المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة

المؤلف:

السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي


المحقق: محمود البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-85-1
الصفحات: ٣٨٢

فقال أبو بكر : والله ما دعوته ، ولا غدرته ، ثمّ قال متمّم :

لنعم حشو الدرع كان وحاسراً

ولنعم مأوى الطارق المتنوّر

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه

حلـو شمائله عفيف المأزر

وبكي حتى انحط عن سية قوسه.

قالوا : فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء ، فما أنكر عليه في بكائه ، ولا في رثائه منكر ، مع ما في بكائه ورثائه من المغازي السياسية ، بل قال له عمر : لوددت انّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك ، فرثي متمّم بعدها زيداً فما أجاد.

فعاتبه عمر بقوله : لِمَ لَم ترث أخي كما رثيت اخاك؟

فقال : إنّه والله ليحرّكني لأخي ما لا يحرّكني لأخيك.

واستحسن الصحابة والتابعين ومن بعدهم مراثيه في مالك ، فكانوا يتمثّلون بها إذا اقتضى الأمر ذلك ، كما فعلته عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن فبكت عليه وتمثّلت بقول متمّم :

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلمّـا تفرّقنا كأنّي ومالكاً

لطـول اجتماع لم نبت ليلة معا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين في كل عصر ومصر لا يتناكرونه.

وحسبنا دليلاً على استحبابه في مآتمنا ما رواه أصحابنا عن زيد الشحّام قال : كنّا عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام نحن وجماعة من الكوفيين ، فدخل جعفر بن عفّان فقرّبه الإمام وأدناه ، ثم قال : يا جعفر بلغني انّك تقول الشعر في الحسين وتجيد.

١٤١

قال : نعم جعلت فداك.

قال : قل ، فأنشدته :

ليبك علـى الإسـلام من كان باكياً

فقد ضيعت أحكـامـه واستـحلّت

غــداة حسيـن للرمـاح دريئـة

وقد نهلت منـه السيـوف وعلـّت

وغـودر في الصحراء شلواً مبدداً

عليه عتاق الطيـر بـاتـت وظلّت

فمـا نصرته اُمّة السـوء إذ دعا

لقد طاشت الأحلام منهـم وظـلّت

وما حفظت قرب النبي ولا رعت

وزلّت بهـا أقـدامهـا واسـتزلّت

أذاقتـه حـرّ القـتـل امّة جـدّه

فتبـّت أكـف الظالميـن وشلّـت

فلا قدّس الرحـمـن امـّة جـده

وإن هي صـامت للإله وصـلـّت

كما فجعت بنت الرسـول بنسلها

وكانوا كماة (١) الحرب حين استقلّت

فبكي الصادق عليه‌السلام ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته ثمّ قال : يا جعفر والله لقد شهدك الملائكة المقرّبون ، وأنّهم لهاهنا يسمعون قولك في الحسين ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ، وقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك الجنّة وغفر لك.

ثم قال عليه‌السلام : ألا ازيدك؟

قال : نعم يا سيّدي.

قال عليه‌السلام : ما من أحد قال في الحسين شعراً ، فبكى وأبكى الا أوجب الله له الجنّة وغفر له.

وقد نسج جعفر بن عفّان في هذا الرثاء على روي سليمان بن قتّة

__________________

١ ـ كذا في الأصل ، وفي المصدر : حماة.

١٤٢

العدوي (١) ، إذ مرّ بكربلاء لثلاث بعد قتل الحسين وأصحابه ، فنظر إلى مصارعهم ومضاربهم ، فأنشأ يقول ويبكي :

مررت علـى أبـيـات آل محمـد

فلم أرهـا أمثـالها (٢) حين حلّت

فلا يـبعد الله الـديـار وأهـلـها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت

وانّ قتيـل الطـفّ مـن آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمـيـن فـذلـّت

وكانوا غيـاثاً ثم أضحـوا رزيـة

ألا عظمت تلك الرزايـا وجـلّت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتـل حسيـن والبـلاد اقشعرّت

وقد أعولـت تبكـي السماء لفقده

وأنجمها ناحت علـيـه وصلّت (٣)

__________________

١ ـ في القاموس : قتّة : كضبّة ، اسم ( امُ سليمان ) بن حبيب المحاربي ( التابعي ) المشهور يعرف بابن قتّة ، وهو القائل في رثاء الحسين عليه‌السلام :

وانّ قتيل الطف من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وهو مولى بني تيم بن مرّة ، توفّي بدمشق سنة ١٢٦ هـ ، وينبغي أن يكون أوّل من رثى الحسين عليه‌السلام ، لأنّه مرّ بكربلاء بعد قتل الحسين عليه‌السلام بثلاث ليال ، فنظر إلى مضاربهم ، واتّكأ على قوس له عربية وأنشأ يقول : مررت ...

