بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

بالتجري المتحقّق بمجرّد القصد وان قلنا به فيما إذا تحقّق بغيره هذا.

ونحن نذكر جملة ممّا دلّ على العفو تيمّنا بذكرها.

منها : ما رواه جميل بن درّاج عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا همّ العبد بالمعصية لم تكتب عليه » (١) الحديث.

ومنها : ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إنّ الله جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتب له مثلها ومن همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له عشرة ، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة » (٢).

__________________

(١) الكافي : ج ٢ / ٤٢٨ باب « من يهمّ بالحسنة أو السيّئة » ـ ح ١ والخبر عن جميل بن درّاج عن زرارة عن أحدهما عليه‌السلام وهذا لفظ الحديث :

« إن الله تبارك وتعالى جعل آدم في ذريّته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه [ سيّئة ] ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة.

وكذا في الكافي : ج ٢ / ٤٤٠ باب « فيما أعطى الله عزّ وجلّ آدم عليه‌السلام وقت التوبة » ـ ح ١ عن جميل عن ابن بكير عن أحدهما عليهما‌السلام ، بإختلاف يسير وزيادة.

وكذا التوحيد للصدوق : ٤٠٨ ـ ح ٧ عن حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام باختلاف والخصال له أيضا : ٤١٨ ـ ح ١١ عن الأعمش عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وأورده الوسائل عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفيه : إذا همّ العبد بالسيّئة لم تكتب عليه : انظر الوسائل : ج ١ / ٥٢ باب استحباب نيّة الخير والعزم عليه ـ ح ١٠ والحظ الحديث ٦ و ٨ و ٢٠ من نفس الباب.

(٢) الكافي : ج ٢ / ٤٢٨ ـ ح ١ باب من يهم بالحسنة أو السيّئة وقد مرّ لفظها.

١٢١

ومنها : ما روى عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « لو كانت النّيّات من أهل الفسوق يؤخذ بها أهلها لأخذ كلّ من نوى الزّنا بالزّنا وكلّ من نوى السّرقة بالسّرقة ، وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكن الله عدل كريم ، ليس الجور من شأنه ولكنّه يثيب على نيّات الخير أهلها ولا يؤاخذ أهل الفسوق حتّى يفعلوها » (١).

إشكالات في المقام

وقبل : الخوض في العلاج بين الأخبار الواردة من الجانبين لا بدّ من التعرّض لإشكالات قد أشار إلى بعضها الاستاذ العلاّمة في مجلس البحث وقد سبقه في الاشارة اليه غيره.

أحدها : أنّه بناء على استحقاق العقاب على ما يتحقّق به التجرّي ـ على ما يقتضيه كلمات الأكثرين وهو ظاهر ما ورد من أخبار العفو أيضا ـ كيف يمكن حكم الشارع بالعفو ، والإخبار عنه على سبيل الحتم مع أنّه على خلاف اللّطف ـ من حيث كون الوعد على الاطاعة والوعيد على المعصية لطفا على ما يقتضيه صريح العقل وقضت به كلمتهم ، ومن المعلوم أنّ ترك اللّطف قبيح على الحكيم فضلا عن صدور خلافه عنه ـ؟

ثمّ إنّ هذا الاشكال لمّا لم يكن مختصّا بالمقام ، بل كان واردا في نظائره ممّا قالوا بحرمته ودلّ الدليل على العفو عنه ، كما في الظّهار وكما في الاتيان

__________________

(١) قرب الإسناد : ٦ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٥٥ ـ ح ٢١ باب استحباب نية الخير ، والحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام وليس عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

١٢٢

بالحرام في يوم قتل الثاني (١) إلى ثلاثة أيّام إلى غير ذلك وهكذا في يوم الغدير إلى ثلاثة أيّام (٢).

التفصّي عن الإشكال المزبور

فبالحريّ أن نتعرّض لما يدفع به الاشكال في جميع المقامات ، وممّا ذكرنا من البيان يظهر فساد الجواب عن الاشكال في المقام بالنقض على الظّهار ونحوه ممّا هو مثله في الاشكال.

فنقول : إنّ ما يذكر للتفصّي به عن الاشكال المذكور وجهان :

الأوّل : أنّ ما دلّ من الآيات والأخبار على حكم العفو في أمثال المقام ليس بقطعيّ ، والظّن ليس حجّة في هذه المسائل ولو كان من ظواهر الالفاظ ، فلا يحصل به مخالفة لقضيّة اللّطف الواجب على الحكيم تعالى أو يؤوّل بما لا ينافي حكم العقل ، ومنه إحتمال ارادة التّأخير في ثبت كاتب السّيئات من الملكين هذا.

