المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


المحقق: محمود البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-85-1
الصفحات: ٣٨٢

المجلس الخامس : في الانفاق صدقة عن الميّت

لا ريب في استحباب الانفاق صدقة عن موتى المؤمنين ، وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك وأمر به.

ففي الصحيحين بطرق متعدّدة عن عائشة قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي [ مثل ] ما غرت على خديجة وما رأيتها ، لكن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربّما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا الاخديجة ، فيقول لي : انّها كانت وكانت وكان لي منها ولد. (١)

وأخرج مسلم : أنّ رجلاً أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إن امّي افتلت نفسها ولم توص ، أفلها أجر إن تصدّقت عنها؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده : انّ سعد بن عبادة قال : إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفّيت امّه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله إنّ امّي توفّيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدّقت بشيء عنها؟

قال : نعم.

قال : فاني أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها. (٢)

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : هذا الحديث يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت وأوليائه صدقة عنه.

٢ ـ قال رحمه‌الله : ربّما كان المنكرون علينا فيما نفعله في مجالسنا من الصدقة عن الحسين عليه‌السلام لا يقنعون بأقوال النبي ولا بأفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله الا أن يكون ذلك مأثوراً عن سلفهم ، وحينئذ نحتجّ عليهم بما فعله الوليد بن أبي معيط الأموي ، إذ مات لبيد بن ربيعة

١٦١

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا مات الانسان انقطع عمله الامن ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.

وفي خصال الصدوق بالإسناد إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، اولئك منّا وإلينا.

بأبي أنتم وامّي أهل بيت الرحمة ، أسبغتم على العالمين آلاءكم ، وأفضتم على أهل الارض سجال نعمائكم ، فاياديكم تسترقّ الأعناق ، ومننكم تستعبد قلوب الأحرار ، وما رأى الراؤون أعطى لجزيل عن ظهر يد منكم (١) ، أنشأتم الهدى ، وكافحتم الكفر والضلال ، والبغي والفساد والعمى ، وسنّيتم في الأرض صراطاً مستقيماً ، وقاسيتم من الناس في سبيل هدايتهم بلاء عظيماً.

سلبوكم بشبا الصوارم أنفساً

قام الوجود بسرّها المكنون

فما خطر أموالنا وأنفسنا في جنب أموالكم وأنفكسم التي بذلتموها فينا ، وكيف نستكثر أموالاً وأنفساً نقابل بها تلك الأموال والأنفس ، وانّ الجرأة عليكم بسلب عقال من أموالكم المقدّسة ، او مسيل قطرة من دمائكم الزكيّة لأفظع من اجتياح أموال العالمين وأنفسهم كافة ، فالويل لمن قتلكم وسلبكم ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، تبّت أيديهم ولُعنوا بما ارتكبوا ، إذ قتلوا عترة رسول الله وبقيّته فيهم.

امّة قاتلت امام هداها

يا ترى أين زال عنها حياها

ويحهم أخزاهم الله ، كيف سلبوه حتى ثيابه ، فأخذ قميصه ـ بأبي وامّي ـ

__________________

العامري الشاعر ، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً فجزرت عنه. نقل ذلك ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب.

١ ـ قال رحمه‌الله : أي تفضّلاً من غير مكافأة ولا قرض.

١٦٢

إسحاق بن حوية (١) ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب (٢) ، وأخذ عمامته أخنس بن

__________________

١ ـ وهو : إسحاق بن حويّة ( حيوة ) الحضرمي ، أحد المجرمين في جيش الكوفة ممّن شارك في واقعة كربلاء ، حيث قام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام بسلبه قميصه ، وهو من جملة من تطوّع ـ بأمر عمر بن سعد ـ لرضّ جسد الإمام الحسين عليه‌السلام بالخيل ، حيث تعتبر هذه الجريمة من الجرائم المفجعة التي ارتكبها جيش ابن زياد بحقّ الإمام الحسين ، وكانت هذه الجريمة قد تمّت بتحريض من شمر بن ذي الجوشن لابن زياد ، فالكتاب الذي بعثه عمر بن سعد إلى ابن زياد كان كتاباً عاديّاً ، لكن ابن زياد ردّ عليه بكتاب يعنّفه فيه ، وكتب إليه : إنّي لم ابعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتمنّيه ، ولا لتطاوله ، ولا لتقعد له عندي شافعاً ، انظر فان نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم اليَّ سلماً ، وإن أَبَو فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم ، فإنّهم لذلك مستحقون ، فان قتل الحسين فاوطئ الخيل صدره وظهره ، فانّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم ، فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أنت أبيت فاعتزل جندنا ، وخلّ بين شمر وبين العسكر ، فأتى شمر بالكتاب وسلّمه لعمر بن سعد.

