بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

الظاهر منه ، يمنع من التخيير بينه وبين الإحتياط كما هو ظاهر.

ثامنها : الأصل على تقدير الاغماض عمّا تقدّم من الأدلّة المانعة وحصول الشك في المقام فانّها وإن لم يسلم دلالتها على ذلك فلا أقلّ من ايراثها الشك في إكتفاء الشارع بالإحتياط مع وجود الطريق المعتبر في الشرعيّات كما هو المفروض والعقل يحكم بعدم الإكتفاء به والحال هذه هذا.

وبعبارة أخرى : إذا شكّ فيما علم كون غرض الشارع من الأمر التعبّد بالمأمور به لا حصوله بأيّ وجه اتّفق في أنّ الداعي والغرض هو التعبّد بايجاده وإمتثال الأمر المتعلّق به ولو في ضمن أمرين أو أمور أو التعبّد به متميّزا عن غيره ، فالعقل يحكم بعدم جواز العدول عن الثاني في مقام الإمتثال ، لا لأصالة الاشتغال عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، أو أصالة الشغل عند الشك في الشرطية حتى يمنعان ، ولا لاصالة العدم ، أي : أصالة عدم حصول الغرض الداعي كما هو الأصل في كل حادث ، حتّى يقال : أنّ الحكم في المقام مترتب على الشك لا المشكوك فلا معنى لجريان أصالة العدم ـ بل لما عرفت : من إستقلال العقل بذلك على تقدير الشك في طريق الاطاعة.

ومنه يعلم أنّ الخصوصيّة المذكورة على تقدير ثبوتها ليست من قيود المامور به حتى تدفع باطلاقه فيما كان له إطلاق كما يتصور على القول الأعمّي في الفاظ العبادات ؛ إذ هي من خصوصيّات الاطاعة وتعتبر في سقوط الغرض فلا يمكن أخذها في المأمور به كما هو واضح.

ومنه يعلم أنّ المقام خارج موضوعا عن دوران الأمر في المكلّف به بين التخيير والتعيين أو الأقل والأكثر الذهني وهذا هو الوجه في قوله قدس‌سره ، « وليس هذا

٢٢١

تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يدفع باطلاقه » (١).

هذا بعض الكلام فيما يستدلّ به للقول الأوّل ، ومقتضاها على ما عرفت يختلف بحسب المقامات المذكورة ؛ فانّ بعضها يقتضي المنع من الإكتفاء بالامتثال الإجمالي حتى في مقابل الظّن المطلق فيما لا يتوقف على التكرار ، وبعضها يقتضي المنع منه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي في خصوص ما يتوقف على التكرار لا مطلقا وبعضها يقتضي التفصيل من وجه آخر كما لا يخفى على الناظر اليها.

ومن هنا صارت المسألة ذات وجوه وإن لم نقف على من يفصّل في المقامات الثلاثة بين ما يتوقّف على التّكرار وغيره ، وإن كان الأوّل أولى بالمنع عند شيخنا قدس‌سره ، بل ظاهره وجود التفصيل ؛ حيث أنّه استظهر في الأوّل الإجماع على المنع عند التمكّن من العلم التفصيلي ، وفي الثاني استظهر عدم الإجماع ، بل كلامه صريح في وجود القول بالتفصيل هذا.

الدليل على الوجه الثاني

ويستدلّ للثاني أي : القول بجواز الاكتفاء مطلقا ـ بما عرفت : من حكم العقل والعقلاء مع عدم ما يصلح للمنع عنه في الشّرعيات مطلقا عدا ما عرفت من الوجوه الثمانية وشيء منها لا يصلح مانعا لعدم تماميّته أو عدم إقتضائه المنع على تقدير تماميته.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٧٥.

٢٢٢

في أن الوجوه الثمانية المذكورة لا تصلح للمنع على جواز الإكتفاء

بالعلم الإجمالي مطلقا

أمّا الوجه الأوّل : وهو إستظهار الإجماع القولي على المنع ، فلأنّه مع إختصاصه بما تمكّن من العلم التفصيلي فيما يتوقّف على التكرار ـ كما أنّ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره إستظهره في خصوص هذا الفرض ونفاه فيما يتمكّن من العلم التفصيلي فيما لا يتوقّف على التكرار فضلا عن غيره ـ لا دليل على إعتباره في المقام ، بل ولا غيره كما حقّق في محلّه.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه لا دلالة له على حكم المقام وإن قلنا بحجيّة نقل الإجماع ، مع أنّ فيه ما فيه كما ستقف على تفصيل القول فيه ، مع أنّه كسابقه لا يقتضي المنع في جميع الصّور ، بل فيما يتمكّن من العلم التفصيلي ، فتدبّر.

