحد القولين من حيث استلزامه لبطلان التّخيير ـ كما ستقف على كلامه فيما سيأتي ـ فإنّ ظاهر هذا كون التّخيير واقعيّا ؛ فإن التّخيير الظّاهري إنّما يدور مدار الاختلاف الموجب للتّحير ، فلا يعقل أن يمنع من الاتّفاق بعد الاختلاف كما هو واضح.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال : أنّ مراده من التّخيير هو التّخيير الظّاهري حسبما استفاده جماعة ، وأجابوا عن إيراد المحقّق على الشيخ رحمه‌الله ـ بأنّ في التّخيير أيضا طرحا لقول الإمام عليه‌السلام ـ : بأنّ مراده من التّخيير هو التّخيير الظّاهري فلا يكون طرحا لقوله عليه‌السلام. ويكون ما ذكره من اللاّزم مبنيّا على زعم التّلازم بين القول بالتّخيير وبطلان التعيين مطلقا وفي قسمي التّخيير غفلة عن حقيقة الحال.

ثمّ على تقدير ظهوره لا يقاوم ما هو صريح المحقّق وغيره ممّن أجابوا

٢٨١

وممّن أوردوا على الشّيخ رحمه‌الله. ولعمري إنّ في مثل هذا كفاية في منع الحكم بإمكان كون المراد من كلماتهم المطلقة ما ذكره ( دام ظلّه ) هذا.

وأمّا ظهور كلام القائل بالرّجوع إلى الأصل فيما ذكره ( دام ظلّه ) فممنوع ؛ إذ لم يظهر منه الالتزام بخلاف الحكم المعلوم إجمالا بحسب الواقع ، بمعنى الحكم بالإباحة الواقعيّة فيما كان القولان على الوجوب والحرمة. بل غاية ما يظهر منه : الحكم بالإباحة ظاهرا ؛ فإنّ مفاد الأصل لا يعقل إلاّ أن يكون ذلك كما هو ظاهر لا يخفى.

نعم ، قد عرفت في طيّ ما قدّمنا لك أنّ التّخيير الظّاهري كالإباحة الظّاهرية.

(٨١) قوله : ( نعم ، ظاهرهم في مسألة دوران الأمر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩١ )

أقول : لا يخفى عليك أنه ( دام ظلّه ) وإن سلّم هذا الظّهور في المقام وقوّاه إلاّ أنّه ( دام ظلّه ) لم يسلّمه في الجزء الثّاني من « الكتاب » وحكم على سبيل الجزم بعد (١) وجوب الالتزام بأحد الحكمين.

ثمّ إنّ حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) في الاستدلال على ما قوّاه في المقام يرجع إلى وجهين :

أحدهما : كون الرّجوع إلى الأصل بالنّسبة إلى كلّ من الفعل والتّرك مستلزما للمخالفة العمليّة ؛ فإنّه إذا بنى المكلّف على جواز كل من الفعل والتّرك فقد يختار الفعل وقد يختار التّرك فيعلم بتحقّق المخالفة العمليّة القطعيّة منه ، فإنّه إن كان الفعل واجبا فقد تركه وإن كان حراما فقد فعله وهي قبيحة عقلا حتّى في الشّبهة

__________________

(١) كذا والظاهر « بعدم ». انظر الفرائد : ج ٢ / ١٨٩.

٢٨٢

الموضوعيّة على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إنّه وإن استلزم منه المخالفة القطعيّة العمليّة إلاّ أنّه لا دليل على قبحها إذا كانت في واقعتين على ما هو المفروض في محلّ البحث.

قلت : الحاكم في المقام وأشباهه إنّما هو العقل. ونحن ندّعي أنّه لا يفرّق العقل في الحكم بقبح المخالفة القطعية العملية بين كونها في واقعة أو واقعتين. ويعلم صدق هذه الدّعوى من راجع العقل والعقلاء مراعيا للإنصاف.

تحقيقات متعلّقة بحكم المخالفة القطعيّة التدريجيّة

فإن قلت : لو لم يجوّز العقل المخالفة القطعيّة التّدريجيّة لم يجز للشّارع أن يحكم بالتّخيير الاستمراري بين قولي المجتهدين للمقلّدين فيما يعلم بحقّيّة أحدهما ـ كما إذا أفتى أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ، أو أحدهما بوجوب صلاة الظّهر والآخر بوجوب صلاة الجمعة ـ ولا بين الخبرين المتعارضين أو غيرهما من الأدلّة والأمارات المتعارضة ؛ فإنّه وإن قيل بعدم التّخيير من جهة عدم الدّليل عليه أو الدّليل على عدمه ، إلاّ أنّه لم يقل أحد بقبح تجويزه على الشّارع ، ولوجب الحكم أيضا بالبقاء على من قلّد مجتهدا ثمّ مات ويعلم بلزوم المخالفة القطعيّة العمليّة من العدول إلى المجتهد الحيّ ، أو قلّد أحد المتساويين في مرتبة الاجتهاد ثمّ صار غير من قلّده أعلم إلى غير ذلك من الموارد ، مع أنّ الظّاهر من الأكثر هو الحكم بوجوب العدول فيها على المقلّد.