ولكنّك خبير بما فيه ؛ لأنّ اعتماد المشافهين بما دلّ على العفو عن معصية خاصّة ممّا يكون ظاهرا فيه ممّا لم يكن فيه ريب ، كاعتمادهم بظهوره في ساير المقاصد ، وليس المقصود هو تحصيل القطع بالعفو كما في مسائل الاصول التي يطلب فيها الجزم ، حتى يقال : أنّه لا يحصل بالظّواهر ، بل المقصود صدور كلام من

__________________

(١) يوم التاسع من ربيع الأوّل ، لكن الكلام في صحة هذه الرواية بعد ضعف سندها وجهالة مصدرها. وإن كان هذا اليوم يوما شريفا للغاية باعتبار هلاك رأس دولة الطاغوت لعنة الله تعالى عليه.

(٢) لم نعثر على خبر يدلّ على مثل ذلك فيما يخصّ الغدير.

١٢٣

المولى يقتضي العفو بلسانه المتعارف الذي هو محلّ إعتماد النّاس قطعا ويوجب تجريّهم على المعصية جزما وكذلك إعتمادهم على ما يرد من المولى في العفو من النقل بخبر الثقات ممّا لا شبهة فيه ، فتأمّل.

لا يقال : مجرّد إحتمال العقاب يكفي في حكم العقل بوجوب الاطاعة لاستقلاله في الحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فلا يكون إظهار العفو مع بقاء إحتمال المؤاخذة خلاف اللّطف.

لأنّا نقول : أوّلا : أنّه لو بني على كفاية مجرّد إحتمال المؤاخذة لم يكن دليل على كون الوعد والوعيد لطفا ، مع أنّ الكلام انّما هو على فرض كونهما لطفا وهو مما لا شبهة فيه أيضا ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل لا ينافي كون الوعد والوعيد لطفا ؛ إذ لا شبهة في حصول القرب إلى الطّاعة والبعد إلى المعصية بهما غير ما كان حاصلا من نفس إحتمال العقاب بالنّظر إلى حكم العقل.

وهذا هو المناط في اللّطف ، ولا يشترط في تحقّقه عدم حكم العقل في مورده من وجه ضعيف كيف! وهم حكموا بأنّ تأكيد العقل بالشرع لطف ، والمقام أولى بكونه لطفا من حيث كون قول الشارع فيه تأكيدا لا تأسيسا.

وثانيا : أنّه لو بنى على كفاية مجرد إحتمال العقاب في رفع وجوب اللّطف على الحكيم ( تعالى ) فانّما هو فيما إذا لم يرد منه ما يقتضي عدم العقاب ولو بالطريق الظّني الذي عليه إعتماد العقلاء وأهل اللّسان. فهل ترى من نفسك الحكم بعدم إقدام العبد بإتيان ما أخبره المولى بلسانه المتعارف بالعفو عنه ممّا نهاه عنه من جهة إحتمال المؤاخذة؟ فهذا الإحتمال في حكم عدمه عند العقلاء ، فتأمّل.

وثالثا : أنّ هذا لا يتأتّى فيما ثبت العفو عنه قطعا كما في القصد إلى المعصية

١٢٤

مجرّدا ؛ فانّ الظاهر قيام الإجماع على العفو عنه فتدبّر.

الثّاني : أنّ من المعلوم ضرورة وبداهة عدم كون العفو الواقعي قبيحا على الحكيم ( تعالى ) ، بل هو واجب عليه في الجملة بما لا ينافي حكم العقل بكون الوعد والوعيد لطفا على ما ستقف عليه ، ولم يدّع أحد أيضا : أنّ العفو الواقعي قبيح على الحكيم ( تعالى ) من جهة كونه على خلاف اللّطف.

وانّما الذي يكون قبيحا هو إظهاره للعباد ومن المعلوم أنّ إظهاره للعباد المطيعين ـ ممّن لا يتفاوت في حالهم الوعد والوعيد وعدمهما كسلمان وأبي ذر ومقداد وحذيفة وأمثالهم من الموحّدين ـ لا يكون قبيحا. وكذلك الترخيص لهم أن يظهروا لغيرهم ممّن يعتقدون أنّه مثلهم وتحريم إظهاره لمن لا يعلمونه مثلهم وايجابهم عليهم أيضا من جانب الشارع أن لا يظهروا إلاّ لمثلهم وهكذا ، لا يكون قبيحا وإن أخطأ المظهرون في الاعتقاد ، فاظهروه لمن لا يكون أهلا خطأ فانتشر أمر العفو من جهة تقصيرهم ؛ فانّ فوت المصالح النفس الأمريّة من العباد من جهة تقصير المقصّرين ليس فيه قبح على الحكيم ولا خلاف لطف أصلا كما حقّق مستقصى في محلّه.

