بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ١

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-280-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٥٥٧

ذلك في طرف الثواب والعقاب بحدّ التواتر هذا.

مع إمكان أن يقال : أنّ الاستدلال بهذه الاخبار في المقام نظير استدلال الفقهاء في الموارد الكثيرة على التحريم والوجوب بالأخبار الواردة في بيان العقاب على الفعل والترك ، فيستكشف من هذه الأخبار : أنّ تأسيس السّنّة السّيّئة مثلا قبيح وحرام من حيث هو ، وان كان نفس فعل السّيّئة أيضا حراما.

نعم ، قد يستشكل في استدلاله ( دام ظلّه ) للمدّعى بما دلّ على تفاوت الثواب من جهة الأمر الغير الأختياري : بأنّ إناطة الثواب بالأمر الغير الإختياري ممّا لا ضير فيه ؛ فانّ الثواب من جهة الأمر الغير الأختياري ليس ممّا يحكم العقل بقبحه على الحكيم ( تعالى ).

مضافا إلى مقتضى ما ورد في باب المجتهد : من « أنّ للمصيب أجرين » (١) ؛ فان الثواب الزايد للمصيب من جهة الاصابة التي ليست من الامور الاختيارية قطعا ، فلا يقال في المقام بمثل ما مثّلناه في الجواب عن الوجه الرابع من رجوع العقاب إلى الفعل الأختياري ومعصية المولى ، فيقال في المقام أيضا : أنّ الثّواب راجع أيضا إلى ادراك الواقع اختيارا واطاعة الأوامر الدالة على وجوب تحصيل الحكم الواقعي النفس الأمري هذا.

__________________

(١) لم نجد لهذا الخبر أثرا في تراث مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وإن اشتهر على الألسنة شهرة واسعة ، نعم ، ورد في جملة من مصادر العامة منها : مسند أحمد بن حنبل : ج ٤ / ١٩٨ و ٢٠٤ ، وصحيح البخاري : ج ٨ / ١٥٧ ، وصحيح مسلم : ج ٥ / ١٣١ ، وسنن ابن ماجه : ج ٢ / ٧٧٦ ، وسنن أبي داوود : ج ٢ / ١٥٨ ، وسنن الترمذي : ج ٢ / ٣٩٣ ، وسنن النسائي : ج ٨ / ٢٢٤ ، والسنن الكبرى للبيهقي : ج ١٠ / ١١٨ وعشرات غيرها من مصادرهم.

١٠١

وقد يذبّ عن الاشكالين :

أمّا عن الأوّل : فبأنّ استحقاق الثواب على الفعل لا يمكن إلاّ أن يكون إطاعة ، ومن المعلوم عدم تحقّقها إلاّ مع الإختيار ؛ لعدم جواز تعلّق الأمر بالفعل الغير الأختياري حتى يكون الاتيان به إطاعة ، كما لا يجوز تعلّق النهي به حتى يكون الاتيان به معصية ، فاستحقاق الثواب كاستحقاق العقاب لا بدّ أن يكون على الفعل الاختياري.

بل قد يقال : إنّ الثواب من باب التفضّل أيضا يحتاج إلى فعل اختياري يكون محبوبا للمولى وإلاّ لم يكن معنى للتفضّل ؛ فانّه يوجب الترجيح بلا مرجح ، فالتفضل انّما هو بالنّسبة إلى مرتبة الثواب الذي يستحقّه العبد بواسطة الفعل الاختياري ، فالزيادة على المقدار الذي يستحقه العبد تكون تفضّلا.

ومن هنا يدفع ما يقال على ما ذكرنا في دفع الاشكال : بأنّ استحقاق الثواب لا يكون إلاّ على الاطاعة لا الثواب تفضّلا الذي يحتمل أن يكون المراد من الاختيار فتأمّل.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ المقدار الزائد من الثواب انّما هو على اطاعة أوامر وجوب تحصيل الحكم النفس الأمري ، ويمكن فرض نوع إختيار فيه وإلاّ كان الأمر به قبيحا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لا معنى لما دلّ على وجوب تحصيل الحكم الواقعي إلاّ تحصيل العلم به أو الظّن والمفروض مساوات المجتهدين فيه ، فتدبّر.

١٠٢

(١٧) قوله : ( إلاّ أن يقال : أنّ ذلك في المبغوضات العقلائية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١ )

أقول : أراد بذلك منع كون زيادة الذم من المولى وتأكده من العقلاء بالنّسبة إلى من صادف قطعه الواقع من جهة نفس المصادفة من حيث إشتمالها على مخالفة الواقع على تقدير الارتكاب ، بل من جهة أنّ الوقوع في مخالفة الواقع في المبغوضات العقلائية مستلزم لحدوث عنوان آخر موجب للذّم أيضا ، وهي الأذيّة النفسانية بالنّسبة إلى المولى ؛ حيث إنّ المبغوضات العقلائية مبنيّة على ما يرجع إلى المولى من المفاسد النفسانية ، بل نفس مخالفة الموالى العرفية مستلزمة للأذيّة بالنّسبة اليهم لا محالة كما هو واضح ، فزيادة العقاب انّما هو من جهة التشفّي الحاصل لهم بعد الأذيّة.