وقيل : إن هذه المرثيّة لأبي الرميح ( الزميج ) الخزاعي.

انظر : سير أعلام النبلاء ٤ : ٥٩٦ ( وذكر انّ قتّة اسم امّه ) ، الجرح والتعديل ٤ : ١٣٦ ، المعجم الأوسط ٢ : ٤٥٧ ، طبقات القرّاء ١ : ٣١٤ ، تهذيب الكمال ٦ : ٤٧٧.

٢ ـ في بعض المصادر : كعهدها ، وقد صحّفت في مصادر اخرى ، فقد وردت في تهذيب الكمال وأنساب الأشراف : « فألفيتها أمثالها ... » وهذا التصحيف متعمّد من أشياع آل أبي سفيان لعنهم الله.

٣ ـ قال رحمه‌الله : أنشد هذه الأبيات أبو تمام في الحماسة ، والمبرد في الكامل لسليمان بن قتّة ، ونسبها ابن الأثير في آخر وقعة الطف من كامله الى التيمي تيم مرّة قال : وكان منقطعاً إلى بني هاشم ، والظاهر أنّه أراد سليمان بن قتّة لأنّه تيمي بالولاء.

وقال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة : رواها البرقي لأبي زميج الخزاعي ، وأوردها ابن عبد البر في ترجمة الحسين من الاستيعاب ، فنسبها إلى سليمان بن قتّة

١٤٣

ورحم الله الحسين بن الضحاك (١) إذ نسج على هذا الروي والقافية ، فقال :

وممّا شجا قلبي وأسبل (٢) عبرتي

محارم من آل النـبـي استحلـّت

ومهتـوكة بالطفّ عنها سجوفها

كعاب كقـرن الشمـس لما تبدّت

إذا حفزتـها وزعـة من منازع

لها المرط عادت بالخضوع ورنّت

وربّات خـدرٍ مـن ذؤابة هاشم

هتفن بدعـوى خيـر حيٍّ وميّت

أردّ يداً منّـي إذا مـا ذكـرتها

على كبد حـرّى وقلـب مفتّـت

فلا بات ليل الشامتين بغيـظه (٣)

ولا بلغت آمالهـا مـا تمـنـّت (٤)

ولله درّ عواطف الامام محمد بن إدريس الشافعي (٥) حيث يقول من أبيات له في رثاء الحسين عليه‌السلام : (٦)

تزلزلـت الدنيـا لآل محمـد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

فمن مبلغ عنّي الحسين رسالة

وان كرهتها أنفـس وقلـوب

قتيل بلا جـرم كأن قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب (٧)

__________________

الخزاعي ، وقيل : انّها لأبي الزميج الخزاعي.

١ ـ هو أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الباهلي المعروف بالخليع أو الخالع ، ولد سنة ١٦٢ ومات سنة ٢٥٠ فيكون عمره ٨٨ سنة ؛ وقيل : بل عمّر أكثر من مائة سنة ، وكانت ولادته بالبصرة. انظر : أدب الطف ١ : ٣١٠.

٢ ـ في أدب الطف : وأوكف.

٣ ـ في أدب الطف : بغبطة.

٤ ـ الدرّ النضيد : ١٢٦.

٥ ـ هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ، ولد سنة ١٥٠ هـ وتوفي سنة ٢٠٤ بمصر ، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة السنّية.

٦ ـ انظر : ينابيع المودّة ٢ ك ٣٥٦ ، بحار الانوار ٤٥ : ٢٧٤ ، فرائد السمطين ٢ : ٢٦٦.

٧ ـ قال رحمه‌الله : هذا الرثاء نقله عن الإمام الشافعي جمال الدين الحافظ الزرندي المدني كما في كتاب معارج الأصول ، ونقله الفاضل البلخي في ينابيعه.

١٤٤

وروى الصدوق في أماليه وفي ثواب الأعمال ؛ وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي عمارة قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام فقال : أنشد في الحسين ، فأنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، قال : فوالله ما زلت أنشده وهو يبكي حتى سمعت البكاء من الدار.

فقال : يا أبا عمارة من أنشد في الحسين فأبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة ...

