بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

__________________

المرحلة وليست وظيفة المتحيّر ممّا تخفى على العقل ويقصر عن الإحاطة بجهاتها ؛ فإن المرجع في معرفة شؤون الإطاعة والمعصية هو العقل ، بل مسائلها أوضح المسائل العقليّة بل جميعها أحكام بديهيّة ولا ينافي البداهة ما وقع من الإختلاف فيها ؛ فانه غالبا من جهة الإختلاف في الصغريات وهو إنّما نشأ من الأدلّة النقليّة.

وليت شعري إن الإختلافات من المجتهدين لو كانت لأجل ما زعمه فاختلاف الأخباريين في المسائل لأيّ شيء هو؟ وهل هذا إلاّ قول زور؟!

ومن العجب تفريع إنحصار السبيل في الأحكام على السماع من الصادقين عليهم‌السلام على ما زعمه [ الأسترآبادي ] وانه تفطّن له بحول الله تعالى ، مع انك قد عرفت : أن الأمر دائر بين النظر في النقليات والنظر في العقليّات ، وأمّا بعد إحراز صدور الحكم عن أهل العصمة عليهم‌السلام فلم يتأمّل ذو مسكة في التعبّد به فهل هذا إلاّ غرور؟!

مع انك قد عرفت انه ليس في الفقه لما يزعمه مورد ، ولا يناسب ما ذكره إلاّ للردّ على أهل الخلاف لا على أركان الدين وفقهاء أهل البيت عليهم‌السلام الذين بذلوا مجهودهم في الإقتداء بهم والتتبّع لآثارهم جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء ووفقنا للإقتباس من أنوارهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة ، فقد صدر منه [ الأسترآبادي ] بالنسبة إلى آية الله العلاّمة [ الحلّى ] قدس‌سره ما يكشف عن قصور باعه وعدم إطّلاعه ؛ حيث اغترّ [ الأسترآبادي ] بما يذكره [ العلاّمة ] من الأقيسة والإستحسانات ولم يعرف أنها غير مستندة للأحكام بل إنما ذكرها في قبال أهل الخلاف إلزاما لهم وإرغاما لآنافهم ، ولا يستطيع كل أحد أن يحيط بما أفاده [ العلاّمة ] في كتبه بل لا يهتدي إلى مقاصدها إلاّ الأوحدي ولقد أوضحت ذلك فيما صنّفته في أبواب الفقه.

والحاصل : ان اختلاف الآراء وكثرة الخطأ ليسا مستندين إلى ما زعمه [ الأسترآبادي ] بل يكفي فيها أن العلوم العربيّة التي يبتني عليها استنباط الأحكام من الادلّة السمعيّة ـ في غاية

١٤١

مبنيّا على حكم العقل فيردّ ـ بعد منع الكثرة ـ بالنّقض بالاختلافات الكثيرة بين أصحابنا الأخباريّين. فتدبّر ، هذا.

شبهة في المقام والجواب عنها

ولكن في النّفس شبهة في المقام وهي : أنّ تسليم الخطأ في القطع الحاصل من المقدّمات العقلية أو منها ومن النقليّة كيف يجامع حصول القطع منها في المسائل مع فرض بقاء القطع في جميعها في زمان واحد. فافهم ، فإنّه ينتهي بعد فرض بقاء العلم بالخطأ ـ حين حصول العلم منها في المسائل ـ إلى اجتماع النقيضين لا محالة ، وإن هو إلاّ نظير العلم بكون كلّ حيوان جسما مع العلم بأنّ بعضه ليس بجسم ؛ ضرورة استحالة العلم بالموجبة الكلّية مع العلم بالسالبة الجزئية لأولهما إلى اجتماع النقيضين ؛ لأنّ تنافي الادراكين انّما هو من حيث تنافي المدركين.

ومنه يعلم أنّه لا اختصاص لما ذكرنا بالأدلة العلميّة ، بل يجري في الأمارات الظنّية أيضا ، فانّه إذا علم إجمالا بخطأ بعضها فلا يمكن حصول الظّن الشخصي الفعلي من جميعها في المسائل بحيث يجتمع الظنون في زمان واحد.

__________________

الصعوبة ونهاية الدقة ، بل لا يحيط بجهات لغة العرب إلاّ الله سبحانه ، ولهذا فكتاب الله تعالى من أعظم المعجزات ، مع انه لو لم يكن على موازين اللغة والعرف كان غلطا ، فالعرف واللغة أصعب من أكثر الفنون العقليّة وليس المعنى العرفي مما يدركه كل أحد كما زعمه المغترّون. ألا ترى أن الكتب المصنّفة والخطب والقصائد قد تبلغ من الغموض ما لا يدركه إلاّ الأوحدي مع أنه معنى عرفي؟! محجة العلماء : ج ١ / ٣٥ ـ ٣٦

١٤٢

فعلى هذا يمكن أن يكون مراد المستدلّ بعد تسليم كثرة الخطأ في المقدّمات العقليّة المنع من حصول القطع ، منها بملاحظة ذلك ، لا أن يكون مراده المنع من الخوض في المقدّمات لتحصيل القطع أو المنع من العمل بالقطع الحاصل من المقدّمات العقليّة بعد حصوله.