وبعد استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام عصر يوم عاشوراء نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه بفرسه؟ فانتدب منهم عشرة ، حيث داسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وهم : إسحاق بن حويّة الحضرمي الذي سلب الحسين عليه‌السلام قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل السبيعي ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وواحظ بن ناعم ، وصالح بن وهب الجعفي ، وهانئ بن ثبيت الحضرمي ، واُسيد بن مالك لعنهم الله.

وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم وهو اُسيد بن مالك :

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر

بكلّ يعسوب شديد الأمر

فقال ابن زياد لعنه الله : مَن أنتم؟ قالوا : نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا حناجر صدره. قال : فأمر لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمرو الزاهد : فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.

وهؤلاء أخذهم المختار رحمه‌الله فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلاسل الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا. انظر : الملهوف : ١٨٣ ، زينة المجالس : ٤٥٩.

٢ ـ وقيل اسمه : أبحر بن كعب ، حيث قام بتجريد الإمام من ثيابه بعد قتله ، وترك جسد

١٦٣

مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله ، وسلبوا نساءه وهنّ عقائل النبوّة ، وخفرات بني الوحي والتنزيل.

قال حميد بن مسلم (١) : فوالله لقد كنت أرى المرأة من نساء الحسين وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.

قال : ثمّ انتهينا إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر (٢) جماعة من الرجّالة فقالوا له : ألا نقتل هذا

__________________

الحسين عارياً على رمضاء كربلاء ، وقد يبست يدا هذا الشخص فيما بعد حتّى اصبحتا كالخشبتين ، وجاء في خبر آخر إنّه اُصيب بعد ارتداء السروال بشلل في رجليه أقعده عن الحركة تماماً.

انظر : اثبات الهداة ٥ : ٢٠١ ، عوالم الإمام الحسين : ٢٩٧ ، بحار الانوار ٤٥ : ٥٧.

١ ـ في تنقيح المقال ١ : ٣٨٠ : حميد بن مسلم الكوفي ، لم أقف فيه الاعلى عدّ الشيخ رحمه‌الله إيّاه في رجاله من أصحاب السجاد عليه‌السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، الا أنّ حاله مجهول.

وفي مستدركات علم الرجال ٣ : ٢٨٩ : حميد بن مسلم الكوفي ، وعدّ من مجاهيل أصحاب السجاد عليه‌السلام وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنّه كان في وقعة الطف ... وكان من جند سليمان بن صرد الخزاعي من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب الشام لطلب ثأر الحسين عليه‌السلام.

أقول : يحتمل أن يكون أكثر من شخص بهذا الاسم ، فأحدهما كان في وقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر بن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيدالله بن زياد ، ممّا يدلّ على انّه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الإمام السجاد ومن جند سليمان بن صرد.

٢ ـ شمر بن ذي الجوشن ـ واسمه شرحبيل ـ بن قرط الضبابي الكلابي ، أبو السابغة ، من كبار قتلة ومبغضي الحسين عليه‌السلام ، كان في أوّل أمره من ذوي الرئاسة في هوازن موصوفاً بالشجاعة ، وشهد يوم صفين مع عليّ عليه‌السلام ، سمعه أبو إسحاق السبيعي يقول بعد الصلاة : اللهم إنّك تعلم أني شريف فاغفر لي!! فقال له : كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل

١٦٤

العليل؟!

[ قال حميد : ] فقلت : سبحان الله أيقتل الصبيان! إنّما هذا صبي وانّه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه.

قال : وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، وسألته النسوة ليسترجعن ما أخذ منهنّ ليسترن به ، فقال : من أخذ من متاعهنّ شيء فليرده عليهنّ.

[ قال : ] فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً.

وروى حميد بن مسلم أيضاً قال : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه‌السلام فسطاطهنّ ، وهم يسلبونهنّ أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط ، وقالت : يا آل بكر بن وائل أتُسلب بنات رسول الله؟ لا حكم الالله ، يا لثارات رسول الله.

