المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


المحقق: محمود البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-85-1
الصفحات: ٣٨٢

بمقتله ، ولم يزل يقتل كلّ من حمل اللواء من بني عبد الدار حتى تفانوا عليه ، فحمله عبدٍ لهم يقال له : صواب ، وكان من أشدّ الناس ، فقطع أمير المؤمنين عليه‌السلام يديه ، ثمّ ضربه على اُمّ رأسه فسقط صريعاً ، وانهزم المشركون ، وأكبّ المسلمون على الغنائم فطمعت الرماة في الغنيمة ، وفارقوا الشعب الذي أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بملازمته.

فأتى خالد بن الوليد في خيل المشركين من ورائهم وهم غافلون ، فكان البلاء ، وقُتل حمزة في سبعين رجلاً ، وفرّ الباقون ، وثبت علي وأبو دجانة (١) وسهل بن حنيف (٢).

وقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتالاً شديداً ، وكسرت يومئذ رباعيته ، وشقّت شفته ، وكلم في وجهه الشريف ، ودخل من حلق المغفر في جبهته الشريفة ، وعلاه ابن قمأة لعنه الله بالسيف ، فسقط ـ بأبي واُمّي ـ إلى الأرض ، وصاح المشركون : قتل محمد ، فأوغل المسلمون للهرب ، وكسر علي غمد سيفه ، وشدّ على جموع المشركين شدّة ما سمع السامعون بمثلها ، فكشفهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده على الأرض ، والدماء تسيل على وجهه الشريف ، وأبصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من المشركين فقال : اكفنيهم يا

__________________

١ ـ هو سماك بن خرشة ، من الصحابة الأوائل الذين صمدوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة أحد ، عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام صفين ؛ وقيل غير ذلك.

انظر : الاصابة ٢ : ٧٧ ، أسد الغابة ٢ : ٤٥٢ ، الاستيعاب ٢ : ٨٣ ـ ٨٤.

٢ ـ سهل بن حنيف بن واهب بن العُكيم الأوسي الأنصاري ، من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ، شهد بدراً والمشاهد كلّها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وثبت يوم احد حين انهزم الناس ، وبايع يومئذ على الموت ، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل ، وشهد معه صفين وتوفي في الكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلّى عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

انظر : الاصابة ٢ : ٨٧ ، أسد الغابة ٢ : ٤٧٠.

٢٨١

علي ، فحمل عليهم ، وقتل عميدهم ، وتفرّقوا ، ثم جاءت كتيبة اخرى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : احمل عليهم يا علي ، فشدّ على عميدهم ، فتقله وفرّقهم.

فقال جبرائيل عليه‌السلام : هذه المواساة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : وأنا منكما ، ونادى في تلك الحال :

لاسيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

وجعل علي عليه‌السلام ينقل الماء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس ليغسل الدم عن وجهه ، ومنع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ بأخيه ، وبجماعة من المنهزمين ثابوا إليه ، فذهبوا به إلى الجبل فحاصروا وارتفع القتال.

بأبي أنت واُمّي : يا غريب أين كان أخوك المواسي ، ليمنعك من الأعداء حين سقطت شلواً مبضّعاً ، كما منع المشركين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له؟

أم أين كان قمر بني هاشم وأنت مطروح على الرمضاء تخور بدمك ، وتلوك لسانك من العطش لينقل الماء إليك من الفرات ، كما نقله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له من المهراس ، لكنّه سقط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أخوه سالم المهجة ، سالم الهامة ، سالم الساعدين ، وكان أخوك إذ سقطت يا قرّة عين الزهراء مرضوخ الهامة ، محسوم الزندين ، مشحوطاً بالدماء ، مبدّد الاعضاء.