وهذا بخلاف مبغوضات الحكيم ؛ فانّها كلّها مبنيّة على ما يترتب إلى نفس العباد من المفاسد ، بل كفر جميعهم لا يضرّ شيئا بساحة جلاله فضلا عن عصيانهم ، فلا يعقل هنا أذيّة وتشفّ حتى يحكم بانّ زيادة الذم ، لهما تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولازم ذلك كما لا يخفى مساواتهما في مقدار استحقاق المذمّة بالنّسبة إلى مبغوضات الحكيم.

(١٨) قوله : ( فتأمّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١ )

أقول : يحتمل أن يكون الوجه في التأمّل منع كون زيادة الذّم من جهة التشفّي المستحيل في حقّ الحكيم تعالى ، بل من جهة إرتكاب نفس المبغوض الواقعي ؛ حيث أنّ القاء النفس في المهلكة والمضارّ مع الاختيار قبيح وموجب للذم عند العقلاء ، مع قطع النّظر عن كونه ممّا نهى عنه المولى هذا.

مضافا إلى أنّ الدليل المذكور يضرّ المستدلّ قطعا ؛ حيث إنّ المدّعى عدم

١٠٣

الاستحقاق في المخطىء أصلا ورأسا ، لا الفرق في مرتبة الاستحقاق ؛ فانّها ليست من محلّ النّزاع والكلام قطعا ، بل للخصم أن يستدل باعتراف المستدلّ على بطلان مذهبه ، اللهم إلاّ أن يقال : إنّ الغرض مجرّد إبطال دعوى عدم تاثير الإصابة والذّم المسلّم في المخطىء انّما هو من حيث الفاعل لا على الفعل هذا.

واعلم انّه كما يستدل بالدليل العقلي المذكور على القول باستحقاق المتجرّي العقاب كذلك قد يستدل به على بطلان القول بأنّ التجري موجب لاستحقاق العقاب مستقلاّ على ما هو لازم القول به ، وإن لم يلتزم به بعض القائلين على خلاف التحقيق الذي ستقف عليه إنشاء الله تعالى ؛ لأنّ لازم القول بتعدد العقاب بالنّسبة إلى من صادف قطعه الواقع هو الالتزام بكون أحد الاستحقاقين من جهة مخالفة الواقع الحاصلة من المصادفة التي ليست من الامور الاختيارية على ما هو مبنى الاستدلال بالدليل المذكور.

(١٩) قوله : ( وقد يظهر من بعض المعاصرين التفصيل في صورة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١ )

أقول : المعاصر صاحب « الفصول » ، ذكر ما نقله الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) عنه في باب الاجتهاد والتقليد عند الكلام في معذوريّة الجاهل في بحث التقليد حيث قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

وأمّا بالنّسبة إلى المحرمات فينبغي القطع بعدم استحقاق الاجر لا سيّما إذا كان من الكبائر كما لو اعتقد الوثني وجوب عبادة الاوثان أو المخالف وجوب عبادة مشايخه ؛ فانّه لا يستحق الثواب بعمله قطعا هذا إذا اعتقد الوجوب أو الندب ، وأمّا إذا اعتقد التحريم فلا يبعد استحقاق العقوبة بفعله وان كان بطريق غير

١٠٤

معتبر ؛ نظرا الى حصول التجرّي بفعله إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة » (١) الى آخر ما حكاه عنه في « الكتاب ».

وحاصل ما ذكره قدس‌سره من التفصيل : هو أنّ المكلّف إذا اعتقد بحكم الزامي سواء كان بالاعتقاد الجزمي أو الظّني المعتبر فلا يخلو الأمر : إمّا أن يكون موافقا للواقع والنفس الأمر أو مخالفا له. وعلى الثاني : لا يخلو إمّا أن يكون مصادفا لحكم الزامي ضدّ ما اعتقده أو غير الزامي ، وعلى الأوّل من القسمين الاخيرين لا يخلو أيضا : إمّا أن يكون اللّزوم فيه تعبديّا لا يسقط إلاّ بالاطاعة الغير المحقّقة بدون قصد التقرّب والامتثال ، أو توصليا لا يشترط في سقوطه ذلك.

فان كان موافقا للواقع فليس عليه إلاّ عقاب واحد ، وان كان مخالفا للواقع فان صادف الحكم الغير الالزامي أو الالزامي التعبدي فيحكم باستحقاق العقاب على مخالفة مطلق التجري وان كان بالنّسبة إلى بعض أقسامه أشدّ وآكد ، وان صادف الحكم الالزامي التوصّلي فيحكم بعدم استحقاقه العقاب مطلقا أو في بعض الصور كما فيما إذا كان ما للتجرّي من جهة القبح أقوى ممّا للحكم الالزامي الواقعي من جهة الحسن ، هذا حاصل ما يظهر منه من التفصيل في المقام.

وكلامه المنقول في « الكتاب » كما ترى وان كان في خصوص اعتقاد التحريم الغير الموافق للواقع إلاّ أنّ من المعلوم عدم فرقه بين التحريم والوجوب كما هو واضح ومن هنا نسبنا التفصيل بما عرفت اليه ، مع أنّ كلامه لم يكن وافيا به ومساعدا عليه.