فإن قلت : القبيح هو الإذن من أوّل الأمر بفعل ما يستلزم منه المخالفة القطعيّة العمليّة ، وفي مسألة العدول عن الميّت إلى الحيّ وعن غير الأعلم إلى

٢٨٣

الأعلم ليس الأمر كذلك.

قلت : ما تقول في مسألة التّخيير الاستمراري بين قولي المجتهدين وبين الخبرين؟ مع أنّ الإذن في المخالفة القطعيّة فيها من أوّل الأمر.

قلت : ليس من الجائز قياس جواز المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجية في المقام على جوازها في الموارد المذكورة وأشباهها ؛ حيث إن مرجع تجويز الشّارع في موارد النّقض إلى جعل الالتزام بالحكم المحتمل أو أحد الطّريقين في كلّ واقعة والأخذ بمقتضاه والعمل عليه امتثالا للحكم النّفس الأمري فمخالفته متداركة ، هذا بخلاف الالتزام بالإباحة ؛ فإن مرجعه إلى تجويز المخالفة القطعيّة من دون تدارك ومن هنا ذكر قدس‌سره : « وأمّا لو التزم بأحد الاحتمالين ... إلى آخره » (١) وهذا هو المراد بقوله ( دام ظلّه ) : « وتعدّد الواقعة إنّما يجدي ... إلى آخره » (٢) لا ما يتوهّمه الجاهل هذا. وستقف على بعض الكلام في ذلك في الجزء الثّاني من التّعليقة (٣).

فإن قلت : إنّا نمنع من لزوم المخالفة القطعيّة العملية من الحكم بالجواز وإباحة كلّ من الفعل والتّرك فإنّ لنا أن نختار أنّه يجب عليه إمّا الفعل دائما أو الترك كذلك ، فلا يلزم منه محذور أصلا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٩٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٩١.

(٣) بحر الفوائد : ج ٢ / ٨٠ ذيل قول المصنف : ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كل من الوجوب والحرمة ... إلى آخره.

٢٨٤

قلت : هذا عين الالتزام بمقالة القائل بالتّخيير ؛ فإنّ مقصوده ليس أزيد من ذلك.

توضيح ذلك : أنّ اختيار واحد من الفعل والتّرك دائما إن كان بمعنى إيجاب الشّارع له في مرحلة الظّاهر فهو راجع إلى القول بالتخيير الابتدائي حقيقة. وإن كان مع تجويز خلافه في حكم الشّارع فيرجع إلى تجويز المخالفة القطعيّة وإن لم يتحقّق في الخارج وهو قبيح على الحكيم تعالى في حكم العقل ، ولا ثالث لذينك ، فتأمّل.

هذا محصّل ما يقال في توضيح ما ذكره ( دام ظلّه وإفادته ) وفيه بعض سؤالات أخر ستقف عليه في الجزء الثّاني من « الكتاب ».

ثانيهما : ما ورد في الخبرين المتعارضين ممّا يدلّ على التّخيير بينهما عند التّعادل ؛ فإنّ موردهما وإن كان الخبرين المتعارضين إلا أنّه يمكن استفادة حكم المقام منه بتنقيح المناط ، أو بالأولويّة القطعيّة ؛ فإنّه إذا لم يجوّز الشّارع المخالفة للحكم الظّاهري ؛ فعدم جوازه لمخالفة الحكم الواقعي بالطّريق الأولى. وإلى هذا الوجه أشار بقوله : « ويمكن استفادة المطلب من فحوى ... إلى آخره » (١) هذا.

ولكنّك خبير : بأنّ المناط غير منقّح ، والأولويّة ممنوعة على بعض التقادير غير نافعة في المقام على بعض التّقادير الأخر. وقد أورد ( دام ظلّه ) على الاستدلال بهذا الوجه في الجزء الثاني من « الكتاب » بما ستقف بيانه منّا ثمّة.

ثمّ إنّه بقي في المقام خبايا في زوايا لا نقدر على الإشارة إليها من جهة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٩٢.

٢٨٥

ضيق المجال وتشتّت البال والله الموفّق وهو الهادي إلى الصّواب.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) في المسألة لا دخل له بما هو محلّ الكلام والبحث ؛ فإنّه كان في المخالفة الالتزاميّة المحضة وما ذكره فيها مبنيّ على المخالفة العمليّة ولا اختصاص لما ذكره بالفرض ، بل يجري في جميع الصّور الشّبهة الحكميّة ؛ فإنّ المخالفة الالتزاميّة المحضة لا توجد فيها فهي خارجة عن محلّ الكلام.

نعم ، لا إشكال في وجودها في الشّبهات الموضوعيّة ، فما أفاده في حكم المقام فإنّما هو مع قطع النّظر عن هذه الملاحظة وإلى ما ذكرنا كلّه أشار بقوله : « لكن هذا الكلام لا يجري ... إلى آخره » (١).

