بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

فتأمّل ، فالأولى تقييد عدم امكان الاحتياط في مجرى التخيير بحيثية دوران الأمر بين المحذورين. أي : الوجوب والتحريم.

وأمّا عند دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ـ : فبانّ الذي عليه المشهور من غير اشكال عندهم فيه ، بل عليه الاستاذ العلاّمة قدس‌سره في هذه الرسالة أخيرا في غير الشبهات الموضوعيّة ـ التخيير لا البراءة ، وان كان مختاره في « رسالة أصالة البراءة » : التوقف وعدم الالتزام بحكم ولو ظاهرا ، لا التخيير ولا الإباحة والبراءة ، وعليه أيضا : لا يرد اشكال على مجرى البراءة وانّما ينتقض مجرى التخيير عكسا في الجملة.

فإن شئت قلت : إن مبنى الحصر الذي أفاده على ثبوت أصالة التخيير في الشبهات الحكميّة ومبنى الإشكال المذكور على نفيها فتأمّل (١).

وأمّا عن انتقاض مجرى كلّ واحد من البراءة والاحتياط ـ طردا بمجرى التخيير وانتقاضه عكسا بمجريهما في الشّك النّاشيء من تعارض النصّين المتكافئين ـ : فبانّ التخيير بين النصّين المتكافئين تخيير في المسألة الاصولية وليس من الاصول العمليّة في شيء ، كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه انشاء الله تعالى ، ولذا يكون جاريا في مجرى الاستصحاب ومانعا عن جريانه هذا.

__________________

(١) وجه التأمّل : أن ورود الإشكال لا يوجب نفي أصالة التخيير في الشبهات الحكميّة غاية ما هناك اختصاص موردها بما إذا كان المحتملان ـ أي : الوجوب والحرمة ـ تعبّديين فافهم. منه دام ظلّه العالي.

٢١

وأمّا عن انتقاض كلّ من مجرى البراءة والاحتياط بالآخر : فبأنّ القائل بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يرجع الشك لا محالة الى الشكّ في التكليف فتدبّر.

وأمّا عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة فلقيام الدليل الخاصّ على قناعة الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، وهذا ليس من الرّجوع الى البراءة في شيء فتأمّل وانتظر لتمام الكلام في محلّه.

وأمّا رجحان الاحتياط في الشّك في التكليف بعد الفحص حتى مع وجود الطريق الشرعي على نفي الالزام فلا يرد نقضا ؛ لأنّ الكلام في الاحتياط اللاّزم وبعبارة أخرى : الكلام إنّما هو في مجرى أصالة الاشتغال فتدبّر.

وأمّا لزومه في الشّك في التكليف قبل الفحص فيمكن منعه : بانّ المورد مورد البراءة غاية الأمر كونها مشروطة بالفحص كساير الاصول الحكميّة ـ غير الاحتياط ـ على التحقيق ، فيجب عليه الفحص على تقدير ارادة العمل باصالة البراءة إلاّ انّه يجوز له العمل بالاحتياط من دون فحص فتدبّر.

نعم ، يمكن أن يقال : فيما يعلم المكلّف بحصول العلم له بعد الفحص بعدم مورد للبراءة فيه لا قبل الفحص ولا بعده ، اللهم إلاّ ان يقال : انّ المورد مورد البراءة غاية الأمر انّه يرتفع موضوع البراءة بعد الفحص فتأمّل.

ومنه يعلم الكلام في مسألة النّظر في المعجزة ؛ لأنّ نفي وجوب النّظر يتوقّف على الفحص عن وجوبه المتوقف على معرفة النبي فتدبّر. وليته حرّر المقام كما حرّره في رسالة أصالة البراءة ؛ فانّه سليم عن هذه المناقشة وجملة من المناقشات ، وان لم تخل عن مناقشات غير مخفيّة على الراجع إلى ما ذكرنا في المقام.

٢٢

المقصد الأوّل :

في القطع

حجّيّة القطع

التجرّي

القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة

قطع القطّاع

العلم الإجمالي

٢٣
٢٤

المقصد الأوّل : في القطع

حجّيّة القطع

(٤) قوله قدس‌سره : ( أمّا القطع فلا اشكال في العمل به ما دام موجودا ؛ لأنّه طريق (١) بنفسه إلى الواقع (٢) وليست طريقيّته قابلة لجعل الشّارع اثباتا ونفيا ). ( ج ١ / ٢٩ )

__________________

(١) كذا وفي نسخة الفرائد التي طبعها مؤتمر التكريم : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجودا لأنّه بنفسه طريق ... إلى آخره.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي :

توضيحه : أن الحجّة المبحوث عنها في باب الأدلّة الشرعيّة هي ما كانت طريقا إلى الواقع بمعنى كونه كاشفا عن متعلّقه وعن جميع لوازمه الشرعيّة والعقليّة ، وهذا المعنى إنّما هو من الآثار القهريّة للقطع [ التي ] يمتنع عقلا انفكاكه عنه ؛ فإنّه إذا قطع بشيء فلازمه إنكشاف ذلك الشيء للقاطع وإنكشاف جميع لوازمه ـ عقليّة أو شرعيّة ـ فلا يكون قابلا للجعل ، لا نفيا لفرض امتناع نفي هذه الصفة عنه ، ولا إثباتا لكونه تحصيلا للحاصل ، وإنّما يمكن جعل شيء طريقا إذا كان نفي طريقيّته باختيار الجاعل والمفروض امتناعه في المقام.