__________________

(١) الفصول : ٤٣١.

١٠٥

نعم ، الظّاهر من بعض أمثلته في طيّ كلامه هو كون المراد الأعمّ كما لا يخفى.

نعم ، ذكر في باب التقليد في فصل معذوريّة الجاهل ـ قبل هذا الكلام المنقول عنه في « الكتاب » ـ : انّه لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب فان كان من طريق معتبر كان مستحقّا للثّواب ولو صادف الحرام الواقعي ، وان لم يكن من طريق معتبر لا يستحقّ الثّواب اذا صادف الحرام قطعا ، ويستحقه على اشكال اذا صادف غير الحرام (١). هذا حاصل كلامه ولا دخل له بالمقام أصلا ، وان كان لا يخلو عن مناقشة كما ستعرف ان شاء الله تعالى.

ثمّ انّ مدرك هذا التفصيل على ما يفصح عنه كلامه قدس‌سره عدم كون قبح التّجرى ذاتيّا مستحيل الانفكاك عن الذات حتّى لا يتفاوت الامر بين صور المصادفة مع غير الحرام بل الوجوه والاعتبارات المنضّمة اليه ، فالتجرّى الغير المصادف للاتيان بالواجب الواقعي الغير المشروط بقصد التّقرب قبيح والتّجرى المصادف له غير قبيح ، مؤيدا ذلك ببناء العقلاء على عدم استحقاق المتجرّي المؤاخذة على فعله في القسم الاخير اذا اطّلعوا عليه كما يظهر ممّا ذكرنا من المثال العرفي وغيره. بل استحقاقه المدح في بعض الصّور من غير فرق في ذلك بين التّجري بارتكاب ما يقطع بحرمته وبين ما أدّى الطريق المعتبر إلى حرمته وإن لم يجوّز العقل التجري لمن قام في حقه الطريق باحتمال خطأه ومصادفته لما يكون العبد بفعله معذورا من جهة استقلاله بوجوب دفع الضّرر المظنون وإختيار ما يقطع معه بالسّلامة هذا.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ص ٤٣١ وأنظر أيضا ص ٣٠١.

١٠٦

وأورد الاستاذ العلاّمة عليه بوجوه من الايرادات :

الأوّل : أنّه لا معنى لمنع كون قبح التجري ذاتيا ، بل بالوجوه والاعتبار ؛ فانّا وان لم نقل بكون الحسن والقبح ذاتيّين في جميع الأفعال إلاّ أنّا لا نقول بكونهما إعتباريّين كذلك أيضا ، بل يختلفان بحسب المقامات كما إختاره هذا المحقّق المفصّل أيضا في مسألة التّحسين والتقبيح العقليّين.

والتجرّي على المولى ممّا يستقلّ العقل بقبحه ذاتا سواء كان على المنكشف أو الكاشف وان هو من هذه الجهة إلاّ كالظّلم الذي يستقلّ العقل بقبحه ذاتا ، بمعنى عدم انفكاك ذات الظلم أينما تحقّقت عن القبح ، فالاذيّة إن لم تكن قبيحا لم تكن ظلما كضرب اليتيم للتأديب وأكل مال الغير تقاصّا.

بل التحقيق : أنّ التجري على المولى يشبه الظّلم عليه ؛ لأنّ الظلم عبارة عن فعل ما لا يجوز بالنّسبة إلى المظلوم ، ومن المعلوم أنّ التجري على المولى كمعصيته ممّا يستقلّ العقل بكونه ظلما عليه من حيث إنّ [ من ](١) حقّ المولى على العبد أن يطيعه و [ ينقاد إليه ](٢) وليس الظّلم عبارة عن خصوص الضرب أو الشتم أو أكل مال الغير بغير حقّ ، حتى يقال بعدم شموله للتجري على معصية المولى هذا.

ولكن قد يقال : بأنّ البناء على كونه ملحقا بالظّلم بالمعنى الذي عرفته ربّما ينافي عدم حرمته ؛ إذ كيف يمكن الجمع بين كون التجرّي قبيحا ذاتا كالظّلم

__________________

(١) زيادة يقتضيها سياق الكلام.

(٢) في الأصل ( ينقاده ) والصحيح ما أثبتناه.

١٠٧

والقول بعدم حرمته؟ حيث إن لازمه أن يكون من مقولة الفعل لا من مقولة الاوصاف ، فالالتزام بهما ممّا لا يمكن ، وإلاّ كان قولا بالمتنافيين وجمعا بينهما هذا.

ودعوى : امكان القول بكونه من قبيل المعصية في كونه ظلما على المولى وعدم كونه حراما من حيث تحقّقه بالقصد المجرّد أيضا ، بل حقيقته متقومّة به دائما ، كما ترى ؛ ضرورة أنّ القصد أيضا من الأفعال المتعلّقة للتكليف غاية الأمر كونه من أفعال القلب لا الجوارح فتأمّل.