ولعلّ الوجه في أمره بالتّأمّل في المقام هو إمكان منع الأمر المنجّز في واقعتين ، إذا فرض عدم الابتلاء بهما في زمان واحد فتأمّل.

(٨٢) قوله : ( وأمّا المخالفة العمليّة فإن كانت لخطاب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٣ )

في عدم جواز المخالفة لخطاب تفصيلي في مقام العمل

أقول : المخالفة العمليّة قد تكون لخطاب معيّن مفصّل قد وقع الاشتباه في متعلّقه ، وقد تكون لخطاب مردّد بين الخطابين ، بمعنى العلم بوجود أحدهما وهذان قد يكونان من نوع واحد سواء كانا تحريميّين أو وجوبيين ، وقد يكونان من نوعين كالوجوب والتّحريم. وعلى جميع التّقادير : إمّا أن يكون الشّبهة حكميّة أو موضوعيّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٩٢.

٢٨٦

فإن كانت المخالفة لخطاب تفصيلي فلا إشكال في عدم جوازها مطلقا سواء كانت في الشّبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ؛ لاستقلال العقل بقبح مخالفة الخطاب المعلوم في الفرض بحيث لا يجوز للشّارع الإذن فيها.

وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجّز الخطاب به عند العقل ؛ فلا يجوز مخالفته القطعيّة على ما هي المقصود بالبحث. فحينئذ إن قلنا بأنّ المراد من العلم الرّافع لموضوع الأصول الأعمّ من العلم الإجمالي فلا إشكال ، وإن قلنا بظهوره في العلم التّفصيلي فلا بدّ من رفع اليد منه وجعل المراد الأعمّ ؛ لملاحظة ما عرفت من حكم العقل هذا.

ولكن قد خالف فيما ذكرنا فريقان :

أحدهما : من يرى جواز المخالفة مطلقا ، ولو كانت دفعة.

ثانيهما : من يرى جوازها تدريجا ولا يجوّزها دفعة.

وسنتكلّم فيما هو المستند لهما مع ردّه في الجزء الثّاني من التّعليقة إن شاء الله تعالى عند تكلّم الأستاذ العلاّمة فيه هذا.

وبمثل ما ذكرنا فليحرر المقام لا بمثل ما حرّره الأستاذ العلامة قدس‌سره ؛ فإنّه يرد عليه : أنّه لا معنى لما ذكره من الاستظهار ، مع أنّك قد عرفت : كون عدم الجواز من بديهيّات العقل ، هذا مجمل الكلام في القسم الأوّل.

وأمّا القسمين الأخيرين فستعرف الكلام فيهما عند تعرّض الأستاذ العلاّمة لحكمهما.

ثمّ اعلم أنّ الكلام في المقام في الشّبهة المحصورة وأمّا الشّبهة الغير

٢٨٧

المحصورة فهي خارجة عن محلّ الفرض هذا. ولكن يمكن أن يقال بدخولها في محلّ الكلام بالنّظر إلى أصل القاعدة ، بناء على كون عدم وجوب الاجتناب فيها شرعا من جهة الدّليل الوارد ، أو لأنّ البحث في حرمة المخالفة القطعيّة الثّابتة في الشّبهة الغير المحصورة أيضا.

(٨٣) قوله : ( فإن قلت : إذا أجرينا أصالة الطّهارة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٣ )

أقول : هذا السّؤال قد توجّه عليه ممّا التزم به سابقا : من كون الأصل في الشّبهة الموضوعية حاكما على الخطابات الشرعيّة المتعلّقة بأحد المشتبهين.

(٨٤) قوله : ( قلت أصالة الطّهارة في كلّ منهما بالخصوص ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٣ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) ـ بعد تعميم العلم في أدلّة الأصول الرّافع لموضوعها بما يشمل العلم الإجمالي على ما هو مبنى الجواب كما يظهر بالتّأمل ـ : هو أنّ إجراء الأصل في كلّ منهما إنّما هو مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ؛ بأن يلاحظ كلّ منهما بحياله وبالخصوص وأمّا بملاحظته فلا. لتنجّز الخطاب بالاجتناب عمّا علم بنجاسته ولو إجمالا ، فلا بدّ من الإطاعة والامتثال بنحو من الأنحاء ولو بالموافقة الاحتماليّة هذا.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكره من البيان لا يخلو عن إشكال ؛ فإنّ المدّعي للطّهارة وعدم وجوب الاجتناب إنّما يدّعي الطّهارة الظّاهريّة لا الواقعيّة حتّى يلزم التناقض ، فالأولى ـ على تقدير تسليم ظهور أدلّة الأصول لصورة العلم الإجمالي ـ أن يحكم بلزوم رفع اليد عنه بملاحظة ما ذكرنا من حكم العقل بقبح الإذن.

