المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


المحقق: محمود البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-85-1
الصفحات: ٣٨٢

ماء فسقته ، وأدخلت الاناء ، ثم خرجت فوجدته جالساً ، فقالت له : ألم تشرب الماء؟

قال : بلى.

قالت : فاذهب إلى أهلك فسكت.

ثم أعادت عليه القول. فسكت.

فقالت له في الثالثة : سبحان الله يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فانّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك.

فقام وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك من أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم.

قالت : يا عبد الله وما ذاك؟

قال : أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني.

قالت : أنت مسلم؟

قال : نعم؟

قالت : ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

وجاء ابنها وعرف بمكان مسلم فوشى به إلى ابن زياد.

فأحضر محمد بن الأشعث ، وضمّ إليه قومه ، وبعث معه عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع حوافر الخيل ، وأصوات الرجال علم أنّه قد اتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم فضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم

٢٠١

عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمدي (١) فضرب بكر لعنة الله فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ، وفصلت ثنيتاه ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وثنى باُخرى على حبل عاتقه كادت تطلع من جوفه ، وجعل يحارب أصحاب ابن زياد حتى قتل منهم جماعة ، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطناب القصب ، ثمّ يلقونه عليه من فوق السطح ، فخرج عليهم مصلّتاً بسيفه فناداه محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :

أقسمـت لا أُقتـل الاحـرّاً

وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا

أكره أن اُخـدع أو اُغـرّاً

أو أخلط البارد سخنـاً مُرّا

كلّ امرئٍ يوماً يلاقي شرّاً

أضربكم ولا أخاف ضـرّا

فناداه ابن الأشعث : انك لا تكذب ولاة.

وكان قد اُثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى الحائط.

فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان.

فقال : أنا آمن؟

قال : نعم.

ثم قال للقوم : ألي الأمان؟

قالوا : نعم.

فقال : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، واوتي ببغلة فحمل عليها ، فاجتمعوا حوله ، وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يأس من نفسه فدمعت

__________________

١ ـ بكر بن حمران الأحمدي ، خبيث ملعون ، قاتل مسلم بن عقيل. انظر : مستدركات علم الرجال ٢ : ٥٠.

٢٠٢

عيناه ، ثم قال :

هذا أوّل الغدر أين أمانكم؟ إنّا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال له عبيد الله السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.

قال : انّي والله ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لا أحب لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي للحسين وآل الحسين عليه‌السلام.

ثمّ أقبل على ابن الأشعث فقال : انك ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلّغ الحسين ـ فانّي لا أراه الا قد خرج اليوم ، أو هو خارج غداً بأهل بيته ـ فيقول له : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنّه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول : إرجع فداك أبي واُمّي بأهل بيتك ، ولا يغرك أهل الكوفة فانّهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة كذّبوك ، وليس لمكذوب رأي.

وأقبل ابن الأشعث بمسلم إلى باب القصر ، فدخل على ابن زياد فأخبره الخبر ، وقد اشتدّ العطش بمسلم وعلى باب القصر جماعة ينتظرون الإذن ، وإذا قلّة باردة على الباب. فقال :

اسقوني من هذا الماء.

فقال مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم.

فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل ما أجفاك وأفضّك وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم.

٢٠٣

ثمّ تساند إلى حائط وجاء عمرو بن حريث (١) بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء وقال له : اشرب.

فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فيه ، ففعل ذلك مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح.

فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.

ثم اُدخل على ابن مرجانة فلم يسلّم عليه.

فقال له الحرس : سلّم على الأمير.

فقال له : اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير.

فقال له ابن زياد : إيهاً يا بن عقيل! أتيت الناس وهم جميع ، فشتّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض.

قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعوا إلى حكم الكتاب.

فقال ابن زياد : وما أنت وذاك ، ثم قال عليه اللعنة : يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك له أهلاً.

فقال مسلم : من أهله إذا لم نكن نحن أهله؟

فقال ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد.

__________________

١ ـ عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي ، روى عن أبي بكر وابن مسعود ، وروى عنه ابنه جعفر والحسن العرني والمغيرة بن سبيع وغيرهم ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت ، ولي الكوفة لزياد بن أبيه ولابنه عبيد الله ، مات سنة ٨٥ هـ.