قال : فأخذها زوجها وردّها إلى رحله.

أأنسى هجوم الخيل ضابحة (١) على

خيام نساكم بالعواسل والقضب

__________________

ابن رسول الله؟! فقال : ويحك كيف نصنع ، إنّ اُمراءنا هؤلاء أمرونا بأمرٍ فلم نخالفهم! ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر؟ ثمّ أنّه لمّا قام المختار طلب الشمر ، فخرج من الكوفة وسار إلى الكلتانية ـ قرية من قرى خوزستان ـ ففجأة جمع من رجال المختار ، فبرز لهم الشمر قبل أن يتمكّن من لبس ثيابه فطاعنهم قليلاً وتمكّن منه أبو عمرة فقتله واُلقيت جثته للكلاب. انظر : الكامل في التاريخ ٤ : ٩٢ ، ميزان الاعتدال ١ : ٤٤ ، لسان الميزان ٣ : ١٥٢.

١ ـ ضبحت الخيل في عدوها : أسمعت من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة.

١٦٥

عشيـة حنـّت جـزعاً خفـراتكم

بأوجهها ندباً لحامي الحمـى الـندب

صرخن بلا لبّ وما زال صـوتها

يغضّ ولكن صحـن من دهشـة اللب

فأبرزن من حجب الخدور تودّ لو

قضت نحبها قبل الخروج من الحجب

وسيقت سبايا فـوق أحلاس هزل

إلى الشام تطوي البيد سهباً على سهب

يسار بهـا عنفـاً بلا رفق محرم

بها غير مغلـول يحـن علـى صعب

ويحضرهـا الطاغي يناديه شامتاً

بما نال أهل البيـت من فادح الخطب

ويوضع رأس السبط بين يديه كي

تدار عليه الراح فـي مجلـس الشرب

ويسمـع آل الله شتـم خطيـبـه

أبا الحسن الممـدوح في محكم الكتب

يصلّـي عليه الله جلّ وتجـتـري

على سبّـه من خصّهـا الله بالسـبّ

١٦٦

الفصل الاول فيما يُتلى بتمامه صبيحة العاشر من المحرم ، ويتلى مجالس متعدّدة في سائر أيّام العشر ، أو في باقي أيّام السنّة ، فهو ليوم العاشر مجلس واحد ، ولغيره اثنا عشر مجلساً

فلينتبه القارئ ـ في غير يوم عاشوراء ـ بوقوفه عليها ،وليذكرني بأدعيته فانّي مضطر إليها ، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٦٧
١٦٨

[ المجلس الأوّل ]

كان مولد الحسين عليه‌السلام لخمس [ ليالٍ ] خلون من شعبان سنة أربع للهجرة ، وروي غير ذلك (١).

ولمّا ولد هبط جبرئيل عليه‌السلام في ألف مَلك يهنّئون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سرّ به وسمّاه حسيناً.

وعن امّ الفضل (٢) قالت : رأيت في منامي قبل مولد الحسين عليه‌السلام (٣) كأنّ قطعة من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت فوضعت في حجري ، فقصصت ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : « رأيتِ خيراً ، إن

__________________

١ ـ وقيل : اليوم الثالث منه ؛ وقيل : في أواخر شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث من الهجرة.

٢ ـ لبابة بنت الحارث الهلالية ، الشهيرة بامّ الفضل ، زوجة العباس بن عبد المطلب ، ولدت من العباس سبعة أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزورها ويقيل في بيتها ، توفيت نحو ٣٠ هـ. انظر : الاصابة : ترجمة رقم ٩٤٢ و ١٤٤٨ ، الجمع بين الصحيحين : ٦١٢ ، الاعلام ٥ : ٢٣٩.

٣ ـ قال رحمه‌الله : وأخرج أحمد بن حنبل من حديث امّ الفضل زوجة العبّاس ، قالت : كأنّ في بيتي عضواً من أعضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجزعت من ذلك فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت له ذلك ، فقال : خيراً تلد فاطمة غلاماً فتكفلينه بلبن ابنك قثم ، قالت : فولدت حسيناً فأعطيته حتى تحرك أو فطمته ثمّ جئت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجلسته في حجره ، فبال ، فضربت بين كتفيه ، فقال : ارفقي بابني رحمك الله أو أصلحك الله أوجعت ابني ... الحديث في ص ٣٣٩ من الجزء السادس.