وأين عنك يا سيدي صحبك الذين ما فرّوا ، ولا تخطّوا حتى تفانوا دونك ليمنعوك كما منع رسول الله أصحابه؟ ومن أين لهم أن يمنعوك وهم صرعى في هجير الشمس ، قد وزعت أشلاءهم ظباة السيوف ، وطحنتهم سنابك الخيل ، وابتلت بدمائهم أرض الطفوف ، ولقد يعزّ عليهم والله وقوفك بين الأعداء وحيداً

٢٨٢

فريداً وأنت تنادي :

هل من مغيث يغيثنا؟

هل من موحّد يخاف الله فينا؟

هل من معين يرجو الله في إعانتنا؟

فأجابك يا داعي الله مالك بن النسر لعنه الله بالسيف على رأسك الشريف ، وطارح بن وهب (١) بالرمح في خاصرتك ، ولبّاك ابن شريك (٢) بالسيف على كتفك اليسرى ، وأجابك آخر بضربة على عاتقك المقدّس فكبيت بها لوجهك.

وجـاء سنـان (٣) طاعن بسنانه

يرى أنّه كـان الهـزيـر المشـجـعا

وأقبل شمر يعلن العجب إذ سطا

على الليث مذ أمسى له الحتف مضجعا

وراح بأعلى الرمح يزهو كريمه

كبدر دجى قـد تـمّ عشـراً وأربـعا

__________________

١ ـ وقيل : صالح بن وهب المزني ، وهو خبيث ملعون. انظر : مستدركات علم الرجال ٤ : ٢٤٨.

٢ ـ وهو زرعة بن شريك التميمي ، ملعون خبيث ، ورد ذكره في مستدركات علم الرجال ٣ : ٤٢٦.

٣ ـ في مستدركات علم الرجال ٤ : ١٦١ : سنان بن أنس النخعي ، وهو قاتل مولانا الحسين صلوات الله عليه ؛ قيل : قتله ابن زياد حين قال : قتلت خير الناس اُمّاً وأباً ، والمشهور أنه قتله المختار.

وفي كتاب حكاية المختار : ٤٥ : أن إبراهيم قال لسنان عندما قبض عليه : يا ويلك أصدقني ما فعلت يوم الطف؟ قال : ما فعلت شيئاً غير أنّي أخذت تكة الحسين من سرواله!! فبكى إبراهيم عند ذلك ، فجعل يشرح لحم أفخاذه ويشويها على نصف نضاجها ويطعمه إياه ،

وكلما امتنع من الأكل ينخزه بالخنجر ، فلمّا أشرف على الموت ذبحه وأحرق جثته.

٢٨٣

[ المجلس العشرون ]

نقل ابن أبي الحديد ـ في أواخر الجزء الرابع عشر من شرح النهج ـ عن جماعة من المحدّثين والمؤرّخين : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فرّ أصحابه عنه يوم اُحد كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبة من بني عبد مناف بن كنانة ، وفيها بنو سفيان بن عويف ، وهم : خالد ، وأبو الشعثاء ، وغراب وأبو الحمراء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي اكفني هذه الكتيبة.

فحمل عليها وانّها لتقارب خمسين فارساً وهو راجل ، فما زال يضربها حتى تفرّقت عنه ، ثمّ تجتمع عليه هكذا مراراً حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة ، فقال جبرائيل عليه‌السلام :

يا محمد إن هذه لهي المواساة ، وقد تعجّبت ملائكة السماء من هذا الفتى.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يمنعه؟ وهو منّي وأنا منه.

فقال جبرائيل عليه‌السلام : وأنا منكما.

قال : وسمع في ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يُرى شخص الصارخ به ينادي مراراً :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا جبرائيل ... وكان بأبي هو واُمّي قد جرح فجعل علي عليه‌السلام ينقل الماء في درقته من المهراس ويغسل جرح النبي فلم ينقطع دمه ، فأتت فاطمة عليها‌السلام فجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت

٢٨٤

حصيراً وجعلت من رماده على الجرح فانقطع الدم.