إلى أن قال : وبالجملة : إذا حصل القطع بشيء يترتّب عليه بمجرّده جميع لوازمه وآثاره

٢٥

__________________

الشرعيّة والعقليّة أيضا بعد الإلتفات إلى الملازمة بينهما سواء كان ذلك الأمر المقطوع به موضوعا من الموضوعات أو حكما من الأحكام ؛ إذ ليس الترتّب إلاّ الإنكشاف ، ومن البديهي أن انكشاف شيء ملازم عقلا لإنكشاف جميع لوازمه بعد العلم والإلتفات بالملازمة بينهما ، فإذا قطع بكون مائع معيّن خمرا ، ينكشف له حرمته ونجاسته اللّتان هما من الآثار الشرعيّة للخمر بعد الإلتفات إلى الملازمة ، وكذا لزوم إطاعة ذلك النهي الذي هو من الآثار العقليّة.

إلى أن قال : ثم إنّه كما لا يجوز جعل الطريق طريقا أو نفي الطريقيّة عنه ، كذلك لا يجوز النهي عن السلوك على مقتضاه ، بل وكذا الأمر به أيضا.

أما النهي فلكونه مناقضا في نظر القاطع لما انكشف له بالقطع ومع وجود قطعه كما هو المفروض فلا يؤثّر ذلك في حقّه من شيء ؛ فإن قطعه وإن أمكن كونه جهلا مركبا لكنه غير محتمل له ... فلا يفيد في حقه المنع منه فيلغى.

وأمّا الأمر فلأن فائدته إنما هو تحريكه إلى إطاعة المقطوع به ومع فرض قطعه قبله [ والقطع هو المحرّك له ] فلا يؤثّر هذا الأمر في التحريك شيئا فيلغى.

ولو كان الأمر المذكور لأجل تماميّة الحجّة عليه ـ كما في تكليف الكفّار ـ فهو أيضا غير محتاج إليه لتماميّتها بقطعه بكونه مكلفا.

ولو كان [ الأمر ] لأجل فائدة الإجزاء فقد حققنا في محلّه أنه يدور مدار الإتيان على ما هو عليه من غير مدخليّة الأمر على طبق الطريق المؤدّي.

ولو كان لأجل فائدة تدارك ما يفوته من مصلحة الواقع بالعمل بقطعه فلا ريب أن لزوم التدارك حكم عقلي مبنيّ على إستناد فوت المصلحة إلى أمر الشارع ومع قطعه يكون هو المحرّك للعمل على طبقه يستند فوت المصلحة إلى الشارع بوجه.

نعم يجوز الأمر به من باب الإرشاد والموعظة فيمن لم يكن عازما على العصيان أو على

٢٦

أقول : ما أفاده قدس‌سره من الواضحات التي لا ينبغي الارتياب فيها على وجه لا يحتاج إلى البيان ؛ لأنّ كل معلوم الطريقية إنّما يصير معلوما بالعلم فلا محالة يكون معلومية العلم بذاته فنسبته الى معلوم الطريقية نسبة الوجود الى الموجودات.

وبعبارة أخرى : طريقيّة كلّ شيء واعتباره ثبت بالعلم ، فلا بّد من ان يكون طريقا بذاته ، نظير الوجود للواجب ، وان كان بينهما فرق في الذاتية ؛ لأنّ طريقيّته

__________________

الإطاعة ، بل في عازمه أيضا ؛ فإنه ربّما يوجب ردعه عما عزم عليه من العصيان. انتهى. تقريرات المجدد الشيرازي ج ٣ / ٢٣٥ ـ ٢٣٩.

قال الميرزا النائيني قدس‌سره : المراد من وجوب متابعة القطع وجوب متابعة المقطوع من الواقع المرئي بالقطع ولزوم العمل بما أدّى إليه قطعه والجري على وفق علمه ، وهذا الوجوب ليس وجوبا شرعيّا لأنّ طريقيّة القطع ذاتيّة له لا تنالها يد التشريع إذ لا معنى لتشريع ما هو حاصل بذاته ومنجعل بنفسه ، فإن الجعل التشريعي إنّما يتعلّق بما يكون عين تشريعه لا ما يكون متكوّنا بنفسه وطريقيّة القطع تكون كذلك.