وان كان الاستدلال على هذا الوجه فاسدا أيضا من حيث أنّ العلم الإجمالي بالخطأ إنّما يمنع من حصول العلم في جميع المسائل لا في بعضها. والكلام ، إنّما هو بعد حصول القطع هذا على فرض تسليم الخطأ في الجملة.

ولكن الذي يقتضيه النظر المنع من كثرة الخطأ في المقدّمات العقلية القطعيّة والنقليّة القطعيّة بمعنى : أنّا لا نحتمل الخطأ فيها لأنفسنا لا قبل الرجوع اليها ولا بعده ، لا بمعنى : أنّ المستدلّين بالأدلة العقليّة كلّهم مصيبون ؛ ضرورة امتناع ذلك مع فرض الاختلاف.

ومن هنا اتفقت المصوّبة على التخطئة في العقليّات وأنّ المصيب واحد ، فانّ الحكم العقلي إن كان من الانشاءات العقليّة ، فلا يعقل الخطأ فيه كما هو الشأن في جميع الانشاءات ، لأنّه لا واقع له غير وجوده الانشائي حتى يتطرّق فيه الخطأ ، وإن كان من الادراكات القابلة لتطرّق الخطأ فيها ، فلا نحتمل الخطأ فيه في حقّ أنفسنا وإنّ قطعنا بخطأ المختلفين باعتبار بعض الشبهات الحادثة في أنفسهم.

ثمّ على فرض تسليم الخطأ ، فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول القطع في جميع المسائل على سبيل الاجتماع ففي كلّ مورد يحصل القطع نحكم بأنّ مورد الخطأ غيره نظير حصول الظّن من الغلبة مع العلم بتخلّف الفرد النادر هذا. وكيف ما كان لا إشكال في فساد ما ذكره الأخباريّون دليلا لما ذهبوا اليه.

١٤٣

نعم ، لا اشكال في ثبوت المبنى المذكور فيما لو بنى الشخص على الاستبداد في فهم الاحكام من العقل الناقص بطريق اللّم والعزلة عن الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة من جهة كونها مبنيّة على الصورة والظاهر ، أعاذنا الله ( تعالى ) منه.

ففيما حكم بعدم جواز الخوض لم يكن اشكال في عدم معذوريته على تقدير الخوض وخطأه وإستحقاقه للعقاب على ترك الواقع من جهة تقصيره في مقدّمات تحصيله.

وأمّا على تقدير عدم الخطأ فاستحقاقه للعقاب مبني على مسألة التجرّي التي عرفت القول فيها تفصيلا لما قد عرفت : أنّ عدم جواز خوضه لم يكن إلاّ من حيث استلزامه لفوت الواقع ولم يكن له حرمة نفسيّة حتى يترتّب العقاب عليه من حيث هو هو ، فهذا كما ترى قسم من عدم اعتبار الطريق ، فإنّ الحال في سلوك الظّن الغير المعتبر أيضا كذلك ، غاية الأمر أنّه يمكن له فرض جهة حرمة يستحقّ العقاب من أجلها غير تفويت الواقع وهو التشريع الذي لا يجري في الفرض كما لا يخفى.

ثمّ بالحريّ أنّ نؤخّر ذكر الدليل الثاني عن التكلم فيما حكى الاستاذ العلاّمة عن أصحابنا الأخباريّين من الكلمات الفاسدة من جهة ترتّبه عليه بضرب من الترتّب الذي ستقف عليه عند التعرض له.

١٤٤

(٢٥) قوله : ( قال : الدليل التاسع مبني على مقدّمة شريفة ). ( ج ١ / ٥٢ )

في بيان عبارات المحدّث الاسترابادي قدس‌سره

أقول : لا يخفي عليك أنّ مرجع هذا الدليل إلى الوجه الذي عرفته بوجوهه الثلاثة وحصر الدليل بالسّماع عن الصّادقين عليهما‌السلام مبني على الغالب : من جهة أنّ أغلب الاحكام إنّما انتشر عنهما ، لا من جهة خصوصية لهما من بين الأئمة مع النّبي عليه وعليهم الآف السّلام والصّلاة. كيف! ولا يعقل ذلك ولا يحتمل أن يكون الصّادقين في كلامه بصيغة الجمع لا التثنية.

والمراد بالسّماع أعمّ من السّماع بلا واسطة كما هو ظاهره ، أو بواسطة كما هو من الأمور الواضحة عند من له أدنى خبرة. كما أنّ التخصيص به أيضا مبني على الغالب وإلاّ فالمراد مطلق السّنّة سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا. وأمّا التخصيص بالسّنة وحصر الدليل فيها ، فلانّ من مذهبهم عدم إعتبار الكتاب مستقلا والاجماع والعقل.