في توضيح أن التجرّي إذا لم يكن علّة تامّة للقبح

فلا أقل من أن يكون مقتضيا له

الثّاني : أنّه لو سلّم أن التجرّي ليس قبيحا ذاتا ، لكنّه ليس من الأفعال التي لا تتّصف بالنظر إلى أنفسها في حكم العقل بالحسن والقبح ، بل يحتاج اتصافها بهما إلى انضمام ما يقتضي أحدهما بها من الوجوه والإعتبارات ، بل من الافعال التي تتّصف بالنظر إلى أنفسها بالحسن والقبح مع قابليّة خلوّ الذات عنهما بواسطة عروض الرافع.

وبعبارة أخرى : لو سلّم عدم كون التجري علّة تامّة للقبح ، لكن لا إشكال في كونه مقتضيا له بحيث يحتاج إرتفاعه إلى اجتماعه مع عنوان حسن غالب حسنه على قبحه أو مساو له ، وليس ممّا لا يقتضي بالنظر إلى أنفسها شيئا.

توضيح ما ذكره : أنّ القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين إختلفوا بعد اتفاقهم على ثبوتهما في الجملة في كونهما ذاتيّين في الأفعال ، بمعنى كون الذّات

١٠٨

علّة تامة لهما مطلقا على ما هو معنى الذاتي ، حيث أنّه ما لا يتخلف عن الذات أو بالاعتبار مطلقا بمعنى عدم إقتضاء ذات الأفعال شيئا منهما نظير عدم إقتضاء ذات الممكن شيئا من الوجود والعدم ، أو التفصيل بين القبح والحسن أو التفصيل بين الافعال ، بمعنى كونهما في بعضها من الذاتيات بمعنى العلّة ، وفي بعضها من الاعتباريات بالمعنى الذي عرفته ، وفي بعضها من الذاتيّات بمعنى إقتضاء الذات لهما لو خلّيت وطبعها بحيث لا ينافي عدم فعليّتهما لمانع يمنع عن تأثير المقتضي.

والذاتي بهذا المعنى أيضا لا يمكن أن يتخلّف عن الذات ؛ ضرورة امتناع تخلّف الذاتي عن الذات مطلقا ، إلاّ أنّ مقتضى الذات قد يكون العلّية ، وقد يكون الاقتضاء والسببيّة. وهذا أمر ظاهر ، وهذا هو المختار للاستاذ العلاّمة من بين الوجوه ، وفاقا لجمع من المحققين.

فلذا ذكر ( دام ظلّه ) : أن التجرّي لو سلّم أنّه ليس علّة تامّة للقبح كالظلم ، فلا أقل من أن يكون مقتضيا له ، كالكذب ، فجعله ممّا لا يقتضي بالنّظر إلى ذاتها شيئا ، ممّا لا وجه له. فاذا ثبت كونه مقتضيا للقبح في نظر العقل ، فلا معنى للحكم بعدم قبحه في مورد إلاّ بانضمام ما يتدارك به قبحه من الحسن الفائق عليه أو المقاوم له ؛ ضرورة أنّ المانع من الجهة العقليّة ليس إلاّ ما يكون من سنخها من حيث الثبوت من العقل حتى يتحقّق التضاد والتمانع.

ومن المعلوم المقرّر في محلّه تفصيلا : أنّ العقل لا يحكم بالقبح أو الحسن بالنّسبة إلى عنوان إلاّ بعد القطع به ، وليس للحكم العقلي واقعية كالحكم الشرعي يتبع العنوان الواقعي المعلوم عند الشارع مع عدم علم المكلّف به ؛ ضرورة أنّ الحكم ليس له واقعية بالنظر إلى نفس الحاكم ، حتى يحتمل ثبوته مع إحتمال

١٠٩

ثبوت موضوعه فضلا عمّا لو اعتقد عدم الثبوت ، فاذا فرض حكم العقل بقبح إرتكاب المضرّ لم يكن معنى للقول باحتمال وجود حكمه مع احتمال الضّرر فيه ، بل مع احتماله يقطع بعدم حكم العقل بقبحه ؛ ضرورة أنّ الحكم من الوجدانيّات للحاكم فاذا كان هذا حال صورة الاحتمال ، فكيف حال ما إذا قطع بعدم وجود الضّرر في شيء مع كونه مضرّا في الواقع؟

نعم ، لو فرض لحوق حكم العقل واقعا لمحتمل الضّرر ، كان حكم العقل موجودا مع الاحتمال لكنّه خروج عن الفرض كما لا يخفى. فنقول في المقام :

إنّه إذا فرض قطع العبد بحرمة شيء أو وجوبه لم يكن ريب في تحقّق التجري على تقدير اتيانه بالفعل في الأوّل وتركه له في الثاني حسبما إعترف به الخصم ، ولا يعقل منعه أيضا. وان صادف إعتقاده في الأوّل واجبا توصّليا وفي الثاني حراما توصّليا يحكم العقل بحسن الاتيان به على التقدير الأوّل وقبحه على التقدير الثاني على تقدير العلم بعنوانهما المقتضي لهما في نظره ، ولا يعقل اتصاف العنوان الواقعي بالحسن في الأوّل والقبح في الثاني حتى يكون مزاحما لعنوان التجرّي المقتضي للقبح في نظر العقل ؛ إذ ليس قبح التجري مقيّدا بعدم ذلك العنوان في الواقع حتّى يكون وجوده الواقعي رافعا لقبح التجرّي ، بل مقيّد بعدم الحسن الفائق على قبحه.