وهذا من غير فرق بين أن نقول بصحة جعل الحجّيّة والطريقيّة ـ كما هو المختار ـ وبين أن نقول بعدم الصحّة وأن المجعول هو منشأ الإنتزاع ـ كما هو مختار الشيخ قدس‌سره ـ فإن الطريقيّة التي نقول بصحّة جعلها إنّما هي في غير الطريقيّة التكوينيّة ـ كطريقيّة القطع ـ فإنّها من لوازم ذات القطع كزوجيّة الأربعة ، بل بوجه يصح أن يقال إنها عين القطع ، وما يكون شأنه ذلك كيف يصحّ أن تناله يد الجعل التشريعي؟

وبعبارة أخرى : طريقيّة كل شيء لا بد وأن تنتهي الى العلم وطريقيّة العلم لا بد وأن تكون ذاتية له ؛ لأن كلّ ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذّات وإلاّ لزم التسلسل.

ومما ذكرنا يعلم : أن نفي الطريقيّة والحجّيّة عن القطع أيضا لا يعقل ؛ إذ لا يمكن شرعا سلب ما هو من لوازم الذات ، مضافا إلى لزوم التناقض. فوائد الأصول : ج ٣ / ٦ ـ ٧.

٢٧

بغيره محال ظاهر ، وطريقيّته بدليل علمي مستلزم للتسلسل.

وببالي انّه قد جرى ذكر ما ذكرنا في بعض كلمات الاساطين من أهل المعقول ، فبعد ما فرض كون الطريقيّة لازما للعلم وواجبا له فلا يعقل نفيه عنه ، وإلاّ لزم تخلّف الذاتي.

وبعبارة أخرى : الحكم بالعدم انّما يتصوّر في الممكن لا الواجب فلا يحتاج إذن للاستدلال ؛ لعدم قابليّة التصرّف نفيا بلزوم التناقض هذا ، وما عرفت من المسلّمات عند الاصحاب ؛ حتى انّه يظهر تصريحا وتلويحا من كلمات الشيخ في « العدّة » فراجع كلماتهم عند التكلّم في الأدلّة القطعية كالتّواتر والاجماع ودليل العقل حتى القياس المفيد للقطع ؛ فانّها تنادي بأعلى صوتها : أنّ كلامهم فيها انّما هو في إثبات الصّغرى في مقابل المنكر لحصول القطع منها.

نعم ، هنا شبهة لجمع من أصحابنا الاخباريين في القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة ليست ناظرة الى نفي ما ذكر كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى فان شئت رفع الحجاب عن تمام وجه المرام فاستمع لما يتلى عليك في تحقيق المقام بعبارة أخرى متامّلا فيها كمال التأمل.

فنقول : انّ اعتبار العلم بالنّسبة الى الالتزام بالعلوم والاحكام المترتّبة على متعلّقه مع قطع النظر عن تعلّق العلم به كما هو المفروض لو كان جعليّا وبانشاء الشارع بحيث لولاه لم يكن ثابتا له كما يزعمه القائل بالجعل ويقول بمثله في الظّن فلا محالة لا بدّ ان يكون هناك قضيتان :

إحديهما : ما ثبت الحكم فيه لذات الشيء مع قطع النظر عن تعلق العلم ومن غير مدخليّة له فيه ، فثبوته النّفس الأمري تابع لتحقّق موضوعه في نفس الأمر من

٢٨

غير مدخليّة للعلم أصلا ، فاذا علم المكلّف بثبوت مثل هذه القضيّة في الشرع في مورد من الموارد وعلم بتحقّق موضوعها فيعلم بترتّب المحمول قهرا فيحمله عليه لا باختياره فبالنّسبة الى هذه القضيّة والحكم الثابت فيها لا يعقل ان يكون للعلم مدخل فيها بحيث لولاه لم يكن مترتّبا وبعده يكون مترتّبا بايجاب موجب وإلاّ لزم الخلف كما هو واضح.

ثانيتهما : ما كان ثابتا للعلم بالشيء من غير مدخليّة له إلاّ من حيث تعلّق العلم به وهي القضية التي يحكم فيها بوجوب العمل بالعلم واعتباره وحجّيّته على تقدير امكان الجعل ؛ فانّ معنى جعل العلم طريقا والحكم باعتباره وحجيّته عند الشارع هو ايجاب الشارع العمل به من حيث كونه كاشفا علميّا عن المعلوم.