(٢٦) قوله قدس‌سره : ( وهي أنّ العلوم النّظرية ... إلى آخر ). ( ج ١ / ٥٢ )

أقول : لا إشكال في أنّ المراد بالمادّة هنا هي نفس مواد القضايا المذكورة في العلوم لبيان المقاصد والمطالب.

وهي تنقسم إلى مادّة قريبة ـ وهي المسمّاة بالصناعات الخمس من الشعر والخطابة والبرهان والجدل والمغالطة ـ وإلى بعيدة منقسمة إلى أقسام خمسة أيضا كالمخيّلات التي هي مادّة الشعر والمظنونات التي هي مادّة الخطابة والمشبّهات

١٤٥

التي هي مادّة المغالطة واليقينيّات التي هي مادّة البرهان والجدل.

والمراد بالصّورة هي الهيئة الحاصلة للمقدّمتين بسبب نسبة الوسط إلى الطرفين وهي أيضا تنقسم إلى قريبة ـ كالاشكال الأربعة ـ وبعيدة ـ كالهيئة الحاصلة لكلّ من المقدمتين بسبب الحمل والاتصال والانفصال ـ وهي على قسمين :

أحدهما : ما هو مركب من الحمليّات الصّرفة أو من الحملي والشرطي.

وثانيهما : ما هو مركّب من الشرطيّات الصرفة.

والصورة ما يكون منشأ لفعليّة ذيها ، فصورة الشيء : ما يكون به شيئا بالفعل ، والمادّة : ما يكون به الشيء بالقوّة.

ولمّا كان القياس حاصلا بالفعل لأجل الهيئة المرتّبة سميّت تلك الهيئة بالصّورة ، كما أنّ الموضوعات والمحمولات لا على الترتيب المعهود ، مادّة للقياس من جهة كونها قوّة لحصوله.

وممّا ذكرنا تعرف فساد الحكم بقول مطلق بأنّ معرفة الصّورة من الأمور الواضحة على ما في كلام المحدّث.

(٢٧) قوله : ( ومن هذا القسم ... إلى آخره. ( ج ١ / ٥٢ )

أقول : كون ما سيذكره من الأقسام ممّا ذكره ممّا لا أشكال فيه ، كما أنّ كون ما سنذكره مثالا للقسم الأخير أيضا ممّا لا أشكال فيه عند من له خبرة بالعلوم المذكورة ؛ فان المهندس ينظر في كرويّة الفلك ويقول : إنّ الفلك كرويّ ؛ لأن أقطاره من جميع الجوانب متساوية ، ومحاذات أجزائه لنقطة كذا متشابهة. وهذا

١٤٦

البرهان من الحس وهو ليس بمبدء حقيقي.

وأمّا الطبيعي فيقول : إنّ الفلك ذو طبيعة بسيطة هي مبدء حركته وسكونه ، فهيئته غير مختلفة ؛ لاستحالة تأثير القوّة الواحدة في المادّة الواحدة إلاّ الهيئة المتشابهة. ومن هذا القياس غيرهما ممّا ذكره من الامثلة للطرفين كما لا يخفى.

(٢٨) قوله : ( والسّبب في ذلك ما ذكرناه من أنّ القواعد المنطقيّة أنّما هي عاصمة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣ )

أقول : لا يخفى عليك النّظر فيما ذكره (١) ؛ لأنّ الطّرق والشرائط المقرّرة في

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني أعلى الله تعالى مقامه الشريف ـ بعد نقل ملخّص كلام الأسترآبادي ـ :

وفيه : انه لو لم يمكن وضع ضابط يرجع إليه في تمييز الحق عن الباطل في مادّة القياس إذا كانت بعيدة عن الإحساس لم يمكن تحصيل العلم في أكثر المسائل مع أن المنطق متكفّل بالحفظ عن الخطأ من جهة المادّة أيضا ضرورة أنها إذا لم تكن بديهيّة فهي مستنتجة بأحد الأشكال الأربعة من مادة أخرى بديهيّة أو منتهيّة إلى ما هي بديهيّة بالذات.

وبالجملة : لا إشكال في أن ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ، والمعلوم بالذات هو البديهي ، فغيره لا يعقل أن يعلم إلاّ بالإنتهاء إليه.

ومن هذا يظهر ان الخطأ إن كان في أصول المواد فهو خطأ في البديهيّات ، وإن كان فيما يتولّد منها فهو خطأ في الهيئة ، فالخطأ دائما في إحدى البديهيّتين وهو في الأوّل بعيد ، فالغالب فيه في إنتهاء مادّة إلى أخرى بأحد الأشكال.

ولا ينافي ذلك كون المنطق عاصما ؛ حيث إنه ليس علّة تامّة للإعتصام بل إنّما هو آلة لذلك.