ذكرت من بكاء سيّدة النساء حين عانقت أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مجروح ، ما حال سكينة (١) لمّا استوقفت أباها وقد اُثخن بالجراح ، وبقي من كثرة رشق النبال كالقنفذ ، فقالت :

يا أبتاه ، قف لي هنيئة لأتزوّد منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ، وانكبّت على يديه ورجليه تقبّلهما وتبكي ، فبكى الحسين عليه‌السلام رحمة لها ، ثم مسح دموعها بكمّه ، وأخذها فتركها في حجره ، ومسح دموعها بكفّه وأنشأ مخاطباً لها :

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمـام دهاني

لا تحرقـي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلـت فأنـت أولى بالذي

تأتينـه يـا خيـرة النسـوان

واعتنقت أباها يوم الحادي عشر من المحرم كما اعتنقت جدّتها الزهراء أباها يوم اُحد ، لكن شتّان بين من اعتنقت أباها وهو حيّ جالس ، وبين من اعتنقته وهو مطروح على الرمضاء بحرارة الشمس ، عاري اللباس ، قطيع الرأس ، منخمد الأنفاس ، في جندل كالجمر مضطرم.

ثوى ثلاث ليالٍ بالعراء بلا

غسلٍ ولا كفن لله من حكم

ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد يوم الوقعة فمرّ بامرأة من الأنصار اُصيب أبوها وزوجها ، فلمّا نُعيا إليها قالت : ما فعل برسول الله صلى الله

__________________

١ ـ سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، كريمة نبيلة ، كانت سيّدة نساء عصرها ، توفيت سنة ١١٧ هـ ، نسب إليها بعض المؤرّخين اُمور نقطع بكذبها وافترائهاعليها.

انظر : الطبقات الكبرى ٨ : ٣٤٨ ، الدر المنثور : ٢٤٤ ، الأعلام ٣ : ١٠٦.

٢٨٥

عليه وآله؟ قالوا : هو بحمد الله كما تحبّين.

قالت : أرونيه ، فلمّا نظرت إليه قالت : كلّ مصيبة بعدك جلل.

ولقته حمنة بنت جحش فنعى إليها أخاها عبد الله فاسترجعت ، ثم نعى إليها أخاها حمزة فاستغفرت له ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فولولت وصاحت.

ولكن لا كالرباب (١) زوجة أبي عبد الله فانّها بقيت بعده لا تستظل تحت سقف بيت حتى ماتت كمداً ، وكانت تجلس في هجير الشمس من أوّل النهار إلى آخره ، وتقابلها ابنتها سكينة بالنوح واللطم ، وكانت زينب مع حزنها ترقّ لها وهي تندب الحسين أشجى ندبة ، فتقول لها : اُخيّة يا رباب قومي إلى الظل.

فتقول لها : يا سيدتي لا تلوميني فانّي تركت سيّدي ومولاي عارياً بالعراء مطروحاً على الرمضاء بحرارة الشمس ، وكانت تقول في ندبتها :

وا حبيب المصطفى ، وا ذبيحاً من قفا ، وا قتيلا بالظما.

ثم لا تزال تنادي : وا سيّداه وا حسيناه ، حتى تتفطّر لها القلوب ، ويتصدّع لها الصخر الأصم.

نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنّما انتظـم البيـان فـريدا

إن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

تدعو بلهفة ثاكلٍ لعب الأسى

بفؤاده حتى انطوى مفـؤودا

__________________

١ ـ الرباب بنت امرئ القيس بن عدي ، زوجة الحسين عليه‌السلام ، كانت معه في وقعة كربلاء ، وبعد استشهاده جيء بها مع السبايا إلى الشام ، ثمّ عادت إلى المدينة ، فخطبها الأشراف ، فأبت ، وبقيت بعد الحسين لم يظلّها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً ، وكانت شاعرة لها رثاء في الحسين عليه‌السلام. انظر : المحبر ٣ : ١٣ ، أعلام النساء ١ : ٣٧٨.

٢٨٦

[ المجلس الحادي والعشرون ]

ذكر المؤرّخون : أنّ وحشي بن حرب كان عبداً حبشياً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ وقيل : كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل فقالت له ابنة الحارث : إنّ أبي قتل يوم بدر ، فان أنت قتلت أحد الثلاثة محمّداً أو عليّاً أو حمزة فأنت حرّ ، فانّي لا أدري في القوم كفواً لأبي غيرهم.