فاذن نقول : إذا إقتضت المصلحة إظهار العفو في خصوص معصية كما في حكاية اليوم الذي قتل فيه الثاني (١) ، على النّمط المذكور لم يكن فيه قبح على

__________________

(١) قد عرفت أنه لم يثبت خبر معتبر بهذا المدلول ، وجوائز الله عزّ وجلّ لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام بهلاك فرعون الفراعنة أكثر من أن تخطر على قلب بشر وذلك لمكان ولا يتهم لآل محمّد عليهم‌السلام وبراءتهم من عدوّهم والله عزّ وجلّ لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جودا وكرما وهو ذو الفضل العظيم ، أمّا أن يعصى فلا ؛ إذ ليس ذلك من شيمة شيعتهم صلوات الله تعالى عليهم.

١٢٥

الحكيم ، وان فرض علم من لا يبالي بالمعصية بالعفو أيضا من جهة تقصير المقصّرين في تكليفهم وما وجب عليهم من عدم الإظهار إلاّ للأهل كما هو الشأن في سائر المقامات هذا.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الجواب أيضا لا يخلو عن أشكال.

أمّا أوّلا : فلوجود الفرق بين المقام وما قيس به ؛ فانّ اظهار الاحكام منه وتبليغه واجب على الحكيم ( تعالى ) بالطريق المتعارف فلو لم يصل بعض الاحكام إلى العباد من جهة تقصير المقصّرين لم يكن فيه شيء على الله تعالى ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ الواجب فيه ترك الإظهار ، فلا بدّ أن لا يجوز ترخيص الغير في الإظهار إذا كان ممّن يخطأ في الإعتقاد فتأمّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكر على فرض تماميّته ، إنّما يتمّ بالنّسبة إلى ما دلّ عليه الأخبار. وأمّا بالنّسبة إلى ما دلّ عليه الكتاب كالآية الدّالة على العفو عن الظّهار فلا ، اللهم إلاّ أن يلتزم بعدم حرمته فتأمّل.

ثمّ انّه لا يخفى عليك أنّ تكفير الذنب بالتوبة أو تكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر حسبما دلّ عليه الأدلة الثلاثة ، ليس من العفو المنافي لحكم العقل كما لا يخفى على الأوائل فضلا عن الأواخر ، ولا دخل له بمسألة الحبط التي هي عكس مسألتنا هذه وهي دفع السيئة بالحسنة.

وأوضح منه في عدم كونه من محلّ البحث ما ورد في جملة من الواجبات والمستحبات كالحجّ وزيارة سيّد الشهداء أرواحنا له الفداء وغيرهما ، ممّا دلّ على تكفيره الذنوب كما لا يخفى.

١٢٦

ثانيها (١) : أنّه بناء على عدم إيجاب التجرّي قبح ما يتجرّى به والذّم عليه ـ من جهة كونه من الاوصاف الغير الصادقة على الفعل ، أو ممّا يصدق عليه مع عدم قبحه حتّى يؤثّر في قبح ما يتصادق معه ـ كيف يمكن الحكم بحرمة القصد إلى المعصية؟ فانّ الوجه في حرمته ليس إلاّ من حيث كونه قبيحا ، والوجه في قبحه ليس إلاّ من حيث كونه تجريّا ، فلا بدّ إمّا من أن يحكم بالحرمة في جميع صور التجرّي ، أو يمنع منها في القصد إلى المعصية ، فالتفصيل كما هو قضيّة الفرض ممّا لا معنى له هذا.

وقد يتفصّى عن الاشكال المذكور : بأنّه لا امتناع في أن يكون في القصد إلى المعصية مفسدة قد حكم الشارع بحرمته من أجلها ولم يطّلع عليها العقل حتى يحكم به ، وليس هنا برهان قطعيّ يدلّ على كون حكم الشارع بالحرمة إنّما هو من أجل القبح المسبّب عن التجرّي.

ثالثها : أنّه بناء على حرمة القصد إلى المعصية من باب التجرّي كما هو قضيّة طائفة من الأخبار وجملة من الآيات ، لا بدّ من أن يحكم بحرمة التجرّي بالفعل مطلقا من باب الأولوية ؛ لأنّ القصد إلى المعصية من أدنى مراتب التجرّي ، هذا.

ولكنّه لا يخفى عليك ما فيه.

ومثله ما يقال : من أنّ قبح التجرّي دائما من جهة القصد إلى المعصية ، فيلزم الحكم بحرمة التجرّي مطلقا على ما يظهر من كلام شيخنا في « الكتاب » من الإستناد إلى القصد.

__________________

(١) أي : ثاني الإشكالات المزبورة.

١٢٧

علاج الأخبار الواردة في عقوبة قاصد المعصية

والدالة على العفو عنه

إذا عرفت ما قدّمنا لك من الاشكالات ، فنقول :

أمّا دلالة ما أورده ( دام ظلّه ) على المؤاخذة بالقصد إلى المعصية من الآيات والأخبار فممّا لا أشكال فيها في الجملة وإن كان قد يتأمّل في دلالة بعضها ، إنّما الاشكال فيما وعدناك من العلاج بينها وبين ما دلّ على العفو.