لأنّ الإجماع المدعى في كلام السيّد الرّضي والرسّي قدس‌سرهما الذي قرّره علم الهدى إنّما هو في الجاهل المركّب القاصر أو الأعمّ منه والمقصّر المخالف عمله للواقع ، وأين هذا من الجاهل البسيط الباني على إحراز الواقع بالإحتياط؟

وفي جواب علم الهدى بتكلّف تطبيق عمل الجاهل للواقع دلالة واضحة على ما ذكرنا ، وان كان جوابه ، بل الأجوبة المذكورة عن الشّبهة في كتب القوم غير تامّة عند التحقيق كما ستقف على تفصيل القول فيه ، إلاّ أنّ الغرض غير متعلّق بتماميّة الجواب ، بل بكشفه عن مرامه ، بل التسالم على كونه غير عالم مع فرض ثبوت الاعتقاد الجزمي له يكشف أيضا عمّا ذكرنا في بيان مرادهم هذا.

٢٢٣

وأمّا الوجه الثّالث : فلأنّه على تقدير تسليم سيرة المتشرّعة على عدم سلوك الاحتياط مع وجود الطريق والاغماض عن منعها راسا أو عن الإنتهاء إلى زمان الحجّة لا تدلّ على المنع عن الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكن من الإمتثال التفصيلي مطلقا مع عدم العلم بعنوان ترك سلوك الاحتياط وجهته.

واحتمال كون اختيارهم لسلوك الطريق التفصيلي وعدم سلوكهم للاحتياط من جهة الاحتياط أو السهولة أو غير ذلك ممّا لا يجدي نفعا ، بل يضرّ بحال المتمسّك بالسّيرة كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى : المسلّم على تقدير الاغماض مجرّد سلوك الطريق التفصيلي وترك الاحتياط والفعل والترك لا دلالة لهما على العنوان الذي هو المعروض للحكم الشرعي والموضوع له.

فان كان الغرض التمسّك بالأوّل ، ففيه : ما لا يخفى ، وإن كان بالثاني فقد عرفت : أنّه لا يجدي في المقام مع ما عرفت من الاحتمالات في جهة الترك هذا.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّه يرد عليه ـ مضافا إلى اختصاصه بالشّبهات الحكميّة كما هو واضح ـ : أنّ وجوب تعلّم الأحكام الفرعيّة ـ بالوجوب الكفائي النّفسي من حيث حفظ الدّين والشرع والأحكام الالهيّة عن الانطماس والأندراس ـ لا يجدي دليلا على اعتبار العلم التفصيلي في صحّة العمل ، ـ وبالوجوب الغيري فيما يتوقّف احراز الواقع وتحصيله عليه ـ وإن دلّ على توقّف صحّة العمل عليه إلاّ أنّه فيما يتوقّف تحصيل الواقع عليه فلا يجدي في المقام أيضا ؛ إذ المفروض احراز الواقع وتحصيله بالاحتياط ، فلا يمنع منه هذا.

وأمّا الوجه الخامس : فلأنّ ما دلّ على اعتبار قصد الوجه على تقدير تسليم

٢٢٤

دلالته والاغماض عمّا فيه لا يمنع من الاحتياط ؛ إذ كما يتمكّن من قصد التقرّب بامتثال الخطاب المردّد كذلك يتمكّن من جعل الدّاعي على الامتثال ، امتثال الخطاب الوجوبي بمعنى أنّه يقصد وجوب أحد الفعلين مثلا.

توضيح ذلك : أنّهم إختلفوا في إعتبار قصد الوجه في صحّة العبادات ، ظاهر المتكلّمين الاتفاق عليه وتبعهم على ذلك جمع من الفقهاء ، وظاهر آخرين بل صريحهم عدم اعتباره.

قال المحقّق قدس‌سره ـ في محكيّ « المدارك » عن بعض تحقيقاته ـ : « الذي ظهر لي أنّ نيّة الوجوب والنّدب ليست شرطا في صحّة الطّهارة ، وإنّما يفتقر الوضوء إلى نيّة القربة وهو إختيار الشيخ أبي جعفر الطوسي في « النهاية » ، وأنّ الاخلال بنيّة الوجوب ليس مؤثرا في بطلانه ولا إضافتها مضرّة ولو كانت غير مطابقة لحال الوضوء في وجوبه وندبه. وما يقوله المتكلّمون من أنّ الإرادة تؤثر في حسن الفعل وقبحه فإذا نوى الوجوب والوضوء مندوب فقد قصد ايقاع الفعل على غير وجهه كلام شعريّ ولو كان له حقيقة لكان الناوي مخطئا في نيّته ولم تكن النيّة مخرجة للوضوء عن التقرب به » (١). أنتهى كلامه رفع مقامه.

وقد إستجوده في « المدارك » (٢) وظاهره بل صريحه : عدم قدح قصد الخلاف الذي قال به جماعة ممّن ذهب إلى عدم إعتبار قصد الوجه ، ومعرفة الوجه وتفصيل القول في ذلك في الفقه. والمقصود التكلم في ذلك على سبيل الايجاز لكي يعلم منه عدم مانعيّة القول بالاعتبار عن الاحتياط.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ج ١ / ١٨٨ ، حكاه عن المعتبر : ج ١ / ١٣٩.