ومن المعلوم ضرورة : انّ هذه القضيّة غير القضية التي حكم فيها بثبوت ذات المعلوم والمنكشف لما هو الموضوع له في نفس الأمر ، فكما تكون في موارد الظّنّ الثّابت حجّيّته قضيّتان : واقعيّة ـ ثابتة في نفس الأمر مع قطع النّظر عن الظّنّ ولا يختلف فيها الحال باختلاف المكلّفين بحسب الظّنّ والشّك ـ وظاهريّة ـ بملاحظة الظّنّ ويكون الظّنّ موضوعا لها ويختلف باختلاف المكلّفين في الظّنون بحسب المؤدّى ، ومن هنا نقول بالتّصويب في الاحكام الظّاهريّة عند اختلاف المجتهدين في الآراء مع قولنا بالتخطئة بالنّسبة الى الاحكام الواقعية الثابتة لنفس الاشياء مع قطع النّظر عن الادراكات ـ فكذلك لا بدّ على القول بكون اعتبار العلم جعليّا ـ في قبال القول بكونه قهريا ـ ان يلتزم في مورد العلم بثبوت قضيّتين : قضيّة واقعيّة لا دخل للعلم فيها أصلا وقضية ظاهرية تابعة لوجود العلم فيختلف باختلاف العالمين ، وتنفك عن القضيّة الأوّليّة ، فلا بدّ من ان يلتزم بوجود الأمر الشرعي عند

٢٩

خطأ العلم كما يلتزم به عند خطأ الظّن ، فربّما يترتّب هناك ثمرة على القولين في مسألة الإجزاء كما لا يخفى.

إذ على القول بالجعل يكون المكلّف عاملا بالأمر الشرعي الظاهري عند ظهور خطأ العلم كالعامل بالظّن المعتبر عند ظهور خطأ الظن ، فيمكن القول بالإجزاء على هذا ، وهذا بخلاف القول بعدم الجعل ؛ فانّه لا يلتزم بأمر شرعيّ سوى الأمر الواقعي ، فلا يعقل الاجزاء على مذهبه عند ظهور الخطأ ؛ لانتفاء سلوك الأمر الواقعي بالفرض وعدم أمر آخر على مذهبه حتّى كون امتثاله مجزيا ، فاذا كان لازم القول بالجعل حسبما عرفت : الالتزام بثبوت قضيّة أخرى غير القضيّة الأوّليّة الواقعيّة التي لا دخل للعلم فيها بالفرض ، وكان ترتّب المحمول على ما هو الموضوع له في القضيّة الأوّليّة عند العلم بالموضوع قهريّا حسبما عرفت ، فلا يعقل هناك جعل آخر من الشارع بالنّسبة الى العلم [ حتى ] يوجب ترتّب المحمول الأوّلى على موضوعه الواقعي بحيث لولاه لما كان مترتّبا قهرا حسبما هو لازم القول بالجعل.

كما يكون الأمر كذلك بالنّسبة الى الظّنّ المعتبر ؛ حيث انّه لا يحكم هناك عند وجود الظّنّ بالحكم بثبوت المحمول في القضيّة الأوليّة ، إلاّ بعد ثبوت اعتبار الظّنّ عند الشّارع بالمعنى الذي عرفته ؛ فانّه بعد قيام الظّنّ المعتبر وان لم يثبت الواقع واقعا ؛ حيث انّ ثبوته في الواقع تابع لثبوته كذلك من غير مدخليّة للظّن ، إلاّ انّه يبنى على ثبوته في مرحلة الظّاهر وترتيب محمولاته التي هي من سنخها عند وجود الظّنّ المعتبر الكاشف عنه.

وهذا معنى قولنا : « انّ اعتبار العلم ذاتي لا جعلي » فلا يلتزم بثبوت انشاء

٣٠

وحكم آخر للشارع غير الحكم الواقعي متعلّق بالعلم ، كما انّ لازم القول بكون اعتباره جعليّا ألإلتزام بحكم للشّارع وراء الحكم الواقعي عند العلم ، فان ترضى من نفسك أن تقول بهذه المقالة الفاسدة فقل بها ثمّ استدل لها بالاجماع وغيره.

ولعمري انّ من قال بها لم يتأمّل كمال التأمّل فيما يترتّب عليه ، وإلاّ لم يقل بها كيف؟ وفسادها واضح عند التأمّل فلا يظنّ المصير اليه بمن له بضاعة من العلم.

وقد عثرت بعد هذا على كلام لبعض أفاضل مقاربي عصرنا في « الفصول » في جملة كلام له في باب « التقليد » في طيّ أقسام معذوريّة الجاهل يلتزم في ضمنه بما ذكرنا من الجعلين في مورد القطع بالواقع حيث قال ـ بعد جملة كلام له فيما عدّه من القسم الثاني ممّا ذكره ـ ما هذا لفظه :

« ولا ينافي ذلك كون وجوب العمل بالامارة حين عمله بها واقعيّا أيضا ؛ لأنّ للواقع مراتب باعتبار نفس الفعل وباعتبار الأحوال الطّارئة على المكلّف ثانية ، كلّ مرتبة بالنّسبة الى سابقها ظاهريّة ، فالواجب من الصّلاة مثلا على المكلّف أوّلا : هو الصّلاة الواقعيّة وان كان فعليته مشروطة بمساعدة طريق معتبر عنده عليها ثمّ ما أدّى طريقه الواقعي الى كونها صلاة مطلوبة سواء كان الطّريق معتبرا مطلقا ، كالقطع بانّ ما قطع بانّها صلاة واقعيّة ظاهريّة واجبة بالوجوب الظّاهري ، فان طابقت الواقع فهي صلاة واقعيّة واجبة بالوجوب الواقعي أيضا ، فوجوب ما هي صلاة واقعيّة في المرتبة الاولى من الواقع ووجوب ما قطع بانّها صلاة واقعيّة في المرتبة الثانية من الواقع ان غايرت الاولى ، ويتداخل الامتثالان

٣١

على تقدير المطابقة ويتفارقان على تقدير عدمها » (١) انتهى ما اردنا نقله من كلامه قدس‌سره (٢).