فنقول : أنّ التوفيق بينهما بأحد الأمرين اللّذين ذكرهما ( دام ظلّه ) في « الرسالة » :

أحدهما : حمل ما دلّ على العفو على القصد المجرّد ، وحمل ما دلّ على عدمه على القصد مع الاتيان ببعض مقدّمات فعل الحرام بقصد ترتّب الحرام.

ويشهد لهذا الجمع ما دلّ على حرمة الاعانة على المحرّم بناء على ما ذكره بعض الاساطين ممّن تأخّر (١) : « من شموله لاعانة نفسه على الحرام ».

وهذه الاستفادة وان كانت خلاف ظاهر ما دلّ على حرمة الاعانة على المحرّم بمقتضى الدّلالة اللفظيّة من حيث إنّ ظاهره إعانة الغير على الحرام ، إلاّ أنّه قد يقال بشموله لاعانة النفس بتنقيح المناط ، وهو أنّ الوجه في نهي الشارع عن إعانة الغير على الحرام هو مبغوضية التّسبّب لايجاد الحرام في الخارج ، وان كان

__________________

(١) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء في شرحه على القواعد ( مخطوط ) الورقة ١٦.

١٢٨

هذا أيضا لا يخلو عن تأمّل ظاهر. نعم ، قد يجعل الاجماع على العفو من القصد المجرّد شاهدا لهذا الجمع ، فتدبّر.

ثانيهما : حمل ما دلّ على العفو على القصد الّذي ارتدع عنه القاصد بنفسه ، وما دلّ على عدمه على ما إذا بقي على القصد حتى حصل له العجز عن الفعل لا باختياره ، ولو لم يفعل بعض مقدّمات الفعل أيضا ، والمراد من الارتداع بنفسه ليس هو الرجوع اليه والانابة عن القصد ، فانّه عين الالتزام بحرمة القصد إلى الحرام ، بل مجرّد الارتداع عنه بأيّ داع كان.

وهذا الوجه من الجمع كما ترى لا شاهد له أصلا.

وكيف كان : لا إشكال في عدم حرمة القصد المجرّد ؛ لأنّه ممّا انعقد الاجماع عليه ظاهرا ونطقت به الأخبار بالصراحة فلا يمكن الحكم إذن بحرمته ، فتعيّن إذن التصرّف فيما دلّ على حرمته مطلقا. وليس المقام ممّا يجوز الرّجوع فيه إلى المرجّحات السّنديّة وغيرها أيضا ، بل يتعيّن التصرف في الدلالة والظهور بما كان قريبا ، وإلاّ فلا بدّ من الحكم بالاجمال بالنّسبة إلى غير ما تيقّن ارادته والرجوع إلى الاصول العمليّة على ما هو الشأن في جميع صور تعارض ما لا يجري فيه الطّرح بحسب السند هذا.

وهنا : جمع آخر لم يشر اليه الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) له : وهو حمل ما دلّ على العفو على نيّة المؤمن وحمل ما دلّ على عدمه على نيّة الكافر ، ويشهد له بعض الاخبار أيضا.

ولكنّك خبير : بأنّ حمل ما دلّ على المؤاخذة على نيّة الكافر لا يتمشّى بالنّسبة إلى جميع ما دلّ عليها وكيف يحمل قوله : ـ « إذا التقى المسلمان

١٢٩

بسيفهما ... » الحديث (١) ـ على ما ذكر مع أنّه صريح بخلافه كما لا يخفى؟

نعم ، في دلالة جملة من الآيات والأخبار المستدلّ بها على الحرمة مناقشة واضحة فراجع.

إستظهار حرمة التجرّي مطلقا من بعض الأدعية المأثورة

وهيهنا شيء ينبغي التنبيه عليه :

وهو أنّه قد يستدلّ على حرمة التجري بقول مطلق بما ورد في الأدعية الكثيرة (٢) من طلب العفو عنه ؛ فانّها مشحونة بالاستعفاء عن التجرّي ، فيجعل هذا كاشفا عن حرمة التجرّي عند الشارع ولو لم يحكم به العقل ، فهذا مسلك آخر في الحكم بحرمته لا دخل له بحكم العقل ، حتى يقال : أنّ المذمّة العقلية انّما ترجع إلى الفاعل لا إلى الفعل هذا.

