بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: الشيخ عبد الزهراء العلوي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الرضا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

السبب في تقية من اتقى ممن ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل ، وحتى يجري مجرى العرض على السيف في الملإ من الناس ، بل ربما كان ظاهرا كذلك ، وربما كان خافيا (١).

فإن قيل : مع تجويز التقية على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه واعتقاده؟ وكيف يتخلص (٢) لنا ما يفتي به على سبيل التقية من غيره؟.

قلنا : أول ما نقوله في ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم إلا من جهته ، والطريق إليه إلا من ناحيته ، وقوله (٣) وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبينات ونصبت عليه الدلالات حتى لا يكون تقيته (٤) فيه مزيلة لطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة ، ثم لا تبقى (٥) في شيء إلا ويدل على خروجه منه مخرج التقية ، إما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو يتأخر عنه ، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهم‌السلام على سبيل التقية وجده لا يعرى مما ذكرناه.

ثم إن التقية إنما تكون من العدو دون الولي ، ومن المتهم دون الموثوق به ، فما يصدر منهم إلى أوليائهم وشيعتهم ونصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة التقية ، وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الجور (٦) يجوز أن يكون على سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها ، ثم يقلب (٧) هذا السؤال على المخالف فيقال له : إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف الشديد وما يجري مجراه ، فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟! وكيف تفصل

__________________

(١) في الشافي : خاصا.

(٢) في المصدر : يخلص.

(٣) في الشافي : ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله .. وهو الظاهر.

(٤) في المصدر : فتياه ، بدلا من : تقيته.

(٥) في الشافي : لا يتقي .. وهو الظاهر ، وفي حاشية مطبوع البحار نسخة بدل : يبقى.

(٦) في المصدر : مجالس الخوف.

(٧) في الشافي : ثم نقلب.

٤٠١

بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقية وبين ما يفتي به وهو مذهب له يعتقد بصحته؟! فلا بد من (١) الرجوع إلى ما ذكرناه.

فإن قال : أعرف مذهب غيري وإن أجزت عليه التقية بأن يضطرني إلى اعتقاده ، وعند التقية لا يكون ذلك.

قلنا : وما المانع لنا من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه ، فأما ما تلا كلامه (٢) الذي حكيناه عنه من الكلام في التقية ، وقوله : إن ذلك يوجب أن لا يوثق بنصه على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنما بناه على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجوز عليه التقية في كل حال ، وقد بينا ما في ذلك واستقصيناه.

وقوله : ألا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام نبيا ، وعدل عن ادعاء ذلك تقية .. فيبطله ما ذكرنا من أن التقية لا يجوز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام فيما لا يعلم (٣) إلا من جهته ، ويبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن وكل عاقل ضرورة من نفي (٤) النبوة بعده على كل حال من دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله : إن عولوا على علم الاضطرار فعندهم أن الضرورة في النص على الإمام قائمة ، فمعاذ الله أن ندعي الضرورة في العلم بالنص على من غاب عنه فلم يسمعه ، والذي نذهب إليه أن كل من لم يشهده لا يعلمه إلا باستدلال (٥) وليس كذلك نفي النبوة ، لأنه معلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ، ولو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلا اختلاف العقلاء في النص مع تصديقهم بالرسول

__________________

(١) في المصدر : فلا بد ضرورة من.

(٢) في الشافي : ما تلا صاحب الكتاب كلامه.

(٣) في الشافي : لا يسلم.

(٤) في المصدر : من أن نفي ..

(٥) في ( ك‍ ) : بالاستدلال.

٤٠٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنهم لم يختلفوا في نفي النبوة لكفى (١) ، ولا اعتبار بقوله في ذلك خلاف ما قد ذكر (٢) كما ذكر في أنه عليه‌السلام إله ، لأنه (٣) هذا الخلاف لا يعتد به ، والمخالف فيه خارج عن الإسلام فلا يعتبر في إجماع المسلمين بقوله ، كما لا يعتبر في إجماع المسلمين (٤) بقول من خالف في أنه إله ، على أن من خالف وادعى نبوته لا يكون مصدقا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عالما بنبوته ، ولا يدعي علم الاضطرار في أنه لا نبي بعده وإنما يعلم ضرورة من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفي النبوة بعده من أقر بنبوته (٥).