مع ان ما نقله من اختلاف الإشراقيّين والمشّائيين في إثبات الهيولى لا يقتضي سقوط

١٤٧

المنطق للاستنتاج تراعي جانب المادّة والصّورة معا ؛ ضرورة أنّ حقيقة الفكر إنّما تتم بحركتين : الأولى : لتحصيل المادّة. والثانية : لتحصيل الصّورة. وانّ الثانية تحتاج إلى قواعد يقتدر بها على تحصيل صورة مخصوصة لكلّ مطلوب ، كذلك الاولى تحتاج إلى قواعد يتوصّل بها إلى تحصيل مادّة مناسبة للمطلوب.

فمباحث الصناعات الخمس المشتملة على تحصيل مبادىء الجدل والبرهان وسائر الحجج وتميز بعضها عن بعض جزء لهذا العلم الكافل بما يحتاج اليه في استخراج المجهولات من المعلومات فافهم.

(٢٩) قوله : ( قلت : انّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره من الجواب عن النقض المذكور تحكّم واضح وتمحّل بارد ؛ لأنّ أكثر الخلافات في الفروع الفقهيّة ليس مبنيّا على ضم مقدمة عقلية ، بل من الاختلافات في فهم معنى الحديث وعلاج المتعارضين منه ، والشاهد على ذلك وقوع الاختلاف كثيرا من الأخباريّين في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة مع أنّ بنائهم على الاقتصار عليها وعدم جواز التعدي إلى غيرها ، فكيف يمكن مع ذلك دعوى كون الاختلاف من جهة ضم المقدّمة العقليّة الباطلة إلى المقدّمة الشرعيّة الصحيحة؟ ولو لم يكن ضمّ لم يكن إختلاف ، وبالجملة : ما ذكره ممّا لا سترة في فساده.

__________________

المنطق عن الإعتبار على ما زعمه ؛ لأن غاية ما يفيده الإنتهاء إلى البديهي ، فاشتباه البديهي أو بداهته لا يمنع من الركون إلى البديهيّات. محجّة العلماء : ج ١ / ٣٥

١٤٨

(٣٠) قوله : ( ومن الواضحات لما ذكرنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المشّائيّين والاشراقيّين طائفتان من الحكماء ، ورئيس الطائفة الاولى المعلّم الأوّل ورئيس الطائفة الثانية من قدماء الحكماء ، أستاذه يعني أفلاطون ، ومن المتأخرين الشيخ السهروردي من الطائفة الناجية الشيعة كثّرهم الله تعالى وحشرهم مع ائمتهم الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين (١).

والطائفة الاولى ذهبوا إلى أنّ تحصيل المعارف والمطالب بالرياضات والتصفية والمكاشفات ممّا لا معنى له ، بل لا بدّ من سلوك طريق الاستدلال والوقوف على حقيقة الأشياء بالبرهان. وذكروا في وجه تسميتهم بالمشائين أمورا مثل : أنّ بناء المعلّم كان على التدريس حين مشيه ذهابا إلى خدمة الاسكندر وأيابا منها ، ومثل : أنّ بنائهم كان على التعلّم والمشي إلى منزل الأستاذ إلى غير ذلك.

والثانية ذهبوا إلى أنّ الوقوف على حقيقة الأشياء بالبرهان ممّا لا معنى له ، بل لا بدّ من الوصول اليها بطريق المكاشفة وتصفية الباطن حتى يصير محلا للفيض وقابلا له ، ومن هنا ذكر بعضهم ( پاى استدلاليان چوبين بود ) (٢) وللفريقين إختلافات كثيرة في مسائل شتّى.

__________________

(١) يريد بالمعلم الأوّل : أرسطوطاليس اليوناني الذي هو من تلامذة أفلاطون الحكيم. وأمّا عدّ الشيخ شهاب الدين السّهروردي ـ المقتول صاحب حكمة الإشراق ـ من الشيعة الإماميّة فشيء لا مجال لتصديقه كما يشهد به واقعه التاريخي.

(٢) لمولاهم جلال الرّومي في كتابه ( مثنوي معنوي ) الدفتر الأوّل رقم البيت : ٢١٢٨.

١٤٩

كلام فيما يتعلّق بالهيولى والصورة والجسم

منها : مسألة تركب الجسم عن الهيولى والصّورة وعدم تركبّه منهما فذهب الطائفة الاولى إلى تركبه عنهما. والثانية : إلى عدم تركبّه عنهما ، وان إتّفقوا على أصل ثبوت الهيولى وتركب الجسم في الجملة كما عن أكثرهم إلاّ أنّهم إختلفوا في تركب الجسم عن خصوص الهيولى.

وتوضيح القول فيه بحيث يحصل بصيرة في الجملة يتوقّف على بعض التكلّم في معنى الهيولى والصّورة والجسم وذكر بعض كلماتهم ، ولا بأس بالتعرض له وان كان خارجا عن الفنّ ولم يكن من شأن من كان مثلى في قلّة البصيرة والبضاعة في العلم إلاّ أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كله مضافا إلى سؤال بعض الإخوان الذي لا يسعني ردّ مسألته.