ولكن يمكن الجواب عن الاستدلال بهذا الدليل : بانّه لم يظهر من الأدعية المشتملة على طلب العفو عن التجرّي كون التجرّي من حيث هو هو ، حتّى فيما لم يطابق المعصية مقصودا لطلب العفو ، بل الظاهر منها طلب العفو عمّا يكون مطابقا

__________________

(١) التهذيب : ج ٦ / ١٧٤ ـ ٣٤٧ ـ ٢٥ ، عنه الوسائل : ج ١٥ / ١٤٨ باب ٦٧ من باب جهاد العدو ـ ح ١ ، وأورده الصدوق في العلل بطريق آخر. أنظر علل الشرائع : ج ٢ / ٤٦٢ باب ٢٢٢ ، باب النوادر ـ ح ٤.

(٢) كما في الدعاء (٣٧) من الصحيفة السجادية وهو دعاء الشكر حيث يقول الإمام صلوات الله تعالى عليه : « ولقد كان يستحقّ في أوّل ما همّ بعصيانك كلّ ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك ».

١٣٠

للمعصية بحيث يرجع طلب العفو إلى طلبه عنها حقيقة لا عنه ، فتأمّل.

كما أنّه قد يستدلّ على حرمته أيضا بما أورده شيخنا ( دام ظلّه ) في هامشه من الرّواية الواردة (١) في الرّجلين النّاظرين إلى الفجر ؛ حيث أنّ حكمه عليه‌السلام بحرمة الإفطار على الذي زعم طلوع الفجر بقول مطلق ـ من غير تقييد بصورة مطابقة الاعتقاد للواقع ـ يكشف عن حرمة التجرّي ، فتأمّل.

اللهم إلاّ أن يقال : بأنّ للعلم موضوعيّة في مسألة الصّوم ، كما يظهر من الآية الشريفة المرخّصة للأكل إلى غاية التبيّن ، فجواز الأكل في حقّ من لم ير الفجر حكم واقعي ، كما أنّ عدم الجواز في حقّ الرائي أيضا واقعي.

إلاّ أن يقال : أن أخذ التبيّن من جهة الطريقية لا الموضوعيّة وإلاّ لم يكن فرق في القضاء عند كشف وقوع الإفطار في النهار ممّن أفطر شاكا بطلوع الفجر بين الفحص وعدمه ، فتدبّر.

(٢٢) قوله : ( ثمّ إنّ التجري على أقسام ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٨ )

في بيان أقسام التجرّي موضوعا وحكما

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد علم من كلامه ( دام ظلّه ) بعض الأقسام السّتة وهي الثلاثة الأول ، وأمّا الثلاثة الأخيرة ، فلمّا لم تعلم منه فاراد بيانها موضوعا وحكما بهذا الكلام.

__________________

(١) الكافي : ج ٤ / ٩٧ باب « من أكل أو شرب وهو شاك في الفجر أو بعد طلوعه » ـ ح ٧ وأورده في الفقيه : ج ٢ / ١٣١ ـ ح ١٩٣٨ ، وكذا في التهذيب : ج ٤ / ٣١٨ ـ ح ٩٦٧ من باب الزيادات ، عنها الوسائل ج ١٠ / ١١٩ باب ٤٨ ـ « انه إذا نظر إثنان الى الفجر ... » ـ ح ١.

١٣١

ثمّ إنّه لا بدّ من أن يجعل المراد من الاحتمال الأعمّ من الظّن والشكّ والوهم حتى يشمل الأوّلين أيضا وإلاّ فالاقسام تزيد على ما ذكره ( دام ظلّه ) بكثير كما لا يخفى على الفطن.

ثمّ انّه لا إشكال فيما ذكره ( دام ظلّه ) بقوله : « ويشترط في صدق التجري ... » إلى آخره (١).

ضرورة أنّ مع كون الجهل عذرا ، إمّا بحكم العقل أو النّقل لم يكن هناك إحتمال المعصية حتى يتحقق فيه التجري ؛ لما قد عرفت مرارا : أنّ المعصية وإحتمالها لا يتحقّق إلاّ مع منجز الخطاب وإلاّ لم يتحقّق إحتمال المعصية قطعا وإن تحقق إحتمال المخالفة للخطاب النفس الأمري إلاّ أنّه بنفسه لا يتنجز على المكلّف ما لم يتحقّق العلم به ، أو ما يقوم مقام العلم.

نعم ، فيما لا يكون الجهل عذرا مطلقا لم يكن إشكال في تحقّق التجرّي بأيّ نحو أقدم بالفعل كما في موارد تنجّز الخطاب بالعلم الإجمالي مثل الشبهة المحصورة الوجوبيّة أو التحريمية مع وجود شرط تنجّز الخطاب فيها ، وكما في الشبهة الابتدائية قبل الفحص في الشبهة الحكميّة فما ذكره ( دام ظلّه ) من المثال فانّما هو مثال للنفي على ما يقتضيه المقام ، لا للمنفي كما ربّما توهّم من العبارة في بادىء النظر.