فأما قوله : إن الإجماع لا يوثق به عندهم ، فمعاذ الله أن نطعن في الإجماع وكونه حجة ، فإن أراد أن الإجماع الذي لا يكون فيه قول إمام ليس بحجة فذلك ليس بإجماع عندنا وعندهم ، وما ليس بإجماع فلا حجة فيه ، وقد تقدم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية.

وقوله : يجوز أن (٦) يقع الإجماع على طريق التقية لا يكون (٧) أوكد من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قول الإمام عليه‌السلام عندهم ، باطل (٨) ، لأنا قد بينا أن التقية لا تجوز على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام على كل حال ، وإنما تجوز على حال دون أخرى ، على أن القول بأن الأمة بأسرها مجتمع (٩)

__________________

(١) لا توجد في المصدر : لكفى ، ولا يتم المعنى إلا بها.

(٢) في المصدر : بقول صاحب الكتاب : إن في ذلك خلافا قد ذكر ..

(٣) في الشافي : لأن ، وجعلها في (س) نسخة بدل.

(٤) لا يوجد في المصدر : بقوله كما لا يعتبر في إجماع المسلمين.

(٥) لا يوجد في المصدر : من أقر بنبوته ، وفيه : تدعي ... نعلم ..

(٦) في المصدر : لتجوزن أن.

(٧) كذا ، وفي المصدر : لأنه لا يكون .. وفي (س) : لأنه يكون. والظاهر ما في المصدر لما مر من عبارة صاحب المغني.

(٨) باطل خبر لقوله.

(٩) كذا ، وفي الشافي : تجمع.

٤٠٣

على طريق التقية طريف (١) ، لأن التقية سببها الخوف من الضرر العظيم ، وإنما يتقي بعض الأمة من بعض لغلبته عليه وقهره له ، وجميع الأمة لا تقية عليها من أحد.

فإن قيل : يتقي من مخالفيها في الشرائع.

قلنا : الأمر بالضد من ذلك ، لأن من خالطهم وصاحبهم من مخالفيهم في الحال (٢) أقل عددا وأضعف بطشا منهم ، فالتقية لمخالفيهم منهم أولى ، وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطالة والاستقصاء. انتهى كلامه رفع الله مقامه.

ولنذكر بعض ما يدل على جواز التقية لكثرة تشنيع المخالفين في ذلك علينا مع كثرة الدلائل القاطعة عليها (٣) :

فمنها : قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (٤).

ومنها : قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (٥).

ومنها : ما رواه الفخر الرازي (٦) وغيره من المفسرين (٧) عن الحسن قال : أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم. قال : أفتشهد أني رسول الله؟

__________________

(١) في المصدر : طريق ، ولا معنى لها.

(٢) في الشافي : في الملل.

(٣) وسيأتي من المصنف طاب ثراه في المجلد الخامس والسبعين ٣٩٣ ـ ٤٤٣ بحث حول التقية ، فراجع.

(٤) النحل : ١٠٦.

(٥) آل عمران : ٢٨.

(٦) تفسير الفخر الرازي ٨ ـ ١٣.

(٧) كما جاء في مجمع البيان ٢ ـ ٤٣٠ ، وأحكام القرآن للجصاص ٢ ـ ١٠ ، وتفسير التبيان ٢ ـ ٤٣٥ ، وغوالي اللئالي ٢ ـ ١٠٤ ، حديث ٢٨٨ .. وغيرها.