فقال : أما محمد فانّ أصحابه لن يسلّموه ، وأمّا حمزة فوالله لو وجدّته نائماً ما أيقظته ، وأما علي فألتمسه.

قال وحشي : فكنت يوم اُحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه ، إذ طلع عليّ فطلع رجل حذر مرس ، كثير الالتفات فقلت : ما هذا بصاحبي ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت حمزة يفري الناس فرياً ، فكمنت إلى صخرة وهو مكبس له كيت ، فاعترض له سباع بن اُمّ اينار ، فقال له حمزة :

وأنت يا بن مقطّعة البذور ممّن يكثر علينا فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحط شحط الشاة ، ثمّ أقبل عليَّ مكبّاً حين رآني ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها ثمّ ضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته ، وكرّت عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم ينادونه : أبا عمارة فلا يجيب ، فقلت : والله مات الرجل ، وذكرت هنداً وعداوتها لبني هاشم فأتيتها فقلت : ماذا لي إذ قتلت قاتل أبيك.

قالت : سلبي.

٢٨٧

فأخبرتها الخبر فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه وقالت : إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت : أرني مصرعه فدللتها عليه ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فمضغتها ثمّ لفظتها ، وقطّعت مذاكيره ، وجدعت أنفه ، وقصّت اُذنيه ، ثمّ جعلت ذلك خلخالين ودملجين حتى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده معها.

قال محمد بن إسحاق : ومن الشعر الذي ارتجزت به هند يوم اُحد :

شفيت من حمـزة نفسي باُحد

حين بقرت بطنـه عن الكبـد

أذهب عنّي ذاك ما كنـت أجد

من لوعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلوكم بشأ بوب برد

تقدم اقـداماً عليكـم كالأسـد

وجاءت صفيّة فجلست عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ، وإذا نشجت ينشج ، وجعلت فاطمة تبكي على عمّها ، فلمّا بكت بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

جعلت فداك يا رسول الله ، يا نبي الرحمة ، كيف بك لو رأيت عقائلك يوم عاشوراء وقد ذبح نصب أعينهن ثمانية عشر من حماتهن ، وسبعون من أنصارهن ، وليتك ترى كريمتكم زينب إذ وقفت على أخيها الحسين عليه‌السلام حافية حاسرة ، ووجدته وهو ريحانتك مزمّلاً بالدماء ، موزّع الأعضاء ، عاري اللباس ، مقطوع الرأس ، مذبوحاً من القفا ، مفطور القلب من الظما ، فنادتك بصوت وقلب كئيب :

يا جدّاه يا رسول الله ، صلّى عليك مليك السما ، هذا حسينك بالعرا ، مزمّلاً بالدما ، مسلوب العمامة والردا ، ثم قالت :

بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدا ،

٢٨٨

بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبه يقطر بالدما ، بأبي من جدّه رسول إله السما ، فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

وشتّان ما بين صفيّة إذ قتل أخوها حمزة ، وزينب إذ قتل أهلوها ، أمّا صفية فبقي لها رسول الله وأمير المؤمنين ، وأبطال بني عبد المطّلب ، وليوث بني هاشم ، وبقي عزّها ، وسرداق مجدها ، والمهاجرون والأنصار يتفانون دون خباها .. ويا لهف نفسي لزينب ، وبقية العقائل من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أصبحنّ بعد حماتهن غنيمة للقوم الظالمين ، يضربونهن تارة ويسلبونهن اخرى ولقد كانت المرأة منهن تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه ، ولم يبق لهنّ من يرتجينه لدفع الأعداء ، الاعمر بن سعد لعنه الله ، ولذا صحن في وجهه لما رأينه ، وبكين شاكيات إليه ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هذه النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما اُخذ منهنّ من الملاحف ليستترن به ، فقال : من أخذ منهن شيئاً فليردّه ، فو الله ما ردّ أحد شيئاً.