(٢) مدارك الأحكام : ج ١ / ١٨٩.

٢٢٥

بيان الوجه لاعتبار قصد الوجه في العبادة

فنقول : إنّ الوجه للقول باعتبار قصد الوجه عند القائلين به : هو أنّ عروض الأحكام الشرعيّة لأفعال المكلّفين على مذهب العدليّة إنّما هو من جهة انطباق عناوين عليها مجهولة لنا هي الموضوع الأوّلى للاحكام المعروضة للحسن والقبح ، إذ ليس المعروض لهما الأفعال من حيث أنّها أفعال كما هو واضح.

فان قصد المكلّف الفعل بذلك العنوان فترتّبه على الفعل يصير إختياريّا فيكون الفعل المعنون به اختياريّا ذاتا ووصفا ، وان لم يقصده بذلك العنوان فترتّبه على الفعل على تقدير الترتب يكون قهريّا ولا يتصف بالحسن والقبح.

فحصول الاطاعة المتوقّفة على الإختيار متوقّف على قصد عنوان المأمور به وإلاّ لم يكن ترتبه اختياريّا ، فلا بدّ من قصده إمّا بعنوانه التفصيلي فيما علم بذلك أو بعنوانه الاجمالي بقصد ما يشير اليه ويحكي عنه بنحو من أنحاء الحكاية ، كقصد الوجوب الذي هو معلول لذاك العنوان فيما لا يعلم به تفصيلا ، ألا ترى أنّ المأمور بالتأديب لو ضرب بقصد الايذاء مثلا ولم يقصد التأديب أصلا يترتّب عليه التأديب قهرا إلاّ أنّه لا يكون مطيعا بالنّسبة إلى الأمر المتوجّه اليه من قبل المولى بالتأديب فإذا كانت الاطاعة معتبرة في صحّة العبادات فلا بدّ من قصد العنوان المذكور بأحد الوجهين هذا.

٢٢٦

وجه آخر للقول باعتبار قصد الوجه في العبادة

وما يتعلق به

وقد يقال في وجهه أيضا : بأنّ العنوان المنطبق على الأفعال المعروضة للحكم الشرعي والعقلي لا يعلم تحقّقه بدون قصد الفعل بذلك العنوان ، إذ كثيرا من العناوين يكون ترتّبها على الأفعال موقوفا على قصدها كما هو واضح ، فإذن لا بدّ من قصدها بأحد الوجهين حتى يعلم بتحقّقها ، بل التحقيق : إنّ اعتبار قصد التقرب والامتثال في العبادات إنّما هو من جهة الجهل بعنوان الواجب وعدم العلم بحصوله وترتّبه على وجود الفعل بأيّ نحو كان فيحكم بلزوم ايجادها بداعي إمتثال أمر الشارع حتى يتحقّق معه قصد العنوان الموجب لتحقّقه من حيث كون الأمر معلولا له فاذا قصده عند الفعل فقد قصد ذلك العنوان.

الفرق بين الوجهين المذكورين

ثمّ إنّ الفرق بين هذا الوجه وسابقه ممّا لا يخفى على المتأمّل.

حيث إنّ الأوّل ، راجع الى عدم كون تحقق عنوان المأمور به اختياريّا مع عدم قصد الوجه في العبادات وهو كما ترى ، بعد الأغماض عمّا يتوجّه عليه من النقض بما لا يتمكّن من تحصيل الوجه أصلا ولو بالظّن وبما يتمكّن من تحصيله بالظّن المعتبر سيّما إذا كان من الظنون المطلقة مع العجز عن تحصيل المعرفة العلميّة حيث أنّهم قائلون بالسّقوط في الأوّل مع أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص.

٢٢٧

وفي الثاني ، اكتفوا بقصد الوجه الظّني مع أنّه لا فرق عند التحقيق على تقدير كفايته بين اعتبار الظن وعدمه ، بل بين الظّن والاحتمال كما لا يخفي. ودعوى إمكان القصد مع الظّن وعدم إمكانه مع الشّك أو الوهم كما ترى. كيف! ولو كان كذلك لم يتحقق قصد التقرب في العبادات المحتملة؟

والقول : بأنّ المقصود ـ فيما كان الظّن معتبرا ـ الوجه القطعي للفعل لا الظني ـ حتى يتوجّه عليه ما ذكر أخيرا ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ القطع بالوجه إنّما هو بملاحظة دليل اعتبار الظّن ووجوب العمل به.