وروى الصدوق في ثواب الأعمال ، وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، فقال : يا

__________________

أقول : وأورد هذه الأبيات ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب :

تأوّب غمـّي والـفـؤاد كئـيـب

وأرّق نومـي فالـرقاد غريب

وممّا نفي نـومـي وشيّـب لمّتي

تصاريف ايّام لهـنّ خطـوب

فمن مبلّغ عـنّي الحسـيـن رسالة

وإن كرهتها أنفـس وقلـوب

قتيـل بـلا جـرم كـأنّ قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب

وللسيـف أعـوال وللـرمح رنّة

وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تـزلـزلـت الـدنيا لآل محمـّد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

وغارت نجوم واقشعرت كـواكب

وهتك أستـار وشـقّ جيوب

يصلّى على المبعوث من آل هاشم

ويغزى بنوه إنّ ذا لعجـيـب

لئن كـان ذنبـي حـبّ آل محمد

فذلك ذنـب لسـت عنه أتوب

هم شفعـائي يوم حشري وموقفي

إذا ما بدت للناظـرين خطوب

وقال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة : قال الحافظ جمال الدين المدني في كتابه ( معراج الاصول ) انّ الامام الشافعي أنشد :

تأوّه قلبـي والفـؤاد كئيـب

وأرّق نومي فالسهاد عجيـب

فمن مبلّغ عني الحسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقـلـوب

ذبيح ، بلا جرم كأنّ قميصه

صيبغ بماء الارجوان خضيب

الأبيات ...

١٤٥

أبا هارون ، انشدني في الحسين ، فأنشدته ـ فلم يعجبه الانشاد لخلوّه من الرقّة المشجية وكأنّه تركها حياء من الإمام عليه‌السلام ـ.

فقال : لا ، ـ يعني لا تنشد بهذه الطريقة ـ ، بل كما تنشدون ، وكما ترثيه عند قبره.

قال : فأنشدته (١) حينئذ :

أمرر على جدث الحسين

فقل لاعظمـه الزكيّة

يا أعظمـاً لا زلـت من

وطفاء ساكـبة رويّة (٢)

وإذا مـررت بقـبـره

فأطل به وقف المطيّة

وابك المطهّر للمطـهّـ

والمطهـّرة التقيـّة

كبكـاء معـولة أتـت

يوماً لواحـدها المنيّة

قال : فبكى ، ثم قال : زدني ، فأنشدته القصيدة الاخرى :

يا مريم قومي واندبي مولاك

وعلى الحسين اسعدي ببكاك

قال : فبكى الصادق وتهايج النساء من خلف الستر ، فلمّا أن سكتن قال : يا أبا هارون ، مَن أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنّة ـ إلى أن قال : ـ ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنّة.

ودخل عبد الله بن غالب على الإمام الصادق عليه‌السلام فأنشده مرثيّته في الحسين عليه‌السلام ، فلمّا انتهى إلى قوله : لبلية ... البيت ، صاحت باكية من وراء

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : أنشد أبو هارون هذه الأبيات وهي للسيد إسماعيل الحميري.

٢ ـ وطفاء ـ كحمراء ـ : منهمرة ، من قولهم : وطف المطر : انهمر ؛ ويقال : سحابة وطفآء ، أي : مسترخية لكثرة مائها.

١٤٦

الستر : يا أبتاه. (١)

وللإمام الثامن الضامن عليه‌السلام مع دعبل الخزاعي قضية مشهورة (٢) ؛

__________________

١ ـ انظر : كامل الزيارات : ١٠٥ ح ٣.

٢ ـ قال رحمه‌الله : أشار إليها الفاضل العباسي في أحوال دعبل من معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص في اوّل ص ٣٧٣ ، وذكرها الصدوق في عيون أخبار الرضا ، والعلامة الأربلي في كشف الغمّة ، والمجلسي في بحار الأنوار ، وأبو الفرج الأصفهاني في أغانيه ، وغير واحد من المحدّثين والمؤرخين.

أقول : وقد ذكرنا القصّة مفصّلة في الهامش أثناء تعليقناعلى ذكرها في المقدّمة الزاهرة.

