المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


المحقق: محمود البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-85-1
الصفحات: ٣٨٢

[المجلس الثامن والعشرون]

ومن خطبة له عليه‌السلام :

وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان في الدنيا غذيّ ترف ، وربيب سرف ، يتعلّل في السرور في ساعة حزنه ، ويفزع إلى السلوة انّ مصيبة نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحّاً بلهوه ولعبه ، فبينا هو يضحك إلى الدنيا ، وتضحك الدنيا إليه ، في ظلّ عيش غفول ، إذ وطأ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيّام قواه ، ونظرت إليه في الحتوف من كثب ، فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجيّ هم ما كان يجده ، وتولّدت فيه فقرات علل ، آنس ما كان بصحّته ، ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء ، من تسكين الحرّ بالقارّ ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلا ثورة حرارة ، ولا حرّك بحار إلا هيّج برودة ، حتى فنر معلله ، وذهل ممرضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجي خبر يكتمونه ، فقائل : هو لما به ، وممّن لهم ايّاب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكرهم أسى الماضين من قبله ، فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيّرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه.

إلى أن قال عليه‌السلام : وإنّ للموت لغمرات ، هي أفضع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا.(١)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ١٥٢.

٣٢١

وتالله لا يهوّن سكرات الموت إلا ولاء آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ مواليهم ليبشّره ملك الموت ثمّ منكر ونكير بالجنّة ، وإنّ الملائكة لتزفّ أرواح مواليهم إكراماً لهم حتى تدخلها عليهم كما تزفّ العروس الى زوجها ، وأيم الله إنّ من تمام موالاتهم الحزن لحزنهم ، والبكاء على ما أصابهم ، فحدّثوا أنفسكم بمصارع هاتيك العترة ، وتأسّفوا على ما فاتكم من الفوز بتلك النصرة ، واذكروا واعية الحسين ، وحاله وهو بين ثلاثين ألفاً وحيداً فريداً ، قد حال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، وقد نزف دمه ، والحجارة والسهام تأتيه من كلّ جانب ، وأهل بيته وأصحابه كالأضاحي حوله ، ونساؤه نوائح ونوادب من خلفه ، وهو تارة يصبّرهم ويعزّيهم ، وتارة يعظ القوم وينذرهم ، ومرّة ينعى أصحابه ويرثيهم ، واُخرى يقف على جثثهم ويمسح الدماء عن وجوههم ...

ولمّا وقف على ولده علي الأكبر وهو ابن تسع عشرة سنة ، وكان أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، فوجده مقطّعاً إرباً إرباً ، نادى بأعلى صوته : قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ...

ولمّا وقف على ابن أخيه القاسم (١) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ووجده يفحص برجليه الأرض ، قال : عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك.

ثمّ وضع خدّه على خدّ الغلام واحتمله ورجلاه يخطّان الأرض ، ففتح الغلام عينيه ، وتبسّم في وجه عمّه ثمّ فاضت نفسه الزكية ، فوضعه بين القتلى من

__________________

(١) هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أخو أبي بكر بن الحسن لأبيه واُمّه المقتول قبله. انظر : مقاتل الطالبيين : ٥٠.

٣٢٢

أهل بيته ...

ولمّا وقف على أخيه العباس ، وهو كبش كتيبته ، وحامل لوائه ، وموضع سرّه ، ووجده مرضوخ الهامة بعمود من حديد ، مقطوع الساعدين ، وضع يده على خاصرته ونادى :

الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي وشمت بي عدوي.