وهذا وجه ظاهري للفعل من حيث كونه مظنون الوجوب غير الوجه الواقعي للفعل الذي قضى الدليل بلزوم قصده. وهذا الوجوب المعلوم توصّلي غيري لا معنى للقول بكفايته عن قصد وجه الواجب التعبّدي الواقعي سيّما الموجود في الظّن المطلق الذي يكون ارشاديّا صرفا ليس فيه عنوان يتدارك به ما يفوت من مصلحة الواقع من جهة سلوكه كما يتصوّر في الظّن الخاصّ.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّي الأمارة الواقع الأوّلي إنّما هو من جهة رعاية الأحكام الواقعيّة فهو يحكي عنها بنحو من الحكاية فقصده قصد لها بهذا المعنى فتأمّل.

ومن أنّ نتيجته على تقدير تماميته ليس إعتبار خصوص قصد الوجه ، بل كفاية كلّ ما يكون حاكيا عنه إلاّ فيما كان الحاكي منحصرا في الوجه ، فلا يثبت إعتبار قصد الوجه التفصيلي في العبادات لكي يترتّب عليه المنع من كفاية الإمتثال الإجمالي مع التمكّن من الإمتثال التفصيلي ، إذ ليس إعتباره في العبادة عند القائل به أقوى من إعتبار قصد الإمتثال والتقرب المعتبر في العبادات

٢٢٨

بالاتّفاق ، بل هو الفارق بينها وبين التوصّليّات.

فكما يمكن قصد التّقرب بالإمتثال الإجمالي مع التمكن من الإمتثال التفصيلي حسبما عرفت ، كذلك يتمكّن من قصد الوجه بالإمتثال الإجمالي.

ودعوى : عدم حصول الاطاعة عند العقلاء بالإمتثال الإجمالي إلاّ مع العجز عن الامتثال التفصيلي قد عرفت فسادها بما لا مزيد عليه.

هذا ، وقد يستدل على عدم اعتبار قصد الوجه بالسيرة واطلاق الأمر بالعبادات. كما في كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في مطاوى ما أفاده في تحقيق حجيّة الظّن المطلق كما ستقف عليه.

كما أنّه قد يستدلّ على عدم إعتباره بالأصل ، بناء على البراءة في ماهيّات العبادات المردّدة بين الأقلّ والأكثر. ولعلّنا نتكلّم في ذلك بعض الكلام فيما سيجيء انشاء الله تعالى.

في عدم تمامية الوجه السادس والسابع

وأمّا السادس : فلوضوح فساده بعد إستقلال العقل بحصول الاطاعة بالإمتثال الإجمالي على ما عرفت مفصّلا ، غاية ما هناك أنّه لو لم يكن ثمّة غرض عقلائي لإختيار الإحتياط مع التمكن من المعرفة التفصيليّة ، ولو كان إختيار أسهل الأمرين لكان المحتاط مرتكبا لفعل لغو في ضمن الاطاعة ، وهو ليس بمحذور بعد فرض حصول الاطاعة هذا.

وأمّا السابع : فلأنّ الظّن المفروض إن كان إعتباره من حيث قيام دليل عليه بالخصوص من حيث السّبب الخاصّ لا من حيث كونه من أفراد الحجة ومصاديق

٢٢٩

الكلّي المعتبر شرعا أو عقلا الذي يعبّر عنه بالظّن الخاص في كلماتهم ـ سواء كان معتبرا مطلقا حتى فيما يتمكّن من تحصيل العلم بالواقع على ما هو شأن الظّنون الخاصّة التي بأيدينا أو كان معتبرا فيما لا يتمكّن من تحصيل العلم ـ فليس مفاد دليل اعتباره تعيين الأخذ به في مقابل تحصيل الواقع ، بل التعيين في مقام الإكتفاء باحتمال الواقع في مقابل ما لا يعتبر من الأمارات وإن لم يكن متيقنا من جميع الجهات وبقول مطلق.

كما إذا فرض تعدّد الظّنون الخاصّة ؛ فانّ إرادة الوجوب التعييني في كلّ واحد لا يجامع مع فرض التعدد فليس الغرض إثبات التخيير بينه وبين تحصيل الواقع بالاحتياط ، بل تخصيص مفاده بصورة الجهل بالواقع وعدم العلم بحصوله من حيث أنّ الجهل مأخوذ في موضوع الأمارة ؛ إذ كما أنّ إعتبارها مع التمكّن من المعرفة العلمية التفصيلية ليس راجعا إلى التخيير ، بل إلى التعيين في موضوع الجهل ولا ينافي ذلك جواز رفع موضوعها بالعلم ، كرفع موضوع حكم التمام بالسفر مع كون حكم الحاضر حكما تعينيّا ما دام حاضرا ، كذلك إعتبارها مع التمكّن من تحصيل الواقع بالإحتياط ، فتأمّل.

وهذا معنى ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » في إفساد هذا التّوهم بقوله : ( وأدلّة الظنون الخاصّة انّما دلّت على كفايتها عن الواقع ... ) إلى آخره (١).

وإن كان إعتباره من حيث قيام دليل على إعتبار مطلق الظّن من غير دخل

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٧٥.