وهو كما ترى ، راجع الى ما عرفت وان كان تقييده بالمغايرة في ذيل كلامه وحكمه بتداخل الامتثالين ممّا لا يعقل له معنى محصّل كما سيجيء ، وكيف ما كان : فصريحه كون العلم مجعولا كالظّن.

وممّا ذكرنا ظهر لك فساد الاستدلال لاعتبار العلم في كلام بعض المتأخّرين بالإجماع وما دلّ على وجوب تحصيل العلم والمعرفة في الاصول والفروع ؛ من حيث انّ ايجاب تحصيله يلازم اعتباره شرعا ، وان كان فيما ذكر من تقريب الاستدلال منع واضح ، مع قطع النّظر عن استحالة الجعل ، وما في كلام بعض المحقّقين في تعليقاته (٣) على « المعالم » : من انّ العلم طريق شرعا وعقلا ان اراد منه انّ افاضة الطريقيّة من الغير ، وان اراد كونه طريقا عند الشارع والعقل ذاتا بالمعنى الّذي عرفته لا ان يكون بجعل منهما فلا غبار عليه هذا.

__________________

(١) الفصول : ٤٢٩.

(٢) وتتمّة كلام الفصول كما يلي : فيجب التدارك إذا انكشف الخلاف وبقي المحل لإرتفاع العذر المانع من فعليّة التكليف الواقعي وأصالة عدم سقوطه بفعل غيره ، ومثل القطع ما ثبت مقامه مقام القطع من ظاهر الكتاب وظاهر قول المعصوم المعلوم أو المنقول بواسطة عدل أو عدول ، أو كان معتبرا بعد تعذّر العلم كالظنون الإجتهاديّة المتداولة في أمثال زماننا كفتاوى أصحاب هذه الظنون بالنسبة إلى المقلّدين وحكمه حكم سابقه. إنتهى.

(٣) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦١.

٣٢

ولكن صريح كلام أخيه الفاضل (١) في غير موضع من كتابه : كون العلم مجعولا كالظّن فراجع اليه حتى تقف على حقيقة الأمر ، وسنتلي عليك بعض كلماته الصّريح في ذلك في مسألة قطع القطّاع ، ويكفيك في ذلك ما اسمعناك سابقا.

ومنه يعلم انّ قوله قدس‌سره : ( وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع ) (٢) انّما هو في مقام بيان نفي قابليّة الجعل على الاطلاق لا خصوص جعل الشارع هذا.

وهنا شبهات على ما أفاده قدس‌سره من كون طريقيّة العلم ذاتيا ومعلّلا بذاته :

منها : أنّه ينافي ما عليه الشيعة ، بل المسلمون قاطبة : من عدم ترتيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصي عليه‌السلام احكام الواقع في جميع موارد علمهم بالموضوعات من الأسباب الالهية الغيبيّة المختصة بهم ، ولذا كانا يعاملان مع من يظهر الاسلام معاملته مع العلم بكونه كافرا واقعا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( انّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ... ) (٣) وان كانا قد يترتبانها في مورد علمهم بها منها.

وبالجملة : الغرض منع الاطّراد ، وبه يبطل ما ذكر : من كون الطريقيّة ذاتيّا ؛ ضرورة استحالة تخلّف الذاتي ، وبعد التسالم على ما ذكر لا بدّ من الالتزام بكون

__________________

(١) الشيخ محمّد حسين الحائري الإصفهاني المتوفى سنة ١٢٥٠ ه‍ في كتابه الفصول الغروية.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ص ٢٩ ط المؤتمر.

(٣) الكافي الشريف : ج ٧ / ٤١٤ ـ ح ١ باب ( ان القضاء بالبينات والأيمان ) ، التهذيب ج ٦ / ٢٢٩ ـ ح ٥٥٢ ـ ٣ ، عنهما الوسائل : ج ٢٧ / ٢٣٢ باب ٢ من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى : « انه لا يحلّ المال لمن أنكر حقّا ، أو ادّعى باطلا وإن حكم له به القاضي أو المعصوم ببيّنة أو يمين » ـ ح ١.

٣٣

الطريقيّة للعلم ممّا اعطاه الشارع فيقبل اعتباره التفصيل بحسب الخصوصيات هذا.