ثمّ انّه قد سلك ( دام ظلّه ) هذا المسلك من الحكم بتعميم التجرّي للشك في الجملة في غير موضع من « الكتاب » إلاّ أنّه صرح في أواخر أصالة البراءة بعدم تحقّق التجرّي في حقّ الشاك المقصّر الذي ترك الفحص ولم يأخذ بالطريق

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٩.

١٣٢

الشرعي ، وما ذكره هنا من الحكم بالتعميم هو الصّواب الذي لا محيص عنه كما هو واضح.

(٢٣) قوله : ( وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٠ )

أقول : أمّا كون الحكم بكون المتجرّي مستحقّا للعقاب المتوسط بين الصغيرة والكبيرة تحكمّا وتخرّصا على الغيب فممّا لا شبهة فيه.

وأمّا كون الحكم بفسقه تحكمّا وتخرّصا على الغيب ، فقد يقال : إنّه ممّا لا يظهر له وجه ، بل الوجه هو الحكم بكونه فاسقا إذا كان التجرّي على إرتكاب ما يوجب الفسق ، وان قلنا بعدم استحقاقه للعقاب أصلا ؛ نظرا إلى كشفه عن عدم وجود الملكة الرّادعة له بناء على كون الفسق نقيضا للعدالة بمعنى الملكة الرادعة.

نعم ، لا إشكال في عدم الحكم بفسقه إذا كان متجرّيا بما لا يكون ارتكابه موجبا للفسق كما في الصغائر ، وان قلنا باستحقاق العقاب على التجرّي ؛ إذ التجري على المعصية لا يكون أولى من إرتكاب نفس المعصية.

كما أنّه لا إشكال في الحكم بعدم كونه فاسقا لو بنى على كونه بمعنى الخروج عن طاعة الله بفعل الكبائر كما هو واضح.

ثمّ إنّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره (١) في وجه كلام بعض الأصحاب لا يخلو عن نظر ؛ فانّ القصد إلى الحرام مع العلم بالإباحة والالتفات ممّا لا يتصوّر ، بل قد يقال بتطرّق الاشكال فيما أفاده قدس‌سره في صور محلّ النّظر ؛ حيث أنّ القصد إلى الحرام مع الظّن أيضا لا يخلو عن إشكال إلاّ أن يكون مراده من الظّن والزعم ، العلم فتأمّل.

__________________

(١) انظر القواعد والفوائد : ج ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

١٣٣
١٣٤

التنبيه الثاني :

القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة

(٢٤) قوله : ( وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١ )

في بيان ما ذهب اليه الأخباريون في مسألة القطع (١)

__________________

(١) قال المحدّث النوري ( تلميذ الشيخ الأعظم قدس‌سره ) في الفائدة الحادية عشرة من فوائده التي أوردها في خاتمة مستدركة :

« إن ما نسب إلى أصحابنا الأخباريين من إنكارهم حجّيّة القطع الحاصل من العقل خلاف ما يظهر من كلماتهم.

وقد إشتهرت هذه النسبة في عصرنا بين طبقات أهل العلم ، والأصل في هذا الإشتهار كلام الشيخ الأعظم الأنصاري أعلى الله تعالى مقامه في رسالة حجّيّة القطع فيما أورده في التنبيه الثاني منها ».

إلى أن قال :

« وظاهر أن مورد كلام السيّد الجزائري والمحدّث البحراني ، ما ذكره المحدّث الأستر آبادي ، فإن ظهر من كلماته في الفوائد المدنيّة : ان مراده مما نفاه من حجّيّة إدراكات العقل هو الإدراك الظنّي والإستنباطات الظنّيّة في نفس الأحكام الشرعيّة ، يكون مرادهما أيضا ذلك ، فلا أصل لهذه النسبة ولا محلّ لما أورده عليهم واستغرب منهم ».

١٣٥

__________________

ثمّ ذكر المواضع الساقطة من عبارة الفوائد المدنيّة ـ والتي كان قد اختزلها المحقق المحشي على المعالم في هدايته روما للإختصار ـ واستفاد منها : أن مقتضى ما أفاده الأسترآبادي هو عدم جواز الإعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى سواء كان ظني الدلالة أو الطريق أو كليهما. حيث قال : « وصريح كلامه : أن الذي نفاه من الحجّيّة إدراكه الظنّي ، بل لا يرى للعقل إدراكا قطعيّا في إستنباط الأحكام الفرعيّة كما يظهر من إستشهاده بكلام العضدي وإرتضاءه به.

أرأيت من يجعل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم من الظنّيّات التي منشأها الشهرة ـ مع أنه من المصاديق الواضحة للمستقلاّت العقليّة القطعيّة ـ يعتقد له إدراكا قطعيّا فيما دونه؟! فالنزاع في الحقيقة صغروي ويؤيّده ما يأتي من كلماتهم ما هو صريح في حجّيّة إدراكه القطعي.