أما أبيات القصيدة التي أنشدها دعبل فمنها :

مدارس آيات خلـت مـن تـلاوة

ومنزل وحـي مقفـر العرصات

لآل رسول الله من خيف من منى

وبالبيت والتعريـف والجمـرات

ديـار علـي والحسيـن وجعفـر

وحمـزة والسجـاد ذي الثفنـات

منازل كانت للصـلاة وللتـقـى

وللصوم والتطهيـر والحسنـات

إذا لـم ننـاج الله فـي صلواتنـا

بأسمـائهـم لم يقبـل الصلوات

فيا ربّ زدنـي في هواي بصيرة

وزد حبهم يا ربّ فـي حسنـاتي

سأبكيـهـم ما حـجّ لله راكـب

وما ناخ قمريّ علـى الشجـرات

سقـى الله قبـراً بالمـدينة غيثه

فقد حـلّ فيـه الأمـن والبركات

قبور ببطن النهر من جنب كربلا

معـرسهـم منها بشـط فـرات

توفّوا عطـاشا بالفـرات فليتني

توفّيـت فيهـم قبـل حين وفاتي

الى الله أشكـو لوعةً عند ذكرهم

سقتني بكأس الثكل والفـظـعات

أفاطم لو خلـت الحسيـن مجدّلاً

وقد مات عطشـانـاً بشطّ فرات

اذاً للطـمت الخـدّ فاطم عنـده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سمـاوات بـأرض فلاة

ديار رسـول الله أصبحن بلقعا

وآل زيـاد تسكـن الحجـرات

وآل زياد في القصور مصونة

وآل رسـول الله فـي الفلـوات

١٤٧

وذلك لما وفد عليه بعبقريته التائية تلك القصيدة التاريخية الرنّانة ، التي تجاذبت بها أندية الأدب ، وانتشرت في أقطار العرب ، وقامت بتلاوتها في دار الرضا قيامة الأحزان ، وقرعت ساحته الشريفة بنوح دعبل بها الأشجان ، فبكى الإمام أحرّ بكاء ، وعلا من وراء الستر صراخ النساء ، وكان لأطفاله رنين ومأق ورغاء (١) حتى استولي عليه الاغماء ، واشترك في البكاء معه جنّة الأرض وملائكة السماء.

وقد علم الناس أنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام قد أمر بشراً (٢) برثاء سيد الشهداء حيث قال :

يا بشر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه؟

قال : نعم يا بن رسول الله.

قال عليه‌السلام : ادخل المدينة وأنع أبا عبد الله.

قال بشر بن حذلم : فركبت فرسي ، وركضت حتى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجُ

والرأس منه على القناء يدار (٣)

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : المأق : ما يأخذ الصبي بعد البكاء من الشهيق الشبيه بالفواق ، ورغاء الصبي : هو أشد ما يكون من بكائه.

٢ ـ وهو بشر بن حذلم ؛ وقيل أيضاً : ان اسمه بشير بن جذلم ، وهو من أصحاب الإمام السجاد عليه‌السلام ، رافق عيال الإمام الحسين عليه‌السلام عند عودتهم من الشام إلى المدينة.

انظر : الملهوف : ٢٢٦.

٣ ـ حياة الإمام الحسين ٢ : ٤٢٣ ، الملهوف : ٢٢٧.

١٤٨

المجلس الثالث : في تلاوة الأحاديث

لا ريب في رجحان تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الموتى من المؤمنين ومصائبهم ، إذ تكون كذكرى لحياتهم ، تنتفع الامّة بها على قدر مكانتهم في محامد الصفات ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأفعال.

وانّ امّته تهتم بتاريخ عظمائها الممتازين في دينهم ودنياهم ، لتعد حافظة مجدها ، ناصحة لمن بعدها ، وقد جرت سيرة الخلف والسلف على ذكر مناقب الموتى ومصائبهم ، كتابة وخطابة ، نظماً ونثراً. والعقل والنقل يحكمان بحسن ذلك ، وقواعد المدنية تقتضيه ، واصول الترقّي في المعارف والفضائل توجبه ، إذ به تحفظ الآثار النافعة ، وتخلّد الأرواح الشريفة ، وبالتنافس فيه تعرج أبطال المنابر إلى أوج البلاغة ، وتستوي رجال المحابر ببراعتها على عرش البراعة.

وما أحوج الامّة إلى ذكرى ما أصاب سلفها من النوائب أيّام بؤسهم ، وما اكتسبوه من المآثر والمناقب أيّام عزّهم « إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب » (١).

وهذا كتاب الله عز وجل وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمثّلان مناقب الأنبياء ومصائبهم بأجلى مظاهر التمثيل ، ويصوّران مثالب أعداء الله وأعداء أنبيائه بأوضح التصوير ، ولولا الكتاب والسنّة ، ما عرفنا فضائل أنبياء الله ، ولا رذائل أعدائه ، وأنّى لنا ـ لولا الكتاب والسنّة ـ بالوقوف على نصح الأنبياء لله تعالى ولعباده ، والصبر على الأذى الذي نالهم في سبيل الحق من النماردة

__________________

١ ـ سورة الزمر : ٢١.