هـوى عـليه مـا هـنالك قائلاً

الآن بـان عـن اليمين حسامها

الآن آل إلـى الـتفرّق جـمعنا

الآن حـلّ مـن الـبنود نظامها

الآن نـامت أعـين بـك لم تنم

وتـسهّدت اُخـرى فـعزّ منامها

أشقيق روحي هل تراك علمت إذ

غـودرت وانـثالت عليك لئامها

مـن مـبلّغٌ أشـياخ مـكّة أنّه

قـد قـلّ ناصرها وغاب همامها

٣٢٣

[المجلس التاسع والعشرون]

ومن خطبة له عليه‌السلام :

أمّا بعد : فانّي احذركم الدنيا ، فانّها حلوة خضرة ، حُفت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها (١) ، ولاتؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافذة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى اُمنية أهل الرغبة والرضا بها ، أن تكون كما قال الله تعالى : «كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً» (٢) لم يكن امرؤ منها في حبرة ، إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرائها بطناً ، إلا منحته من ضرّائها ضهراً ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا هتنت عليه مزنة بلاء ، وحريّ إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسي له متنكّرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى (٣) ، لا ينال امريء من غضارتها رغباً ، إلا أرهقته من نوائبه تعباً ، ولا يمسي منها في جناح أمن ، إلا أصبح منها على قوادم خوف ، غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، لا خير في شيء من أزوادها إلا التقوى ، من استقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه ، وزال عمّا قليل عنه ، كم واثق منها فجعته ، وذوي طمأنينة لها قد صرعته ، وذي ابهة قد جعلته حقيراً ،

__________________

(١) قال رحمه الله : حبرتها : يعني بهجتها وسرورها.

(٢) سورة الكهف : ٤٥.

(٣) قال رحمه الله : أي كثر فيه الوباء.

٣٢٤

وذي نخوة قد ردّته ذليلاً ، سلطانها دول ، وعيشها رنق (١) ، وعذبها اجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، وأسبابها رمام ، حيّها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب.(٢)

هذه أنبياء الله وأصفياؤه تغلّبت عليهم الجبابرة ، وتحكّمت فيهم أعداء الله حتى كان بنو اسرائيل ربّما يقتلون بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثم يجلسون في أنديتهم كأنّهم لم يفعلوا شيئاً.

ولما بعث الله إسماعيل بن حزقيل الى قومه سلخوا جلده ووجهه وفروة رأسه ، فأتاه ملك من ربّه عزّ وجل يقرؤه السلام ويقول له : قد أمرني الله بطاعتك ، فمرني بما شئت ، فقال عليه‌السلام : لي بالحسين اُسوة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت وامي يا من تأسّت به أنبياء الله ، لئن سلخت جلدة وجه إسماعيل وفروة رأسه في سبيل الله ، فلقد أصابك في إعلاء كلمة الله من ضرب السيوف ووخز الأسنّة ، ورمي الأحجار ، ورشق النبال ، ووطيء الخيل ، وعسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ما هو أعظم من ذلك.

تأسّت بك أنبياء الله لكن لم يبلغوا شأوك ، ولا اُصيبوا بما اصبت ، وهل مُني أحد من العالمين بما منيت به؟ فررت بدمك من حرم جدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حرم الله عز وجل حيث يأمن الوحش والطير ، فلم تأمن فيه على نفسك ،

__________________

(١) قال رحمه الله : الرنق : الكدر.

أقول : يقال : عيش رنق ـ بكسر النون ـ : أي كدر ، وماء رنق ـ بالتسكين ـ : أي كدر ، والرنق ـ بفتح النون ـ : مصدر قولك : رنق الماء ـ بالكسر ـ ورنقته أنا ترنيقاً أي كدرته.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧ : ٢٢٦.

٣٢٥

ففرت منهم لما خفتهم بعيالك وأطفالك وأهل بيتك ، فلاقيت من أعداء الله ما رفع الله به قدرك ، وعظم به أمرك ، ولقد يعزّ على جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يراك بين ثلاثين ألفاً لا ناصر لك ولا معين ، وأبناؤك واخوتك وأهل بيتك والخيرة من شيعتك مجزّرين كالاُضاحي نصب عينيك ، ورضيعك يذبح وهو على يديك ، وحرمك نوائح ونوادب من خلفك ينادين : واغربتاه ، واضيعتاه.