٤٠٤

قال : نعم ، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول قريش ، فتركه ، ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم! قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم .. ثلاثا. فقدمه وقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه فهنيئا له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

ومنها : ما رواه الخاصة والعامة أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصرا على الإيمان منهم عمار وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا ، وأما سمية فقد ربطت بين بعيرين (١) ووجئت (٢) في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين (٣) في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ، فقيل يا رسول الله! إن عمارا كفر. فقال : كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عينيه يقول : ما لك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (٤).

__________________

(١) في (س) : بعيري.

(٢) قال في القاموس ١ ـ ٣١ : وجأه باليد والسكين ـ كوضعه ـ ضربه.

(٣) في (س) : قتيلتين.

(٤) صرحت بذلك كل المصادر التي بأيدينا نذكر منها : حلية الأولياء ١ ـ ١٣٩ ، ١٤٣ ، ١٤٧ ، ١٥١ ، تفسير الآلوسي ١٤ ـ ٢٣٧ ، تفسير الطبري ٣ ـ ١٥٢ ، ١٤ ـ ١٢٢ ، أحكام القرآن لأبي بكر العربي ١ ـ ٢٦٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٠ ـ ١٢١ ـ بنص ما ذكر هنا ـ ، تفسير الدر المنثور للسيوطي ٢ ـ ١٦ و ٤ ـ ١٣٢ ، أحكام القرآن للجصاص ٢ ـ ٩ و ٣ ـ ١٩١ ـ ١٩٢ ، أسد الغابة ٤ ـ ٤٣ ٤٦ ، ومستدرك الحاكم ٢ ـ ٢٩١ و ٣٥٧.

وقد ذكر العلامة الأميني في غديره ٩ ـ ٢٤ مصادر جمة أخرى ، أما عند الخاصة فالمسألة مسلمة إن لم تكن ضرورية. انظر مثلا : قرب الإسناد : ٨ ، غوالي اللئالي ٢ ـ ١٠٤ ، حديث ٢٨٥

٤٠٥

ومنها : خبر (١) مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه فأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا (٢).

وقال ابن عبد البر في الإستيعاب (٣) في ترجمة عمار : إن نزول الآية فيهم مما أجمع أهل التفسير عليه.

ويدل عليها أيضا ما يدل على نفي الحرج نحو قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٤) ولزوم الحرج في مواضع التقية ـ سيما إذا انتهت الحال إلى القتل وهتك العرض ـ واضح ..

ويدل عليها عموم قوله تعالى (٥) : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٦).

وقد فسر مجاهد الاضطرار في آية الأنعام (٧) باضطرار الإكراه خاصة (٨).

ويدل عليه قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٩) على بعض

__________________

و ٢٨٨ ، تفسير التبيان ٦ ـ ٤٢٨ ، .. وغيرها.

(١) في مطبوع البحار : خير.

(٢) كما جاء في الإصابة ١ ـ ٢٢١ برقم ١٠٦٩ حيث ذكره باسم « جبر » وفيها أيضا ٢ ـ ٢٤٩ رقم ٤٣٨٠ حيث ذكره باسم « حر » في ضمن ترجمة سيده « عامر بن الحضرمي ». والموضع الثاني من الإصابة هو الأنسب لما في المتن هنا.

(٣) الاستيعاب ـ المطبوع في هامش الإصابة ـ ٢ ـ ٤٧٧.

(٤) الحج : ٧٨.

(٥) لا توجد كلمة : تعالى ، في (س).

(٦) البقرة : ١٧٣.

(٧) الأنعام : ١٤٥ ، وهي قوله تعالى : « قل لا أجد في ما أوحي إلي » ... « فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ».

(٨) لم نجد النسبة إلى مجاهد في سورة الأنعام من تفسير التبيان ٤ ـ ٢٧٥ ، ومجمع البيان ٤ ـ ٣٧٨ وغيرهما. نعم أحال الأخير تفسيرها إلى سورة البقرة : ١٧٣ في ٢ ـ ٢٥٧ ، وذكر هناك نص كلام مجاهد ، وهناك أقوال أخر لاحظها هناك.

(٩) البقرة : ١٩٥.