ومن المعلوم عدم عروض الحسن للعنوان الواقعي إلاّ مع العلم ، به إذ الحسن من مقولة الحكم والانشاء للعقل حسبما عرفت ، فلا واقعية له. وليس الحسن والقبح من قبيل المصلحة والمفسدة حتى يكون وجودهما الواقعي تابعا لوجود ما هو الموضوع لهما واقعا ، فاذا قطع العبد بوجوب قتل شخص وانّ المولى أمر بقتله

١١٠

من جهة قطعه بكونه كافرا أو عدوّا للمولى فتجرى ولم يقتله مع مصادفة قطعه لمن يحرم قتله من المؤمن أو الحبيب ، فلا معنى للحكم بارتفاع قبح التجرّي من جهة هذه المصادفة التي لا يترتّب عليها أثر.

ولذا التزم الخصم بأنّه لو قتله كان معذورا ؛ ضرورة أنّ معذوريّته لا تجامع إلاّ مع عدم حرمته وإلاّ فلا معنى للحكم بالعذر ، فترك قتل المؤمن من جهة كونه مجهول العنوان لا يمكن أن يتّصف بحسن حتى يرفع قبح التجري ، كما أنّ فعله من جهة كونه مجهول العنوان لا يمكن أن يتصف بقبح حتى ترفع حسن الانقياد على تقدير اختياره الفعل بعنوان [ الإنقياد للمولى ](١).

فان قلت : ما ذكرته انّما يستقيم على تقدير القطع بعدم تحقّق ما هو المقتضي للحسن وان كان مخالفا للواقع ، وأمّا على تقدير الظن المعتبر به كما إذا فرض قيام الطريق الظني إلى معرفة الكافر أو العدوّ في المثال المفروض فلا معنى للقول باستقلال العقل في الحكم بالقبح مع تجويزه وجود ما يرفعه ؛ ضرورة أنّ المعروض للقبح عند التحقيق هو التجري الغير المصادف لما يصادمه ، فالشك في القيد يوجب الشك في المقيّد ومعه لا يمكن الحكم القطعي بما هو محموله ، غاية الأمر حكم العقل به ظنّا من جهة ظنّه بتحقّق الموضوع فيكون حكمه به إذن حكما ظاهريّا لا واقعيّا ؛ فانّ العقل وان لم يجوّز ضرب اليتيم مع احتمال حصول التاديب ، والكذب مع إحتمال ترتب المصلحة عليه ، إلاّ أن عدم تجويزه ظاهريّ مبنيّ على الظن بتحقّق ما هو المناط ، فلم يبق إذن فرق بين هذا القول والقول

__________________

(١) في الاصل : بعنوان انقياد المولى.

١١١

بتبعيّة الحسن والقبح للوجوه والاعتبار ؛ إذ على القول بالوجوه أيضا يحكم العقل بمقتضى الوجه الذي احرزه للفعل وإن احتمل وجود غيره للفعل ممّا يقتضي ضدّه.

قلت : لا يعقل الفرق فيما ذكرنا بين القطع والظّن المعتبر ؛ إذ مع إعتبار الظّن يقطع بتحقّق التجري بمخالفته ويقطع أيضا بعدم تحقق ما هو الرافع له ؛ إذ قد عرفت : أن الرافع للقبح ليس إلاّ الحسن الذي هو من مقولة الحكم الذي قد عرفت استحالة تعلّق الظّن والشكّ به ؛ نظرا إلى كونه من وجدانيّات العقل ، فمع احتمال وجود ما يحكم العقل بحسنه على تقدير القطع به ، يقطع بعدم وجود الحسن له ، فحكم العقل في الفرض بقبح التجري حكم واقعي ، وليس هذا مختصّا بالمقام ؛ إذ ليس لنا في الاحكام العقلية ما يكون ظاهريا من حيث حكم العقل وان كان حكمه في موارد الاصول العقليّة ظاهريّا من حيث ثبوته لمجهول الحكم الشرعي.

نعم ، قد يحكم العقل على عنوان يوجد في صورة القطع بشيء وفي صورة الشك به ، كما في حكمه بحرمة التشريع بناء على كونه عبارة : عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين ، في الدّين بقصد أنّه من الدّين سواء علم عدم دخوله في الدّين أو شك فيه. ولكن هذا لا دخل له بالحكم الظاهري الذي جرى عليه الاصطلاح كما لا يخفى. ومنه يظهر حال المثالين ؛ فانّا نمنع من كون حكم العقل بعدم التجويز فيهما ظاهريّا ، بل هو واقعي أيضا.