انظر : سير اعلام النبلاء ٣ : ٤١٧ ـ ٤١٩ ، الأعلام ٥ : ٧٦.

٢٠٤

فقال مسلم : الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم اقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

فقال مسلم : أما أنّك أحقّ من أحدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاً عليهم‌السلام.

فأخذ مسلم لا يكلّمه ، ونظر إلى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال : يا عمر انّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهي سرّ بيننا ، فامتنع اللعين أن يسمع منه ، فأمره ابن مرجانة بذلك ، فقاما إلى ناحية في المجلس وابن مرجانة يراهما ، فقال :

انّ عليّ سبعمائة درهم لبعض أهل الكوفة فبع سيفي ودرعي واقضها عنّي ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي فوارها ، وابعث إلى الحسين عليه‌السلام من يردّه ، فانّي كتبت إليه أنّ الناس معه ، ولا أراه الا مقبلاً.

فقال ابن سعد : أتدري أيها الأمير ما قال؟ إنّه ذكر كذا وكذا وكذا.

فقال ابن زياد : إنّه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن.

وأمر لعنة الله أن يصعدوا به فوق القصر ويضربوا عنقه ، ثمّ يتبعوه جسده ودعا بكر بن حمران فقال له :

إصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسوله ويقول :

اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، فأشرف على موضع الحذاتين فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه.

ثم أمر ابن زياد بهاني في الحال فقال :

٢٠٥

اخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأُخرج وهو مكتوف فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه ، وأين مذحج؟

فلما رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف وهو يقول : أما من عصا أو سكين أو حجر يحاجز بها رجل عن نفسه؟

فوثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثم قيل له : مد عنقك.

فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي.

فضربه مولى لابن مرجانة ـ تركي ـ بالسيف فلم يصنع شيئاً ، فقال هاني : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ثمّ ضربه اُخرى فقتله شهيداً محتسباً.

وفي مسلم وهاني يقول عبد الله بن زبير الأسدي (١) :

فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانيء في السوق وابن عقيل

إلى بطـل قـد هشّـم السيف وجهه

وآخر يهوى من طمـار (٢) قتيل

أصابهما أمر اللعيـن فـأصبـحـا

أحاديث من يسري بكـلّ سبـيل

ترى جسداً قد غيّـر المـوت لونه

ونضـح دم قـد سال كلّ مسيل

فتىً كان أحيـى مـن فتـاة حَيِيّة

وأقطع من ذي شفرتـين صقيل (٣)

__________________

١ ـ زبير ـ بفتح الزاي المعجمة كحبيب ـ ، وعبد الله بن زبير الأسدي بن الأعشى ، واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي ، من بني أسد بن خزيمة ، وكان يتشيع. انظر أدب الطف ١ : ١٤٣.

٢ ـ في بعض المصادر : جدار.

٣ ـ ويقال انّ هذه القصيدة للفرزدق ، وقال بعضهم إنّها لسليمان الحنفي. انظر : تاريخ الطبري ٣ : ٣٢ ، مقتل الخوارزمي ١ : ٢١٤ ، أدب الطف ١ : ١٤٣.

٢٠٦

[ المجلس السابع ]

لمّا عزم الحسين عليه‌السلام على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فكان ممّا قال :

وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بني النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجر الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّبهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته ، وموطئاً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى. (١)

وجاء تلك الليلة أخوه محمد بن الحنفية فقال له :

يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقال عليه‌السلام : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية : فان خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البر ، فانّك أمنع الناس به ، ولا يُقدر عليك.

__________________

١ ـ مقتل الخوارزمي ١ : ١٨٦.

٢٠٧

فقال عليه‌السلام : أنظر فيما قلت.

فلما كان في السحر ارتحل عليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها.

فقال له : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قال : بلى.

قال : فما حداك على الخروج عاجلاً؟

قال : أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك ، فقال ، يا حسين اخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفية : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك على مثل هذه الحالة.

فقال له : قد قال لي : إن الله شاء أن يراهن سبايا.

ولقيه أبو محمد الراقدي وزرارة بن خلج قبل أن يخرج عليه‌السلام إلى العراق فأخبراه ضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبوابها ، ونزلت الملائكة عدد لا يحصيهم الا الله عز وجل فقال : لولا تقارب الأشياء ، وهبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ، ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي. (١)

وخرج ـ بأبي واُمّي ـ يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة سنة ستّين (٢).