وبالعزيز على فاطمة الزهراء أن تراك يا عزيزها بين جموعهم وقد ضعفت عن القتال ، ونزف دمك من كثرة الجراح ، وحال العطش بينك وبين السماء كالدخان ، وأنت تنادي :

أما من ناصر فينصرنا؟

أما من مغيث فيغيثنا؟

وليت رسول الله رآهم وقد افترقوا عليك أربعة فرق : فرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة ، حتى ذبحوك عطشاناً من القفا ، وأنت تستغيث فلا تغاث.

ثمّ هجموا على ودائع النبوّة فسلبوهنّ ونهبوا خيامهن ، وأشعلوا فيها النار ، فخرجن حافيات حاسرات ، معوّلات مسلبات ينادين :

وامحمداه واعليّاه ، وما اكتفوا بذلك حتى أجالوا الخيل على جسدك الطاهر ، ورفعوا رأسك على رمح طويل ، وساقوا نساءك وهن عقائل الوحي سبايا ، كأنهنّ من كوافر الديلم ، حتى أدخلوهن تارة على ابن مرجانة ، واُخرى على ابن آكلة الأكباد.

وأعظم ما يشجي الغيور دخولها

على مجلس ما بارح اللهو والخمرا

يعارضهـا فيـه الدعـي مسبّة

ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا

٣٢٦

[المجلس الثلاثون]

ومن كلام له عليه‌السلام :

الدنيا دار مني لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء ، وهي حلوة خضراء ، قد عجلت للطالب ، والتبست فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ، ولا تطلبوا فيها أكثر من البلاغ.(١)

هذا الكلام كان من علي عليه‌السلام وفق فعله ، فانّه ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً.

قال عبيد الله بن أبي رافع : دخلت عليه يوم عيد فقدّم إليه جراب مختوم ، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكل منه ، فقلت : يا أمير المؤمنين كيف تختمه؟

قال : خفت هذين الولدين أن يليناه بسمن أو زيت.

وكان ثوبه مرقوعاً بجلدة تارة ، وبليف اُخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس(٢) ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه ، وكان يأتدم بخلّ أو ملح ، فان ترقّى فببعض نبات الأرض ، فان ارتفع فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فيفرّقها ثم يقول :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١٥٢.

(٢) الكرباس ـ بالكسر ـ : ثوب من القطن الأبيض.

٣٢٧

هذا جناي وخياره فيه

إذ كلّ جانٍ يده إلى فيه (١)

ورآه عدي بن حاتم(٢) وبين يديه ماء قراح ، وكسيرات من خبز الشعير فقال : لا أرى لك يا أمير المؤمنين أن تظل نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك؟ فقال عليه‌السلام :

علّل النفس بالقليل وإلا

طلبت منك فوق ما يكفيها(٣)

ولم يزل هذا دأبه ، وهذه سجيّته ، حتى ضربه أشقى الآخرين على رأسه في مسجد الكوفة صبيحة ليلة الأربعاء لتسعة عشر مضين من شهر رمضان المبارك وهو ساجد لله في محرابه ، فبلغ السيف موضع السجود من رأسه ، فقال : بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، فزت وربّ الكعبة لا يفوتنكم ابن ملجم ، واصطفقت أبواب الجامع ، وهبت ريح سوداء مظلمة ، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض :

تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، وانفصمت والله العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى ، قتل الإمام المجتبى ، قتل علي المرتضى ، وجعل الدم يجري على وجهه ، فيخضب به لحيته الشريفة.

واقتدى به ولده أبو عبد الله عليه‌السلام حيث رماه سنان لعنه الله بسهم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢٦.

(٢) عدي بن حاتم الطائي : أبو طريف ، كان من المنقطعين إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام والعارفين بحقّه ، صاحب المواقف المشهودة في الجمل وصفين وغيرهما ، فقئت عينه يوم الجمل ، واستشهد ابنه محمد فيها ، والآخر يوم النهروان ، قال له معاوية يوماً : ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه! فقال عدي : بل أنا ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت.

انظر : الاستيعاب ٣ : ١٤١ ، الاصابة ٢ : ٤٦٨.