٤٠٦

التفاسير (١). ولا خلاف في شرعيتها مع الخوف على النفس من الكفار الغالبين.

وقال الشافعي ـ من العامة ـ بأن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المسلمين والمشركين حلت التقية (٢) ، ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسير الآية الثانية ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ، يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ،لقوله صلى الله عليه وسلم : حرمة مال المسلم كحرمة دمه ،. ولقوله صلى الله عليه وسلم : من قتل دون ماله فهو شهيد ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز هاهنا (٣)؟.

وقال في تفسير الآية الأولى :اعلم أن للإكراه مراتب :

أحدها (٤) : أن يجب فعل المكره عليه ، مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة ، فإذا أكرهه عليه بالسيف فهاهنا يجب الأكل ، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل ، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا إهانة بحق الله (٥) ، فوجب أن يجب ، لقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٦).

المرتبة الثانية : أن يكون (٧) ذلك الفعل مباحا ولا يصير واجبا ، ومثاله ما إذا

__________________

(١) انظر : التبيان ٢ ـ ١٥٢ ، ومجمع البيان ١ ـ ٢٨٩ ذيل آية ١٩٥ من سورة البقرة ، تفسير نور الثقلين ١ ـ ١٧٩ ، والبرهان ١ ـ ١٩٢ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٥ ـ ١٥٠ ، ٢٠ ـ ١٢٢ ، والكشاف ١ ـ ٢٣٧ وغيرها.

(٢) كما ذكره في كتابه : الأم ٣ ـ ٢٣٦ ، ٤ ـ ١٨٨ و ١٩٣ و ٢٨٥ بهذا المضمون.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٨ ـ ١٣.

(٤) في المصدر : المرتبة الأولى ، بدلا من : أحدها.

(٥) في تفسير الفخر الرازي : ولا فيه إهانة لحق الله تعالى.

(٦) البقرة : ١٩٥.

(٧) توجد في ( ك‍ ) هنا نسخة بدل : أن يصير ، وهي كذلك في المصدر.

٤٠٧

أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر مباح له ذلك (١) ولكنه لا يجب (٢).

قال : وأجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : إنا روينا أن بلالا صبر على ذلك العذاب وكان يقول : أحد .. أحد ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما صنعت ، بل عظموه عليه (٣) ، فدل ذلك على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر.

وثانيها : ما روي من قصة المسيلمة (٤) ، التي سبق ذكرها ، قال :

المرتبة الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم ، وهذا مثل ما أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه ، فهاهنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية (٥) انتهى.

ولا خلاف ظاهرا في أنه متى أمكن التخلص من الكذب في صورة التقية بالتورية لم يجز ارتكاب الكذب ، واختلفوا فيما لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئا منها ولا أراد إلا ذلك المعين ، ولم يتفطن في تلك الحال بتورية يتخلص منه (٦) فالخاصة (٧) وأكثر

__________________

(١) في المصدر : فهاهنا يباح له و ..

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٠ ـ ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٣) من المصدر : بل عظمه عليه.

(٤) تفسير الفخر الرازي ٢٠ ـ ١٢٢ ، وذكر فيه قصة مسيلمة ، والظاهر زيادة الألف واللام على العلم.

(٥) تفسير الفخر الرازي ٢٠ ـ ١٢٣.

(٦) في ( ك‍ ) : به ، بدلا من : منه.

(٧) نصت عليه جملة مصادر من الإمامية كما جاءت رواية في كتب الحديث ، انظر : الكافي ٢ ـ ١٧٢ باب ٩٧ كتاب الإيمان ، المحاسن ٢٥٥ باب التقية ، أمالي الشيخ الصدوق ٥٣١ حديث ٥ ، معاني الأخبار ٣٨٥ حديث ٢٠ ، أمالي الشيخ الطوسي ١ ـ ٢٨٧ و ٢٩٩ ، وسائل الشيعة ١ ـ ٣١٣ حديث ٣ و ٤ ، ١١ ـ ٤٥٩ باب ٢٤ ، و ٤٦٧ باب ٢٥ و ٢٦ و ٢٧ وما بعدها ، و ١٨ ـ ٥ حديث ٧ ، بحار الأنوار ٧٥ ـ ٣٩٣ ـ ٤٤٣ ، ولاحظ أيضا أوائل المقالات للشيخ المفيد : ١٣٥ و ٢٤١ ، الهداية ( لعلي بن بابويه ) : ٩ ، والقواعد والفوائد ٢ ـ ١٥٥ ، جامع الأخبار : ١١٠ باب التقية ، وراجع من