١٦٩

صدقت رؤياك فإنّ فاطمة تلد غلاماً ، وأدفعه إليك لترضعينه ».

قالت : فجرى الأمر على ذلك.

فجئت به يوماً إليه فوضعته في حجره ، فبينما هو يقبّله بال ، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصته ، فبكى ، فقال النبي كالمغضب : « مهلاً يا اُمّ الفضل ، فهذا ثوبي يُغسل ، وقد أوجعتِ ابني ».

قالت : فتركته في حجره وقمت لآتيه بماء ، فجئت إليه فوجدته يبكي ، فقلت : ممّ بكاؤك يا رسول الله؟

فقال : « انّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ولدي [ هذا ] ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ». (١)

ولمّا أتت على الحسين من مولده سنة كاملة هبط على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر ملكاً محمرّة وجوههم ، باكية عيونهم ، وهم يقولون : إنّه سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابيل من قابيل ، وسيعطى مثل أجر هابيل ، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل.

[ قال : ] ولم يبق في السماوات ملك مقرّب الا ونزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرؤه السلام ، ويعزّيه عن الحسين ، ويخبره في ثواب ما يُعطى ، ويَعرض

__________________

١ ـ المستدرك ٣ : ١٧٦ ، دلائل النبوة ١ : ٢١٣ ، الصواعق المحرقة : ١١٥ ، الخصائص الكبرى ٢ : ١٢٥ ، الفصول المهمّة ١٥٤ ، كنز العمّال ٦ : ٢٢٣ ( باختلاف يسير في الألفاظ ).

١٧٠

عليه تربته (١) والنبي يقول : « اللهم اخذل مَن خذله ، واقتل مَن قتله ، ولا تمتعه بما طلبه ».

[ قال : ] فلمّا أتى على مولده سنتان خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر له ، فوقف في بعض الطريق ، واسترجع ودمعت عيناه.

فسئل عن ذلك ، فقال : « [ هذا ] جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء ، يقتل فيها ولدي الحسين [ بن فاطمة ».

فقيل له : مَن يقتله يا رسول الله؟

فقال : « رجل اسمه يزيد ، ] وكأنّي أنظر غلى مصرعه ومدفنه ».

ثم رجع صلى‌الله‌عليه‌وآله من سفره مهموماً مغموماً ، فصعد المنبر فخطب ، والحسن والحسين بين يديه ، ثمّ نزل فوضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين ، وقد رفع رأسه إلى السماء فقال : « اللهم إنّ محمّداً عبدك ونبيّك ، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيّتي [ وارومتي (٢) ] ومن اُخلفهما في اُمّتي ، وقد أخبرني جبرئيل عليه‌السلام أنّ ولدي

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : وقد أخرج أحمد بن حنبل من حديث علي عليه‌السلام في ص ٨٥ من الجزء الأوّل من مسنده حديثاً في هذا الموضوع طويلاً جاء في آخره : انّ جبرائيل عليه‌السلام حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين بشط الفرات وانّه قال له : هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟

قال : قلت : نعم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها فلم أملك عينيّ ان فاضتا.

٢ ـ الاُرومة : الأصل.

١٧١

هذا مخذول مقتول.

اللهم بارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله ».

[ قال : ] فضجّ الناس في المسجد بالبكاء.

[ فقال النبي : « أتبكون ولا تنصرونه؟! اللهم فكن له أنت ولياً وناصراً » ]. (١)

ثم رجع صلى‌الله‌عليه‌وآله فخطب خطبة أخرى موجزة وهو متغيّر اللون وعيناه تهملان دموعاً فقال :

« أيها الناس ، إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإنّي أنتظرهما ، وإنّي لا أسألكم في ذلك الاما أمرني ربّي المودة في القربى.

ألا وإنّه سترد عليَّ [ يوم القيامة ] ثلاث رايات من هذه الامّة :

الاولى : سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف عليَّ ، فاقول : مَن أنتم؟

فينسون ذكري ، فيقولون : نحن أهل التوحيد من العرب.

فأقول [ لهم ] : أنا أحمد نبيّ العرب والعجم.

__________________

١ ـ مقتل الخوارزمي ١ : ١٦٣ ، ذخائر العقبى : ١٤٩ ، الصراط السوي للشيخاني المدني : ٩٣ ، الملهوف : ٩٤.