(٣) مناقب ابن شهر اشوب ٢ : ٩٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢٤٦.

٣٢٨

فوقع في نحره فسقط عن جواده ، وقرن كفّيه جميعاً فكلّما امتلأتا خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول : هكذا ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، مغصوب حقّي.

وخرجت زينب عليها السلام حينئذ من فسطاطها تنادي : وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ، ليت السماء اُطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.

وقال هلال بن نافع : وقفت على الحسين عليه‌السلام وانّه ليجود بنفسه ، فو الله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمائه أحسن منه وجهاً ، ولا أنور منه ، ولقد شغلني نور وجهه ، وجمال هيئته عن الفكرة في قتله.

ومجرّح مـا غيـّرت منـه القـنا

حسناً ولا غيّرن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مذ ألبستـه يد الدماء لبودا

٣٢٩

[المجلس الحادي والثلاثون]

ومن كـلام له عليه‌السلام بعد تلاوته «ألهيكم التكـاثر * حتّى زرتم المقابر»(١).

يا له مراماً ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلّوا منهم أي مدّكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد.

أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونوا عِبراً ، أحقّ من أن يكونوا مفتخراً ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّةٍ ، أحجى من أن يقوموا بهم مكان عزّة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية ، لقالت : ذهبوا في الأرض ضلالاً ، وذهبتم في أعقابهم جهّالاً ، تطؤون في هامهم ، وتستنبتون في أجسامهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا ، وانّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم.

أولاؤكم سلف غايتكم وفرّاط مناهلكم ، الذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسوقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً ، سلّطت الأرض عليهم ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لا ينمون ، وضماراً لا يوجدون ..... لئن بليت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من

__________________

(١) التكاثر : ١ ـ ٢.

٣٣٠

غير جهات النطق ، فقالوا : كلحت الوجوه والنواضر ، وخوت الأجسام النواعم ، ولبسنا أهدام البلى ، وتكأّدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتكهّمت الربوع الصموت ، فانمحت محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرجاً ، ولا من ضيق مخرجاً.(١)

وتالله لا يفرج الكرب ، ولا يؤنس الوحشة إلا شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم السلام ، وبالله لترونّ أمير المؤمنين عليه‌السلام واقفاً على شفير قبوركم يعلمكم جواب منكر ونكير ، وليبدلنّ الله وحشتكم بواسطته انساً ، وخوفكم برؤيته أمناً ، وليدخلنّ عليكم السرور في أجداثكم ، ولتقومنّ يوم القيامة سيدة نساء العالمين عليها السلام مقاماً تغبطون عليه وتدخلون به الجنّة.

فحقيق علينا أن نشاركها في مصيبتها التي أرزأت جبرائيل ، ونواسيها في رزيتها التي عظمت على الرب الجليل.

فيا ليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها ، وهم ما بين مسلوبٍ وجريح ، ومأسور وذبيح ، وبنات الوحي والنبوة يطاف بهن من بلد إلى بلد حتى وردوا بهن الشام ، فلمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله فقالت له : لي إليك حاجة.

قال : ما حاجتك؟

قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل نظاره.(٢)

وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ١٤٥.

(٢) الملهوف : ١٧٤ ، مثير الأحزان : ٩٧.

٣٣١

ونحن في هذه الحال ، فأمر اللعين في جواب سؤالها : أن تحمل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، ثم سلك بهم الطرق العامّة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق ، فأوقفوهم على درج باب المسجد ، حيث يقام السبي ، وطافوا برأس الحسين عليه‌السلام سكك دمشق وشوارعها.

