بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

وأنّها من صفات الأفعال وذهب إليه شيخنا الكليني وقد عنون بابا في أصول الكافي في زيادة الإرادة على الذات.

ومنها : تعيين أوّل الواجبات ، فذهب الأكثر إلى أنّه معرفة الله تعالى ؛ إذ هي أصل العقايد والمعارف الدّينيّة وعليه يتفرّع كل واجب من الواجبات الشرعيّة. وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات هو النّظر فيها ؛ لأنّه واجب إتفاقا وهو قبلها وهو مذهب المعتزلة ، والأوّل مذهب الاشاعرة.

وقيل : هو أوّل جزء من النظر ؛ لأنّ وجوب الكلّ يستلزم وجوب أجزائه فاوّل جزء من النظر واجب ومقدّم على النظر المقدّم على المعرفة. واختار ابن الحاجب وامام الحرمين : أنّه القصد إلى النظر ؛ لأنّ النظر فعل أختياري مسبوق بالقصد المقدّم على أوّل أجزاءه.

قال بعض المحقّقين : « وهذا النّزاع لفظي اذ لو أريد الواجب بالقصد الأوّل ، أي : أريد أوّل الواجبات المقصودة أوّلا وبالذات فهو المعرفة إتّفاقا ، وان أريد الواجب مطلقا فالقصد إلى النظر ، لأنّه مقدّمة للنظر الواجب مطلقا ، فيكون واجبا أيضا » (١).

والحاصل : أنّهم أقاموا الأدلّة العقليّة على أنّ أوّل الواجبات هو المعرفة بالله تعالى وعليه أكثر المحقّقين من الإماميّة.

وأمّا الأخبار فقد إستفاضت ، بل تواترت بأنّ معرفة الله تعالى المجملة ـ وهي أنّه خالق للعالم وأنّه قادر حكيم ونحوها ـ من الأمور الفطريّة التي وقعت في

__________________

(١) شرح المواقف : ج ١ / ١٦٦.

١٦١

القلوب بالهام فطريّ الهي وذلك نظير قول الحكماء : إنّ الطّفل معلّق على ثدي أمّه بالهام فطريّ الهي ، فلم يتعلّق بالمكلّف وجوب إلاّ بعد بلوغ خطاب الشارع ، ومعرفة الله قد حصلت لهم بعد بلوغ الخطاب بطريق الالهام.

بل قيل : إن كلّ من بلغه دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقع في قلبه من الله تعالى يقين بصدقه لما تواترت به الأخبار من قولهم : [ « ما من أحد إلاّ ويرد عليه الحقّ حتى يتصدّع قلبه ، فعله أو تركه » (١). فأوّل الواجبات هذا الاقرار اللّساني بالشهادتين على ما في الروايات ](٢). إنتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : بعد ظهور فساد ما بنى عليه المسائل المتفرّعة وان لم يكن هناك ما يوجب التكلّم فيها إن كان مبناها منحصرا فيما كان ذكره من العقل في مقابل النقل إلاّ أنّه لا بدّ من التكلّم فيها لكي يعلم أنّ حكم العقل فيها معاضد بالنقل أو أنّ النقل لا يدلّ على ما زعمه.

فيما يتعلّق بالإحباط

فنقول : أمّا الإحباط فالذي يظهر من الآيات والأخبار الواردة فيه عند التأمّل أنّهما لا تدلان على المعنى المختلف فيه عند المتكلّمين ؛ فانّ الوعيديّة وهم الذين لا يجوّزون العفو عن الكبائر إختلفوا على قولين.

أحدهما : قول أبي علي الجبّائي وهو : أنّ الاستحقاق الزائد يسقط الناقص

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ٣ / ٤١٦.

(٢) لم نعرف الحاكي ، وكيف كان فإن عمدة ما فيه مأخوذ من فوائد ـ الاسترآبادي ـ المدنيّة أنظر ص ٤٠٧.

١٦٢

ويبقى بكماله كما لو كان أحد الاستحقاقين مثلا خمسة والآخر عشرة ؛ فانّ الخمسة تسقط وتبقى العشرة ، وهذا هو المراد بالاحباط عندهم ويسمى به.

وأنت خبير بأنّ شيئا من الآيات والأخبار لا يدلّ على ثبوت هذا المعنى حتى الاحباط بالشرك والارتداد الذي دلّ عليه الأدلّة الثّلاثة.

ثانيهما : قول أبي هاشم ابنه وتابعيه وهو : أنّه يسقط من الزائد ما قابل النّاقص ويبقى الباقي ، ففي المثال المذكور يسقط الخمسة ويبقى الخمسة وهذا المعنى يسمّى عندهم بالموازنة ولا دخل له بالاحباط ، وان أبطله كثير من محقّقي المتكلّمين أيضا : بأنّ ذلك موقوف على وجود الاضافات في الخارج كالأخوّة والبنوّة ونحوهما وهو محال ؛ لأنّها لو كانت موجودة في الخارج مع أنّها اعراض مفتقرة إلى المحلّ يكون لها إضافة إلى ذلك المحلّ لا محالة فيقال فيها كما قلنا في الأوّل فيلزم التّسلسل ، وهو باطل فيلزم منه بطلان وجودها في الخارج ؛ لأنّ ما بني على الباطل باطل ، وقول الحكماء بوجودها لا يلزم الالتزام بوجودها في الخارج ، بل يكفي الالتزام بوجودها في الذهن والعقل. هذا ما تقتضيه كلمة المتكلّمين وتفصيل القول في ذلك وتحقيق البحث فيه في محلّه (١).