فنقول : أمّا الجسم فهو على قسمين : طبيعي وتعليمي ، والمقصود بالكلام هو الجسم الطبيعي وأمّا التعليمي فلم يتوهّم أحد تركّبه من الهيولي وغيرها ، وانّما هو أمر يعرض الجسم الطبيعي عند جماعة الحكماء ولهذا عرّفوه : بأنّه الكمّ المتّصل الذي له الابعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا القوائم مع تعيّن امتداداته كما عزّي إلى المحققين إلى غير ذلك ممّا قالوا في رسمه (١).

وأمّا الجسم الطبيعي فعرّفوه : بأنّه جوهر يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة

__________________

(١) انظر قواعد المرام في علم الكلام لإبن ميثم البحراني : ٤٣ ، وكذلك كشف المراد : ٣٠٠ وشرح المقاصد : ج ١ / ٢٨٨ ، ونهاية الحكمة : ١٤٠.

١٥٠

متقاطعة على زوايا قائمة ، فهو من أحد أقسام الجوهر أعني : العقل والنّفس والجسم والمادّة والصورة.

وأمّا الهيولى فعرّفوها : بأنّها جوهر ليس في نفسه واجد للاتّصال والانفصال (١) ، يحتاج اليها الصّورة الجسميّة التي هي الممتدّ الجوهري في تشخصّها على ما ذهب اليه جماعة من المحقّقين.

ولا نزاع عند أكثر المحقّقين وجمهورهم في ثبوت هذا المعنى على ما عرفت وصرّح به جماعة من أجلّة الحكماء واساطينهم ، أي : في ثبوت ما يصدق عليه مفهوم الهيولى ومسمّاها ، أي : أمر يقبل الانفصال والاتصال الّلذين يطرءان في الحسّ على أنواع الأجسام المحسوسة من حيث هي اجسام ويقبل الهيئات النطفيّة والحيوانيّة والطّينيّة والرمّاديّة وغير ذلك وهو المسمّى بالمادّة أو الهيولى على اختلاف العبارات في التعبير عنها.

ووجودها على حسب هذا المفهوم أمر مسلّم لا نزاع فيه ، بل ممّا لا معنى للنّزاع فيه ؛ فانّه إذا قيل يكون الحيوان من الطّين أو خلق الإبن من نطفة أبيه فلا يخلو :

إمّا أن يكون الطّين باقيا طينا والنّطفة باقية نطفة وهو حيوان وانسان حتى يكون في حالة واحدة طينا وحيوانا أو نطفة وانسانا فهو محال.

وإمّا أن بطلت النطفة بكلّيّتها حتّى لم يبق منها شيء أصلا ، وكذا الطّين ، ثمّ

__________________

(١) انظر المواقف : ج ١ / ٣٨٣ وكذلك ج ٢ / ٣٧٣ ، وكشف المراد : ٢٢٩ ، والحكمة المتعالية : ج ٥ / ٦٥ فما بعد.

١٥١

حصل إنسان وحيوان ، فحينئذ ما صارت النطفة إنسانا وما خلق الحيوان من الطين ، بل ذلك شيء بطل وإنعدم بكليّته وهذا شيء آخر حصل جديدا بكلّيته وجميع أجزائه.

وإمّا أن يكون الجوهر الذي كانت فيه الهيئة النّطفية أو الطينيّة بطلت عنه تلك الهيئة وحصلت فيه هيئة إنسان أو هيئة حيوان.

والقسمان الأوّلان باطلان بحيث لا يعتقدهما جاهل ؛ لأنّ كلّ من زرع بذرا لينبت شيء منه ، أو تزوّج ليكون له ولد ، يحكم على الزرع بأنّه من بذره ويفرّق بين ولده وغيره بأنّه من مائه ، وإن عانده معاند لا يلتفت اليه ويكذّبه الحدس الصائب. فظهر من ذلك كلّه أنّ الهيولى من حيث المفهوم المذكور ما (١) وقع فيها خلاف (٢).

إنّما النزاع في أنّ ذلك الأمر له أجزاء لا تجزّى أو ما في حكمها كما ذهب اليه المتكلّمون ، أو أجسام صغار صلبة لا يمكن انقسامها في الخارج وان كانت منقسمة في الذهن بخلاف الاجزاء التي لا تجزّى كما هو مذهب ذي مقراطيس ، أو نفس الجسم بما هو جسم كما هو رأي جماعة من الأقدميّين ، أو أمر أبسط من الجسم وجزء له كما عليه المعتبرون من المشائين؟

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفها كما عن بعض : بأنّها ما يكون الشيء شيئا بها بالقوّة.

وأمّا الصّورة : فهي جوهر يكون الشيء بها بالفعل. وهي كما ترى غير ما يطرأ على الأجسام من الاشكال والأبعاد وان اطلق عليها الصّورة في إطلاق ، إلاّ

__________________

(١) « ما » نافية.

(٢) هذا البحث مأخوذ من الحكمة المتعالية : ج ٥ / ٦٥.

١٥٢

أنّ المراد بها في المقام غير هذا الاطلاق ، كيف! وقد عرفت : أنّ تلك من أقسام الجواهر وهذه من مقولة العرض ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه عند من له أدنى خبرة.