جاءوا برأسك يا بن بنت محمد

مـتـزمّلاً بـدمائه تـزميلا

قـتلوك عـطشاناً ولمّا يرقبوا

فـي قـتلك التأويل والتنزيلا

ويـكبّرون بـأن قـتلت وانّما

قـتلوا بـك التكبير والتهليلا

٣٣٢

[المجلس الثاني والثلاثون]

ومن خطبة له عليه‌السلام :

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً ، وأبقى آثاراً ، وأبعد آمالاً ، وأعدّ عديداً ، وأكثف جنوداً ، تعبّدوا للدنيا أي تعبّد ، وآثروها أي إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ، ولا ظهر قاطع ، فهل بلغكم أنّ الدنيا قد سخت لهم نفساً بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صبحة ، بل أرهقتهم بالفوادح ، وأزهقتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفرتهم للمناخر ، ووطأتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون ، أفهذه تؤثرون؟ أم عليها تحصرون؟ فبئست الدار لمن لم يتّهمها ، ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا وانتم تعلمون بأنكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالذين قالوا من أشدّ منّا قوّة ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً ، وانزلوا فيها فلا يدعون ضيفاناً ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفاة جيران ، فهم جيرة لا يجيبون داعياً ، ولا يمنعون ضيماً ، إن جيدوا لم يفرحوا ، وان قحطوا لم يقنطوا ، قد استبدلوا يظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاةً عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية ، حيث لا ينفع الإنسان إلا ما قدّمه من أعماله الصالحة ، وما يرجوه من شفاعة الشافعين.(١)

وانّ أفضل عمل صالح. وأقوى سبب لنيل الشفاعة ، لزوم سنّته ، واتباع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧ : ٢٢٦ وج ١١ : ٢٥٧.

٣٣٣

عترته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّهم أحد الثقلين الذين لا يضل من تمسّك بهما ، ولا يهتدي إلى الله من صدف عنهما.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله من خطبة خطبها يوم غدير خم(١) :

قال الذهبي في طبقاته ٢ : ٢٥٤ : «لما بلغ محمد بن جرير ان ابن ابي داود تكلم في حديث غير خم عمل كتاب الفضائل وتكلم في تصحيح الحديث».

ثم قال : قلت : رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق».

وقال ابن كثير في تاريخه ١١ : ١٤٦ في ترجمة الطبري : «اني رأيت له كتاباً جمع فيه احاديث غدير خم في مجلدين ضخمين» ونسبه إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧ : ٣٣٧ (راجع الغدير ١ : ١٥٢).

وقد اغنانا العلامة الاميني رحمه الله وكفانا البحث عن طرق هذا الحديث ومصادره فقد الف في ذلك موسوعته الضخمة ـ التي لم تتم ـ في احد عشر مجلداً جمع فيها طرقه وأسانيده ومن احتج به أو كلّم فيه أو قال فيه شعراً. ولكثرة النصوص المنقولة في هذا الحديث يحتار الانسان فيما يختاره من نص فآثرنا أن ننقل النص الذي صدره الاميني رحمه الله به كتابه وهو نص جامع بين مختلف النصوص الا أنا اكملنا أبيات حسان بن ثابت في الأخير.

واليك النص :

«أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إلى الحج في سنة عشرة من مهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته تلك يُقال عليها حجّة الوداع وحجّة الإسلام وحجة البلاغ وحجة الكمال وحجة التمام ، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة مغتسلاً متدهّناً مُترجّلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة ، وأخرج معه نساءه كلهم في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.

وعند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله أصاب الناس بالمدينة جدري (بضم الجيم وفتح الدال

__________________

(١) أقول : قد كثر الحديث حول هذا الحديث والف في جمع اسانيده الكتب قديماً وحديثاً ولعل اوّل من الف فيه كما في موسوعة الغدير للعلامة الاميني رحمه الله هو ابو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٢١٠ هجرية صاحب التفسير والتاريخ المعروفين وهو من اكابر علماء العامة الف كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

٣٣٤

وبفتحهما) أو حصبة منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألف ، ويقال : مائة ألف وأربعة عشر ألفاً ، وقيل : مائة ألف وعشرون ألفاً ، وقيل : مائة ألف واربعة وعشرون ألفاً ، ويقال أكثر من ذلك ، وهذه عدّة من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع عليّ (أمير المؤمنين) وأبي موسى.