وأمّا الذي يقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فهو أمر آخر وحاصله : أنّ استحقاق الأجر والثواب بحيث يترتب على العمل ، مشروط بالموافات لقوله تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(٢) وقوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ )(٣) الآية. وقوله تعالى : ( فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا

__________________

(١) أنظر مجمع البحرين مادة « حبط » ومظانّ البحث في الكتب الكلاميّة.

(٢) الزّمر : ٦٥.

(٣) البقرة : ٢١٧.

١٦٣

وَالْآخِرَةِ )(١) والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا فمن كان من أهل الموافات ولم يلبس ايمانه بظلم كان ممّا يستحق الثواب الدائم الخالد.

وفي مقابله من كان من أهل الكفر ومات على كفره ؛ فانّه يستحق العقاب الدّائم الخالد مع التقصير ، ومن كان ممّن خلط عملا صالحا وآخر سيّئا فان تاب استحق الثواب انشاء الله تعالى وإن لم يتب فلا يبطل ثواب ايمانه ، لأنّه إمّا يستحق ثواب ايمانه أو لا ، والثاني باطل عقلا ـ مضافا إلى قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )(٢) والأخبار الناطقة بذلك ـ فتعيّن الأوّل. فإمّا أن يثاب ثمّ يعاقب فهو باطل إجماعا ، لأنّ من أدخل الجنّة لم يخرج منها ، فيلزم بطلان العقاب. أو يعاقب ثمّ يثاب فهو المطلوب الصحيح ، ولذا ورد في حقّهم : « أنّهم يخرجون من النار كالحمم أو كالفحم فيراهم أهل الجنّة فيقولون : هؤلاء الجهنّميون. فيؤمر بهم فيغمسون في عين الحياة فيخرجون وأحدهم كالبدر في ليلة تمامه » (٣) هذا (٤).

وان شئت بسط القول في ذلك حسبما يساعدنا التوفيق فاستمع لما يتلى عليك :

بسط مقال فيما يتعلّق بالإحباط

فنقول : إنّ هنا أمورا أربعة :

أحدها : ما يرجع إلى ما يمنع من تحقّق العمل على الوجه الصّحيح الشرعيّ

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٣) انظر تفسير فرات الكوفي : ١٥٦.

(٤) والعبارة أصلها مأخوذة من مجمع البحرين : ج ١ / ٤٤٧.

١٦٤

الفقهيّ سواء كان من افعال الجوارح والقلب كالكفر ، أو إنكار الولاية الخاصّة أو الاعتقاد بخلاف ما يقتضيه أصول المذهب كعصمة الأنبياء والأولياء ونحوها ممّا ثبت عند الإماميّة بناء على ما يقتضيه التحقيق وعليه أهل الحقّ ونطقت به أكثر الأخبار : من كون عبادة المخالف باطلة شرعا ، لا أن يكون غير مقبولة بناء على إرادة معنى آخر من القبول غير الصحّة كما يظهر من بعض الأخبار في بادىء النظر ، وسواء تحقّق في ابتداء العمل أو في أثنائه أو بعده كالعجب ؛ حيث أنّه إنّما يتصوّر بعد العمل ، بخلاف الرّياء ؛ فانّه إنّما يتصوّر قبل العمل ولو بالنّسبة إلى الاجزاء فانّها عمل أيضا ، بناء على القول بكون العجب مبطلا للعمل بدعوى كون صحّة العمل مراعى بعدم وجوده بعده.

وهذا كما ترى ، لا دخل له بمسألة الحبط أصلا ؛ إذ مرجعه كما عرفت إلى فقدان شرط صحّة العمل شرعا ، فوجود العمل كعدمه ؛ ضرورة أنّ عدم المانع من وجود العمل على الوجه الصحيح كوجود ما يوجب عدمه عدمه ، ولا ينافي ذلك نفي وجوب القضاء ـ ممّن يؤمن بعد الكفر والضّلالة ـ فضلا من الله تبارك وتعالى كما لا يخفى. كما أنّه لا ينافي قبح عقابه على الفروع على تقدير قصوره كما هو واضح فافهم.

ثانيها : ما يرجع إلى ما يمنع من قبول العمل الموجود على الوجه الصّحيح الشرعي الفقهي سواء كان مقدّما على الفعل أو مقارنا له أو متأخّرا عنه وسواء كان من الأفعال ـ كما ورد في شأن جملة من المعاصي ـ أو من صفات النفس ـ التي ترجع إلى الفعل أيضا باعتبار ، كما ورد في شأن جملة من الصّفات الرذيلة.