١٤٩

والفراعنة والعمالقة ، وأصحاب الرسّ والأخدود وغيرهم.

فالقول بتحريم تلاوة مناقب أهل المناقب من الموتى ومصائبهم يستلزم تحريم تلاوة الكتاب والسنّة ، وقراءة التاريخ وعلم الرجال ، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق! ويختار لبصيرته هذا العمي! نعوذ بالله من سفه الجاهلين.

وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة ، وهو أوّل من دفن هناك فقال عليه‌السلام ـ في تأبينه ـ :

رحم الله خباباً ، لقد أسلم راغباً ، وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلي في جسمه أحوالاً ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

ووقف الإمام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنين عليهما‌السلام فقال :

أشهد انّك جاهدت في الله حقّ جهاده ، وعملت بكتابه ، واتّبعت سنن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى دعاك الله إلى جواره ، فقبضك إليه باختياره ، لك كريم ثوابه ، وألزم أعداءك الحجّة في ظلمهم ايّاك مع ما لك من الحجج البالغة.

ووقف الإمام الصادق عليه‌السلام على قبر جدّه الإمام الحسين عليه‌السلام فقال :

أشهد أنّك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وأطعت الله ورسوله ، وعبدته مخلصاً ، وجاهدت في سبيله صابراً محتسباً حتى أتاك اليقين ، فلعن الله امّة قتلتك ، ولعن الله امّة ظلمتك ، ولعن الله امّة سمعت بذلك فرضيت به. (١)

__________________

١ ـ العقد الفريد ٢ : ١٤٧.

١٥٠

ووقف الحسين على قبر أخيه الحسن عليهما‌السلام فقال :

أأدهـن رأسي أم تطيب مجالسي

وخـدّك معفـور وأنت تريب

وليس حريباً من اُصيـب بماله

ولكن من وارى أخـاه حريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

بكائـي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيـد والمـزار قريب (١)

ووقف محمد بن أمير المؤمنين ـ المعروف بابن الحنفيّة ـ على قبر اخيه ، وخليفة أبيه أبي محمد الحسن الزكي المجتبى عليه‌السلام فخنقته العبرة فقال :

يرحمك الله أبا محمد ، فلئن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذّتك أكفّ الحقّ ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة

__________________

١ ـ قال محمد بن أبي طالب في تسلية المُجالس وزينة المَجالس ، ولمّا وضع الحسن عليه‌السلام في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام :

أأدهـنُ رأسـي أم اُطيـّب مجـالسي

ورأسـك معفـور وأنـت سليـب

أو استمـتـع الدنيـا بشـيء اُحبّـه

ألا كـلّ ما أدنـى إليـك حبـيـب

فلا زلت أبكـي ما تغنّـت حمـامة

عليـك وما هبـّت صبـا وجنوب

وما هملت عينـي من الدمع قطـرة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

بكائـي طويـل والـدموع غزيرة

وأنت بعـيـد والـمـزار قريـب

غريب وأطـراف البيوت تحـوطه

ألا كلّ من تحـت التـراب غريب

فلا يفرح الباقي خلاف الذي مضى

فكل فتـى للمـوت فيه نصـيـب

وليس حريباً مـن اُصيـب بمـاله

ولكـنّ مـن وارى أخـاه حـريب

نسيبك من أمسـى يناجيـك طرفه

وليس لمن تحـت التـراب نسيـب

انظر : مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٤٥ ، تسلية المُجالس وزينة المَجالس ٢ : ٦٥ ، بحار الأنوار ٤٤ : ١٦٠ ذ ح ٢٩.

١٥١

بفراقك ، ولا شاكّة في الخيار لك.

ثمّ بكى بكاءاً شديداً وبكى الحاضرون حتى علا نشيجهم وفيهم الحسين واخوته وابن عبّاس وسائر الهاشميين. (١)

ولمّا توفّي أمير المؤمنين عليه‌السلام قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكي عليهما‌السلام فقال :

لقد قتلتم الليلة رجلاً والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، [ والله ] إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبعثه في السرية ، وجبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، [ والله ] ما ترك بيضاء ولا صفراء ... إلى آخر كلامه. (٢)

ووقف أمير المؤمنين عليه‌السلام على الضريح الأقدس ، ضريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ساعة دفنه فقال :

إن الصبر لجميل الاعنك ، وان الجزع لقبيح الاعليك ، وانّ المصاب بك لجليل ، وانّه بعدك لقليل. (٣)

وعن أنس بن مالك قال : لمّا فرغنا من دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبلت فاطمة عليها‌السلام فقالت :

[ يا أنس ، ] كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التراب؟

__________________

١ ـ تاريخ الاُمم والملوك ( حوادث سنة ٤٠ ) ، العقد الفريد ٢ : ٧٨.