ثمّ إنّ لأصحاب كلّ من القول بتركّب الجسم عن الهيولى والصّورة وعدم تركّبه عنهما حججا كثيرة مذكورة في محلّها.

إحديها : ما أشار اليه المحدّث الأمين الاسترابادي في « فوائده المدنيّة » (١) : من برهان الفصل والوصل.

وحاصله بعد تلخيصه عن الزوائد : أنّ الجسم متّصل في ذاته بعد بطلان تركبّه من الجزء الّذي لا يتجزّى ومن الأجرام الصّغار الصّلبة الذيمقراطيسيّة ، ولا ريب أنّ هذا الجوهر المتّصل في ذاته الّذي كان بلا مفصل إذا طرأ عليه الإنفصال إنعدم وحدث هناك جوهران متّصلان في ذاتيهما ، فلا بدّ هناك من شيء آخر مشترك بين المتّصل الأوّل وبين هذين المتصلين ، ولا بدّ أن يكون ذلك الشيء باقيا في الحالتين وإلاّ لكان تفريق الجسم إلى جسمين إعداما للجسم بالكلّية وإيجادا لجسمين آخرين من كتم العدم ، والضّرورة تقضي ببطلانه.

(٣١) قوله : ( وفي أنّ الشخص الأوّل باق وإنّما انعدمت صفة من صفاته ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣ )

أقول : ما ذكره إشارة إلى بحث محكي عن شيخ الإشراقيّين مع جملة من أبحاث آخر وحاصله :

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٤٧١.

١٥٣

أنّ بناء برهان الفصل والوصل على ثبوت الاتصال الذي هو بمعنى الممتدّ الجوهري ، ونحن لا نمنع في الجسم الإتصال الذي هو من فصول الكم وما سواه ممنوع.

وما قيل : إنّك إذا شكّلت الشمعة باشكال مختلفة تغيّرت أبعاده مع بقاء اتّصال واحد ، فغير مسلّم ؛ فانّ الشمعة المتبدّلة الاشكال لا تخلو عن تفرّق اتّصال وتوصّل افتراق ، فالمطوّلة منها إذا جعلت مستديرة تجمّع فيها أجزاء كانت متفرّقة ، والمدوّرة إذا جعلت مستطيلة تفرّق فيها أجزاء كانت متّصلة ، فاتّصال واحد مستمر مع تفرّق الاتّصالات وتقطّع الامتدادات كيف يكون صحيحا؟

مع أن الاتّصال الذي يبطله الانفصال ثمّ يعود مثله بعد زوال الانفصال لا شكّ في عرضيّته ؛ لأنّ الجسم عند توارد الإنفصال والإتّصال عليه باق بماهيّته ونوعيّته لا يتغيّر فيه جواب ما هو ، وكلّ ما لا يتغيّر بتغيّره جواب ما هو عن شيء فهو عرض لا محالة ، فالاتصال الذي يبطله الانفصال عرض ، هذا (١).

وأجيب عن قبل المشائين : بأنّ الجسم من حيث هو جسم لا يتصوّر بدون قابليّة الابعاد الثلاثة على نعت الاتصال. ولذا حدّوه بها ، ولو لم يكن متّصلا في مرتبة ذاته لم يصحّ قبوله للمقدار ، كما قال الشيخ الرئيس في الحكمة العلائيّة الفارسيّة : ( جسم جوهر در حدّ ذات پيوسته است اگر گسسته بودى قابل ابعاد نبودى ) (٢).

__________________

(١) الحكمة المتعالية : ج ٥ / ٨١ ـ ٨٢.

(٢) لم نحصل على نسخة من الكتاب المذكور ، نعم ورد ذلك في حاشية المحقق السبزواري

١٥٤

والحاصل : أنّ نفس ذات الجسميّة بما هي هي لم تكن متّصلة في مرتبة جوهر الحقيقة ، بل كان إتصالها من قبيل العارض كانت بحسب الوجود إمّا من المجردات عن الجهات والابعاد ، وإمّا متألّفة الذات من الجواهر الفردة ـ متناهية أو غير متناهية ـ ثم تعرضها التعلّق بالاحياز والجهات ويلحقها الإتصال وقبول الإنقسام لا إلى نهاية في مرتبة ثانية. وكلاهما باطلان فقابليّة الابعاد انّما تتصوّر إذا كانت متصلة بالذات وثابتة في مرتبة ذاتها فهو جوهر لا محالة فثبت الاتصال الجوهري.

وأمّا قوله : « إنّ الاتصال الذي يبطله الانفصال عرض » (١).

ففيه : أنّ بقاء الجسميّة بنوعيّته في حالتي الإتّصال والإنفصال لا ينافي كونه متّصلا جوهريا وإنّما ينافي لو بقي بشخصه في تينك الحالتين وليس كذلك.

وأمّا قوله : « إنّ كلّ ما لا يتغيّر بتغيّره جواب ما هو ، فهو عرض » (٢).