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٥ : ١٩١ ، الكامل في التاريخ ٤ : ٧ ، دلائل الإمامة : ٧٤ ، اللهوف : ٦١.

٢ ـ وقيل لثلاث مضين من ذي الحجّة ، وقيل يوم الأربعاء لثمان مضين من ذي الحجّة. انظر : الملهوف :

٢٠٨

قال معمر بن المثنى ـ في كتاب مقتل الحسين ـ : فلمّا كان يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف ، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه ، أو يقتله إن قدر عليه.

فخرج الحسين عليه‌السلام يوم التروية ، حين يُخرج إلى عرفة إذ لم يتمكّن من تمام حجّة ، مخالفة أن تستباح حرمات بيت الله الحرام ، ومشاعره العظام ، فأحلّ ـ بأبي واُمّي ـ من إحرامه ، وجعلها عمرة مفردة.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

ولم يدر أين يريح بدن ركابه

فكأنّما المأوى عليـه محرّم

وعن الصادق عليه‌السلام ـ فيما رواه المفيد (١) باسناده إليه ـ قال : لمّا سار الحسين صلوات الله عليه من مكّة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمين والمردّفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا :

يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله عز وجل أمدّ جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنا في مواطن كثيرة ، وانّ الله أمدّك بنا.

فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيه وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني.

فقالوا : يا حجّة الله إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك.

فقال : لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له :

__________________

١٢٤.

١ ـ الارشاد : ١٧٢ ، الملهوف : ١١٦.

٢٠٩

يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم خيراً.

وقال لهم : أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتـب عليهـم القتل إلى مضاجعهم » (١).

فإذا أقمت في مكاني فبماذا يمتحن هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ، ومن ذا يكون ساكن حفرتي ، وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحى الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا ، تقبل فيها أعمالهم وصلواتهم ، ويجاب دعاؤهم ، وتسكن إليها شيعتنا ، فنكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم عاشوراء الذي في آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي واخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد بن معاوية.

ساروا (٢) برأسك يا بن بنت محمد

متزمـّلاً بدمـائـه تزميلا (٣)

[ وكـأنّمـا بك يـا بن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا ]

قتلـوك عطشـاناً ولمّـا يـرقبوا

في قتلـك التأويل والتنزيلا

ويكبّـرون بأن قُتـلـت وإنّمـا

قتلوا بك التكبيـر والتهليلا (٤)

__________________

١ ـ سورة آل عمران : ١٥٤.

٢ ـ في بعض المصادر : جاؤا.

٣ ـ في بعض المصادر : مترمّلاً بدمائه ترميلا.

٤ ـ القصيدة من مراثي أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي المعروف بـ « ديك الجن » ، المولود بسلّمية سنة ١٦١ هـ والمتوفّى سنة ٢٣٥. انظر : زينة المجالس : ٤٨٧ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ١٦٣ ، أعيان الشيعة ٣٨ : ٤٠.

٢١٠

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للناظريـن علـى قنـاة يرفعُ

والمسلمـون بمنظرٍ وبمسمعٍ

لا منكر منهـم ولا متفـجـّع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصـمّ رزؤك كلّ اُذن تسمعُ (١)

__________________

١ ـ هذه الأبيات لشاعر أهل البيت دعبل الخزاعي صاحب القصيدة التائية المشهورة. انظر : معجم الأدباء ١٠ : ١١٠.

قال ابن طاووس في الملهوف : ٢٠٣ : ويحقّ لي أن أتمثّل هنا أبياتاً لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

رأس ابن بنت ...

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى

وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضـة الاتمـنـّت أنّها

لك حفرة ولخط قبرك مضجع

٢١١

[ المجلس الثامن ]

كان توجّه الحسين عليه‌السلام من مكّة إلى العراق يوم خروج مسلم للقتال بالكوفة (١) ، وهو يوم التروية ، واستشهد مسلم في الثامن من خروجه وهو يوم عرفة ، وكان قد اجتمع إلى الحسين نفر من أصحابه من أهل الحجاز والبصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولما أراد التوجّه إلى العراق طاف وسعى وحلّ من احرام جعلها عمرة مفردة وخرج مبادراً بأهله وولده ، ومن انضمّ إليه من شيعته.