٢٨٨

(٨٥) قوله : ( هذا مع أنّ حكم الشّارع بخروج مجرى الأصل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا يرجع إلى جواب آخر ، وحاصله : أنّه ـ على تقدير تسليم ظهور أدلّة الأصول في إناطة الحكم فيها بالعلم التّفصيلي ـ لا بدّ من رفع اليد عنه ؛ لاستقلال العقل بقبح ذلك على الشّارع من حيث رجوعه إلى التّناقض ، فإنّ معنى تجويزه الرّجوع إلى أصالة الطّهارة مثلا في كلّ من المشتبهين ليس إلاّ الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن النّجس ، وهو يناقض ما دلّ على وجوب الاجتناب.

وهذا كما ترى يرجع إلى منع جريان دليل الأصل في صورة العلم الإجمالي بالتّكليف حتّى يكون حاكما على دليله ، وليت شعري إذا كان دليل الأصل مختصّا بصورة الشّك البدوي فهل يفرّق فيه بين المخالفة الالتزاميّة العمليّة؟

حتّى يحكم بتحقّق الحكومة بالنّسبة إلى إحداهما دون الأخرى. هذا مضافا إلى ما عرفت : من عدم إمكان حكومة الأصول على الأدلّة وإن كانتا متوافقتين ، لا من حيث لزوم التّناقض بل من الحيثيّة الّتي عرفتها.

(٨٦) قوله : ( فتأمّل ). ( ج ١ / ٩٤ )

أقول : يمكن أن يكون الوجه فيما ذكره من التّأمّل ما عرفت منّا من المناقشة فيما ذكره ( دام ظلّه ) ، ويمكن أن يكون الوجه فيه المنع من كون مرجع أصالة الطّهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقول الشّارع ( اجتنب عن النّجس ) من حيث كونها حاكمة على أدلّة وجوب الاجتناب عن النّجس هذا.

ولكنّك قد عرفت : أنّها وإن لم ترجع إلى عدم وجوب الاجتناب واقعا ـ حتّى يلزم التّناقض ـ إلاّ أنّها راجعة إلى عدم وجوبه ظاهرا المناقض لحكم العقل.

٢٨٩

(٨٧) قوله : ( أحدها : الجواز مطلقا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٤ )

الكلام في وجوه المخالفة لخطاب مردد بين خطابين

أقول : هذا الوجه يظهر من جماعة ممّن عاصرنا أو قارب عصرنا ، وحاصل ما ذكره من الوجه للحكم بالجواز مطلقا يرجع إلى دعوى رجوع الشّك بالنّسبة إلى كلّ خطاب إلى الشّك البدوي ، فإنّ المفروض عدم العلم بوجود متعلّق أحدهما بالخصوص فلا علم إجمالا بتعلّق كلّ منهما حتّى يحكم العقل بوجوب إطاعته والمنع من الرّجوع إلى الأصل بالنّسبة إليه.

نعم ، يعلم إجمالا بوجود متعلّق أحد الخطابين ، لكن المفروض عدم تعلّق نهي بهذا المفهوم من حيث هو ، والعقل لا يحكم بوجوب الإطاعة والتحريك على المكلّف إلاّ بعد العلم بتوجّه خطاب إليه مفصّلا ؛ بحيث يصحّ أن يعاتبه بأنّك لم خالفت الخطاب الفلاني؟ والمفروض عدم وجود مثله في المقام.

(٨٨) قوله : ( الثّاني : عدم الجواز مطلقا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٤ )

أقول : محصّل ما ذكره للحكم بعدم الجواز مطلقا : هو أنّ العقل مستقل بقبح المخالفة القطعيّة في الفرض وتنجز كلّ من الخطابين على المكلّف ؛ بمعنى صحّة مؤاخذة الشّارع المكلّف على كلّ منهما ـ على تقدير وجود متعلّقه ـ ويمنع من رجوع الشّك إلى الشّك البدوي المصحّح للرّجوع إلى البراءة في نظر العقل ، والمصحّح له هو احتمال عدم تكليف خاصّ إذا لم يستلزم تكليفا آخر ، على تقدير عدمه. وأمّا إذا كان تقدير عدمه مجامعا لتكليف آخر ، فلا يجوّز العقل الرّجوع إلى البراءة ، بل يستقل في الحكم بعدم جواز الرّجوع إليه وقبح إذن الشّارع فيه.

٢٩٠

وإن كنت في ريب مما ذكرنا فافرض شيئا واحدا يعلم بتعلّق أحد الخطابين به كما إذا فرضنا مائعا يعلم بأنّه إمّا نجس أو مال الغير فهل ترى من عقلك التّرخيص في شربه؟ حاشاك ثمّ حاشاك ، بل تراه حاكما ـ من غير تزلزل وريبة ـ بوجوب الاجتناب عنه. وليس الفرق بينه وبين المقام إلاّ تردّد متعلّق الخطابين بين الأمرين أو الأمور ، والمفروض عدم قدح هذا التّردد عند هذا القائل ، وإنّما المانع عنده تردّد نفس الخطاب على ما عرفت من استدلاله ، ولذا التزم بعدم الجواز فيما كان الخطاب غير مردّد بين الخطابين. مع أنّ ما ذكره وجها للجواز في المقام يجري في الفرض أيضا.