ولكنك خبير بفساد هذه الشّبهة وانبعاثها من قلّة البضاعة في العلم ؛ لانّهما بالنظر الى ما يرجع الى انفسهما ممّا يختص بهما كانا يعملان بمقتضى علمهما بالواقع جدّا بأيّ وجه حصل ، وليس هنا ما يقضي بخلافه ، بل مقتضى الأدلّة ما ذكر.

وأمّا بالنّسبة الى ما يتعلّق بالغير من قبيل : الحكم باسلام المنافق فلم يتخلّفا عن مقتضى الواقع أيضا ؛ فانّ الموضوع الواقعي لاحكام الإسلام الدّنيويّة في ذلك الزّمان هو إظهار الشهادتين ، وان كان المظهر غير معتقد بل مؤذيا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فربّما كان العلم بحال الرّجل من كونه منافقا حاصلا من الأسباب المتعارفة ، بل لغير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ ومع ذلك يعامل معه معاملة المسلمين ، فحال هؤلاء حال أهل الخلاف عند المشهور ، فهذا لا يرد نقضا جدّا.

وأمّا ما لا يكون من هذا القبيل : كعدم اجراء الحدود والحكم بمقتضى علمهما بالواقع من الأسباب الالهيّة فامره كذلك عند التأمّل ؛ فانّا نمنع :

أولا : من كون إجراء الحدّ والحكم من أحكام نفس الواقع ، بل لعلّ للعلم مدخلا فيه ، فيخرج عن الفرض ؛ لانّ انكشاف العلم عن متعلّقه وطريقيّته له وان كان من لوازم ذاته ، إلاّ انّه انّما يجدي فيما لو كان الحكم الشرعي من لوازم متعلّقه بعنوان الاطلاق.

وثانيا : من كونهما من احكام الواقع بما هو واقع بعنوانه التجريدي

٣٤

الاطلاقي ولعلّ لبعض الخصوصيات ـ المتقوّم به المصلحة ولو كان هو الزّمان ـ مدخلا فيه ؛ لأنّ الحكم ليس من لوازم الواقع كيفما اتّفق ، وإلاّ لم يعقل النّسخ في الشّرائع كما هو واضح. ومن هنا تقتضي المصلحة عند ظهور الإمام « عجّل الله فرجه وصلّى الله عليه وعلى آبائه الطّاهرين » حكمه بعلمه ، فيخرج الفرض عن موضوع البحث أيضا ؛ لأنّه فيما كان الحكم ثابتا لمتعلّق القطع بقول مطلق كما هو ظاهر فتدبّر.

فإن شئت قلت : ان التكليف ليس تابعا لجهات المكلّف به دائما ، بل قد يكون تابعا لجهات فيه. وبعبارة أخرى : قد يكون للحكم بالواقع مفسدة أولى بالمراعات من مصلحة نفس الواقع واحقاق الحقّ فتأمّل هذا.

وأمّا حكمهما « صلوات الله عليهما وآلهما » في الوقائع بالبيّنة والأيمان فلا يلازم كونه على خلاف علمهما ، كيف؟ ولا شاهد له أصلا ، بل التحقيق : كونه على طبق الواقع دائما ؛ ضرورة امتناع جعل الحكم الظاهري في حقّهما كامتناع الأمر بخلاف الواقع في حق كلّ احد.

وبالجملة : لم يثبت في مورد من موارد قضاء النّبي أو الوصيّ بالبيّنة أو اليمين على ما يقضي بهما غيرهما ، وإن أبيت إلاّ عن ظهور أدلة البيّنات والأيمان في ذلك فلا بدّ من صرفها ، لعدم امكان تعارض الظّاهر مع البرهان القطعي كما هو ظاهر.

ومنها : أنّه ينافي ما عليه بعض الاصحاب كما حكي : من عدم جواز حكم

٣٥

القاضي بعلمه في الجملة (١) ، مع انّه لم يرتكب أمرا غير معقول عند أحد من الفقهاء هذا.

ولكنك خبير بما فيه أيضا : فإنّ من كان هذه مقالته يزعم : أنّ القضاء ليس من أحكام نفس الواقع بما هو واقع ، بل انّما هو من أحكام الواقع المقيّد. وبعبارة أخرى : من أحكام الواقع الذي قام عليه البيّنة أو حلف عليه ، فهذا كما ترى أجنبيّ عن موضوع البحث. ومن يرى كونه من أحكام نفس الواقع دائما جعل ميزان القضاء في حقّ الجاهل طريقا اليه كما هو الحقّ وعليه المشهور ، فهو قائل بما ذكرنا جدّا ، فالبحث معه يرجع في الحقيقة الى البحث في الصغرى.

ومن هنا يظهر الكلام فيما ذكروه في باب القضاء : من عدم جواز قضاء الحاكم بعلمه في حقوق الله (٢).

ومنها : أنّه ينافي ما ذكره غير واحد من الاصحاب ، بل هو من المسلّمات عندهم ظاهرا : من أنّ الوسواسي القاطع لا يعمل بقطعه ولا تترتّب أحكام الواقع عليه حتما لمادّة مرضه.