واليه يرجع اشتغال النفس حال العبادة إلى ما يمنع من الخضوع والخشوع

١٦٥

والتوجّه إلى المعبود والأخبار في هذا الباب وإن بلغت من الكثرة حدّ التّواتر ، بل تجاوزت عن أوّل مرتبته ، إلاّ أنّ من الظّاهر الواضح عدم ورودها في بيان شرط صحّة العمل شرعا ، وان دلّت على واجب خلقيّ أو شرعيّ ؛ فانّ وجوب تهذيب النّفس عن بعض الملكات الموبقة والرّذائل المهلكة لا يلزم اعتباره شرطا في صحّة العبادة.

وهذا أيضا كما ترى ، لا دخل له بمسألة الإحباط ؛ إذ مرجعه عند التّأمّل إلى عدم استحقاق العامل ما أعدّ للعمل الصحيح الغير المجامع لهذه الامور ، وإن استحقّ في حكم العقل ـ بعد صحّة العمل شرعا ـ الأجر في الجملة في مقابل من لم يعمل أصلا أو عمل على الوجه الباطل.

ضرورة عدم إمكان إنفكاك صحّة العمل شرعا وتحقق الامتثال عن استحقاق الأجر في الجملة ، فلا بدّ من أن يحمل جميع ما ورد في هذا الباب لو كان ظاهرا في نفي الأجر راسا على نفي بعض مراتب الأجر والقرب ، كما يحمل عليه ما ورد في باب ارتفاع الصلاة إلى العرش ومقام القبول ومراتبه بحسب إختلاف حالات المصلي وصفاته النّفسانيّة وأفعاله الخارجيّة وضيائها وكدورتها في نظر الحملة.

وأين هذا من مسألة الإحباط؟ وإن هو إلاّ نظير إقتران العمل ببعض الخصوصيات الموجبة لنقص ثوابه من الخصوصيات الزمانيّة أو المكانيّة أو غيرهما كالصلاة في الحمّام مثلا ، فانّه لم يتوهّم أحد : أنّ هذا يرجع إلى الإحباط وإن توهّمه متوهم وزعمه زاعم فسمّاه به غفلة عمّا فيه البحث فلا جدوى لمعارضته والتكلم معه ؛ إذ ثبوت هذا المعنى ضروريّ عند العلماء وتواترت به

١٦٦

الأخبار ولا ينفيه العقل أصلا ، بل يحكم به عند التحقيق في الجملة.

ثالثها : ما يرجع إلى ما يوجب بطلان أصل الأجر والثواب مع فرض وجود العمل على الوجه الصحيح الشرعي المستحقّ عليه الأجر في الجملة بحكم العقل أي : جعله هباء منثورا بعد أن لم يكن كذلك من غير فعل وإنفعال وموازنة.

وهذا هو الحبط المبحوث عنه الذي حكموا باستحالته عقلا ويخالف ما حكم الشارع بالضّرورة على ثبوته من الميزان في يوم الحساب ، فلا بدّ من أن يحمل ما ورد ممّا يظهر منه خلافه في الشرعيات على معنى لا ينافي العقل وما حكم به ضرورة النقل ، حتى بالنسبة إلى ما يكون الحبط به مدلولا للأدلّة الثلاثة ، كالشرك ؛ فانّه يحمل على معنى كون معصية الكفر والشرك بمقام يفوق بحسب الوزن جميع الطاعات فافهم.

رابعها : ما يرجع إلى ما يوجب ترجيح أثره عليه إذا كان فائقا وغالبا بعد الفعل والانفعال من الجانبين.

وهذا أيضا لا دخل له بمسألة الإحباط أصلا وعليه مدار ثبوت الميزان في يوم الحساب.

ثمّ إنّ هذا بالنّسبة إلى الحبط أي : حبط الحسنات بالسّيئات ، وأمّا عكسه وتكفير السّيئات بالحسنات فلا إشكال ، بل لا خلاف في ثبوته في الشرعيّات وقد تواتر فيه الأخبار والآثار في الأبواب المتفرّقة ، بل يمكن القول بكونه من ضروريّات الدّين هو ممّا قضى به ضرورة العقل أيضا في الجملة كما هو في التوبة.

ومرجعه كما ترى الى العفو عمّا يستحقّه بالمعصية بسبب الطّاعة لطفا أو فضلا من الله تبارك وتعالى لا الى العفو من دون أمر يوجبه ولا عدم استحقاق

١٦٧

العقوبة حتّى ينافي حكم العقل والشّرع باستحقاق العاصي للعقوبة ، بل ينافى معنى التّكفير كما لا يخفى.

أو الى رفع الاستحقاق بعد فرض ثبوته حتّى ينافى حكم العقل أيضا فتدبّر هذا.