فظهر ممّا ذكر الفرق بين هذا القول والقول بالوجوه والاعتبار ؛ فانّه بناء على القول بالوجوه ؛ يكون أصل المقتضي للقبح في نظر العقل هو التجري الغير المصادف لما فيه مصلحة مزاحمة لقبحه ، فإذا أحتمل مصادفته للواجب الواقعي لا يحكم بالقبح قطعا ؛ لما قد عرفت مرارا : من أنّ العقل لا يحكم بشيء مع عدم

١١٢

علمه بوجود ما هو المناط له وان ظنّ بوجوده.

إذ قد عرفت : أنّ من الظّن بالموضوع أيضا يقطع بعدم حكم العقل ، بل التحقيق أنّ أصل الظّن بالموضوع العقلي ممّا لا معنى له ؛ إذ الموضوع في القضايا العقليّة ليس إلاّ الامور المعلومة دائما ، فالعلم مأخوذ في الموضوع للحكم العقلي في أيّ مورد وجد ، فلا يرد إذن أنّ مع الظّن بالموضوع ـ الذي هو العلّة التّامّة للحكم من حيث أنّ الموضوع في القضايا العقليّة دائما هو المناط الاوّلى ـ كيف يمكن منع الظّن؟

لا يقال : بناء على ما ذكر يلزم كون الموضوع ـ في الحكم الشرعي المستند إلى القضيّة العقليّة ـ هو المعلوم أيضا وإلاّ لم يكن معنى للاستناد إلى القضيّة العقليّة مع أنّ هذا فاسد بالضّرورة.

لأنّا نقول : نلتزم بذلك لكنّه لا بشرط أن يكون معلوما عند المكلّف ، بل عند الشّارع الحاكم فباحتمال كون الشيء مضرّا في علمه مثلا يحتمل الحرمة ، إذ احتمال الضّرر في الواقع لا ينفك عن إحتمال علمه به من حيث كونه عالما بجميع الاشياء وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه إنشاء الله تعالى ، فتبيّن ممّا ذكر : أنّ مع الظّن بالضّرر مثلا لا يعقل الظّن بالحكم العقلي.

نعم ، لمّا كان الظنّ المذكور حجّة شرعيّة يقطع معه بوجود الحكم الظاهري الشرعي ، ولكنّه لا دخل له بالحكم العقلي ؛ إذ اعتبار الظّن عند الشارع لا يمكن أن يحدث حكما عقليا.

نعم ، قد يكون وجود الظن ، موجبا لحكم العقل من جهة كون موضوعه أعمّ من القطع والظّن لكنّه لا دخل له بمسألة الظن بالحكم العقلي.

١١٣

في أن العنوان الواقعي المجهول لا يؤثّر في رفع

قبح التجرّي ردّا على القول به

فإن قلت : هب أنّ العنوان الواقعي من حيث كونه مجهولا لا يتّصف بحسن ولا قبح ـ بناء على ما ذكرت : من عدم عروض الحسن والقبح إلاّ للعنوان المعلوم ـ إلاّ أنه ليس من المستحيل أن يكون في مصادفة التجرّي له شيء يقتضي رفع القبح كادراك المصلحة النفس الامريّة المكنونة في الفعل ، إلاّ أنّ الامور الخارجة عن القدرة لا يمكن أن تؤثّر في المدح والذم وهو في حيّز المنع ؛ إذ كثيرا ما نمدح الشيء ونذمّه بما لا يكون إختياريّا له. وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق المبنيّ على الترديد والدّوران ؛ إذ مبناه على عدم استحالة مدخليّة الأمور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذّم.

قلت : أوّلا : بعد الاعتراف بعدم اتصاف ما يتحقّق في ضمنه التجرّي بالحسن ـ من حيث كونه مجهول العنوان ـ لا يعقل تجويز تأثيره في رفع القبح ؛ إذ المانع من قبح التجرّي في نظر العقل ليس إلا حسن ما يتحقّق في ضمنه ، والمفروض عدم وجوده ، فلو فرض حينئذ عدم ثبوت القبح له لزم انفكاك المعلول عن العلّة ؛ إذ المفروض وجود المقتضي للقبح وهو التجرّي وعدم المانع عنه.

وثانيا : أنّ مدخليّة الأمور الخارجة عن القدرة في المدح والذم لا دخل لها بما هو المقصود بالبحث عنه في المقام من الحسن والقبح ؛ إذ هما من الاحكام العقليّة التي لا تعرض في حكم العقل إلاّ الافعال الاختياريّة القابلة لتعلّق التكليف

١١٤

حتى ينتقل من حكم العقل بالحسن والقبح إلى الوجوب والحرمة مثلا. وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

ثمّ انّ ما ذكر في طيّ تقريب الدليل من قبل المستدلّ من إمكان ابتناء المنع السابق على ما ذكر ، ضعيف جدّا ؛ لوضوح الفرق بين المقامين بما لا يخفى على المتأمّل ؛ فانّ المنع المذكور كان مبناه على منع تأثير الأمر الغير الاختياري في الذم ، وكلام المفصّل مبنيّ على إثبات تأثيره ورفعه للّذم الثابت للأمر الإختياري.