عجباً لمـال الله أصبـح مقسّماً

في رائـح للظـالمين وغاد

عجباً لآل الله صاروا مغـنـماً

لبني الطليق هـديـة وزياد

عجباً لذي الأفلاك لِم لا عطلت

والشهب لم تبرز بثوب حداد

٢٨٩

[ المجلس الثاني والعشرون ]

سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر في المحرم الحرام سنة سبع للهجرة في ألف واربعمائة مقاتل ، ومعهم مائتا فرس ، وكانت الوقعة في صفر ، والفتح فيها لأمير المؤمنين عليه‌السلام بلا ارتياب ، وظهر من فضله في هذه الغزوة ما أجمع على نقله المسلمون ، واختصّ فيها من المناقب بما لم يشاركه فيه أحد من العالمين ، وذلك أنّه قد اتفقت كلمة أهل الأخبار : على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى الراية فيها أبا بكر أولاً فرجع ، ثم أعطاها عمر ثانياً فرجع ولم يكن فتح.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما في غزوة خيبر من صحيح البخاري ـ :

لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله.

قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم يرجو أن يعطاها.

فقال : أين علي بن أبي طالب؟

فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه.

قال : فارسلوا إليه ، فأتي به فبصق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ... إلى آخر الحديث. (١)

__________________

١ ـ المناقب للخوارزمي : ١٧٠ فصل « ١٦ » ح ٢٠٣ ، كنز العمّال ١٣ : ١٢٣ ح ٣٦٣٩٣ أخرجه عن

٢٩٠

وفي تاريخ ابن الأثير : أنّ عليّاً نهض بالراية وعليه حلّة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من اليهود فقال : من أنت؟

قال : أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر اليهود.

قال : وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد ثقبها مثل البيضة وهو يقول :

قد علمت خيبر انّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

فقال علي عليه‌السلام :

أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة

كليث غابات كريه المنظره

أكيلهم بالسيف كيل السندرة

فاختلفا بضربتين ، فبدره علي عليه‌السلام فقدّ الجحفة والمغفر ورأسه

__________________

الدار قطنيّ والخطيب البغدادي وابن عساكر وفي ص ١١٦ ح ٣٦٣٧٧ خرّجه مختصراً عن تاريخ أصبهان لابن مندة ، بريقة المحمودية لأبي سعيد الخادميّ ١ : ٣١١.

أقول : وقد ورد حديث الراية في خيبر ودور الامام علي عليه‌السلام في قتل مرحب زعيم اليهود وفتح قلاع خيبر في كثير من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة عند الفريقين السنّة والشيعة بأسانيد مختلفة ومتون متواترة.

وقد خصّ العلامة مير حامد حسين أحد أجزاء كتابه عبقات الأنوار ـ الجزء التاسع ـ للبحث والتحقيق في هذا الحديث واثبت أسانيده ودلالته على خلافة الإمام علي عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجمع في كتابه ما بلغه من الحديث المستخرج في مجاميع أهل السنّة فيما يمتّ بهذه الواقعة التاريخيّة.

وكذلك جمع العلاّمة المحقّق القاضي التستري في موسوعته إحقاق الحق وملحقاته طرق هذا الحديث فعدّدها فكانت العشرات من الصحابة وأكثر من مائة مصدر حديثيّ وتارخي. فليراجعها من أراد الإيقان.

٢٩١

حتى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة.

ونقل ابن الأثير (١) ، عن أبي رافع (٢) مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

خرجت مع علي عليه‌السلام حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فوقع ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

قال ابن الأثير : فلمّا فتحت خيبر جاء بلال بصفيّة واُخرى معها على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية صرخت وصكّت وجهها ، وحثّت التراب على رأسها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال : أنزعت منك الرحمة جئت بهما على قتلاهما؟!