٢٣٠

سبب خاصّ وكونه من أفراده الذي يعبّر عنه بالظّن المطلق في كلماتهم فليس مقتضى ما قضى بوجوب العمل به واعتباره تعيين العمل عليه في مقابل تحصيل الواقع قطعا.

أمّا غير دليل الانسداد ممّا أقاموه على حجيّة مطلق الظّن كقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ولزوم دفع الضّرر المظنون ونحوهما ، فعدم دلالته واضح.

وأمّا دليل الانسداد : فلأنّ أقوى ما أقاموه على بطلان الاحتياط الكلّي ـ الذي إقتضاه العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات في المشتبهات ـ ما دلّ على نفي الحرج في الشريعة ، ومن المعلوم أنّ مقتضاه نفي وجوب الاحتياط وتعيينه لا نفي جوازه ورجحانه على ما ستقف عليه مفصّلا ، فيكون الاكتفاء بالظّن من باب الترخيص في مقابل الإحتياط بعد الإعتراف برجحانه هذا.

ودعوى : أنّه بعد ما ثبت بطلان وجوب الاحتياط بما دلّ على نفي العسر والحرج فلا يبقى رجحانه لإرتفاع الجنس المتحقّق في ضمن الفصل بإرتفاعه ولا دليل على قيام فصل آخر مقامه ، فليس هذا نظير تحصيل الطّهارة في مورد الحرج حتى يقال برجحانها بعد ارتفاع وجوبها بما دلّ على رفعها في الشريعة.

فاسدة ؛ إذ حكم العقل برجحان الإحتياط في نفسه ليس تابعا للحكم بوجوبه ؛ إذ كثيرا ما يحكم برجحانه مع عدم وجوبه عنده كما في موارد البراءة ووجود الطّريق المعتبر من حيث الخصوص فانّ العقل يحكم برجحانه حينئذ ، بل تقديمه على الطريق المعتبر مع عدم وجوبه. هذا مضافا إلى كفاية ما يقتضى حسنه مطلقا في الشرعيّات من الآيات والأخبار.

لا يقال : هذا إنّما يستقيم لو كان دليل بطلان الإحتياط عند انسداد باب

٢٣١

العلم في أغلب الأحكام الشرعية ما دلّ على نفي الحكم الحرجي ، لكنّك قد عرفت عدم الاختصاص به ؛ إذ ممّا يدل عليه حكم العقل المستقل ببطلان ما يوجب الإختلال بعد إثبات كون الإحتياط الكلّي موجبا له. وهذا كما ترى ينفي جوازه لا وجوبه ؛ لأنّ تجويز ما يوجب الاختلال قبيح لكونه نقضا للغرض. والقول : بأنّ الإختلال انّما ينشأ من وجوبه ، كما ترى.

لأنّا نقول : مقتضى لزوم الاختلال وإن كان بطلان جواز الاحتياط على ما ذكرت الاّ أنّه انّما يقتضي بطلان جوازه في جميع المشتبهات ؛ لأنّه الموجب له لا الاحتياط في الجملة وفي بعض المشتبهات ، فاذن يمكن القول بجوازه حتّى يعلم المحتاط من نفسه الوقوع في محذور الإختلال. ودعوى : التحديد المذكور أمر حرجيّ فلا يجوز ، فاسدة جدّا.

إذ المدّعى بعد قيام الدليل على بطلان جواز الاحتياط على الوجه الكلّي رجحان الاحتياط في الجملة ، فلا يقضي بابطاله دليل نفي الحرج ؛ إذ المنفي به إيجاب الأمر الحرجي لا رجحانه فلزوم الحرج من التحديد المذكور لا ينفي بما دلّ على نفي الحرج فتأمّل هذا.

وأمّا الثّامن : فلما عرفت سابقا في تأسيس الأصل في المسألة : من أن الشك في حصول الاطاعة بالاحتياط قد يكون من جهة الشك فيه في بناء العقلاء في باب الاطاعة ، وقد يكون من جهة الشك في اعتبار خصوصيّة عند الشارع في اطاعة احكامه من غير أن تكون معتبرة في إطاعة مطلق الأوامر الصادرة من الموالي بحكم العقل والعقلاء.

فان كان من الحيثيّة الأولى فلا ريب في استقلال العقل في الحكم بعدم

٢٣٢

جواز سلوكه ، وان كان من الحيثيّة الثانية كما يشير اليه تقرير الوجه الثّامن على ما عرفت في بيانه ، فلا نسلّم حكم العقل بعدم جواز سلوكه على هذا التقدير ، بل نقول : إنّ العقل يحكم بجواز سلوكه وعدم الاعتناء باحتمال إعتبار الخصوصيّة المشكوكة.