١٧٢

فيقولون : نحن من اُمّتك.

فأقول لهم : كيف خلّفتموني في عترتي وكتاب ربّي؟

فيقولون (١) : أمّا الكتاب فضيّعناه ، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم.

فأُولّي عنهم وجهي ، فيصدرون عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية اُخرى أشدّ سواداً من الاولى ، فأقول لهم : كيف خلّفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر : كتاب ربّي وعترتي؟

فيقولون : أمّا الأكبر فخالفناه ، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم (٢) كلّ ممزّق.

فأقول : إليكم عنّي! فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثم ترد عليَ راية اُخرى تلمع وجوههم نوراً ، فأقول [ لهم ] : مَن أنتم؟

فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن اُمّة المصطفى ، ونحن بقية أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربّنا فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه ، وأحببنا

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور : ٢٤ ] ، « ويوم يُحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء » [ فصلت : ١٩ ـ ٢١ ].

٢ ـ في الأصل : فخذلناه ومزقناه.

١٧٣

ذرّيّة نبيّنا فنصرناهم وقاتلنا معهم.

فأقول لهم : أبشروا فانّي نبيّكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويين مستبشرين ، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبداً الآبدين ». (١)

ورو الشيخ في الأمالي بأسانيده إلى الرضا ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن أسماء بنت عميس قالت : لمّا ولدت فاطمة الحسين عليهما‌السلام كنت أخدمها في نفاسها به ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هلمي ابني يا أسماء ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى.

قالت : وبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال : إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء : فلمّا كان يوم السابع من مولده جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعقّ عنه كبشاً أملح ، وأعطى القابلة الورك ورجلاً ، وحلق رأس الحسين وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، وخلق رأسه بالخلوق.

قالت : ثمّ وضعته في حجره ، فقال : يا أبا عبد الله ، عزيز عليَّ ، ثم بكى.

[ قالت أسماء : ] فقلت : بأبي أنت واُمّي ممّا بكاؤك في هذا اليوم وفي اليوم

__________________

١ ـ الملهوف : ٩٥ ـ ٩٦.

١٧٤

الأوّل؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني اميّة لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة.

ثم قال : اللهم انّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم عليه‌السلام في ذرّيّته : اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما ، والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض. (١)

اشدد يداً بحـبّ آل أحمـد

فانّهـا عقـدة فـوز لا تحـلّ

وابعث لهـم مراثياً ومدحاً

صفوة ما راض الضمير ونخل

وما الخبيثان ابن هند وابنه

وان طغـى أمرهما بعـدُ وجل

بمبدعين للـّذي جـاءا به

وانّـما تقـفـيـا تلك السبـل

__________________

١ ـ أمالي الشيخ الصدوق : ٣٦٢ ، وانظر : ذخائر العقبى : ١١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١ : ٨٧ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ١٥٤ ، الخصائص الكبرى للسيوطي ٢ : ١٢٥.

١٧٥

[ المجلس الثاني ]

كانت إمامة الحسين بعد أخيه الحسن عليهما‌السلام ثابتة ، وطاعته على جميع الخلق فريضة ، بنصّ أبيه وجدّه عليهما‌السلام ، وعهد أخيه الحسن ووصيّه إليه ، وكانا سيدي شباب أهل الجنة (١) بشهادة جدّهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهما سبطاه بالاتّفاق الذي لا مرية فيه ، وريحانتاه من الدنيا (٢) وحبيباه من جميع أهله ، وهما حجّتا الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة (٣) ، وحجّتا

__________________

١ ـ راجع : المعجم الكبير للطبراني : ج ٣ ص ٢٥ ـ ٣٠ ح ٨ ـ ٢٦١٨ ، مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٨٢ ـ ١٨٤ ، حلية الأولياء للأصبهاني : ج ٥ ص ٧١ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ص ٩٢ ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : ص ٧٢ ح ١٢٩ وص ٧٤ ح ١٣٢ وص ٧٦ ح ١٣٣ وص ٧٧ ح ١٣٤ وص ٧٩ ح ١٣٨ وص ٨٠ ـ ٨٣ ح ١٣٩ ـ ١٤٣ ، فرائد السمطين للجويني : ج ٢ ص ٤١ ح ٣٧٤ ، وص ٩٨ ـ ٩٩ ح ٤٠٩ و ٤١٠ وص ١٢٩ ح ٤٢٨ ، بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٦٤ ح ٩ وج ١٦ ص ٣٦٢ ح ٦٢ وج ٢٢ ص ٢٨٠ ح ٣٣ وج ٢٥ ص ٣٦٠ ح ١٨.