فمع هذا الفرق الواضح بين المقامين كيف يمكن إبتناء المنع المذكور ثمّة على ما ذكر هنا؟

فحاصل الفرق بينهما يرجع إلى أمرين :

أحدهما : أنّ المقام هناك مقام الدفع والمنع ، فيكفي مجرّد المنع والمقام فيما نحن فيه بعد الاعتراف بثبوت القبح لعنوان التجري مقام الرفع ، فلا بدّ [ من ](١) إثباته.

ثانيهما : أنّ المدّعي للفرق في استحقاق الذّم بين الشخصين هناك ، كان منكرا ، والمسلّم بقبح التجري في المقام يكون مثبتا ومستدلا هذا.

ولكنّك خبير بإمكان إرجاع أحد الأمرين إلى الآخر ، فالفرق من جهة واحدة.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده بقوله : « مضافا إلى الفرق بينهما كما لا يخفى

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

١١٥

على المتأمّل » (١) كما صرّح به في مجلس البحث.

وهنا وجه آخر ـ للفرق بين المقامين ـ وهو : أنّ ابتناء منع الدليل العقلي السابق على عدم إستحالة مدخليّة الأمور الخارجة عن القدرة في المدح والذّم ممّا لا يعقل ؛ إذ لا يجوز لأحد أن يلتزم بتجويز الشارع العقاب على الأمر الغير الاختياري ، فلا يعقل ابتناء منعه على ما ذكر ، بل لا بدّ من أن يبتني منعه على ما عرفت منّا : من أنّ من صادف قطعه يستحق العقاب على الفعل الإختياري ، فلو التزم بعدم استحالة رفع الأمر الغير الأختياري القبح في المقام ، لم يكن معنى للالتزام بتجويز الشارع العقاب على الأمر الغير الاختياري ، فلا يمكن أن يبتني منع الدليل العقلي السابق على ما ذكر للفرق بين المقامين بما عرفته.

الثالث : أنّه لا معنى للحكم بالتداخل فيما إذا طابق الاعتقاد الواقع حسبما صرّح به هذا الفاضل في بحث مقدّمة الواجب (٢) ؛ فانّ التجري إن لم يكن علّة تامّة في ايراث استحقاق العقاب على الفعل المتجرى به ، فلا معنى للحكم باستحقاق العقاب عند مخالفة الاعتقاد للواقع ، وان كان علّة تامّة له من حيث أنّه تجرّ ، فلا معنى للحكم بعدم تأثيره في الاستحقاق في صورة مطابقة الاعتقاد للواقع.

والمفروض أنّ معصية المولى بفعل ما نهى عنه وترك ما أمر به ايضا علّة تامّة في حكم العقل لاستحقاق العقاب أيضا ، وليس يمتنع أن يصير فعل واحد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤ ط المؤتمر.

(٢) الفصول الغرويّة : ٨٧.

١١٦

مجمعا لعناوين متعددة مقتضية لاستحقاق العقاب عليه ومبغوضا من جهات متعدّدة واردة عليه ، كرمي الشخص بأنّه ولد الزنا ؛ فانّه مجمع لعناوين ثلاثة من المعصية ، والمفروض أنّ المحلّ أيضا قابل فلا بدّ من القول بالتعدّد ؛ ضرورة إقتضاء تعدد العلّة تعدّد المعلول وإمتناع اجتماع العلل على المعلول الواحد.

والقول بالعقاب الواحد ممّا لا معنى له ؛ لأنّه إمّا على أحد العنوانين معيّنا ، أو على أحدهما لا على التعيين ، أو عليهما معا ، ولا سبيل إلى شيء منها.

إذ الأوّل : مستلزم للترجيح ، بلا مرجّح.

والثّاني : مستلزم لقيام الاستحقاق بالأمر المبهم وهو ممّا لا شبهة في استحالته.

والثّالث : مستلزم لخلاف فرض كون كلّ منهما سببا تامّا ، فلا مناص إذن من القول بتأثير كلّ منهما في إستحقاق العقاب هذا كلّه إن أريد من التداخل تداخل الأسباب كما هو الظاهر من كلامه.

وان أريد تداخل المسببات فهو أفحش من سابقه بعد تسليم سببيّة كلّ منهما ان كان المراد من التّداخل وحدة العقاب كما هو الظّاهر. وأمّا الحكم به في بعض المقامات فانّما هو من جهة ورود النص به على خلاف الأصل والقاعدة ، أو من جهة العلم بحصول الغرض من الكلّ باتيان المسبب مرّة واحدة ، فلا دخل له بالمقام.

وان كان المراد من التداخل عقاب زائد على عقاب محض التجري فهذا ليس معنى التداخل قطعا ؛ لأن كلّ فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه

١١٧

على ما كان فيه. أحدهما فهذا عين الالتزام بعدم التداخل هذا.

وقد يتوهّم بعض من لا بصيرة له : كون العقاب في صورة مطابقة الاعتقاد للواقع واحدا ومستندا إلى معصية الخطاب الواقعي لا من جهة التداخل ، بل من جهة عدم تحقّق التجرّي في الصّورة المفروضة ؛ فانّ عدم المخالفة للواقع مأخوذ في مفهوم التجري وإلاّ لم يكن تجرّيا ، بل معصية.