٤٠٨

العامة (١) ذهبوا إلى جواز الكذب حينئذ.

وحكى الفخر الرازي عن القاضي أنه قال : يجب حينئذ تعريض النفس للقتل ، لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبا ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج من القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع (٢) أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح ، وحينئذ لا يبقى وثوق بعهد الله (٣) ولا بوعيده ، لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب (٤) لرعاية المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى (٥).

ويرد عليه : أن الكذب وإن كان قبيحا إلا أن جواز ارتكابه (٦) في محل النزاع لأنه أقل القبيحين ، والتعريض للقتل ـ لو سلمنا عدم قبحه لذاته جاز أن يغلب المفسدة العرضية فيه على الذاتية في الكذب ، ويلزمه تجويز تعريض نبي من الأنبياء للقتل للتحرز عن الكذب في درهم ، وبطلانه لا يخفى على أحد.

وأما ما تمسك به من تطرق الكذب إلى وعد الله سبحانه ووعيده ، فيتوجه عليه :

__________________

التفاسير : تفسير الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ١٧٥ ، وتفسير العياشي ١ ـ ١٦٦ ، ٢ ـ ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، تفسير القمي : ١ ـ ١٠٠ و ٣٩٠ ، تفسير ابن عباس : ٤٥ و ٢٣١ ، وتفسير نور الثقلين ١ ـ ٣٢٥ ـ ٣٢٧ و ٣ ـ ٨٨ ، تفسير البرهان ١ ـ ٢٧٥ و ٢ ـ ٣٨٥ ، وغيرها.

(١) قد مرت جملة من مصادر العامة قريبا ونزيدها هنا : تفسير الفخر الرازي ٨ ـ ١١ ـ ١٤ و ٢٠ ـ ١٢٠ و ١٢٣ ، وتفسير الطبري ١٤ ـ ١٢١ ، تفسير البحر المحيط ٢ ـ ٤٢٣ و ٥ ـ ٥٣٧ ـ ٥٤١ ، تفسير الكشاف ١ ـ ٤٢٢ و ٢ ـ ٤٣٠ ، تفسير زاد المسير ١ ـ ٣٧١ و ٤ ـ ٤٩٥ ، وتفسير القرآن العظيم ١ ـ ٣٦٥ و ٢ ـ ٦٠٩ ، وأحكام القرآن للقرطبي ٤ ـ ٥٧ و ١٠ ـ ١٨٠ ، ولاحظ : صحيح البخاري ٨ ـ ٣٨ باب ٨٢ ، و ٩ ـ ٢٥ باب ١. وراجع كتب التراجم والحديث من العامة في ما ذكروه في قصة عمار وصهيب وخباب وبلال ومسيلمة الكذاب وغيرها.

(٢) في تفسير الفخر الرازي : عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع ..

(٣) كذا ، وفي المصدر : بوعد الله تعالى ، جاءت نسخة بدل في ( ك‍ ) : بوعد الله.

(٤) في (س) : الكذاب.

(٥) تفسير الفخر الرازي : ٢٠ ـ ١٢٢.

(٦) كذا ، والظاهر : إلا أنه يجوز ارتكابه.

٤٠٩

أولا : أن العقل يجزم ببطلان الاحتمال المذكور ، لأن (١) سبحانه هو الذي بيده أزمة الأمور ، وهو القادر الذي لا يضاده في ملكه أحد ، والعالم بالعواقب ، فلا يجوز عليه نظم الأمور على وجه لا يمكن فيه رعاية المصلحة إلا بالكذب.