٢ ـ كنز العمال : ج ١٣ ص ٦٦٧ ح ٣٧٦٩٩ ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر : ج ٤ ص ٢٠٧.

٣ ـ إشارة إلى آية المباهلة وهي قوله تعالى : « فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالَوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » [ آل عمران : ٦١ ].

فقد أجمع الجمهور على أن هذه الآية الشريفة نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وذلك لما أراد المباهلة مع نصارى نجران. راجع : شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ١ : ١٥٥ ـ ١٦٦ ح ١٦٨ ـ ١٧٦ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٥٠ ، أسباب النزول للواحدي : ٥٨ ـ ٥٩ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ ح ٣٢ ، سنن الترمذي ٥ : ٢١٠ ح ٢٩٩٩ إحقاق الحقّ للتستري ٣ : ٤٦ ـ ٦٢ ، مجمع الزوائد ٧ : ١١٠ ، فضائل الصحابة لابن حنبل ٢ : ٥٧١ ح ٩٦٦ وص ٥٩٣ ح ١٠٠٨ ، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ١٢ : ٨٥ ح ١٢١٨٦ ، المطالب العلية لابن حجر ٤ : ٥٦ ح ٣٩٤٩.

١٧٦

الله بعد على الاّمة في الدين والملّة.

وإنّ من برهان كمالهما ، وحجّة اختصاص الله لهما بفضله : بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهما ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، وكان من عناية الله الخاصّة بهما الدالة على تفضيلهما نزول القرآن بإيجاب الجنّة ثواباً على عملهما أيّام طفوليتهما حيث كانوا : « يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً ويُطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنّما نُطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نظرةً وسروراً وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا » (١) ولم ينزل قرآن بذلك في طفلين سواهما.

وقد نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامتهما بقوله : ابناي هذين إمامان قاما أو قعدا (٢).

ودلّت وصيّة الحسن إلى الحسين على إمامته ، كما دلّت وصيّة أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته ، ووصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام على إمامته من بعده. وتفصيل هذا في مظانه من كتب الأعلام من علمائنا رضي الله عنهم ورضوا عنه. (٣)

فالحسين إمام بعد صنوه المجتبى ، وإن لم يدع إلى نفسه أيّام معاوية (٤)

__________________

١ ـ الدهر : ٧ ـ ١٢.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٤٣ ص ٢٩١ ح ٥ وج ٤٤ ص ١ ح ٢.

٣ ـ للاطلاع على هذه الوصايا ، انظر الارشاد للمفيد.

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، مؤسّس الدولة الاموية في الشام ، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها ، ولي قيادة جيش تحت إمرة أخيه في خلافة أبي بكر ، وصار والياً على الاردن في خلافة عثمان ، ثمّ ولاه دمشق ، وجاء عثمان فجمع له الديار الشاميّة كلّها وجعل ولاة

١٧٧

للتقية التي كانوا عليها ، والحال التي آل أمرهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها ، فهو في ذلك كأبيه أمير المؤمنين حيث يقول : وصفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ـ إلى أن قال : ـ فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شذى ، أرى تراثي نهباً. (١)

__________________

أمصارها تابعين له ، وبعد قتل عثمان وولاية علي عليه‌السلام وجّه له لفوره بعزله ، وعلم معاوية قبل وصول البريد ، فنادى بثأر عثمان واتهم علياً بدمه ونشبت الحروب الطاحنة واستعمل معاوية الخديعة والمكر ، مات معاوية في دمشق سنة ٦٠ هـ وعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد.

انظر : تاريخ الطبري ٦ : ١٨٠ ، تاريخ ابن الأثير ٤ : ٢ ، البدء والتاريخ ٦ : ٥.

١ ـ فلقد صبر أمير المؤمنين عليه‌السلام على اغتصاب الخلافة وظلم الزهراء عليها‌السلام وتحريف دين الله وسنّة نبيّه ، ولذا جاءت خطبته الشقشقية تعبيراً عن حالة الظلم التي تعرض لها البيت النبوي بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونظراً لأهمية الخطبة نحن نوردها كاملة.