ولكنّك خبير بفساده أيضا ؛ فانّه لا تعلّق له بموضع البحث حقيقة ؛ فانّه من إرتكاب أقلّ القبيحين فيرجع إلى التّصرف في الواقع ، فانّه يقال : انّ البول مثلا في حقّه ليس ممّا يجب اجتنابه ويجوز شربه من باب الضرورة ودفع المرض

__________________

(١) لم نعثر عليه وانظر الرياض : ج ١٥ / ٣١ ط آل البيت ، وجواهر الكلام : ج ١٤ / ٥٣ ط دار المؤرخ العربي ، وكتاب القضاء للآشتياني : ج ١ / ١٦٧.

(٢) انظر الوسيلة لإبن حمزة : ٢١٨ ، والسرائر : ج ٢ / ١٧٩.

٣٦

كالمضطرّ إلى شربه فتدبّر.

ولكن ستسمع منه قدس‌سره : انّ المنع عن العمل بالقطع في حقّه إنّما يتصوّر في حقّ الغافل عمّا يقضي به بديهة عقله. فافهم وتأمّل حتى لا يختلط عليك الأمر.

(٥) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا يعلم انّ اطلاق الحجّة عليه ليس كاطلاق الحجّة على الامارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي يحتج به على ثبوت الأكبر للأصغر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩ )

في بيان معنى الحجة على اصطلاح أهل الميزان والاصول

أقول : ما أفاده قدس‌سره (١) يرجع إلى مسألة لفظية لا تعلّق له بما بيّنه أوّلا : من كون

__________________

(١) قال السيّد المجدد الشيرازي قدس‌سره :

إن أريد به أن إطلاق الحجّة على الشرعيّة حقيقة في إصطلاح الأصوليين لكونها أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها ففيه : بعد الغض عمّا مرّ ـ من منع كونها أوساطا لها ـ انه ليس كل ما كان وسطا حجّة في اصطلاحهم وإنما هو وسط مخصوص وهو ما كان طريقا لإثبات أحكام متعلّقه كما اعترف به ( الشيخ ) قدس‌سره.

وهو قدس‌سره قد اعترف بأن ما كان مأخوذا في موضوع حكم لا يطلق عليه الحجّة في اصطلاحهم وإن كان يصحّ توسيطه ويطلق عليه الحجّة في اصطلاح أهل الميزان ، ولذا أخرج القطع المأخوذ في موضوع الحكم عن كونه حجّة في اصطلاحهم فلازم ما اعترف به قدس‌سره عدم صحّة إطلاق الحجّة على الأمارات حقيقة في إصطلاحهم لمساواتها للقطع المأخوذ في موضوع الحكم.

وإن أريد أن إطلاق الحجّة على الأمارات حقيقة في إصطلاح أهل الميزان وإن لم يكن حقيقة

٣٧

إعتبار العلم معلّلا بذاته بالنّسبة الى الحكم المترتّب على متعلّقه ككشفه عنه والوجه في استكشافه عنه ـ على تقدير كون الحجّة بمعنى الوسط وسبب العلم بالشيء وان كان سببا لحصوله أيضا ـ هو ما عرفت الاشارة اليه في وجه استحالة تصرّف الشارع في العلم إثباتا ونفيا : من انّ القاطع فيما لو كان الحكم متعلّقا بالواقع يترتّب القياس قهرا ويجعل الوسط نفس الواقع لا العلم به.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره : من كون إطلاق الحجة على القطع من باب التوسّع والتّسامح ممّا لا يعتريه ريب بأيّ معنى فرض للحجّة ، سواء جعل القول المركب أو الحدّ الوسط أو شيء آخر.

إلاّ انّه قد يناقش فيما أفاده في معنى الحجّة ؛ لأنّ الحجة عند أهل الميزان :

__________________

في إصطلاح الأصوليين فيتّجه عليه : أنّه قدس‌سره يعترف بكونها حجّة في إصطلاحهم.

إلى أن قال : لكن الظاهر أن الحجّة عند الأصوليين ليست عبارة عمّا ذكره المصنف بل إنما هي ما كان قاطعا للعذر فيما بين العبد وبين الله تعالى وهو ما لو عمل العبد على طبقه ليس لله تعالى المؤاخذة عليه على تقدير استلزام العمل به لمخالفة الواقع وإرتكاب مبغوضيته تعالى ، ولو لم يعمل به له المؤاخذة عليه على تقدير مصادفته للواقع مع تضمّنه الحكم الإلزامي.