وقد اتّفق لي مناظرة مع بعض هؤلاء في المسألة وكان يلتزم في طيّ كلامه بالجواز في الفرض أيضا وهو كذلك على ما عرفت من عدم تعقل الفرق مع أنّك قد عرفت : أنّ بداهة العقل شاهدة بالقبح في الفرض.

(٨٩) قوله : ( كما يظهر من كلماتهم في مسائل الإجماع المركب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٤ )

أقول : هذا الاستشهاد إنّما هو بالنّسبة إلى ما ذكره بقوله : « بخلاف الشّبهات الحكميّة » (١).

فإنّ كلماتهم عدا شاذّ منهم متطابقة على عدم جواز الرّجوع إلى الأصل فيما يستلزم منه طرح الحكم المعلوم بالإجمال هذا.

ثمّ الوجه في هذا التّفصيل يمكن أن يكون دعوى الفرق في حكم العقل

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٩٤.

٢٩١

بالقبح بين الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة في الفرض ؛ فإنّ من الرّجوع إلى الأصل في الأولى يلزم طرح الحكم الكلّي ، وهذا بخلاف الرّجوع إلى الأصل في الثّانية ؛ فإنّه لا يلزم منه ذلك. وإنّما اللاّزم منه طرح الحكم الجزئي وهو ممّا لا ضير فيه بعد عدم وجود خطاب تفصيليّ.

ولو كنت شاكّا في حكم العقل بالجواز في الثّانية فلاحظ وقوعه في الشّرع فإنّك لا تكاد ترتاب في حكمه بالجواز فإنّ وقوع شيء من الشّارع بعد إمكانه العقلي هذا. وأمّا ما ذكره ( دام ظلّه ) من الوجه له فهو يقضي بالتّفصيل المذكور في صورة عدم تردّد الخطاب أيضا وهو لا يقول به ، اللهم إلاّ أن يقال إنّ ذلك يرد على ما ذكرنا أيضا.

(٩٠) قوله : ( وقد عرفت ضعف ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٥ )

أقول : قد عرفته في الفرض الأوّل في طيّ الجواب عن السؤال أخيرا. ولكنّك قد عرفت : أنّ ما ذكره في وجه الضّعف ، ضعيف. فالحقّ : أن يجعل الوجه في ضعفه ما عرفته منّا.

(٩١) قوله : ( إلاّ أنه حاكم عليه لا معارض له ). ( ج ١ / ٩٥ )

أقول : لا يخفى عليك ما وقع منه ( دام ظلّه ) من المسامحة في الاستدراك المذكور ؛ ضرورة أنّ التعارض لا ينفك عن التّنافي ، كما أنّ الحكومة لا تنفك عن عدمه. ولذا أخرج الحكومة عن تعريف التّعارض في الجزء الرّابع من « الكتاب » (١) بقيد التّنافي.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١١.

٢٩٢

وبالجملة : ما ذكره ( دام ظلّه ) من الاستدراك لم يعلم له وجه ، فكان عليه أن يترك هذا الاستدراك ؛ لأنّه مستدرك بل مخلّ ؛ لما عرفت.

مضافا إلى أنّ مع تسليم الحكومة لا معنى للمنع من الرّجوع إلى الأصل كما هو واضح. مضافا إلى منافاته لما يظهر من كلماته السّابقة الظّاهرة في عدم الحكومة فيما لو استلزم من الرّجوع إلى الأصل مخالفة عمليّة قطعيّة هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ غرضه قدس‌سره من هذا الكلام بيان شأن الأصل الموضوعي في مورد جريانه ، لا في المقام الّذي حكم بعدم جريانه ، والتّنافي الذي أثبته إنّما هو بحسب المعنى والحقيقة ، لا بحسب لسان الأصل ، كما هو صريح قوله قدس‌سره : ( فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة ... ) (١).

والتّنافي المعتبر في التّعارض إنّما هو بحسب لسان الدّليلين لا بحسب الواقع ، ولذا قال في باب التّعارض : ( إنّ الحكومة تخصيص في المعنى بلسان التّفسير ) (٢) فافهم.

(٩٢) قوله : ( والوجه في ذلك أنّ الخطابات في الواجبات الشرعية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٥ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره يجري بعينه في المحرّمات أيضا ، فيقال : إنّ الخطابات في المحرّمات الشّرعيّة بمنزلة خطاب واحد بترك الكلّ. ولم يقصد ( دام ظلّه ) بما ذكره ـ تخصيص المدّعى. كيف! وهو أعمّ منه بالفرض ؛ فإنّه

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٩٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ٤ / ١٤.

٢٩٣

التّفصيل بين اتّحاد الخطابات ـ بحسب النّوع من غير فرق بين كونها وجوبيّة أو تحريميّة ـ واختلافها ، وهذا أمر ظاهر.