في بيان ما يتعلّق بسهو النّبي

وأمّا : مسألة تجويز السّهو على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسهاء الله تعالى ـ كما في بعض الاخبار الواردة في صلوة غداته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ففيه ـ مع منافاته لما ورد في شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآثار والأخبار المتواترة فيخرج من مسألة تعارض النقل الظّني مع العقل القطعي ـ : أنّه كيف يجوّز العاقل الخطأ والسّهو في حقّ من كان قلبه الشريف أتم القلوب صفاء وأكثرها ضياء وأعرفها عرفانا ، مقبلا بقلبه الشريف إلى جناب قدسه في تمام عمره ومتوجّها بكليته إلى ساحة عزّ حضوره وإن كان مأمورا بتشريع الملّة وتأسيس السّنة ، بل مائلا إلى حظوظ النفس ، فانّه لا يزاحمه التوجّه إلى عالم الأحديّة والحضرة اللاّهوتيّة ؛ حيث أنّه تعالى شأنه قد شرح صدره الشريف ورفع عنه الوزر والمنقصة الإمكانيّة باعطاء هذه الموهبة الكبرى والمرتبة الزّلفى ، ومن هنا قيل في نظم الفرس :

جمع صورت با چنين معنى ژرف

نيست ممكن جز ز سلطان شگرف (١)

وكيف يسع لأحد بعد ذلك تجويز هذه الترّهات الواهية عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟.

__________________

(١) مثنوي معنوي لمولاهم جلال الرّومي ـ الدفتر الثالث رقم البيت : ١٣٩٣.

١٦٨

فليس الوجه فيه إلاّ عدم المعرفة بما أعطاه الله تعالى فضلا منه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان كنّا أيضا لا نعرفه بجميع شؤونه وحالاته ومقالاته ومراتبه العالية كما لا نعرف ربّنا بكنهه وحقيقته.

ومن هنا قال علماء المذهب شكر الله مساعيهم : أنّ السّهو نقص وعيب لمن اعتراه ، سواء كان من السّاهي أو غيره.

ومن هنا قال السيّد علم الهدى في محكى كلامه ( قدّس الله سرّه الشريف ) ـ بعد ما ذكر تبعا لشيخه المفيد قدس‌سره ( أنّ الأخبار الواردة في السّهو من الآحاد التي لا توجب علما وعملا ) في طيّ الاعتراض على ما يحكى من الشيخ الصدوق طاب ثراه تبعا لشيخه ابن الوليد : من أنّي أحتسب الاجر في تأليف رسالة مفردة في إثبات السّهو ـ بأن : « الحمد لله الذي لم يوفّقه لذلك » (١) هذا.

ولعمري أنّ المسألة قد بلغت من الظهور والوضوح في هذه الاعصار إلى حدّ يقرب من الضّروري بحيث كان مخالفها إرتكب أمرا منكرا عند العلماء وإن وضعوا في ذلك رسائل وصنعوا فيه دفاتر ، حتى رفعوا هذه الإساءة والعار عن نبيّهم المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يحتاج إلى بسط القول في ذلك بما يخرج عن وضع التعليقة ولو لا مخافة الكلال وضيق المجال لا شبعت المقال مع ذلك ، فلعلّ هذا القدر كاف لمن القى السّمع وهو شهيد.

__________________

(١) لم نعثر على كلام للسيّد الشريف في هذا المقام. نعم الموجود فعلا هو ما ذكره السيّد المحدث الجزائري في أنواره النعمانيّة : ج ٤ / ٣٤ حيث نسب هذه الكلمة إلى الشيخ البهائي قدس‌سره.

١٦٩

مسألة الارادة

وأمّا مسألة الارادة فالتحقيق : أنّه لا خلاف بين العقل والشرع فيها لأنّها :

إن فسرت بالقصد إلى أحد طرفي الممكن بمعنى الجزم بايقاعه ـ الذي هو المقدّمة الأخيرة من مقدمات الفعل الاختياري المسبوق بالعزم والشوق والهمّ والميل والعلم التصديقي والعلم التصوّري بالفعل ومنفعته وكيفيّة اتيانه ـ فهي مما لا مسرح له بالنّسبة اليه تعالى ؛ لأنّها من صفات المخلوقين الصادرة عنهم الأفعال الاختياريّة على الوجه المزبور ؛ إذ هي بهذا المعنى كيفيّة نفسانيّة تحدث عقيب تصوّر الشيء الملائم والتصديق بثبوته ونفعه تصديقا علميّا أو جهليّا أو ظنيّا أو تخيليّا راجحا.

وربّما يحصل ذلك التصديق الراجح بعد تردّد وإستعمال رويّة ، فاذا بلغ حدّ الرّجحان وقع العزم الذي هو الارادة ، فاذا حصلت يصدر الفعل لا محالة وتبدو صورته في الخارج.

وإنّ فسرت بالداعي إلى اختيار أحد الطرفين المفسّر بالعلم بالنفع والأصلح كما عليه جمهور المتكلمين منّا ومن العامة ، منهم المحقّق الطوسي قدس‌سره في « التجريد » (١) فهي عين ذاته تعالى ، لرجوعها إلى العلم الذي هو عين الذات ، كالكراهة فانّها ترجع إلى الذات أيضا.