وثانيا : أن ذلك باطل بالضرورة من الدين وإجماع المليين ـ لا من حيث عدم جواز الكذب ـ لرعاية المصالح ، وهو واضح.

ثم إن الشهيد رحمه‌الله عرف التقية (٢) في قواعده (٣) بأنها : مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم ، قال : وأشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وموردها الطاعة والمعصية غالبا ، فمجاملة الظالم فيما يعتقده ظلما والفاسق المتظاهر بفسقه اتقاء شرهما من باب المداهنة الجائزة ولا تكاد تسمى تقية.

وقسمها بانقسام الأحكام الخمسة (٥) ، وعد من الحرام التقية في قتل الغير ، وقال : التقية تبيح كل شيء حتى إظهار كلمة الكفر ولو تركها حينئذ أثم ، أما في هذا المقام ومقام التبري من أهل البيت عليهم‌السلام فإنه لا يأثم بتركها ، بل صبره إما مباح أو مستحب ، وخصوصا إذا كان ممن يقتدى به (٦) ، انتهى.

وحكى الشيخ الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان (٧) عن الشيخ المفيد رضي

__________________

(١) جاءت في ( ك‍ ) : لأنه ، على أنها نسخة بدل.

(٢) في (س) : أن التقية.

(٣) القواعد والفوائد ٢ ـ ١٥٥ قاعدة ٢٠٨ ، باختلاف يسير.

(٤) كما جاءت في مستدرك وسائل الشيعة ١ ـ ٥١٢ باب ١٦ من أبواب ما تجب فيه الزكاة حديث ٢ [ الطبعة الجديدة ٤ ـ ٤٤ ـ ٤٥ ] كما ورد بهذا المضمون عن الصادق عليه‌السلام كما جاء في المستدرك ٢ ـ ٣٧٨ باب ٣٠ من أبواب الأمر والنهي حديث ٤ و ٨ [ الطبعة الجديدة ١٢ ـ ٢٧٤ ٢٧٦ ].

(٥) القواعد والفوائد ٢ ـ ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٦) القواعد والفوائد ـ التنبيه الثاني ـ ٢ ـ ١٥٨ باختلاف يسير.

(٧) مجمع البيان ١ ـ ٤٣٠ ذيل آية ٢٨ من سورة آل عمران.

٤١٠

الله عنه أنه قال : التقية قد تجب أحيانا وتكون فرضا ، وتجوز أحيانا من غير وجوب ويكون في وقت أفضل من تركها ، وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه ، متفضلا عليه بترك اللوم عليها (١).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله : ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده (٢).

وأنت إذا وقفت على ما حكيناه ظهر لك أن القول بالتقية ليس من خصائص الخاصة حتى يعيروا به ـ كما يوهمه كلام قاضي القضاة والفخر الرازي وغيرهما ـ وأكثر أحكامها مما قال به جل العامة أو طائفة منهم.

ثم إن ما جعله قاضي القضاة من مفاسد القول بجواز التقية على الإمام أعني لزوم جوازها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مما رووه في أخبارهم واتفقوا على صحته.

روى البخاري في صحيحه في باب فضل مكة وبنيانها بأربعة أسانيد (٣) ، ـ ومسلم في صحيحه (٤) ، ومالك في الموطأ (٥) ، والترمذي (٦) والنسائي في صحيحيهما (٧) ، وذكرهما في جامع الأصول في فضل الأمكنة من حرف الفاء بألفاظ مختلفة (٨).

__________________

(١) ذكر هذا شيخنا المفيد طاب ثراه في كتابه : أوائل المقالات : ١٣٥.

(٢) جاء في تفسير التبيان ٢ ـ ٤٣٥ ، وإلى هنا انتهى ما نقله صاحب مجمع البيان.