يقول الإمام علي عليه‌السلام : « اما والله لقد تقمصها فلان ( وفي نسخة ابن أبي قحافة ) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه! فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان ( وفي نسخة ابن الخطاب ) بعده. ثم تمثل بقول الاعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها! ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس. وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيالله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكنّى أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته!

١٧٨

وعلى هذا المنوال نسج الحسن ـ بأبي واُمي ـ أيّام الهدنة ، إذ تغلب عليه ابن آكلة الأكباد ، وهم جميعاً على سنن النبي في أوّل أمره حيث لم يتمكّن صلى‌الله‌عليه‌وآله من دعوة أحد إلى الله حينئذ أصلاً ، وحال أوصيائه من بعده كحاله حين كان في الشعب محصوراً ، وفي الغار مستوراً ، ولئن كانت هذه الحال منافية للنبوّة فهي غير منافية للإمامة بطريق أولى كما يعلمه أولوا الألباب.

ولمّا هلك معاوية وانقضت الهدنة التي كانت تمنع الحسين عليه‌السلام من الدعوة إلى نفسه ووجد في ظاهر الحال من الأنصار ما يتسنّى له القيام بالدعوة إلى الله تعالى ، نهض بأعبائها ، وتوجّه بولده وأهل بيته من حرم الله تعالى وحرم رسوله إلى العراق للإستنصار على الظالمين ، بمن دعاه إلى ذلك من أهل الكوفة ، وقدّم أمامه ابن عمّه مسلماً للدعوة إلى الله عز وجل ، والبيعة له على الجهاد في اعلاء كلمته تعالى ، وانقاذ الدين والمسلمين من اولئك المنافقين ، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه ، وضمنوا له النصرة والنصيحة وواثقوه ، ثمّ لم تطل المدّة حتى نكثوا البيعة ، وأسلموا مسلماً قتيل بينهم غريباً مظلوماً ، وحيداً شهيداً ، وخرجوا إلى حرب الحسين عليه‌السلام ففعلوا به ما لم يفعلوه

__________________

فما راعني الا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون : كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول : « تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً ، والعاقبة للمتقين » بلى! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها!

أما والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء الايقاروا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لا لقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز! انظر : شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة ١ : ٣٤ ( الخطبة الشقشقية ).

١٧٩

بالخوارج ، وقابلوه بما لم يقابلوا به أهل الخنا والريب.

جعجعوا (١) به ومنعوه المسير إلى بلاد الله ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات ، حتى قضى شهيداً ظمآناً ، مظلوماً مهموماً ، مجاهداً مكابداً ، صابراً محتسباً ، قد نُكثت بيعته ، واستحلّت حرمته ، ولم يوف له بعهد ، ولا رعيت فيه ذمّة وعقد ، وانتهبوا أمواله ، وسبوا عياله ، فلهفي لآل الرسول ، وللخفرات من عقائل البتول ، وقد ضاقت بهم المذاهب ، وارتجت عليهم المسالك ، مولهين مدلهين ، خائفين مترقّبين.

كانت بحيث عليها قـومها ضرب

سـرادقاً أرضـه مـن عزّهم حرم

يكاد مـن هيبة أن لا يطـوف به

حتى الملائـك لـولا انّـهـم خـدم

فغـودرت بين أدي القـوم حاسرة

تسبـى وليـس لها من فيه تعتصـم

نعـم لوت جيـدها للعتـب هاتفة

بقومـهـا وحشاهـا ملـؤه ضـرم

عجت بهم مذ على أبرادها اختلفت

أيدي العـدو ولكـن مـن لهـا بهم

قومي الأولى عقدوا قِدماً مآزرهم

على الحمية ما ضيموا ولا اهتضموا

ما بالهم لا عفـت منهم رسومهم

قرّوا وقد حملتنـا الأنـين الرسـم

__________________

١ ـ كتب ابن زياد إلى عمر : أن جعجع بالحسين ؛ أي أنزله بجعجاع وهو المكان الخشن الغليظ ، وهذا تمثيل لالجائه إلى خطب شاق وإرهاق ، وقيل المراد إزعاجه ، لأن الجعجاع مناخ سوء لا يقر فيه صاحبه ، ومنه جعجع الجل : قعد على غير طمأنينة. انظر : الفائق : ٣٦٤.

١٨٠