في بيان صور الشك في إعتبار الخصوصية عند الشارع

في المأمور به وأحكامها

فان شئت توضيح ذلك ، فاستمع لما يتلى عليك في بيان صور الشك في اعتبار الخصوصيّة عند الشارع في المأمور به أو في سقوط الأمر المتعلّق به أو تحقّق اطاعته وأحكامها على سبيل الإجمال والإختصار :

فنقول : الشّك في الخصوصيّة المعتبرة لا يخلو من وجوه ثلاثة :

أحدها : الشّك في اعتبار خصوصيّة في المأمور به شطرا أو شرطا.

وحكمه الرّجوع إلى البراءة عند المشهور فيما لم يكن هناك اطلاق للمأمور به ، والرّجوع إلى الاطلاق في نفيه فيما كان هناك اطلاق له يجوز التمسك به عند الشك كما يتصوّر على قول الأعمّي في الفاظ العبادات كما ستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الثاني من التعليقة (١).

ثانيها : الشّك في إعتبار الإمتثال وقصد التقرب في سقوط الأمر كما في دوران الأمر في الواجب بين التوصّلي والتعبّدي.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ١٦٩.

٢٣٣

وحكمه أيضا الرّجوع إلى البراءة والإطلاق فيما لم يكن هناك اطلاق وفيما كان اطلاق هناك على المشهور بين من تعرّض للمسألة في مسألة مقدّمة الواجب ، وإن ذهب جماعة إلى أصالة التعبّدية في الفقه ، بالنظر إلى ما زعموا دلالته عليها من الآيات والأخبار التي أستدلّوا بها على المسألة في باب النيّة من كتاب الطّهارة والصّلاة وغيرهما من كتب العبادات ، وإن كان الحقّ عندنا عدم الدّلالة وعدم ثبوت ما يقضي من القواعد على خلاف ما إقتضاه الأصل الاوّلى والثانوي ، بالنظر إلى الأصل العملي واللّفظي المذكورين.

والرجوع إلى الاطلاق في المقام وإن نوقش فيه ـ : بأنّ المراد من الإطلاق المرجع عند الشك ، إن كان إطلاق الهيئة ، فلا ريب في أنّه لا يجوز التمسك به إلاّ في الشّك في اشتراط الوجوب واطلاقه ، كما في دوران الأمر في الواجب بين المطلق والمشروط ولو على قول الصحيحي في الفاظ العبادات فلا يجوز التمسك به في المقام.

وان كان اطلاق المادّة ، فانّما يجوز التمسك به في المسألة الأولى على قول الاعمّي في الفاظ العبادات لا في مسألتنا هذه ؛ ضرورة أنّ الشّك المفروض في هذه المسألة ليس راجعا إلى الشك في تقييد اطلاق المادّة ؛ لأنّ إعتبار قصد التقرب فيما يعتبر فيه ، متأخّر عن الأمر المتأخّر عن المأمور به من حيث كونه موضوعا له ، فكيف يعقل أخذه في المأمور به ، على وجه الشطرية أو الشرطية؟

كما نوقش في الرّجوع إلى البراءة في المقام ولو على القول بها في المسألة

٢٣٤

الاولى وان زعم بعض الأفاضل (١) كون المسألة الاولى أولى بالبراءة من مسألتنا هذه ؛ من حيث رجوع الشّك إلى الشك في تحقّق عنوان المأمور به بدون قصد التّقرب الذي يلزم القطع بحصوله عقلا ، ولا يجوز البناء على عدم إعتبار الخصوصيّة المذكورة من حيث عدم العلم به وقبح العقاب على مخالفة الواقع المسبّبة عنه. فتأمّل ـ إلاّ أنّه ليس المقام مقام دفع المناقشات فليطلب من محلّه ولعلّنا نتكلّم فيه بعض الكلام فيما يناسبه من أجزاء التعليقة.

في حكم الشك في اعتبار الخصوصيّة في العبادة

بعد الفراغ عن كونها عبادة

ثالثها : الشك في اعتبار خصوصيّة في العبادة بعد الفراغ عن كونها عبادة كالشك في إعتبار قصد الوجه أو معرفة الوجه ، وتميز الواجب عن غيره وإن لم يلزم قصده عند العقل ، وحكمه عند التحقيق الرّجوع إلى البراءة بحسب الاصول العمليّة ؛ إذ مرجع اعتبار تلك الخصوصيّة إلى إعتبارها شرعا من دون إعتبارها عند العقلاء في باب الإطاعة كما هو المفروض فلا مانع من الرّجوع إلى قاعدة قبح العقاب من دون وصول بيان من الشّارع فيه كما يرجع اليها في جميع ما يكون بيانه من وظيفته.

بل يمكن أن يقال : باستقلال العقل في الحكم بعدم الإعتناء به لا من جهة البراءة العقليّة ، بل من جهة عدم مانعيّة الاحتمال من استقلال العقل في سلوك

__________________

(١) صاحب الفصول في فصوله.

٢٣٥

الطريق العقلي في باب الإطاعة حسبما عرفت تفصيل القول فيه هذا.