وان فسّرت بالمحبّة كانت من صفات الذات أيضا ؛ لأنّ حبّه تعالى لنفسه عين ذاته.

__________________

(١) تجريد الاعتقاد ( بحث الصفات ) وانظر كشف المراد : ٤١٠.

١٧٠

وان فسّرت بنفس ايجاد الشيء وفعله أو ما يرجع اليه فهي من صفات الأفعال لا محالة ولا بدّ من أن يرجع إلى هذا التفسير بعض الأخبار الواردة الدّالة بظواهرها كونها من صفات الفعل وأنّ ارادته تعالى إحداثه ، فانّه إذا أراد لشيء أن يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف ، كما أنّه لا بدّ من أن يرجع إلى أحد الأوّلين قول الحكماء والمتكلّمين بأنّه عين الذات ، فلا خلاف ولا إشكال في المسألة بعون الله تعالى ومنّه هذا.

فيما يتعلّق بتعيين أول الواجبات

وأمّا مسألة تعيين أوّل الواجبات ؛ فانّه وان دلّت جملة من الأخبار ـ الواردة في بيان حدّ الايمان الواجب على العباد ـ على كون الواجب الاقرار والشهادة بالعقايد الحقّة من غير تعرّض لاعتبار المعرفة ، بل قد يدّعى دلالة بعض الأخبار على نفيه كقوله عليه‌السلام في جواب السائل : « هل كلّف الناس بالمعرفة؟ لا ، على الله البيان » (١).

إلاّ أنّها معارضة بالآيات والأخبار الكثيرة الدّالة على وجوب الاعتقاد والمعرفة ، فيجمع بينهما بإيجاب الأمرين معا وإن كان الأحكام الدّنيويّة للاسلام مترتّبة على إظهار الأعتقاد والشّهادة في صدر الإسلام ، مع العلم بعدم الاعتقاد والمعرفة ، بل الاعتقاد بالخلاف كالمنافق المظهر للشّهادتين.

__________________

(١) المحاسن : ج ١ / ٢٧٧ ـ ح ٣٩٢ ، والكافي : ج ١ / ١٦٣ باب « البيان والتعريف ولزوم الحجة » ـ ح ٥ ، والصدوق في التوحيد : ٤١٤ باب « التعريف والبيان والحجة والهداية » ـ ح ١١ ـ ولتطبيق البحث أنظر رسالة منبع الحياة : ٥٢.

١٧١

وأمّا ما دلّ على نفي التكليف بالمعرفة ، فالمراد منه : إمّا بعض مراتبها المتعذّر في حقّ النّاس أو المعرفة التفصيليّة الحاصلة من الدليل التفصيلي المنسوب إلى الفصل والامتياز بين الأشياء في قبال الدليل الإجمالي المنسوب إلى الإجمال من إجمال بمعنى الجمع ؛ فانّ لنسبة الدليل إلى الاجمال وإن كانت إعتبارات شتّى يختلف بملاحظتها المعنى ، إلاّ أنّ المراد منه في المقام كون مقدّمات الدليل مجملة غير متمايزة حاضرة في النّفس من دون تفصيل وتميز بين الصغرى والكبرى فيها وإن كانت موجبة للتأثير في النتيجة ، لكنّه يعتبر التلفظ بهما وإجرائهما على اللّسان على الوجه المقرّر في المنطق كما هو الغالب في العوام ؛ حيث أنّ علومهم النظريّة حاصلة من الدليل الإجمالي بهذا المعنى.

فالإجمال وصف للمقدّمات باعتبار عدم تمايزها وإنفصال بعضها عن الآخر في العقل ، وهو المكتفي به في أصول الدّيانات كما عليه المحقّقون ، وهو المراد من أصحاب الجملة ـ في كلام شيخنا أبي جعفر الطّوسي ( قدّس الله نفسه الزكيّة وطيّب تربته الشّريفة ) في « العدّة » (١) كما ستقف عليه في ( بحث حجيّة الأخبار (٢) ) ـ الذين لا طريق لهم إلى المعرفة إلاّ المجملات المركوزة في جبلّة نفوسهم.

بل يمكن أن يقال : إنّ العلوم الحاصلة للخواصّ أيضا قد حصلت غالبا في ابتداء الأمر من هذا الدليل الإجمالي وإن حصل لهم التمكن من اقامة البرهان والّدليل التفصيلي بعد بلوغهم مقام العلم والاطّلاع على قوانين البرهان وشرائطه

__________________

(١) عدّة الاصول : ج ١ / ١٢٩ ـ ١٤٢.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٣١٢ فما بعد.

١٧٢

وترتيب الطبيعي بين مقدّماته هذا.