والعجب أنه يصرّح بأن مقتضى هذا الدليل عدم جواز الإعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى ثمّ ينسب إليه : أن مقتضاه عدم حجّيّة حكم العقل القطعي بل يجعل مقالته أصلا لكلمات من تبعه. ولكنّه ( الشيخ الأعظم ) أعلى الله مقامه معذور لأنه لم يكن عنده كتاب الفوائد وإنّما نقله عن حاشية فخر المحققين محمّد تقي الإصفهاني على المعالم وكذا ما نقله عن السيّد الجزائري كما لا يخفى على من راجعهما ».

ثمّ نقل عن الفوائد ما يفيد الإشارة إلى كون حكم العقل القطعي حجة عنده ونفي الإستنباطات الظنّيّة لاحظ من أجل ذلك الفوائد المدنية ط جماعة المدرسين / ٢٥٤ ـ الدليل الأوّل من الفصل الثاني.

ثمّ نقل عدّة مواضع من كلمات الأسترآبادي في فوائده تأييدا لمراده ، إلى أن قال :

« إلى غير ذلك من كلماته التي توجد في كتابه متفرّقا مما لا حاجة إلى نقلها مما هو صريح في أن مراده مما نفاه : إدراك العقل الظني الذي يعبّر عنه بالإستنباطات الظّنيّة وأنه لا يرى له

١٣٦

أقول : هذا التفصيل كما ترى يرجع إلى التفصيل باعتبار السبب وأنّ القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة أو العقلية الضّروريّة حجّة ، دون الحاصل من المقدمات العقليّة الصّرفة مطلقا أو في الجملة على إختلاف بين المفصّلين.

وهو مبنيّ على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع باعتبار ، كما يظهر من بعض كلماتهم وإستدلالاتهم مع تسليم حصول القطع من حكم العقل بحكم الشرع من البرهان العقلي الذي أقاموه على الملازمة بين الحكمين.

ولذا عدّهم جماعة من المحقّقين مخالفين في مسألة الملازمة ، وعلى نفي وجوب إطاعة الحكم الشرعي المستكشف من الدليل العقلي باعتبار آخر كما يظهر من كلماتهم الآتية.

__________________

إدراكا قطعيّا في استنباط الأحكام الفرعيّة ولو فرض وجوده فيها فهو حجة عنده ».

انتهى. خاتمة المستدرك : ج ٩ / ٣٠٣ ـ ٣١٨ ثمّ أورد تصريح المحدّث الجزائري بوجوب تأويل الدليل النقلي إذا تعارض مع الدليل العقلي ذي المقدمات البديهيّة. ثمّ ذكر تصريح صاحب الوسائل بحجّيّة حكم العقل إذا كان قطعيّا كما في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل ، ثمّ تابع كلماته في الفوائد الطوسيّة واستخلصها فيما يلي بقوله :

« إلى غير ذلك من كلماته التي تنادي بأعلى صوتها : أن ما نفوا حجّيّته حكم العقل الظني ، وأنه لا حكم قطعي له في الفروع وأنه لو فرض وجوده نادرا فهو حجة لا ينفك عنه صدور دليل نقلي وقطعي بالتواتر ». ج ٩ / ٣٢٤

ثمّ نقل عدّة نصوص من المحدّث البحراني من كتابه الحدائق وكذلك الدرر النجفيّة بهذه المناسبة واستخلص من كلامه : بأنه لا يرى للعقل استقلالا وطريقا إلى معرفة الأحكام بالقطع واليقين ، لا أنه يستقل ولا يكون مع ذلك حجة. لاحظ خاتمة المستدرك : ج ٩ / الفائدة ١١ ، ص ٣٠٣ ـ ٣٢٧.

١٣٧

دليل الأخباريين على مختارهم

ثمّ إنّ المحكىّ عنهم في الاستدلال على ما ذهبوا اليه وجوه ، عمدتها وجهان :

أحدهما : كثرة وقوع الغلط والاشتباه في المقدّمات العقليّة فلا يمكن الركون اليها في استنباط الاحكام الشرعيّة. وبعبارة أخرى : التعويل في إستنباط الحكم الشرعي على المقدّمات العقليّة الغير الضّرورية ، مستلزم لتفويت الواقع كثيرا فلا بدّ من أن لا يكون جائزا.

وهذا الدليل كما ترى يرجع إلى الاستدلال بحكم العقل ؛ لأنّ حرمة تفويت الواقع لا يمكن أن تستفاد من نفس الخطابات الواقعيّة من دون انضمام حكم العقل كما هو واضح إلاّ أنّه يمكن ان يدعى أنّه من العقل الضروري. فتأمّل ، أو من حكم العقل في الاصول والممنوع الرّجوع إلى حكمه في الفروع. فتأمّل ، أو أنّ الاستدلال به من باب الإلزام على الخصم ، حيث أنّه يسلّم إعتبار حكم العقل مطلقا ، فتدبّر.