فهل يكون هناك اطلاق يرجع اليه في الشك في القسمين أو لا يكون هناك اطلاق فيهما أو يفصّل بين الأوّل : فلا اطلاق فيه ، والثاني : فيرجع اليه فيه ، وجوه.

قد عرفت : أنّ المستفاد من كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره فيما سيجيىء من كلامه الرّجوع الى اطلاق العبادة في الأوّل والمستفاد من كلامه في المقام عدم اطلاق يرجع اليه في الثاني ، ومراده من اطلاق العبادة إطلاق المأمور به ؛ ضرورة أنّ هناك ليس لفظ يؤخذ باطلاقه غير الهيئة والمادّة هذا.

وقد يتمسّك باطلاق ما دلّ على وجوب الاطاعة من الآيات والأخبار في الموضعين. وهو كما ترى ؛ إذ ما دلّ على وجوب الاطاعة ساكت عن كيفيّة الاطاعة ، بل إعتبارها في سقوط الأوامر ، وانّما هو مسوق لبيان وجوبها بالوجوب العقلي الارشادي كما هو واضح ، فلا تعلّق له بمسألتنا هذه.

كما أنّه قد يتمسّك في الموضعين باطلاق ما دلّ على اعتبار النية في العبادات ، وهو أيضا كما ترى ؛ إذ مدلوله على تقدير ثبوته كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا عمل إلاّ بنيّة ) (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( انّما الأعمال بالنّيات ) (٢) ونحوهما من الآيات والأخبار أعتبار النيّة وشرطيّتها في الأعمال لا نفي اعتبار غيرها فهو نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الكافي : ج ٢ / ٨٤ باب النية ـ ح ١ لكنه عن الامام زين العابدين عليه‌السلام.

(٢) أخرجه البخارى ج ١ / ٢ والبيهقي في سننه في عدة مواضع منها : ج ٦ / ٣٣١. وابو داود ج ١ / ٤٩٠ ـ ح ٢٢٠١ ، والطبراني في المعجم الأوسط : ج ٧ / ١٢٣ ، وابن ماجه ج ٢ / ١٤١٣ ـ ح ٤٢٢٧ ، وانظر أمالي الطوسي : ٦١٨ ـ ح ١٢٧٤.

٢٣٦

( لا صلاة إلاّ بطهور ) (١) مثلا ، هذا. فالانصاف عدم وجود إطلاق يتمسّك به في الموضعين.

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بمسألة جواز الاكتفاء والقناعة بالإمتثال الإجمالي والاحتياط مع التمكّن من تحصيل الطرق المعتبرة ذاتا أو بالجعل ، من حيث الخصوص أو العموم فيما يتوقف على التكرار وفيما لا يتوقف عليه على سبيل الكلّية من غير ايراد البحث والكلام في كلّ موضع بخصوصه.

وهذا وإن كان مغنيا عن التكلّم في كلّ مقام بخصوصه ، إلاّ أنّه لا بأس به من حيث كونه معينا للإحاطة باطراف المسألة وموجبا للتطبيق ما ذكرنا على الوجه الكلّي عليها والاشارة الى المراد من كلمات شيخنا الأستاذ العلاّمة فيما أفاده في حكم المقام.

__________________

(١) المحاسن : ج ١ / ٧٨ ، والفقيه : ج ١ / ٣٣ باب « وقت وجوب الطهور » ـ ح ٦٧ ، وكذا في أمالي الصدوق فيما وصف لهم من دين الإماميّة : ٧٤٤ ، وفي التهذيب في عدّة مواضع منها : ج ١ / ٥٠ باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ـ ح ١٤٤ / ٨٣ ، وفي الإستبصار : ج ١ / ٥٥ باب وجوب الإستنجاء من الغائط والبول ـ ح ١٦٠ / ١٥ ، والوسائل : ج ١ / ٣١٥ الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ـ ح ١ وكذا في الباب (١) من أبواب الوضوء ـ ح ١ و ٦ ومواضع أخرى.

٢٣٧

الكلام في جواز الإكتفاء بالاحتياط مع التمكّن من تحصيل

العلم التفصيلي مطلقا

فنقول : أمّا الاكتفاء بالاحتياط مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي في المسألة في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة فيما يتوقف على التكرار ، فقد عرفت عدم الاشكال فيه بالنظر إلى حكم العقل والعقلاء في باب الاطاعة.

وتوهّم : ورود منع عنه في الشرعيّات بأحد الوجوه السابقة قد عرفت فساده.