٢ ـ تاريخ الاُمم والملوك ٥ : ١٥٧.

٣ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١٩٤ ، العقد الفريد ٢ : ١٠٢.

١٥٢

ثم بكت ونادت : يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من ربّه ناداه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه ، يا أبتاه لست بعد اليوم أراه. (١)

وكأنّي بها وقد أصلى ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولجّ فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة :

قد كـان بعـدك أنباء وهنبثة

لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقـد الأرض وابلها

فاختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا (٢)

فليت بعدك كان الموت صادفنا

لمّا قضيت وحالت دونك الكثب (٣)

ولم تزل ـ : بأبي هي واُمّي ـ بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات غصّة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، واخلدت في بيت أحزانها إلى الشجون ، حتى لحقت بأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله معصّبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض برحبها.

فلمّا فرغ أمير المؤمنين عليه‌السلام من دفنها في ظلام الليل ، ورهقه من الحزن عليها ما عيل به صبره ، وضاق به صدره ، استقبل بوجهه ضريح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشكو إليه بثّه وحزنه ، وقد جاشت في صدره غصص الهموم ،

__________________

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ٣ : ٥٥٣ ح ٦٦٧٣ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٣١١ ، صحيح البخاري ٦ : ١٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٢٢ ح ١٦٣٠ ، سنن النسائي ٤ : ١٣ ، العقد الفريد ٣ : ٢٣٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٣٨٢.

٢ ـ قال رحمه‌الله : الموجود في شرح النهج ، واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب ، لكنّ الصحيح ما أثبتناه ، وهو المأثور عندنا ، ومعنى نكبوا : عدلوا.

٣ ـ العقد الفريد ٣ : ١٩٤ ، النهاية لابن الأثير ٣ : ١٥٦.

١٥٣

واعتلجت فيه حزازات الغموم ، فقال وهو يجرض بريقه ، ويميد به شجوه ، وقد انحلّت عقود دموعه ، وتناثرت لآلئ جفونه :

السلام عليك يا رسول الله ، وعلى ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، ألا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، وأمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، أو يحتار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبؤك ابنتك بتظافر اُمّتك على هضمها ، فأحفّها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر. (١)

فـلأي الأمـور تـدفـن سـرّاً

بضعة المصطفى ويعفى ثراها

فمضت وهي أعظم الناس شجواً

في فم الدهر غصّة من جواها

وكأنّي بأمير المؤمنين عليه‌السلام واقفاً على قبرها وهو شجي بغصصه ، لا يملك دمعه ولا قلبه ، وكأنّي به ينشد :

لكل اجتماع من خليلين فُرقة

وكلّ الذي دون الممات قليل

وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ

دلـيل على أن لا يدوم خليل (٢)

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : هذا الكلام من الثابت عنه عليه‌السلام المأثور في كتاب نهج البلاغة.

٢ ـ العقد الفريد ٣ : ١٩٨.

١٥٤

المجلس الرابع : في الجلوس حزناً على الموتى

لا ريب في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حزن حزناً شديداً على شيخ الأباطح وبيضة البلد ، عمّه وكافله أبي طالب ، وعلى صدّيقته الكبرى امّ المؤمنين ، وقد ماتا في عام واحد ، فسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « عام الحزن » ، ولزم بيته (١) وأقلّ من الخروج حزناً عليهما ، وكان إذا تهجّمت عليه قريش يندب عمّه فيقول : « يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك » (٢).

وصحّ جلوسه في المسجد حزناً على ابن عمّه جعفر وصاحبيه زيد وابن رواحة. (٣)

وصحّ أيضاً أنه حزن حزناً شديداً ، لم ير أشدّ منه حين قتل القرّاء من أصحابه وقنت شهراً يستغفر لهم ، ويدعو على قاتليهم في قنوته.

والعقل يحكم برجحان الجلوس حزناً على فقد المصلحين من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة ، لأنّ تمييزهم بذلك يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقّهم بعد موتهم ، ويكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم.

__________________

١ ـ انظر : السيرة النبويّة ١ : ١٠٨ ، الكامل في التاريخ ١ : ٤٦٢ ، السيرة الحلبية ١ : ٤٦٢ باب وفاة أبي طالب وخديجة.