ففيه : أنّه انّما يصح لو يتغيّر بتغيّره أشخاص الجوهر. وأمّا إذا تبدّلت الاشخاص بتبدل ذلك الشيء ، فلا يلزم عرضيّته ، كما أنّ إستمرار طبيعة نوعيّة وحفظها بتوارد تلك الاشخاص لا ينافي جوهريّة تلك الاشخاص هذا.

وقد خرجنا بذلك عن وضع التعليقة ، بل عن الفنّ إلاّ أنّه لرجاء وقوف أوائل المحصّلين على بعض المطالب تعرّضنا له وان لم يكن من شأني القاصر.

__________________

على الحكمة المتعالية أنظر الأسفار : ج ٣ / ٤٣ ، وكذا ج ٥ / ٢٣ في متن الأسفار.

(١ و ٢) انظر فيهما الحكمة المتعالية : ج ٥ / ٨٢ ـ ٨٥.

١٥٥

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( والمستفاد من كلامه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه إذا كان محلّ كلامه في النظريّات ، فلا بدّ أن يكون الضروريات خارجة عن محلّ كلامه وقد ذكر المحقّق المحشّي (١) قدس‌سره بعد نقل ما عرفت ما هذا لفظه :

« والمستفاد من كلامه عدم حجيّة ادراكات العقل في غير المحسوسات وما يكون مبادئه قريبة من الإحساس ، [ بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن محسوسا أو قريبا [ منه ] إذا لم يكن ممّا توافقت عليه العقول وتسالمت فيه الانظار ](٢) ، وقد إستحسن ما ذكره غير واحد ممّن تأخّر عنه » (٣).

وممّن نص عليه الفاضل الجزائري إلى آخر ما حكاه عنه مطابقا لما حكاه في « الكتاب ».

وأنت خبير بأنّ التقييد المذكور في كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره بقوله : « إذا لم يتوافق عليه العقول » (٤). ليس موجودا في كلام الجزائري ، بل ولا حكاه عنه غيره وإنّما هو أمر إستفاده المحقق المحشّي من كلام الأمين الاسترآبادي (٥) ، بل

__________________

(١) هداية المسترشدين ط قديم : ٤٤٣ وج ٣ / ٥٤١ ط ج.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يأت في عبارة الفرائد.

(٣) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٥٤١ ، عنه فرائد الاصول : ج ١ / ٥٤.

(٤) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٤.

(٥) والذي يختلج ببالي أنّ شيخنا الاستاذ العلاّمة قدس‌سره وجد كلام الأمين الاسترابادي والمحدّث الجزائري ممّا علّقه الشيخ المحشّي قدس‌سره ، وكانت النسخة التي عنده من كتابه

١٥٦

صريح كلام الجزائري حجيّة العقل البديهيّ وهو مقتضى كلام الأمين الموافق له ، بل قد تقدّم في كلام شيخنا الموافق لكلام الشيخ المحشّي أنّ محلّ كلام الأمين في غير الضروريّات وهو كما ترى لا يجامع إستفادة عدم حجيّة العقل البديهي في غير ما توافقت عليه العقول.

هذا ، بل ظاهر كلام الأمين ، بل صريحه : أنّ محلّ كلامه في العقل الظني ، فانّه قال ـ في الدليل الرابع ـ ما هذا لفظه :

« أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك إنّما يعتبر من حيث إفادته الظّن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد على الظّن المتعلّق باحكام الله تعالى أو نفيها ». إنتهى (١) كلامه رفع مقامه.

وقال أيضا بعد قوله المحكي في « الكتاب » : ـ « وان تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه » ـ ما هذا لفظه :

« ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا ألا ترى أنّ الاماميّة إستدلّت على وجوب عصمة الإمام بانّه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ وذلك الأمر محال ؛ لأنّه قبيح عقلا. وأنت إذا تأمّلت في

__________________

موافقة لما حكاه من التقييد ، كما كان كذلك في بعض النسخ الذي كان عندي ولكنّه غلط. والصحيح هو الذي حكيناه عنه ، وهو كما ترى خال عن التقييد بالنّسبة إلى كلام الجزائري ، وانّما هو أمر استفاده من كلام الأمين الاسترآبادي باجتهاده مع بعده عن سياق كلامه ، فافهم.

منه دام ظلّه العالي.

(١) الفوائد المدنيّة : ٢٥٥.

١٥٧

هذا الدليل علمت : أنّ مقتضاه أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظّني في أحكامه تعالى أصلا (١) ... » إلى آخر ما ذكره.

وقال أيضا : ـ في طي الفائدة التي ذكرها تأييدا للدليل المذكور بعد جملة كلام له ما هذا لفظه ـ :

« وبالجملة سبب الاختلاف إما إجراء الظّن مجرى القطع أو الذهول والغفلة عن بعض الاحتمالات أو التردد والحيرة في بعض المقدمات ولا عاصم عن الكلّ إلاّ التمسّك باصحاب العصمة صلوات الله عليهم » (٢). انتهى ما أردنا نقله.