وأمّا الإكتفاء به مع التمكن من تحصيل العلم فيما لا يتوقّف على التكرار فهو وان كان أولى بالجواز عند شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره من الصّورة الأولى حيث إستظهر الاتفاق على المنع في الصّورة الأولى وعدمه في الثّانية على ما عرفت ، إلاّ أنّه لا فرق بينهما عند الأصحاب منعا وجوازا ظاهرا ؛ لأنّ الظاهر كون المستند عندهم لعدم جواز الأخذ بالاحتياط فيما يتوقّف على التكرار ليس لوجه مختص به ، بل مستندهم له ما يعمّه وما لا يتوقف على التكرار : من لزوم القاء العلم بالوجه أو قصده من الأخذ بالاحتياط على ما يظهر من أكثرهم ، أو غيره من الوجوه المشتركة.

وأمّا الاكتفاء بالاحتياط في مقابل الإمتثال الظني بالظّن الخاص فيما يتوقف على التكرار ، فلا إشكال في جوازه بناء على ما عرفت منّا في صورة التمكن من تحصيل العلم ، بل لا اشكال في أنّ الأخذ بالاحتياط أولى من الإمتثال

٢٣٨

الظّني في الفرض إذا لم يحكم العقل بوجوب وجود المصلحة في سلوك الطريق يتدارك بها مفسدة مخالفة الواقع ، كما إذا فرض اعتباره في مقام لا يتمكّن من تحصيل الواقع ؛ إذ في العمل بالاحتياط دفع للعقاب مع ادراك المصالح النفس الأمريّة ، بخلاف الأخذ بالظّن فانّ الموجود فيه بالفرض ليس إلاّ التخلص عن تبعة العقاب.

ووجه تخصيص بعض الظنون بالاعتبار مع عدم وجود المصلحة في سلوكه إنّما هو أغلبيّة مطابقته للواقع من بين ساير الظّنون ، لكن الأولويّة المذكورة ليست بالزاميّة قطعا ؛ إذ الذي يحكم العقل بلزومه انّما هو دفع العقاب ليس إلاّ ، بل لا يعقل حكمه بلزوم ذلك مع فرض تجويز العقل إعتبار الشارع الظّن مع عدم وجود المصلحة كما هو واضح.

وأمّا إذا فرض وجود مصلحة في سلوك الطريق يتدارك بها مفسدة فوت الواقع ، فيظهر من الأستاذ العلاّمة قدس‌سره أنّ العمل بالإحتياط أيضا أولى من العمل بالطريق المعتبر لو خلّى وطبعه ؛ إذ فيه ادراك للمصلحة الأوليّة.

ولكن قد يشكل في ذلك : بأنّه بعد فرض تدارك المصلحة الأوليّة بما يساويها أو أقوى منها ، لا رجحان في إدراكها سيّما مع ما في الإحتياط من المشقّة الزائدة ، وإن كان فاسدا.

وبالجملة : بناء على ما عرفت سابقا منّا لا اشكال في جواز الأخذ بالأحتياط في مقابل الظّن التفصيلي في الفرض.

وأمّا بناء على القول بعدم الجواز في الصّورتين السابقتين فلا اشكال في الحكم بعدم الجواز بالنظر إلى قضيّة أكثر الوجوه المتقدمة ، بل قد يقال بعدم الجواز

٢٣٩

في المقام من وجه آخر ـ قد عرفته سابقا ـ : وهو أنّ مقتضى ما دلّ على اعتبار الظّن من حيث الخصوص تعيين الرّجوع اليه وعدم جواز الأخذ بغيره.

ولكنّك خبير بأنّه في كمال الوضوح من الفساد على ما عرفت ؛ لأنّ ما دلّ على حجيّة الظّن لا يدلّ إلاّ على كفايته عن إحراز الواقع من حيث البناء على أنّ مؤدّاه هو الواقع لا أن يكون في عرض الواقع كما هو واضح.

وأمّا دلالته على تعيين الأخذ به فلا. كيف! ولو دلّ على ذلك لدلّ على عدم جواز الرجوع إلى العلم التفصيلي أيضا وهو كما ترى. وبالجملة هذا التوهم في كمال الوضوح من الفساد.

وأمّا الاستدلال له بقوله ( دام ظلّه ) « مع إمكان أن يقال ... إلى آخره » (١) ، فهو راجع إلى ما عرفت في الوجه الثامن ، لأنّ حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) : هو أنّه إذا فرضنا الواجب تعبّديّا بمعنى كون الغرض من الأمر به هو التعبّد بايجاده لا حصوله بأيّ وجه اتّفق أي سواء كان بعنوان التعبّد أو لم يكن ، كما يكون الأمر كذلك في التوصّلي وشككنا ولو من جهة فتوى جماعة في أنّ المقصود التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو التعبد بايجاده متميّزا عن غيره ، فلا بدّ من الإلتزام بالأخير تحصيلا للقطع بإتيان ما هو غرض المولى.

نعم ، إستدلاله ( دام ظلّه ) على ذلك باصالة عدم سقوط الغرض الداعي محل تأمّل ، لأنّ حكم العقل بوجوب تحصيل القطع مترتّب على نفس الشك لا على مجرى الأصل المذكور ، فلا معنى لإجرائه كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٧٥.

٢٤٠