وقد يقال : إنّ المراد من أصحاب الجملة في كلام الشيخ قدس‌سره : من حصل لهم المعرفة بالإدراك البسيط ـ الحاصل لكلّ أحد في أصل فطرته ـ في مقابل الإدراك المركّب ـ وهو المعرفة الحاصلة بالاستدلال ـ كما يحصل للعقلاء المتفكّرين في الصّفات والآثار فهي ليست ممّا يحصل للجميع وعليه مدار التفاضل بين العلماء والمراتب بين النّاس. وقد قيل في نظم الفرس :

( دانش حق ذوات را فطريست* دانش ذاتش است كان فكريست ) (١)

هذا وعليه يحمل ما ورد من الأخبار والآثار التي أدّعي دلالتها على كون معرفة الله تعالى فطريّة ، فإن مجرّد عرفان الرّب بالأدراك البسيط الفطري المركوز في نفوس الحيوانات فضلا عن الإنسان بمعنى العلم بأنّ للمربوب ربّا لا ينكر كونه أمرا قهريّا ، فلا يتعلّق به التكليف.

إلاّ أنّ المراد من المعرفة المأمور بها في الآيات والأخبار التي تكون غاية للخلق مرتبة أعلى منها غير حاصلة قهرا بالقطع واليقين ، فانّ المكتفى به من معرفة الرّب ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه في العقائد ـ العلم بأنّه واجب الوجود لذاته وبصفاته الثبوتيّة والسّلبيّة ، ومن الواضح أنّ معرفة الربّ بهذا المعنى ليست فطريّة قطعا ، هذا.

مضافا إلى أنّ المعتبر في الاصول ليس عرفان الرب جلّ اسمه فقط ، بل عرفان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ممّا يعتبر في أصول الدّيانات ودعوى كون جميع ذلك

__________________

(١) انظر الأسفار : ج ١ / ١١٨.

١٧٣

فطريّا كما ترى.

فالواجب أوّلا المعرفة ، ثمّ الإقرار والشهادة هذا كلّه ، مضافا إلى أن النزاع في تعيين أوّل الواجبات قليل الجدوى وكما لا يخفى.

(٣٤) قوله : ( ليت شعرى إذا فرض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥ )

أقول : العجب كلّ العجب ممّا ذكره هؤلاء المشايخ من أصحابنا الأخباريّين من فرض التعارض ؛ إذ هو أفحش من القول بعدم حجيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية ؛ ضرورة إمتناع حصول القطع بالمتنافيين كالقطع بأحدهما ، والظّن بالآخر والظّن بهما فعلا ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد تقابل السّببين لا الوصفين فيخرج عن محلّ الفرض.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّه صرّح بحجيّة العقل الفطري ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد من العقل الفطري ـ في كلامه وكلام غيره ـ هو أوّل البديهيّات وأبدهها بحيث يكون مركوزا في النفوس والجبلّة الانسانيّة ، فلا يخلو عاقل عنه بالنظر إلى فطرته.

وقد عرفت : أنّ حجيّة مطلق البديهي ليس محلاّ للانكار عند غيره من الأخباريّين فضلا عن الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، بل المستفاد من كلامه المحكي في « الكتاب » صريحا هو حجيّة مطلق البديهي عند عدم التّعارض فيوافق من تقدم ، فلا كلام عندهم في حجيّة البديهي باقسامه ، بل قد يقال : إنّ مقتضى اطلاق كلامه حجيّة العقل النظري أيضا عند عدم التعارض.

١٧٤

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( نعم ، يبقى الكلام ). ( ج ١ / ٥٥ )

أقول : كما في الأمور الاعتقاديّة الغير المتوقّفة على التوقيف من صاحب الشرع سواء كانت من الاصول الاعتقاديّة أو الأخلاق أو غيرهما.

(٣٧) قوله قدس‌سره : ( والعجب ممّا ذكره ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره انّما هو مع الاغماض عمّا يرد على هؤلاء : من عدم إمكان التعارض بين القطعين (١) على ما عرفت سابقا وظاهره كما ترى الاعتراض من وجهين :

أحدهما : عدم إمكان الترجيح بين القطعين (٢) مع إمكان فرض التعارض.

ثانيهما : عدم الدليل على الترجيح المذكور على تقدير الإمكان.

ولمّا كان بناؤهم في باب التعارض الترجيح بخصوص ما ورد الترجيح به في الشرع فلا محالة يتوجّه عليهم مطالبة الدليل على الترجيح المذكور ، فاذا لم يكن هناك دليل عليه كما هو واضح ، فلا معنى للترجيح.

وأمّا عدم تصوّر الترجيح فربما يناقش فيه ـ على تقدير تسليم إمكان التعارض والاغماض عمّا ذكره سابقا : من عدم إمكانه ـ ضرورة أنّه يمكن الترجيح بما ذكره وغيره مثل الترجيح بالقوة والضّعف لإختلاف مراتب القطع في الضّروريات والنظريّات جدّا. ومن هنا قد يحمل كلامه هذا على عدم إمكان الترجيح من جهة عدم إمكان التعارض.

وأمّا حمل كلام المحدّث على ارادة مطلق التقديم من الترجيح ـ ولو لم

__________________

(١ و ٢) كذا والظاهر : القطعيّين.

(١ و ٢) كذا والظاهر : القطعيّين.