ثمّ إنّ حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) ـ : هو أنّ المخالف لأحد الخطابين المتحدين نوعا ، مخالف لخطاب تفصيليّ ؛ فإنّ المفروض رجوع الخطابات إلى خطاب واحد ، فلا يعقل فيها كثرة حتّى يتردّد في المخالفة فيدخل إذن في الفرض الأوّل.

(٩٣) قوله : ( والأقوى من هذه الوجوه الوجه الثّاني ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٦ )

في بيان قوّة الوجه الثاني والثالث من الوجوه المتعلّقة

بمخالفة خطاب مردد بين الخطابين

أقول : لا إشكال في قوّة ما ذكره ( دام ظلّه ) لما عرفت من الوجه في توضيحه منّا ، وبه يعرف فساد الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثّالث ؛ فلأنّ العقل مستقل بوجوب الإطاعة مع العلم الإجمالي مطلقا وتنجّز الخطاب بذلك من غير فرق بين الشّبهة الموضوعيّة والشّبهة الحكميّة وتردّد الخطاب إن كان مجديا لأجدى في كلتا الشّبهتين.

وأمّا الاستشهاد بالوقوع في الشّرع ففاسد جدّا ؛ لأنّ موارده لا دخل لها بالفرض ، فإنّها بين ما يكون المخالفة القطعيّة العمليّة فيها في حقّ شخصين كواجدي المني في الثّوب المشترك ، وبين ما يكون المخالفة القطعيّة فيها بحسب عدم الالتزام ظاهرا ، وبين ما يكون من جهة قيام الطّريق في أحد الطّرفين ـ كما في مسألة الإقرار بالزّوجيّة والأبوّة والأخوّة إلى غير ذلك ـ فتدبّر.

٢٩٤

وهذه كما ترى خارجة عن الفرض بأسرها فلا يقاس عليها. هذا كلّه لو كان الوجه في التّفصيل المذكور ما عرفته منّا. وأمّا لو كان الوجه فيه ما عرفته عن الأستاذ العلاّمة فقد عرفت ما فيه.

وأمّا الوجه الرّابع ، ففيه :

أوّلا : أنّا لا نعقل معنى لما ذكر ، فإنّه إن كان المراد ـ من رجوع الخطابات إلى خطاب واحد فيما كانت متّحدة بحسب النّوع ـ أنّ معصية كلّ منها معصية لمطلوب الشّارع ، ففيه : أنّ الأمر كذلك فيما إذا اختلفت بحسب النّوع.

وإن كان المراد أنّها تؤول إلى خطاب واحد بفعل الجميع حقيقة ـ بمعنى كونها خطابا واحدا بحسب نفس الأمر مثل ما إذا ورد عموم أصولي في قوله أكرم العلماء ـ ففيه ـ مضافا إلى أنّه لا شاهد له ـ : أنّه غير معقول.

وإن كان المراد من رجوعها إلى خطاب واحد أنّه ينتزع منها خطاب واحد لم يرد من الشّارع أصلا ففيه ـ مضافا إلى أنّه لا عبرة به بعد البناء على متابعة الخطاب التّفصيلي في الحكم بوجوب الإطاعة ؛ فإنّ المراد منه الخطاب الوارد من الشّارع لا ما ينتزعه المكلّف ـ : أن هذا يجري بعينه فيما إذا اختلفت الخطابات بحسب النّوع بأن يقال : المراد منها وجوب الاتّقاء ممّا طلبه الشّارع في ضمن الخطابات التّفصيليّة من الفعل أو التّرك فتدبّر.

والقول بثبوت الفرق بين الانتزاعين من حيث كون أحدهما أبعد من الآخر ، فيه ما لا يخفى.

وثانيا : أنّه لا جدوى في هذا الرّجوع بعد البناء على عدم الفرق في حكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة بين الخطاب التّفصيلي والخطاب المردّد كما عرفت مفصّلا.

٢٩٥

(٩٤) قوله : ( ثمّ الأوّل ثمّ الثّالث ). ( ج ١ / ٩٦ )

أقول : الوجه فيما ذكره من التّرتيب في الترجيح : هو أنّه لو أغمض النّظر عن التّحقيق ودار الأمر بين الوجوه الثّلاثة ، كان الأوّل هو المتعيّن ؛ لأنّ التفصيل بكلّ من الوجهين ممّا لا وجه له في قبال القول بالإطلاق ؛ فإنّ العقل إن جوّز المخالفة جوّزها مطلقا من غير خصوصيّة عنده.

ولو أغمض النّظر عن هذا ودار الأمر بين الالتزام بالتّفصيل الثّالث والرّابع كان الأوّل هو المتعيّن ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ رجوع الخطابات إلى خطاب واحد لم يعلم له معنى محصّل.