والذي يكشف عن ذلك أن الحجة عندهم تطلق على الأمارات والأدلة والأصول العمليّة على حد سواء بحيث لا يكون إطلاقها على الأصول والأدلّة مجازا عندهم قطعا وليس ذلك لأجل اشتراكها لفظا بين الموارد الثلاثة بل إنما هو لأجل أنها عبارة عندهم عن معنى عام يصدق على كل منها على حد سواء وهو ليس إلاّ ما ذكرنا ؛ إذ لا يعقل جامع بينها غيره ؛ ضرورة أن الأصول العمليّة ليست طرقا أصلا فضلا عن كونها مبيّنة لأحكام متعلّقاتها فكيف يمكن كون ذلك جامعا بين الكل؟!

تقريرات السيّد المجدد ج ٣ / ٢٤٤ ـ ٢٤٧

٣٨

عبارة عن القول المركّب باتفاق كلّهم ظاهرا ، والدليل أخص منه عندهم والبرهان يرادفها ، وإن كان الذي عليه جمع من أساطين أهل المعقول : كون البرهان عبارة عن الحدّ الوسط الذي يكون وسطا للثبوت. وكيف كان : فظاهر « الكتاب » بيان ما هو المصطلح عند أهل الميزان.

نعم ، حكي عن بعض المنطقيّين إطلاقها على الوسط عندهم ولم يثبت لغيرهم اصطلاح في لفظ الحجّة ، وان كان للاصوليّين اصطلاح خاص في لفظ الدليل على خلاف مصطلح أهل الميزان : فانّ الدّليل عندهم ـ على ما عرفت الاشارة اليه ـ عبارة عن : المركّب لا محالة ، وعند الأصوليّين حقيقة في المعرّف كما يشهد له تعريفهم له : بأنّه ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، على ما هو الظاهر منه ، وصرّح به غير واحد منهم : من انّ مقتضاه كون الدّليل عندهم حقيقة في المفرد ، ومن هنا جعلوا الكتاب والسّنة والاجماع وحكم العقل من أقسام الدليل ، فلو كان لهم اصطلاح خاصّ في لفظ الحجّة ـ بأن يكون في عرفهم بمعنى الدليل بالمعنى الذي عرفته ـ لاستقام جعلها عبارة عن الوسط كما لا يخفى.

وهو ليس ببعيد وان لم يصرّح به أحد فيما أعلم ، إلاّ انّه لا يقدح ـ بعد تكرّر استعمال اللّفظ في كلماتهم وعدم امكان ارادة المعنى المصطلح عند أهل الميزان ـ في موارد الاستعمال ؛ فانّه كثيرا ما يستكشف من كثرة الاستعمال وضع تعيّني ، وعلى تقدير عدم ثبوت الاصطلاح أمكن أن يقال : انّ المعنى الشّايع الظاهر لهذا اللفظ عند الاطلاق ـ كلّما استعمل في كلمات الاصوليّين ـ هو الوسط لاثبات حكم المتعلّق وهو قسم من حدّ الوسط بقول مطلق كما يصرّح به قدس‌سره بعد هذا عن

٣٩

قريب ، والحجّة بهذا المعنى لا يطلق على العلم حقيقة فتدبّر.

ويمكن أن يقال : انّ الحجّة في العرف واللّغة تنطبق على ما أفاده ؛ فانّها عبارة عمّا يحتجّ به فيهما ويدخل عليه كلمة « لام » فتأمّل ، لكن ارادته بعيد عن مساق كلامه قدس‌سره.

وكيف كان : قد عرفت : انّ الحجّة بأي معنى لا يطلق على العلم حقيقة ، كما أنّك عرفت : انّ البحث في المسألة ممّا ليس له مزيد شأن لرجوعه الى مسألة لفظيّة جزئيّة قد ساق قدس‌سره الكلام فيها لمناسبة استناد طريقيّة العلم وإعتباره الى ذاته ؛ فانّه يتفرّع عليه عدم توسيط العلم لترتيب أحكام الواقع على المعلوم ، وهذا بخلاف غير العلم ؛ فانّه لا بدّ من توسيطه لمكان عدم تبيّن الواقع به ، واليه أشار بقوله في الفرق : « وهذا بخلاف القطع » (١).

فانّ توسيط العلم خلاف ما يقتضيه الفرض من ترتيب الحكم على متعلّقه وان كان في نظر القاطع من حيث انطباق المعلوم على الواقع إلاّ انّه لمكان عدم انفكاك المعلوم عن الواقع لا من حيث هو هو وقد أسمعناك الوجه في كون الظّن المعتبر وسطا دون العلم الطريقي وأوضحنا لك القول في ذلك بما لا مزيد عليه عند الكلام في كون إعتبار العلم ذاتيا وإعتبار الظّن جعليّا ، حيث أثبتنا أنّه ليس في مورد العلم إلاّ قضية واحدة وفي مورد الظن المعتبر لا بدّ ان يكون هناك قضيّتان.

نعم ، قد أشرنا ثمّة إلى أنّ معنى كون الظن وسطا لاثبات أحكام متعلّقه ، ثبوتها في مرحلة الظاهر بواسطة الظن ، أو الحكم ظاهرا بثبوتها في نفس الامر

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٩.

٤٠