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، لم ترض من بلال حين مرّ بيهوديتين على قتلاهما الكفرة والفجرة المحاربين لله ولرسوله ، فكيف بك لو ترى العقائل من خفراتك ، والكريمات من بناتك ، وهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء ، مكشّفات الوجوه بين الأعداء ، يسوقوهنّ كما تساق الزنوج والديلم ، فمرّوا بهنّ على مصارع قتلاهن ، وفيهم حجّة الله ، ونجوم الأرض من آلك الطاهرين ،

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٠.

٢ ـ أبو رافع القبطي مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واسمه أسلم ، كان للعبّاس بن عبد المطلب ، فوهبه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بشر النبي باسلام العباس أعتقه ، وشهد أبو رافع مشاهد النبي كلّها ، ولزم أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده وكان صاحب بيت ماله بالكوفة.

انظر الاستيعاب بهامش الاصابة ١ : ٨٦ ، اسد الغابة ١ : ٩٣.

٢٩٢

فوجدتهم على الرمضاء ، وقد اُسري برؤوسهم إلى الكوفة ، فنادت حينئذ عزيزتك بضعة الزهراء عقيلتكم زينب : وامحمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينك بالعرا ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا.

وفي بعض المجموعات : أرادت أن ترمي بنفسها عليه ، فناداها الإمام زين العابدين عليه‌السلام بصوت أضعفته العلّة :

عمّتاه ، ارحمي ضعف بدني ، ارحمي الجامعة في عنقي ، ودّعي أخاك وأنت على ظهر الناقة.

فجعلت تقول : ودّعتك السميع العليم يا بن اُمّي ، والله لو خيّرت المقام عندك والرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو انّ السباع أكلت لحمي.

واعتنقت سكينة جسد أبيها فاجتمعت عليها عدّة من الأعراب حتى جرّوهاعنه ، فوا حرّ قلباه ، كيف عانقته ونحره منحور ، وصدره مكسور ، ورأسه على القنا مشهور ، ويا لهف نفسي كيف رأته عاري الثياب ، معفّراً بالتراب ، أم كيف فارقته مطروحاً بالعراء ، لوحوش الأرض وطير السماء ، لا مغسّلاً ولا مكفّناً ولا مدفوناً.

بلى يا رسول الله ، كان دمه غسله ، والتراب كافوره ، والقنا الخطي نعشه ، وفي قلب من والاه قبره.

لهفـي له وحـريـمـه

من حول مصرعه نوادب

يـنـدبنـه بـمـدامـع

من حر أجفان سـواكـب

أحسيـن بعـدك لا هنا

عيش ولا لـذّت مشـارب

والجسم منـك مجـدّل

في الترب منعـفر الترائب

ها نحن بعدك يا غريـ

ـب الدار أمسينـا غرائب

٢٩٣

[ المجلس الثالث والعشرون ]

لمّا جهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جيش مؤتة جعل الأمير يومئذ ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن اُصيب جعفر فزيد بن حارثة ، فإن اُصيب زيد ، فعبد الله بن رواحة.

وقيل : أنّه قدّم زيداً ، فقال جعفر : ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : امض فانّك لا تدري أي ذلك خير.

قال ابن الأثير : ثمّ ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها ( مشارف ) ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها ( مؤتة ) فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقاتل زيد براية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل وهو يقول :

يا حبذا الجنّـة واقتـرابها

طيّبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنى عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

علي إذ لاقيتها ضرابها

فلمّا اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل ـ وكان أول من عقر فرسه في الاسلام ـ فوجد به بضع وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة ورمية وطعنة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله.

لئن وجدوا في جسد عمّك بضعاً وثمانين جرحاً ، فلقد اصبت يوم الطف

٢٩٤

بألف وتسعمائة ، ما بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورضخة بحجر.

رماك الدارمي يا ريحانة المصطفى بسهم فأثبته في حنكك الشريف.

وضربك ابن النسر الكندي على رأسك بالسيف يا حشاشة الزهراء حتى امتلأ برنسك دماً ، فاستدعيت بخرقة شددت بها رأسك تحت العمامة.