٢ ـ السيرة النبويّة ١ : ١٠٨.

٣ ـ قال رحمه‌الله : والحديث هذا ثابت في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن ص ١٥٤ من الجزء الأوّل من صحيح البخاري ، وفي باب التشديد في النياحة ص ٣٤٥ من الجزء الأوّل من صحيح مسلم ، وثابت في صحيح أبي داود أيضاً.

١٥٥

أمّا الجلوس لذكرى ما أصاب الأئمّة في سبيل مصالح الاُمّة ، فيبعث فيها روح الايمان والهدى ، ويأخذ بقلوبها إليهم ، وان بعُد العهد وطال المدى.

وقـول اللائميـن : بأنّه لا يحسن الجلوس حزناً على الميّت إذا تقادم العهد بموته (١) لا يتمّ في فجائعنا بأهل البيت ، حيث لا يتلاشى الحزن عليهم مهما تقادم العهد بهم ، بل لا تخبو زفرة تلك الفجائع ، ولا تخمد لوعة هاتيك القوارع ، ما بقي الزمان ، وكر الجديدان ، فقربُ العهد بها وبعده عنها سيان ، وما أولى هذا اللائم ، بقول بعض الأعاظم :

خلي اُميمـة عـن ملا

مك ما المعزّي كالثكول

ما الراقد الوسنان مثـ

ـل معذب القلب العليل

سهران من ألـم وهـ

ـذا نائـم الليل الطويل

ذوقـي اُميمة ما أذو

ق وبعده ما شئت قولي

ورحم الله القائل :

ويل قلبي الشجي ممّا يعاني

من ملام الخلي طعناً ووخزا

ولو علم اللائم الأحمق بما في حزننا على أهل البيت من النصرة لهم ، والحرب الطاحنة لأعدائهم ، لخشع أمام حزننا الطويل ، ولأكبر الحكمة المقصودة من هذا النوح والعويل ، ولأذعن للأسرار في استمرارنا على ذلك في كل جيل ،

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : أخرج الإمام أحمد في ص ٢٠١ من الجزء الأول من مسنده من حديث الحسين عليه‌السلام عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وان طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً الا جدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم اُصيب بها.

وروى ابن ماجة وأبو يعلى عنه هذا الحديث أيضاً كما في ترجمته عليه‌السلام من الاصابة.

١٥٦

وما أولاه وإيّانا بقول القائل :

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتـي فعـذلتني

وعلمت أنّك جاهل فعـذرتكا

على أنّ الأوامر المتواترة عن أئمّة العترة الطاهرة تستوجب التعبّد بترتيب آثار الحزن على الدوام ، ولو ثبتت هذه الأوامر عن أئمّة المذاهب الأربعة لعمل اللائمون بها ، فلماذا إذن يلوموننا بعد ثبوتها عن أئمّة العترة ، وسفينة نجاة الامّة ، وباب حطّة ، وأمان أهل الأرض ، وأعدل كتاب الله ، وعيبة رسوله ، لو كانـوا ينصفون؟؟

ولِمَ يلومنا اللائمون في حزننا ، مع تقادم العهد بمصيبتنا ، ويحبّذون استمرار أهل المدينة على ندب حمزة كلّما ناحوا على ميّت منهم؟

فإن كان بكاؤهم على حمزة مواساة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمصيبته في عمّه ، وأداء لواجب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكن حمزة لا بواكي له » ، فانّ بكاؤنا انّما هو مواساة له في مصيبته بريحانته من الدنيا ، وقرّة عينه ، واداء لواجب بكائه عليه.

أيبكي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين ـ بأبي هو واُمّي ـ قبل الفاجعة ونحن لا نبكيه بعدها؟؟

ما هذا شأن المتأسّي بنبيه ، والمواسي له!؟

ألم يرو الإمام أحمد : انّ عليّاً لما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى : صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفرات ، فسئل عن ذلك فقال :

دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وهو يبكي ، فسألته

١٥٧

فقال : قام من عندي جبرئيل فحدّثني إنّ الحسين يقتل بشط الفرات.

قال : فقال : هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟

قال : قلت : نعم ، فمدّ يده ، فقبض قبضة من تراب ، فأعطانيها.

وأخرج ابن سعد ، عن الشعبي قال : مرّ عليّ رضي الله عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفّين ، فوقف وسأل عن اسم الأرض ؛ فقيل : كربلاء ، فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه.