وروي عن الفرزدق الشاعر انّه قال :

حججت باُمّي سنة ستّين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسين عليه‌السلام خارجاً من مكّة في أسيافه وأتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار؟

فقيل : للحسين بن علي عليهما‌السلام.

فأتيته فسلّمت عليه وقلت : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أعجلك عن الحج؟

فقال : لو لم أعجل لأخذت ، من أنت؟

فقلت : امرؤ من العرب ، فوالله ما فتّشني عن أكثر من ذلك.

__________________

١ ـ الارشاد : ٢١٨.

٢١٢

ثم قال : أخبرني عن الناس خلفك؟

فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء.

فقال : صدقت لله الأمر وكلّ يوم هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيّته والتقوى سريرته.

فقلت : أجل بلّغك الله ما تحب ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرّك راحلته وقال : السلام عليك ، ثم افترقنا.

وكان سلام الله عليه لما خرج اعترضه يحيى بن سعيد وجماعة أرسلهم عمرو بن سعيد بن العاص ـ والي يزيد يومئذ على مكّة ـ فأبى عليهم الحسين عليه‌السلام وامتنع منهم هو وأصحابه امتناعاً قوياً ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وسار ـ بأبي واُمّي ـ حتى أتى التنعيم (١) فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن

__________________

١ ـ بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم ، موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكّة وسرٍف على فرسخين من مكّة ؛ وقيل : على أربعة ، وهو احد المواقيت التي يحرم فيها الحجّاج للعمرة. كان فيه عين ماء ومسجد. وعرف بهذا الاسم لوجود جبل الى يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكّيون بالعمرة. انظر : معجم البلدان ٢ : ٤٩.

قال الطبري ( ٤ : ٢٨٩ ) : ولمّا نزل فيه الإمام الحسين عليه‌السلام في مسيره الكوفة لقي قافلة قادمة من اليمن تحمل بضائع ليزيد ، فاستولى عليها ، ويبدو انّ هدفه كان الاضرار الاقتصادي بالعدو. أمّا رجال القافلة فقد خيّرهم الإمام بين المسير معه إلى كربلاء أو ان يدفع لهم اُجرة الطريق ليسيروا حيث ما شاءوا ، وقد سار معه جماعة منهم.

٢١٣

فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه.

وألحقه عبد الله بن جعفر (١) بابنيه عون ومحمد وكتب معهما إليه كتاباً يقول فيه :

أمّا بعد : فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فانّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل في المسير فانّي في أثر كتابي والسلام.

وذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو في ذلك ، وأنفذ كتابه مع أخيه يحيى وعبد الله بن جعفر ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع.

فقال : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ فيه.

ولمّا يأس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة. (٢)

وتوجّه الحسين عليه‌السلام نحو العراق مغذاً لا يلوي على شيء ، حتى

__________________

١ ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود ، وأخباره في الجود والكرم والحلم لا تحصى ، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات :

وما كنت كالأغر بن جعفر

رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا

انظر : الاصابة ٢ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، أسد الغابة ٣ : ١٩٩.

٢ ـ تاريخ الطبري ٥ : ٢١٨.

٢١٤

نزل ذات عرق (١) فلقي بشر بن غالب (٢) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها.

فقال : خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة.

فقال : صدق أخو بني أسد إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. (٣)

ولما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين عليه‌السلام من مكّة ، بعث صاحب شرطته الحصين بن نمير (٤) حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين

__________________

١ ـ ذات عرق مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بن نجد وتهامة. اسم لمنزل بين مكّة والعراق ، يبعد عن مكّة مسافة منزلين ، وهو ميقات إحرام القادمين من شرقي مكّة ؛ وقيل : عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق.

وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق. انظر : معجم البلدان ٤ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

وهو من المنازل التي مرّ بها سيّد الشهداء بعد وادي العقيق ، وتوقف فيه يوماً أو يومين ، ثم شدّ رحاله وواصل المسير ، وفي هذا المنزل لقي الإمام بشر بن غالب وكان قادماً من العراق ، وسأله عن وضع العراق ، فقال له : القلوب معك والسيوف عليك. وسار الإمام إلى المنزل التالي هو « غمرة ». ومن هذا المنزل بعث كتاباً إلى أهل الكوفة يخبرهم فيه بنبأ قدومه إليهم ، وأنفذوه بواسطة قيس بن مسهر الصيداوي. انظر : مقتل الحسين للمقرّم : ٢٠٤.