ووقفت يا سيّدي لتستريح ساعة ، وقد ضعفت عن القتال ، فأتاك الحجر في جبهتك المباركة ، فأخذت الثوب لتمسح الدم عن وجهك فأتاك سهم مسدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبك الطاهر ، فأخرجته من ظهرك ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب.

سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى

سهم به كبـد الهـداية قد رمي

يا أرض ميدي ، يا سماء تفطّري

يا شمس غيبي ، يا جبال تقسي

قال ابن الأثير : فلمّا قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فتردّد بعض التردّد ، ثم قال يخاطب نفسه :

أقسمت يا نفـس لتنـزلنـّه

طائعـة أو لا لتـكـرهنّه

إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة

ما لي أراك تكرهين الجنّة

قد طال ما قد كنت مطمئنّة

هل كنت الانطفة في شنّة

وقال أيضاً :

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليتي

وما تمنّيت فقـد اعطـيت

إن تفعلي فعلهمـا هـديتِ

وتقدّم فقاتل حتى قتل.

ثمّ ان الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال :

٢٩٥

ثار خبر ـ ثلاثاً ـ عن جيشكم هذا الغازي ، إنّهم لقوا العدو ، ثمّ نعى لهم زيداً وجعفراً وعبد الله ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعدها بليلة ـ مرّ بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة ، له جناحان مخضّب القوادم بالدم. (١)

وفي ترجمة جعفر من كتاب الاستيعاب (٢) : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ، فقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ، ثمّ قتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء.

وقد لحقه في هذه الفضيلة شبل أخيه قمر بني هاشم فانّه قطعت يداه في سبيل الله تعالى وضرب على هامته بعمود من حديد.

ولئن أصيب ذو الجناحين ببضع وثمانين جراحة ، فلقد روي في حديث بني أسد : أنّه لمّا دفنوا العبّاس عليه‌السلام كانوا كلّما رفعوا منه جانباً سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وامتاز العبّاس بعظيم المواساة ، فانّه لمّا اقتحم المشرعة قال : لا أشرب وأبو عبد الله عطشان.

وهل سمعت بأحد من الأوّلين والآخرين فدى قربة من الماء رجاء أن يشربها أخوه وعياله وأطفاله بنفسه؟ ووقاها حرصاً على إيصالها إليهم بمهجته؟

وليتك يا ساقي عطاشى كربلاء أرويت كبدك الحرّى بجرعة منها قبل مقتلك؟ وليتهم إذ قتلوك أبقوا دماءها لغسلك ، وبالعزيز على سكينة عزيزة أخيك أن تراك ذبيحاً دون يسير من الماء توصله إليها ، ويعزّ على عقيلتكم زينب أن

__________________

١ ـ الإصابة ١ : ٢٣٧ ، البداية والنهاية ٤ : ٢٥٥ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٩٨ ، أسد الغابة ١ : ٢٨٦ ، الطبقات الكبرى ٤ : ٢٢ ، حلية الأولياء ١ : ١١٤.

٢ ـ الاستيعاب ١ : ٣١٢.

٢٩٦

تراك مقطّعاً نصب عينيها ، وليتك ترى أخاك الوحيد واقفاً عليك وهو ينادي : الآن انكسر ظهري ، الآن تبدّد عسكري وقلّت حيلتي ، ثمّ بكى بكاء شديداً.

أحقّ الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحسيـن بكربلاء

خوه وابـن والـده عليّ

أبو الفضل المضرّج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجاد لـه عطـش بـمـاء

ونقل ابن الأثير عن أسماء زوجة جعفر ذي الجناحين رضي الله عنها قالت :

أتاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد غسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمّهم ودمعت عيناه ، فقلت : يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء؟

قال : نعم ، اُصيب هذا اليوم ، ثمّ أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً فهو أول طعام عمل في الإسلام.

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، دمعت عيناك إذ رأيت يتامى ابن عمّك جعفر ، مع أنّهم كانوا في هيئة حسنة ، وزي بهيج ، وأمرت لهم بطعام ، مع انّهم لم يكونوا جياعاً ، رأفة منك ورحمة.