أصبح صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الأحد بيلملم ، ثم راح فتعشّى بشرف السيالة ، وصلّى هناك المغرب والعشاء ، ثم صلّى الصبح بعرق الظبية ، ثم نزل الروحاء ، ثم سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به ، وصلّى الصبح بالأثابة ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحى جمل «وهو عقبة الجحفة» ونزل السقياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلّى هناك ثم راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ومنها إلى قديد وسبت فيه ، وكان يوم الأحد بعسفان ، ثم سار فلمّا كان بالغميم إعترض المشاة فصفّوا فشكوا إليه المشي ، فقال : استعينوا بالسلان «مشي سريع دون العدو» ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكّة ، ولمّا انتهى إلى الثنيّتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء».

فلما قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله بقوله : «يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك» الآية ، وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقمّ ما تحتهنّ حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهنّ فصلّى بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، وظلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلمّا انصرف صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته فقال :

الحمد لله نستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ـ أمّا بعد ـ ايها

٣٣٥

الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، واني اوشك أن اُدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فما أنتم قائلون ، قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً ، قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ، قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال : اللهم اشهد ثم قال : ايها الناس ألا تسمعون؟ قالوا : نعم ، قال : فاني فرَط على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظرا كيف تخلّفوني في الثقلين.

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبّأني انهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ثم قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي» ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنّأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر كل يقول : «بخ بخ لك ، يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ، وقال ابن عبّاس : وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسّان : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فقام حسان فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية ، ثم قال :

يـناديهم يـوم الـغدير نبيّهم

بـخمّ واسمع بالرسول مناديا

وقـال فـمن مـولاكم ووليّكم

فـقالوا ولم يبدوا هناك تعاديا

إلـهك مـولانا وأنـت وليّنا

ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فـقال لـه قـم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

٣٣٦

ألا أيها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ... وثانيهما أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي.

ـ وزاد الطغرائي ـ : فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم.

وكان آخر ما تكلم به ـ فيما رواه الطبراني عن ابن عمر ـ : اخلفوني في أهل بيتي.

وفي رواية : فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ، ولا تقصروا عنهم.

بأبي أنت واُمي يا رسول الله أين موضع القبول منهم بعهدك إلى أخيك ، ووصاياك ببضعتك الزهراء وبنيك؟ وقد هدم القوم ما بنيت ، وأضلّوا جانباً ممّن هديت ، وفعلوا بعترتك ما لا يفعلون بالخوارج ، وقابلوهم بما لا يقابلون به أهل الخنا والريب.

__________________

أمّا البتول فقد قضت وبقلبها

من فعلهم قبسات وجد مكمن

والمرتضى أردوه في محرابه

بـيمين أشقى العالمين وألعن

فـخصّ بها دون البريّة كلّها

عـليّاً وسـمّاه الغدير أخائيا

فـمن كـنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هـناك دعـا اللهم وال وليّه

وكـن لـلّذي عـادى معاديا

انظر : مسند أحمد : ٤ / ٢٨١ ، فضائل أحمد : ١١١ ، ١٦٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ١٢ / ٧٨ / ١٢٦٧ ، تاريخ بغداد : ٨ / ٢٩٠ ، البداية والنهاية : ٥ / ٢١٠ ، مناقب الخوارزمي : ٩٤ ، كفاية الطالب : ٦٢ ، فرائد السمطين : ١ / ٣٨ ، ٧١ ، السيرة الحلبية ٣ : ٢٨٣ ، سيرة أحمد زيني دحلان ٣ : ٣ ، تذكرة الخواص : ١٨ ، دائرة المعارف لفريد وجدي ٣ : ٥٤٢.