(٩٥) قوله : ( أمّا الكلام في الأوّل فمحصّله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٦ )

أقول : لا خفاء فيما ذكره أصلا ؛ إذ العقل يستقلّ في الحكم بقبح المؤاخذة ما لم يعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه ولو إجمالا. ومن المعلوم ضرورة أنّ كلاّ من واجدي المني في الثّوب المشترك ، شاك في توجّه وجوب الغسل ـ وسائر أحكام الجنب من حرمة الدّخول في المسجدين ، والمكث في المساجد ، وقراءة سور العزائم ، إلى غير ذلك ـ عليه ؛ إذ لا معنى للقول بأنّ أحدا مكلّف بالغسل إذا كان غيره جنبا وإنّما هو مأمور بالغسل إذا كان جنبا ، وبناء كلّ منهما على عدم الالتزام بأحكام الجنابة ـ وإن استلزم منه العلم لكلّ منهما بأنّ أحدهما قد خالف ما دلّ على أحكام الجنابة ـ إلاّ أنّ هذا ليس علما بأنّه خالف الخطاب (١) الشّارع بحسب العمل ؛ إذ العلم بلزوم المخالفة المانع عن الرّجوع إلى الأصل ليس إلاّ هذا العلم ، لا العلم بتحقّق المخالفة ولو من الغير ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

__________________

(١) كذا والصحيح : خالف خطاب الشارع.

٢٩٦

(٩٦) قوله : ( أو إدخال النّجاسة الغير المتعدّية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٧ )

أقول : لا بدّ من أن يفرض هذا فيما إذا علم الحامل بعدم تحقّق الطّهارة من الخبث من الجنب منهما ؛ إذ ربّما يبني كلّ منهما على عدم الالتزام بأحكام الجنابة ويتحقّق منهما تطهير ما لاقى المني على تقدير الملاقاة وهذا أمر ظاهر.

(٩٧) قوله : ( فإن جعلنا الدّخول والإدخال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٧ )

في بيان ما يتعلّق ببعض فروع المسألة

أقول : لا إشكال في أن الدّخول غير الإدخال وليس عينه ، كما أنّه لا إشكال على ما يقال في التّرتب بينهما ذاتا أيضا بمعنى أنّ الدّخول بحسب الطّبع مقدّم على الإدخال. إنّما الإشكال في أنّهما هل يحصلان بحركة واحدة؟ بمعنى كونهما صادقين عليها معا كالكلّيين المتصادقين في جزئي ، أو أنّ الإدخال إنّما يتحقّق بعد تحقّق الدّخول زمانا ، أو أنّهما يتحققان معا لكنهما لا يصدقان على حركة واحدة.

فإن جعلناهما حاصلين بحركة واحدة ، فلا إشكال في حرمتها ، بل لا يعقل الإشكال فيها ؛ للعلم التفصيلي بحرمتها وإن لم يعلم سببها وتردّد بين الإدخال والدّخول ؛ إذ قد عرفت : أنّ في مقام اعتبار العلم من باب الطّريقيّة لا يعقل الفرق بين أسبابه وأنّ العلم التّفصيلي الحاصل من العلم الإجمالي كالعلم التّفصيلي الحاصل من غيره في نظر العقل ؛ من حيث حكمه بعدم إمكان تصرّف الشّارع فيه.

وإن لم يقل بحصولهما بحركة واحدة بالمعنى الّذي عرفته ـ فلا يخلو الأمر من أنّه : إمّا نقول بأنّ المحرّم هو القدر المشترك بينهما وهو التّسبّب لدخول الجنب في المسجد أو لا نقول بذلك ، بل نقول بأنّ كلاّ منهما حرام مستقلّ لا دخل له

٢٩٧

بالآخر. فإن جعلنا المحرّم هو القدر المشترك بينهما فيدخل الفرض في المخالفة القطعيّة العمليّة للخطاب التّفصيلي كشرب ماء إناءين يعلم بنجاسة أحدهما. وإن جعلنا المحرّم كلاّ منهما بعنوانه الّذي لا دخل له بالآخر فيدخل في المخالفة القطعية العمليّة للخطاب المردّد الّذي عرفت فيه الوجوه.

(٩٨) قوله : ( وكذا من جهة دخول المحمول واستئجاره للحامل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٧ )

أقول : قد يقال : بأنّ غاية ما يجري في الفرض هو الوجه الأخير. وأمّا الوجهين الأوّلين فلا ؛ لأنّ الاستئجار غير الدّخول قطعا ، ولا يصدقان على فعل واحد جزما ، كما أنّ كلاّ منهما محرّم مستقلّ لا دخل له بالآخر ، وليس مراده ( دام ظلّه ) إجراء جميع الوجوه بالنّسبة إلى المحمول ، بل المراد إجراء الوجه الأخير وتصوّر العلم بتوجّه الخطاب بالنّسبة إلى المحمول وإمكانه هذا.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّ معنى حرمة الإجارة ، ليس مجرّد إجراء الصّيغة ؛ فإنّه ليس بحرام إذا لم يكن بقصد التشريع قطعا ، كما في أكثر المعاملات الفاسدة.