فكيف بك لو رأيت يتاماكم يوم عاشوراء جياعاً عطاشى ، حفاة عراة ، مدهوشين والهين ، مربقين بالحبال ، يخافون أن يتخطّفهم الناس من حولهم ، هذا يضربهم ، وهذا يسلبهم ، وذاك يضرم النار في خيامهم ، وآخر ينتزع الملاحف عن ظهورهم ، وظهور اُمّهاتهم وعمّاتهم.

وليتك يا نبي الرحمة تراهم ليلة الحادي عشر من المحرم وقد أحاطت بهم الأعداء ، وهم يرون ثمانية عشر من حماتهم ، واثنين وسبعين من شيعتهم جثثاً

٢٩٧

على الرمضاء ، ورؤوسهم على أطراف الرماح.

يا رسـول الله لو عاينتـهم

وهـم ما بيـن قتـل وسبـا

من رميض يمنع الظل ومن

عاطش يسقى أنابيـب القـنا

ومسوق عاثـر يسعـى به

خلف محمول على غير وطا

لرأت عيناك منهم منظـراً

للحشـا شجـواً وللعين قذى

٢٩٨

[ المجلس الرابع والعشرون ]

ذكر الزبير بن بكّار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي وجرة قال :

لمّا حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من الليل :

يا بني إنّكم اسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو انّكم لبنو رجل واحد ، كما انّكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل ، في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية ، خير من الدار الفانية ، يقول الله تعالى : « يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون » (١) ، فإذا أصبحتم غداً سالمين ان شاء الله تعالى ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، وأضرمت لظى عن سياقها ، وجلّلت على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة.

فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها ، فلمّا أضاء لهم الصبح ، باكروا مراكزهم وأنشأ أوّلهم يقول :

__________________

١ ـ سورة آل عمران : ٢٠٠.

٢٩٩

يا اُخوتي انّ العجوز الناصحة

قد نصحتنا إذ دعتـنـا البـارحة

مقالة ذات بيـان واضـحـة

فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وانّما تلقون عند الصـائحـة

من آل سـاسـان الكلاب النائحة

قد أيقفوا منكم بوقع الجائحة

وأنتـم بيـن حيـاة صـالـحـة

أو ميتة تورث غنماً رايحة

وتقدّم فقاتل حتى قتل رحمه‌الله تعالى ، ثمّ برز الثاني وهو يقول :

إنّ العجـوز ذات حـزم وجلد

والنظـر الأوفق والـرأي السدد

قد أمرتـنا بالسـداد والرشـد

نصيحـة منـهـا وبرّاً بـالولد

فباكروا الحرب حماة في العدد

إما لفـوز بـارد عـلـى الكبد

أو ميتة تـورثكـم عـزّ الأبد

في جنّة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى قتل رحمه‌الله تعالى ، ثم حمل الثالث وهو يقول :

والله لا نعصي العجوز حرفاً

قـد أمـرتنـا حـزنـاً وعطفاً

نصحاً وبـرّاً صـادقاً ولطفا

فبادروا الحرب الضروس زحفاً

حتى تلاقوا آل كسـرى لفـّا

أو يكشفـوكـم عن حماكم كشفا

إنّا نرى التقصير منكم ضعفا

والقتـل فيكـم نجـدة وزلفـى

فقاتل حتى قتل رحمه‌الله تعالى ، ثم برز الرابع وهو يقول :

لسـت للخـنـسـاء ولا للأخـرم

ولا لعمـرو ذي الثـنـاء الأقدم

ان لم أرد في الجيش جيش الأعجم

ماضٍ على الحول خضم خضرم

إمّا لفـوز عـاجـل أو مغـنـم

أو لوفـاد في السبيـل الأكـرم

ثمّ قاتل حتى قتل رحمه‌الله تعالى ، فبلغها الخبر فقالت : الحمد لله الذي

٣٠٠