٢ ـ في مستدركات علم الرجال ( ٢ : ٣٣ ) : بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عدّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجاد عليهم‌السلام ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات ... وله روايات عن الحسين ذكرت في عدّة الداعي ، ويروي عنه عبد الله بن شريك.

٣ ـ مثير الأحزان : ٢١.

٤ ـ الحصين بن نمير بن نائل أبو عبد الرحمن الكندي ثم السكوني ، وهو من قادة الأمويين القساة ، من أهل حمص ، كان مبغضاً لآل علي ؛ ففي معركة صفّين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائداً على قسم من الجيش ، وفي واقعة مسلم بن عقيل سلّطه ابن زياد على دور أهل الكوفة ، ليأخذ مسلم ويأتيه به ، وهو الذي أخذ قيس بن مسهّر رسول الحسين عليه‌السلام فبعث به إلى ابن زياد فأمر به فقتل ، وهو الذي نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة لمّا تحصّن ابن الزبير في

٢١٥

القادسية (١) إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانية (٢).

ولمّا بلغ الحسين عليه‌السلام الحاجز (٣) من بطن الرمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي ـ وقيل بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ـ إلى الكوفة ، ولم

__________________

المسجد الحرام ، وهو قاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوّابين ، وهو الذي سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن شعر رأسه بعد قوله عليه‌السلام : « سلوني قبل أن تفقدوني » ، وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي امر يزيد بشنّه على المدينة المنوّرة ، مات في عام ٦٨ هـ متأثّراً بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الوقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر ، وجاء في بعض الأخيار انّه أخذ رأس حبيب بن مظاهر بعد مقتله وعلّقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخراً ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثاراً لدم أبيه ، وجاء في مصادر أخرى انّه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام ٦٦ هـ قرب الموصل في وقت حركة المختار. انظر : مروج الذهب ٣ : ٧١ ، التهذيب لابن عساكر ٤ : ٣٧١ ، الأعلام ٢ : ٢٦٢.

١ ـ اسم موضع قبل الكوفة ويبعد عنها خمسة عشر فرسخاً ( وعن بغداد ٦١ فرسخاً ). وفي هذا المكان وقعت المعركة المعروفة باسم القادسية بين الجيش الاسلامي والفرس في زمن الخليفة الثاني ، وانتصر فيها المسلمون ، وفي هذا المكان قبض الحصين بن نمير ( رئيس شرطة ابن زياد في تلك المنطقة ) على مبعوث الحسين ، قيس بن مسهر الصيداوي ، وأرسله إلى ابن زياد وكان قيس يحمل كتاباً من الحسين إلى أهل الكوفة ، ولما قبض عليه مزق الكتاب باسنانه لكي لا تقع أسماء المخاطبين بيد العدو. انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : ٤٩.

٢ ـ موضع قرب الكوفة في جهة البرية بالطف ، وهو أحد المنازل من القادسية إلى الشام ، كان به سجن النعمان ، وقد كانت المنطقة بين القادسية والقطقطانية قد نظم فيها ابن زياد قوات الاستطلاع لمنع الناس من الالتحاق بالحسين عليه‌السلام. انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : ٥٠.

٣ ـ وقيل : الحاجر ، اسم ارض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق ، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة ، ومعناه : الموضع الذي يحجز فيه الماء.

وفي معجم البلدان : بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد : الرمة قاع عظيم بنجد تنصبّ إليه أودية.

وفي هذا المنزل تسلّم الإمام الحسين كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة ، وكتب الجواب إلى أهل الكوفة وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر. انظر : معجم البلدان ١ : ٦٦٦ ، مراصد الاطلاع ٢ : ٦٣٤.

٢١٦

يكن عليه‌السلام علم بخبر ابن عقيل وكتب معه إليهم :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي.

إلى اخوانه من المؤمنين والمسلمين :

سلام عليكم فانّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.

أمّا بعد : فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لكم الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام.

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة : أن لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر.

وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه‌السلام حتى انتهى إلى القادسية ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره اللعين أن يسبّ الحسين وأباه وأخاه على المنبر ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أيها الناس إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب وصلّى عليه.

فأمر ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع.

وروي : أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ،

٢١٧

فجاءه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه.

وأقبل الحسين عليه‌السلام من الحاجز يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام قام إليه فقال :

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله.