بل ترتيب الأثر بمقتضاها وهو ليس إلاّ ركوب المستأجر في الفرض ، أو يفرض الكلام في الإجارة المعاطاتية.

ومن هنا قد يقال : إنّ الأوجه هنا : الوجه الأوّل ـ إن لم يقل بكونه أوجه في الفرض السّابق وإن كان هو الأوجه فيه أيضا ـ وإن كان ربّما يناقش فيه : بجريان جميع الوجوه فيه من حيث رجوع الفرض بالنّسبة إلى المحمول أيضا بأنّه علم بصدور أحد المحرّمين منه : إمّا الدّخول في المسجد ، أو إدخال الجنب بواسطة الإجارة فيه فتأمّل.

٢٩٨

نعم ، قد يقال عليه : بأنّه إن قطع النّظر عن حرمة الدّخول على الحامل أو فرض عدمها كما هو المفروض في كلامه ( دام ظلّه ) فلا معنى للحكم بحرمة الاستئجار وعدمه ؛ لأنّ حرمته إنّما هو من حيث التّسبّب لدخول الجنب في المسجد ـ الّذي لا يكون الوجه في حرمته إلاّ الإعانة على الإثم ـ وهي لا تتحقّق مع عدم حرمة الفعل على الأجير كما لا يخفى.

ودعوى : الحكم بأنّ إدخال الجنب في المسجد من المحرمات الشّرعيّة ـ لذا يحكم بحرمته إذا علم من يدخل بكونه جنبا وإن لم يعلم هو بجنابته بل اعتقد عدم الجنابة ، فيكون كإدخال النّجاسة في المسجد ـ ممنوعة ؛ إذ لا شاهد لها وإنّما القدر الثّابت هو حرمته من حيث الإعانة على الإثم.

وإن لم يقطع النّظر عن حرمة الدّخول عن الحامل كان استئجاره حراما قطعا ؛ من حيث حرمة الدخول عليه في الظّاهر ، وهو يكفي في عدم جواز الإجارة هذا.

وبمثله قد يورد على الفرض الأوّل أيضا ولكنّك خبير بعدم ورود شيء من ذلك على ما ذكره ( دام ظلّه ) وعليك بالتّأمّل التّام حتّى تقف على حقيقة الأمر في المقام.

(٩٩) قوله : ( ومنها اقتداء الغير بهما في صلاة أو في صلاتين ). ( ج ١ / ٩٨ )

أقول : لا إشكال في أنّه ـ بعد جعل عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعيّة وكون حدث الإمام في الواقع مانعا عن صحّة الاقتداء ـ يحصل العلم التفصيلي بفساد الصّلاة في جميع الصّور الثّلاثة ؛ لعدم تأتّي قصد القربة من المقتدي وهو الأسبق لإيجاب العلم التّفصيلي بفساد الصّلاة من العلم التّفصيلي بوقوع بعض

٢٩٩

أجزاء الصّلاة خلف الجنب في الصّورة الأولى كما لا يخفى.

فالمكلف هنا مستحقّ للعقاب في ارتكاب الشّبهة على تقدير إرادته الاقتصار عليه ، بل مطلقا من جهة التشريع وإن لم يكن موافقا للواقع كما هو واضح. ولا يجوز له أيضا الاقتداء بكلّ منهما في صلاة واحدة بتمامها ـ بأن اقتدى في الظّهر مثلا بأحدهما ثمّ أعادها خلف الآخر ؛ من جهة إحراز الصّلاة عقيب الطّاهر منهما ـ وإن قلنا بجواز تكرار الصّلاة في الثّوبين المشتبهين احتياطا لإحراز الواقع ، والوجه فيه ظاهر.

ولكن ما ذكرنا لا يوجب نقضا على ما ذكره الأستاذ العلامة ( دام ظلّه ) كما يظهر بالتّدبّر ، كما أنّه لا إشكال في أنّه ـ بعد جعل الحدث في حكم الإمام مانعا ـ يحصل العلم التّفصيلي بصحّة الاقتداء بهما ولو في صلاة واحدة كما هو واضح.

ثمّ إنّه لا تنافي بين ما جزم به هنا من جواز استئجارهما لكنس المسجد مع ما ذكره في الفرع السّابق ، فإنّه كان في الفرع السّابق في صدد بيان حكم جميع أطراف المسألة فتأمّل.

(١٠٠) قوله : ( والتّحقيق هو الأوّل ؛ لأنّه علم تفصيلا بتكليفه بالغضّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٩٩ )

في ان قول المصنّف ـ : ( إنّ الخنثى علم تفصيلا بوجوب غضّه ... إلى آخره ) ـ

مشتبه المراد

أقول : قد يتوهّم أنّ كلامه ( دام ظلّه ) في المقام مشتبه المراد ؛ حيث إنّ مراد من جعل الفرض من إجمال الخطاب ، إجراء الوجوه فيه ، واختيار الوجه الأوّل.

٣٠٠