وفساد هذا التوهم أظهر من أن يخفى وأوضح من أن يبيّن ، مضافا إلى أنّ التعرّض لدفع أمثال هذا التوهم مناف لوضع التعليقة وتضييع للوقت والعمر ، هذا ملخص ما أورده ( دام ظلّه ) عليه مع توضيح من القاصر.

وقد سلك هذا المسلك فيما إذا قطع بالحكم الشرعي فامتثله فيما اسمعناك سابقا عند الكلام في استحالة تعلّق الجعل بالقطع فراجع.

وقد يورد عليه أيضا بايرادين آخرين :

أحدهما : أنّه لا معنى للترديد بين الكليّة والجزئيّة في حكم التجرّي عند مصادفته للواجب التوصّلي بعد البناء على وجود الجهة الواقعيّة القابلة لرفع قبح التجرّي فيه ، بل يتعيّن الحكم بتبعيّة أقوى الجهتين ، فاحتمال ارتفاع قبح التجرّي على الاطلاق وعدم إستحقاق العقاب عليه لذلك كما في صدر كلامه.

والحكم بأنّه يراعى في الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهة الواجب وجهة التجرّي ممّا لا معنى له ، بل يلزم الجزم بلزوم متابعة أقوى الجهتين كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال ـ في توجيهه ـ : من أنّ إحتمال الاطلاق مبني على إحتمال

١١٨

كون جهة التجرّي مغلوبة دائما.

ففيه : ما لا يخفى على الناظر إلى كلامه مضافا إلى ما في نفس هذه الدّعوى.

ثانيهما : أنّه لا معنى للحكم بتأكّد التجرّي وضعفه ـ بحسب مصادفته للمكروه أو المستحب من حيث الجهة المقتضية لحرمته ـ ضرورة أنّ الجهات المقتضية للوجوب والحرمة مع الجهات المقتضية للاستحباب والكراهة ليستا من الأقل والأكثر ، ولا معنى للحكم بحصول القوّة أو الضّعف لجهاتهما من جهة المصادفة بجهات الحكم الغير الالزامي أو المخالفة لها ، وإلاّ لأمكن الحكم برفع جهة الحرمة من جهة المعارضة لجهة الاستحباب ، بل الجهة الملزمة أمر لا يمكن عروض الضعف لها من جهة مقابلة الجهة الغير الملزمة هكذا يقال عليه ، وفيه تأمّل.

ثمّ إنّه لا بدّ من أن يكون المراد من المستحب ـ الذي يضعف به التجرّي ـ التوصّلي منه ، كالواجب لا الأعم منه ومن التعبدي ؛ ضرورة أنّ المستحب التعبدي كالواجب التعبدي لا يمكن وجوده في الخارج بدون قصد التقرب المتوقّف على اعتقاد الأمر.

ثمّ انّ في قوله : « وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إن لم يصادف الواقع » (١) ما لا يخفى على المتأمّل. فانّ عدم الجدوى في حكم العقل والزامه لا يتقيّد بالقيد المزبور كما هو واضح.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٣٢ ، عنه فرائد الأصول : ج ١ / ٤٢.

١١٩

(٢٠) قوله : ( وأمّا أستحقاقه للذّم من حيث ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥ )

أقول : وبذلك قد صرّح في مجلس البحث وقال : إنّ المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل حتى يعلم أنّ التجرّي من الصّفات الغير الصّادقة على الفعل أو من الامور الصادقة عليه وإن كان ظاهر كلامه المتقدّم هو الجزم بعدم حرمته.

(٢١) قوله : ( أمّا التجرّي بسبب القصد إلى المعصية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦ )

أقول : الأخبار الواردة في حكم القصد إلى المعصية ، ممّا يدلّ على العفو عنه والمؤاخذة به كثيرة جدّا بحيث يمكن دعوى وصولها في كلّ من الجانبين إلى حدّ التواتر ، ولمّا كان أمر الأخبار الدّالة على العفو واضحا من حيث إشتهارها حتّى بين العوام والنسوان ، بل في غير واحد من الأخبار : أنّ العفو عن نيّة السّوء من خواصّ الأمّة المرحومة ، فاكتفى الاستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) بذكر جملة ممّا يدلّ على عدم العفو ، فيمكن إذن للقائل بأن التجرّي قبيح وموجب لاستحقاق العقاب في نفسه القول بعدمها فيما إذا تحقّق بالقصد على ما عليه المشهور ؛ نظرا إلى إختياره ما دلّ على العفو وترجيحه على ما دلّ على عدمه بضرب من الترجيح ، كما أنّه يمكن للقائل بعدمها القول بثبوتها فيما إذا حصل التجرّي بالقصد من جهة إختيار ما دلّ على ثبوتها.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله : « أمّا التجرّي ... إلى آخره » (١) حيث أنّ المراد منه أنّ حكم التجري بالقصد إلى المعصية ليس حكم غيره فيمكن القول بعدم العقاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٦ وفي نسخ العبارة المزبورة اختلاف ، انظر الهامش رقم ١ من الصفحة المذكورة من الفرائد.

١٢٠