٣٣٧

وبـشـربة الـسمّ الـنقيع عـداوةٌ

من كفّ جعدة قد قضى الحسن السني

وإلـيك عـنّي لا تـقل حـدّث بما

لاقـى الـحسين فـرزؤه قد شفني

حـيث الـمصائب جـمّة لا أدر ما

مـنها أقـصّ عـليك لـو كـلّفتني

نعم ، أقصُ عليك مصيبته بأطفاله ، فعن أبي الفرج الاصفهاني : أنّه كان في مخيم الحسين عليه السلام ستّة أطفال وقفوا في باب الخيمة وقد أضرّ بهم العطش ، فاتلعوا برقابهم إلى الفرات ، يتموّج كأنّه بطون الحيّات ، فجاءتهم السهام فذبحتهم عن آخرهم ، وكان الحسين قد تناول ولده الرضيع ليودعه أومأ إليه ليقبّله رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليه السلام دم الطفل بكلتا يديه ، لمّا امتلأتا من الدم رمى به نحو السماء ثم قال : هوّن عليَّ ما نزل بك أنّه بعين الله.

وقيل : أنّ الطفل كان مغمى عليه من شدّة العطش ، فلمّا أحسّ بحرارة السهم رفع يديه من القماط واحتضن أباه ..

ولمّا سقط الحسين عليه السلام عن ظهر جواده خرج عبد الله بن الحسن عليه السلام وهو غلام لم يراهق ، واشتدّ حتى وقف إلى جنب عمه ، فلحقته عمّته زينب لتحبسه فأبى وامتنع شديداً وقال : والله لا أفارق عمي.

فأهوى بحر بن كعب ، وقيل : حرملة بن كاهل إلى الحسين بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام :

يا اُماه ، فأخذه الحسين عليه الس لام فضمّه إلى صدره وقال :

يا بن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فانّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ، فرماه حرملة لعنه الله بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه.(١)

هبوا انّكم قاتلتموا فقتلتم

فما بال أطفال تقاسي نبالها

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٨٩.

٣٣٨

[ المجلس الثالث والعشرون ]

ومن خطبة له عليه‌السلام :

أما بعد : فانّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وانّ الآخرة قد أقبلت وأشرقت باطلاع ، ألا وانّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنّة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته.

ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ، ألا وانّكم في أيّام أمل ، من ورائه أجل فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرّه أجله.

ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة.

ألا وانّي لا أرى كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وانّكم قد اُمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، وانّي أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدنيا ما تجهّزوا به أنفسكم غداً ، وتزوّدوا فانّ خير الزاد التقوى. (١)

وسمعه أبو الدرداء يقول في مناجاته في جوف الليل ، وهو مستتر ببعيلات بني النجار :

إلهي اُفكر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ، ثم اذكر العظيم من أخذك فتعظم على بليّتي.

آه آه ، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها ، وأنت محصيها ، فتقول : خذوه ، فيا له من مأخذو لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته.

__________________

١ ـ الارشاد للشيخ المفيد : ٢٣٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٩١.

٣٣٩

آه آه ، من نار تنضج الأكباد والكلى.

آه آه ، من نار نزّاعة للشوى.

آه آه ، من غمرة من لهبات لظى.

قال أبو الدرداء : ثمّ انغمس في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة ، فأتيته فإذا هو كالخشبة اليابسة ، فحرّكته فلم يتحرّك ، وزويته فلم ينزو ، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله علي بن أبي طالب ، فأتيت أهله أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة سلام الله عليها : هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى ، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، فرآني أبكي فقال : ممّ بكاؤك يا أبا الدرداء؟

فقلت : ممّا تنزله بنفسك.

قال : كيف بك لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد ، ووقفت بين يدي من لا تخفى عليه خافية. (١)

وكان صلوات الله وسلامه عليه : أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوماً ، منه تعلم الناس صلاة الليل. وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده ، وما ظنّك بمن يبلغ من محافظته على ورده ، أن يبسط له قطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلّي عليه‌السلام ورده ، والسهام تقع بين يديه ، وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع ، ولا يقوم حتى يفرغ من ورده وصلاته. (٢)

__________________

١ ـ تنبيه الخواطر ( مجموعة ورام ) ٢ : ١٥٦.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢٧.

٣٤٠