ثم قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي فقـلت : ما يبكيـك؟

قال : كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني أنّ ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات ، بموضع يقال له : كربلاء ...

وأخرج الملأ : انّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين عليه‌السلام فقال : ها هنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وها هنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد ، يقتلون بهذه العرصة ، تبكي عليه السماء والأرض ...

ومن حديث امّ سلمة قالت : كان عندي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي الحسين ، فدنا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذته ، فبكى فتركته ، فدنا منه ، فأخذته ، فبكى فتركته ، فقال له جبرئيل : أتحبّه يا محمد؟!

قال : نعم.

قال : أما إنّ اُمّتك ستقتله ، وان شئت أريتك الأرض التي يقتل بها ، فبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى الماوردي الشافعي ، عن عائشة ، قالت : دخل الحسين بن علي

١٥٨

على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يوحى إليه ، فقال جبرئيل : انّ اُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك ، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، وقال : في هذه يقتل ابنك اسمها الطف.

فلمّا عرج جبرئيل عليه‌السلام ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه والتربة بيده ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وحذيفة ، وعمار ، وأبو ذر ، وهو يبكي فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله؟!

فقال : أخبرني جبرئيل : إنّ بني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاء بهذه التربة (١) ، فأخبرني إنّ فيها مضجعه.

فإذن أوّل من بكى في هذه الامّة على الحسين ، وأوّل من اُهدي إليه تربته ، وأوّل من شمّها ، وأوّل من تلا على الناس مقتل الحسين بأرض الطف لهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل من سمّع حديث مقتله لأصحابه الكرام ، ولا احتمل الا أنّهم واسوا يومئذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حزنه وبكائه و « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر » (٢) ، « ومَن يتولّ فإنّ الله هو الغنيّ الحميد » (٣).

وأخرج الترمذي : إنّ امّ سلمة رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما يراه النائم ـ باكياً ، وبرأسه ولحيته التراب فسألته ، فقال : قتل الحسين آنفاً.

قال في الصواعق : وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار ، أشعث أغبر ، وفي

__________________

١ ـ قال رحمه‌الله : انّ تربة يحملها الروح الأمين إلى سيد النبيّين والمرسلين لحقيقة بالاحترام وجديرة بأن تدّخر وتحمل وتُهدى بكلّ إجلال وإعظام.

٢ ـ سورة الأحزاب : ٢١.

٣ ـ سورة الحديد : ٢٤ ، سورة الممتحنة : ٦.

١٥٩

يده قارورة فيها دم يلتقطه فسأله ، فقال : دم الحسين وأصحابه ، لم أزل أتتبّعه منذ اليوم.

قال : فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم.

وأمّا صحاحنا فانّها متواترة في بكائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سبطه وريحانته في مقامات عديدة ، يوم ولادته وقبلها ، ويوم السابع من مولده ، وبعده في بيت الزهراء ، وفي حجرته ، وعلى منبره ، وفي بعض أسفاره ، تارة يبكيه وحده ، ومرّة هو والملائكة ، وأحياناً هو وعلي وفاطمة ، وربّما بكاه هو وبعض أصحابه ، وربمّا قبّله في نحره وبكى ، وربّما قبّله في شفتيه فبكى ، وربّما بكى إذا رآه فرحاً أو رآه حزناً.

ولله در السيد الرضي حيث يقول :

لو رسـول الله يحـيـا بعـده

قـعـد اليـوم عليـه للـعـزا

جزروا جرز الأضـاحي نسله

ثـم سـاقـوا أهلـه سَوق الإما

ليـس هـذا لرسـول الله يـا

امّـة الطغيان والبـغـي جـزا

يا رسـول الله لو أبصرتهـم (١)

وهـم ما بيـن قتـلـى وسِـبا

مِن رميض يُمنـع الظلّ ومِن

عاطـش يسقـى أنابيـب القنـا

ومسوق عاثـر يُسـعـى به

خلـف محمول على غيـر وطا

لرأت عيناك منهم منـظـراً

للحـشـى شجـواً وللعيـن قذا

لا أرى حـزنكـم يُنسى ولا

رزءكـم يُسلى وإن طال المدى (٢)

__________________

١ ـ كذا في الأصل ، وفي ديوان الرضي : عاينتهم.

٢ ـ هذه الأبيات من قصيدة رائعة للشريف الرضي ألقاها وهو بالحائر الحسيني وهي بعنوان « كربلا كرب وبلا ». انظر : ديوان الرضي ١ : ٤٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٣٨٦.

١٦٠