ويمكن ارجاعه إلى ما دلّ من الأدلّة الشرعية على النهي عن العمل بالظّن والرّأى من حيث تفويت الواقع بهما وعدم اغنائهما من الحق ، أو إلى ما ورد في شأن العقل من عدم إصابته للدّين ، فكأنّ الكبرى مسلّمة مفروغ عنها وهي : أنّ كلّ ما يفضي سلوكه إلى خلاف الواقع غالبا ، فلا يجوز الأخذ به ، فالأخبار الواردة في بيان حال التمسك بالعقول ترجع إلى التمسك بالصغرى بضميمة الكبرى المطويّة ، وان كان مقتضى هذا التقريب الرّجوع الى التمسك بالعقل أيضا ؛ ضرورة منافاة مقام الاستدلال للتعبّد هذا.

١٣٨

في الجواب عمّا ذهب اليه الأخباريون

وأجاب الاستاذ العلاّمة : بأنّه إن كان المراد عدم جواز الركون على القطع الحاصل من المقدّمات العقلية بعد حصوله منها.

ففيه : أنّه لا معنى لذلك بعد فرض كون إعتبار العلم من باب الطريقيّة ، وإلاّ لزم التناقض في نظر القاطع في حكم الشارع على ما عرفت بيانه تفصيلا.

ولو أمكن ذلك بالنّسبة إلى القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة أمكن بالنّسبة إلى القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة أيضا ، فيلزم أن يكون العلم إذن مثل الظّن في احتياج الحكم باعتباره إلى قيام دليل من خارج عليه ؛ ضرورة أنّ ما لا يقتضي بالذات شيئا لا يمكن أن يؤثّر فيه وإنّك قد عرفت : أنّ اعتبار العلم ذاتي لا يمكن إقامة البرهان عليه ، فلو أمكن المنع إذن من القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة أمكن بالنسبة إلى القطع الحاصل من الدليل الشرعي الذي أقيم على إعتبار القطع الحاصل منه ، وهكذا بالنّسبة إلى دليله ودليل دليله فيلزم التسلسل هذا ، وهو المراد بقوله : « إلاّ يجري مثله ... » (١) إلى آخره.

وإلاّ لم يكن مجرّد إمكان المنع في القطع الحاصل من المقدّمات النقليّة نقضا عليهم ، أو لهم أن يسلّموا الامكان فيه ويثبتون الفعلية بالنّسبة إلى القطع الحاصل من الدليل الشرعي بالدّليل الشرعي.

وإن كان المراد عدم جواز الخوض في المقدّمات العقليّة لتحصيل القطع

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥١ وفيه : « ولو أمكن الحكم بعدم إعتباره لجرى مثله ... ».

١٣٩

منها بالحكم الشرعي الفرعي ـ وإن لم يمكن النّهي عن العمل بالقطع بعد الحصول ـ ففيه : أنّ هذا على تقدير ثبوت كون وقوع الخطأ في فهم المطالب من المقدّمات العقليّة أزيد ممّا يقع من الخطأ في فهم المطالب من المقدّمات الشرعيّة أمر مسلّم لا شبهة فيه أصلا.

إذ العقل مستقلّ بوجوب تحصيل الواقع مهما أمكن ولا يجوز الأخذ بما يوجب تفويته في الجملة مع إمكان سلوك ما لا يحصل معه فوات الواقع أصلا ، أو يحصل أقلّ ممّا يحصل من سلوك الطريق الآخر ، إلاّ أنّ الشأن في إثبات هذا المبنى وهو في حيّز المنع.

لأنّا نمنع من كون وقوع الخطاء في فهم المطالب من الدليل العقلي أزيد من وقوع الخطأ في فهم المطالب من الدليل الشّرعي إذا لم يكن مبنيّا على الاستبداد في فهم المناط للحكم الشرعي والانتقال منه اليه بطريق اللّم ، بل مبنيّا على التّحسين والتقبيح العقليّين بحيث يحكم بهما العقول المتعارفة عند العرض عليها.

وإن استشهد لذلك بكثرة وقوع الاختلاف بين علماء الاسلام (١) فيما يكون

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الشيخ محمّد هادي الطهراني ( أحد عباقرة شركاء بحث الشيخ الأعظم قدس‌سره ) :

« لا يخفى على من له أدنى خبرة بالفقه أن الإختلافات فيه ليست مستندة إلى الإختلاف في المقدّمات العقليّة ، بل إنما نشأت من الإختلاف في الدلالة أو السند أو الترجيح وقد يستند إلى الإختلاف في الأصول العقليّة وهو في غاية الشذوذ وليس هذا من ضمّ العقل إلى النقل بل إنّما هو في مقام قصور اليد عن النقل ، مع أنك قد عرفت : أن العقل هو المرجع في تلك

١٤٠