١٧٥

يكن المرجوح حجّة عند التعارض لعدم مساعدة دليل إعتباره عليه ـ لا الترجيح المذكور في باب تعارض الأدلّة فيقال ـ في وجه الترجيح عند تعارض العقل الغير المؤيّد بالنّقل مع النّقل ـ : أنّ دليل إعتبار العقل لا يساعد عليه في مقابل النقل ، وإنّما يدلّ على اعتباره فيما لم يكن هناك نقل على خلافه. وفي وجه ترجيح العقل المؤيّد على العقل الغير المؤيّد : إنه ليس من باب الترجيح ، بل من جهة سقوط العقل المقابل بالنّقل فيعود العقل المؤيّد سليما ، فتتوجّه المناقشة على الإعتراض الثاني كالاعتراض الأوّل ، ففاسد جدّا.

إذ مع كونه خلاف ظاهر الترجيح لا ينفع فيما لو تعارض العقل المؤيّد مع النقل كما هو واضح. اللهمّ إلاّ أن يلتزم بسقوط النقلين المتعارضين والرّجوع إلى العقل لسلامته عن المعارض فافهم.

(٣٨) قوله قدس‌سره : ( وأعجب من ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦ )

أقول : لعلّ الوجه في الاستشكال في تعارض العقليّين من دون تأييد أحدهما بالنقل الاشكال في شمول دليل الحجيّة صورة تعارض خصوص تعارض العقليّين واطلاقه لها ، وهذا مع الإغماض عن جميع ما يرد عليهم في المقام والتسالم على ما زعموا لا سترة فيه ؛ إذ التساقط مبني على القطع بعدم الشمول ومنه ينقدح الوجه في الاستشكال الثاني أيضا.

إذ بعد البناء على اطلاق كلّ من دليلي حجيّة العقل الفطري والنّقل المقابل له مع عدم دليل هناك على الترجيح لا بدّ من أن يستشكل في حكم تعارضهما ، فالإشكال الأوّل : مبنيّ على الاشكال في الإطلاق. والثاني : مبنيّ على القطع بالإطلاق من الجانبين مع الاشكال في تقديم أحد الاطلاقين.

١٧٦

نعم ، ما أفاده قدس‌سره من أنّه لا ينبغي الإشكال في تقديم العقل الفطري على تقدير تسليم إمكان التعارض لا سترة فيه أيضا ، إذن أمر العقل الفطري أوضح وأظهر من حجيّة قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والولي عليه‌السلام ، بل ثبوت الصّانع جلّ ذكره الذي هو مبنى حجيّة قولهما كما لا يخفى.

لكن يمكن أن يقال : انّه على مذهب الحّق لا غبار فيه أصلا ؛ إذ ثبوت جميع هذه الأمور لا بدّ من أن ينتهي إلى العقل لا محالة ، لإمتناع أن يثبت بالنقل كما هو واضح بديهيّ.

وأمّا على مذهب هؤلاء الجامدين الذاهبين إلى أنّ حجيّة العقل الفطري إنّما هي من جهة الأخبار من غير التفات إلى لزوم الدّور والمحظورات الأخر ، فلا مناص عن الإشكال. فان كان هناك كلام معهم ففي أصل المبنى الذي زعموه في المقام وإلاّ فيمكن توجيه أكثر كلماتهم المبنية عليه مع الاغماض عنه كما لا يخفى.

(٣٩) قوله قدس‌سره : ( فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي وإن وجد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٧ )

أقول : المراد من عدم الجواز عدم الإمكان كما أن المراد من الظهور ـ في قوله : « ما ظاهره المعارضة » (١) : ـ الظهور النوعي بحسب إقتضاء وضع اللّفظ مع قطع النظر عن ملاحظة الدليل العقلي القطعي الموجود في المسألة على خلافه ؛ ضرورة أنّه لا يبقى ظهور مع قيام القرينة القطعيّة على خلاف أصالة الحقيقة ولو نوعا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٧.

١٧٧

ومن هنا ذكروا : أنّ أصالة الحقيقة والظّهور من الأصول التعليقيّة ، بل التحقيق : أنّ الظهور في باب الألفاظ يلاحظ فيه عدم القرينة ولو من جهة كونها مانعة عن مقتضى الوضع ، فإذا اقتضى البرهان العقلي القطعي عصمة الأنبياء والأولياء والملائكة عليهم‌السلام ، فلا محالة يعلم أنّ المراد من قوله تعالى : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ )(١) وغيره ممّا يقتضي ـ من الآيات بحسب وضعه ـ عدم العصمة وتخطئة الأنبياء بالمعنى الذي عرفته ، خلاف ظاهره وإن لم يتعيّن في حكم العقل معنى مخصوصا.

وكذا إذا اقتضى مثلا تنزيه الله جلّ جلاله عن الجسميّة ، فلا محالة يعلم أنّ المراد من قوله تعالى : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ )(٢) وقوله : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى )(٣) خلاف ظاهرهما. وكذا الكلام فيما ورد في شأن سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام من كونه عين الله ويد الله وقدرة الله وهو الأوّل والآخر وهو الخالق والرّازق (٤) إلى غير ذلك. وهكذا ساير الآيات والأخبار الواردة في المطالب التي يستشكل العقل في الحكم بخلافها ، فلا تعارض أصلا.