فقال له الحسين عليه‌السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال ابن مطيع : اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً ، والله انّها لحرمة الاسلام تنهتك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.

فأبى الحسين عليه‌السلام إلا أن يمضي انجازاً لمقاصده السامية.

وكان ابن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة (١) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحداً يلج ، ولا أحداً يخرج.

وأقبل الحسين عليه‌السلام فلقي الأعراب فسألهم فقالوا : ما ندري ، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار ـ بأبي واُمّي ـ تلقاء وجهه.

__________________

١ ـ اسم أحد المنازل بين مكّة والكوفة ويبعد عن الكوفة مسير ثلاثة أيّام ، وقد مرّ به الحسين بن علي عليه‌السلام في مسيره إلى كربلاء ، وهنالك مواضع اُخرى بهذا الاسم في طريق مكّة وفي اليمامة ، وفي واقصة منارة مبنية من قرون وأضلاف صيد الصحراء بناها ملك شاه السلجوقي. انظر : آثار البلاد : ٣٣٦.

٢١٨

وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي (١) حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسين عليه‌السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل فإذا نزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، كنّا ننزل في جانب غير الجانب الذي ينزل فيه الحسين عليه‌السلام.

فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه‌السلام حتى سلّم ، ثمّ قال :

__________________

١ ـ زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانيّة ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن علي عليه‌السلام ، وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ، كان في بداية أمره مؤيّداً لأنصار عثمان. إلا انّ حسن حظّه جعل له حسن العاقبة ليكون من شهداء كربلاء الأجلاء.

ولمّا اغلق جيش الحر الطريق على الإمام ، استأذن زهير الإمام الحسين وتكلّم معهم ، ثم عرض على الامام مقاتلتهم إلا انّه لم يوافق على رأيه.

وتحدث في يوم عاشوراء معلناً عن موقفه القاطع في مناصرة الحسين ، واستعداد للبذل في سبيله وقال : لو اقتل ألف مرّة ما تركت نصرة ابن رسول الله.

وفي يوم العاشر من محرّم جعله الحسين عند تعبئة عسكره على الميمنة ، وزهير أول من خطب بالقوم بعد الحسين ، وهو يحمل سلاحه ، وابلغ لهم في النصح ، فرماه الشمر بسهم ، وجرى حوار بينه وبين الشمر.

وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد الله يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته. وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال وكان حينها يرتجز قائلاً :

انا زهير وانـا ابـن القين

اذودكم بالسيف عن حسينِ

انّ حسيناً أحد السبطـيـن

من عترة البرّ التقي الزينِ

ذاك رسول الله غير المين

اضربكم ولا ارى من شينِ

يا ليت نفسي قسمت قسمين

انظر : تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ و ٦ : ٤٢ و ٤٢٢ ، رجال الشيخ : ٧٣ ، أنصار الحسين : ٨٨ ، أعيان الشيعة ٧ : ٧٢.

٢١٩

يا زهير إن أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام بعثني إليك لتأتيه.

فطرح كلّ انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته ـ وهي ديلم بنت عمر (١) ـ : سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه.

فمضى إليه زهير فما لبث ان جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فحوّل إلى الحسين عليه‌السلام. ثم قال لامرأته :

أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خيراً ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه‌السلام لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت : خسار الله لك ، اسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه‌السلام.

ثم قال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني ، وإلا فهو آخر العهد بي.

انّي سأحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي (٢) :

__________________

١ ـ أو ديلم بنت عمرو ، وهي التي قامت لغلام لزهير بعد شهادته : انطلق فكفّن مولاك ، قال : فجئت فرأيت حسيناً ملقى ، فقلت : أكفن مولاي وأدع حسيناً! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت فقلت ذلك لها ، فقالت : أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت : انطلق فكفن مولاك ففعلت.

انظر : أعلام النساء المؤمنات : ٣٤١ ، ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات ، المطبوع في مجلة تراثنا ، العدد ١٠ ص ١٩٠.

٢ ـ سلمان الفارسي : صحابي أشهر من أن يعرّف ، ومن الأربعة الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بحبّهم ، وقال فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سلمان منّا أهل البيت » ، وحاله في الولاء لأمير المؤمنين عليه‌السلام مشهور. انظر : أسد الغابة ٢ : ٤١٧.

٢٢٠