وهذه الكلمات كما ترى تنادي : بأنّ محلّ المنع في كلامه العقل الظّنّي حتى أنّه منع في طيّ كلامه عن التمسك بالدليل الظّنيّ السّند أو الدلالة ، فراجع إلى ما ذكره في المقام فانّ فيه مواضع أخر يكشف عمّا استظهرناه تركنا نقلها خوفا من الاطالة.

ثمّ إنّ للشيخ المتقدّم ذكره (٣) بحثا وايرادا على معاشر الأخباريّين المفصّلين في حجيّة حكم العقل بين الضروري والنظري لا بأس بنقله.

قال قدس‌سره : ـ بعد نقل كلام المحدّث الجزائري ـ ما هذا لفظه :

« وقضيّة كلامه حجيّة العقل في البديهيّات وعدم حجيته في النظريّات غير أنّه يصير معاضدا للنقل فيرجح على ما يعارضه من النقلي الآخر.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٢٥٩.

(٢) نفس المصدر : ٢٦٠.

(٣) الشيخ محمّد تقي الإصفهاني الرازي صاحب الحاشية على المعالم.

١٥٨

ثمّ إنّ ما عناه من البديهي غير واضح في المقام فان عنى به البديهي في اعتقاد العالم وان لم يكن بديهيّا عند غيره أو لا يعلم فيه حال الغير فقد نصّ في تحقيقه المتقدّم وكذا فيما حكاه من كلام الأمين الذي هو عنده من التحقيق المتين بعدم حجّيته.

وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء فهو ـ مع أنّه ممّا يتعذّر العلم به إلاّ على سبيل الحدس الّذي هو أيضا من العلوم الضّرورية المتوقف حجيتها على الاتفاق عليها عنده ـ مدفوع : بأن الاتفاق على الحكم بالبداهة لا يفيد الحكم بالصحة إلاّ من جهة توافق الأفهام وإستنباط مطابقته للواقع من قبيل الاستنباط من الإجماع ، وإفادته العلم في الأمور العقليّة محلّ إشكال ، وعلى فرضه ليس أقوى من سائر الضروريات ، فكيف يجعل معيار الحجّية غيرها من البديهيّات » (١). إنتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : الظاهر إرادة المعنى الثاني والمرجع في تحصيله وتشخيصه وإن كان هو الحدس القطعي ، إلاّ أنّ الوجه في تخصيصه بالإعتبار عندهم حمل ما ورد في باب حجيّة حكم العقل عليه ، ولو من جهة الجمع بينه وبين ما ورد على المنع أو دعوى قلّة الاشتباه والخطأ في البديهيات وإن كان المرجع في تحصيلها الحدس القطعي فتدبّر.

نعم ، الايراد عليهم بعدم تعقّل الفرق في الاعتبار بين العقل البديهي والنظري المنتهى اليه بعد حصول العلم منهما لا رافع له ، ولو أريد عدم حصول

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٢ / ٥٤٢.

١٥٩

القطع من الثاني كما قد يذهب إلى بعض الاوهام فهي مكابرة صرفة ، كالايراد عليهم بعدم امكان التعارض بين القطعيّين ، وكذا بين القطعي والظّني بأقسامهما ، بل والتعبدي بقسميه ، بل عدم امكان التعارض على مذهبهم أيضا بعد البناء على عدم حجيّة العقل النظري في نفسه كما هو واضح ، وعدم الدليل على الترجيح المذكور على مذهب الأخباريّين على فرض امكان التعارض. اللهم إلاّ أن يكون مراده من التعارض : مجرّد التقابل ـ ولو لم يكن أحد المتقابلين حجّة ـ ومن الترجيح : تقديم أحد المتقابلين بالمعنى الأعمّ ، فتأمّل.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( لا يحضرني شرح التهذيب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥ )

في الفروعات المذكورة في شرح التهذيب [ على الأصل الفاسد المزعوم ]

أقول : قال في محكى « شرح التّهذيب » في مقام تعداد الفروع المتفرّعة على الأصل الذي تخيّله من تقديم النقل ولو لم يكن قطعيّا على العقل النظري القطعي على ما يقتضيه إطلاق كلامه ـ :

منها : مسألة الاحباط ؛ فانّ أكثر علمائنا « رضوان الله عليهم » قد أقاموا الأدلة القطعيّة على نفيه مع أنّ الأخبار والآيات دالّة عليه.

ومنها : مسألة إسهاء الله نبيّه في الصلاة وحدها ؛ فإنّ الأخبار قد إستفاضت في الدلالة عليه وقد عمل بها الصدوق قدس‌سره وأنكره أصحابنا اعتمادا على بعض الأمارات العقليّة.

ومنها : مسألة الإرادة ؛ فانّ المتكلمين من أصحابنا قد أقاموا البراهين العقليّة على كونها عين الذات ، وقد وردت في الأخبار المستفيضة أنّها زائدة عليها

١٦٠