والمراد من قوله قدس‌سره : « فلا بدّ من تأويله إن لم يمكن طرحه » (٥) كما في القطعي الصدور ليس هو تعيّن الطّرح فيما أمكن الطرح ؛ إذ المستفاد من مفهوم هذا

__________________

(١) طه : ١٢١.

(٢) النور : ٣٥.

(٣) طه : ٥.

(٤) كما فيما ورد في الإختصاص : ١٦٣.

(٥) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٧.

١٧٨

الكلام عدم تعيّن التأويل عند إمكان الطّرح ، لا تعيّن الطّرح ، فيجوز ترجيح التّأويل عند الإمكان من حيث تحكيم أدلّة الصّدور على الدلالة في مفروض البحث كما هو الحقّ عند شيخنا الأستاذ العلاّمة فيما ستقف عليه في مسألة التعارض.

(٤٠) قوله قدس‌سره : ( وكلّما حصل القطع من دليل نقلي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٧ )

أقول : لا يخفى عليك أن المراد من الزمان في قوله (١) ليس هو الزّمان الحاصل من حركة الفلك ؛ ضرورة كونه من أجزاء العالم ، بل الزّمان الوهمي. فالمراد بالحدوث الزّماني ما في قبال الحدوث الذّاتي الذي هو أحد معنيي قدم العالم المبتني على وجود الصانع ، بخلاف المعنى الآخر الذي يلزم عدم وجود الصّانع.

فإذا دلّ الدليل الشرعي من اجماع أو آية أو سنّة قطعيّة على حدوث العالم زمانا ، لم يلتفت [ إلى ] البرهان المغالطي ـ بأنّ العالم معلول لوجود الباري تعالى جلّ شأنه ، فإذا كان قديما فلا بدّ أن يكون العالم قديما أيضا وإلاّ لزم إنفكاك المعلول عن العلّة والأثر عن المؤثّر ، غاية ما هناك تقدّم وجود الباري تعالى ذاتا على العالم وهو المراد بالحدوث الذاتي.

فانّه إذا حصل القطع من الدّليل الشرعي وهو إجماع جميع أهل الشرائع الكاشف قطعا عن قول الأنبياء صلوات الله عليهم أو غيره على حدوث العالم زمانا بمعنى المتقدّم ، فيمتنع حصول القطع من البرهان المزبور على خلافه.

__________________

(١) أي : في قوله قدس‌سره : « حدوث العالم زمانا ». انظر الفرائد : ج ١ / ٥٧.

١٧٩

فان أمكن الجواب التفصيلي عنه : بأنّ العلّة هي ارادة الباري تعالى شأنه وهي وإن رجعت إلى صفة الذات ـ وهي العلم بالأصلح ـ إلاّ أنّ المصلحة إقتضت تأخير الايجاد وتكوين عالم الخلق وإلاّ تقارنت الموجودات السابقة والمتأخّرة بالحسّ ووجدت جميع أجزاء العالم مع الذّات كما أنّها موجودة باسرها بالوجود العلمي بوجود الذّات. ـ فتأمّل (١) ـ فهو وإن عجزنا عن الجواب التفصيلي فنقول ـ بعد العلم بالحدوث ـ : إنّا نعلم إجمالا ببطلان بعض مقدّمات البرهان وإن لم نقدر على [ تمييز ](٢) الباطل عن غيره. كما يقال ـ بعد العلم بالأمر بين الأمرين في ردّ ما أقاموه على الجبر : بأن الممكن حال عدم وجود علّته ممتنع الوجود وبعد [ ها ] واجب الوجود فينتهي إلى علّة العلل لا محالة ، فيلزم الجبر ـ : بانّ ما ذكروه شبهة في مقابل البداهة التي إقتضت الأختيار مضافا إلى الجواب التفصيلي الذي يطول المقام بذكره.

وهكذا الكلام في البرهان الذي أقاموه على وحدة الوجود بالمعنى المتوهّم المعروف الفاسد لا بالمعنى الصحيح الذي لا مناص عنه ، وعلى إثبات العقول من حيث أنّ الواحد من جميع الجهات والحيثيّات يمتنع أن يصدر عنه إلاّ الواحد ،

__________________

(١) وجه التأمّل : أنّ تقدّمه تعالى على جميع مصنوعاته تقدّم بالعلّية وليس تقدّما بالزّمان لامتناع إحاطة الزّمان به تعالى ، فنسبة خلق الأوّل اليه كنسبة خلق الآخر اليه ، كما أنّ نسبة خلق الكثير اليه كنسبة خلق الواحد اليه. قال تعالى : ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) ( لقمان / ٢٨ ) ، فالترتيب الزماني انما هو بين الوجودات الزّمانية مقيسا بعضها إلى بعضه ( منه دام ظله ).

(٢) وفي المطبوعة « تميز » والصحيح ما أثبتناه.

١٨٠