(٣) صحيح البخاري كتاب الحج ٢ ـ ١٧٩ ، وكتاب بدء الخلق باب الأنبياء ٤ ـ ١٧٨ ، وكتاب تفسير سورة البقرة ٦ ـ ٢٤.

(٤) صحيح مسلم ٢ ـ ٩٦٩ حديث ٣٩٩ باب ٦٩ كتاب الحج.

(٥) موطأ مالك ١ ـ ٣٦٣ باب ٣٣ كتاب الحج حديث ١٠٤.

(٦) سنن الترمذي ٣ ـ ٢٢٤ باب ٤٧ كتاب الحج حديث ٨٧٥.

(٧) سنن النسائي ٥ ـ ٢١٤ باب بناء الكعبة ، وانظر : مسند أحمد بن حنبل ٦ ـ ١١٣ و ١١٧ و ٢٤٧ ، وسنن البيهقي ٥ ـ ٨٩.

(٨) جامع الأصول ٩ ـ ٢٩٤ حديث ٦٩٠٧.

٤١١

منها : ـ وهو لفظ البخاري ومسلم والموطأ والنسائي ـ أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عن (١) عبد الله بن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال لها : ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت : يا رسول الله! ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال : لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت.قال عبد الله : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم (٢).

ومن لفظ البخاري ومسلم عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت (٣) : سألت النبي صلى الله عليه [ وآله ] عن الجدار ، أمن (٤) البيت هو؟ قال : نعم. قلت :فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت : فما شأن بابه مرتفعا؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولو لا أن قومك حديث عهدهم (٥) بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه بالأرض (٦) ..

ومن لفظ البخاري ، عن جرير ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] قال لها : يا عائشة! لو لا أن قومك حديث عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه ، وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ، بابا شرقيا وبابا غربيا ، فبلغت به أساس إبراهيم فذلك الذي

__________________

(١) لا توجد كلمة : عن ، في (س).

(٢) جاء في مصادر أخرى حكتها عنهم ، وانظر : مسند أحمد بن حنبل ٦ ـ ٥٧ وغيره.

(٣) في (س) : قال ، وجعل : قالت نسخة بدل.

(٤) في ( ك‍ ) : من.

(٥) جاءت في ( ك‍ ) : عهد ، وعهدهم نسخة بدل.

(٦) صحيح البخاري ٢ ـ ١٧٩ ـ ١٨٠ ، صحيح مسلم ٢ ـ ٩٧٣ باب ٧٠ حديث ٤٠٥ ، الفردوس ٣ ـ ٣٥٨ حديث ٥٠٨١ ، سنن البيهقي ٥ ـ ٨٩ ، كنز العمال ١٢ ـ ٢٢١ ـ ٢٢٢ حديث ٣٤٧٦١ ٣٤٧٦٥.

٤١٢

حمل ابن الزبير على هدمه. قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم عليه‌السلام حجارة كأسنمة الإبل ، قال جرير : فقلت له أين موضعه؟ قال : أريكه الآن ، فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان فقال : هاهنا. فخررت من الحجر ستة أذرع أو نحوها .. (١). وباقي ألفاظ الروايات مذكورة في جامع الأصول (٢).

ولا ريب في أن الظاهر أن تعليق الإمضاء بحدثان عهد القوم وقربه من الكفر والجاهلية يستلزم خوفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ارتدادهم وخروجهم عن الإسلام أن يعود بذلك ضرر على نفسه (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، ويتطرق بذلك الوهن في الإسلام ، وذلك هو الذي جعله قاضي القضاة مفزعا للشيعة عند لزوم الكلام.

ثم إن هذه الروايات تدل دلالة ظاهرة على أن إيمان القوم لم يكن ثابتا مستقرا ، وإلا لما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خائفا وجلا من تغيير ما أسسه أئمة القوم في الجاهلية والكفر ، وإنهم ممن قال الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) (٤). بل الظاهر من الكلام لمن أنصف وراجع الوجدان الصحيح أن القوم لم يكونوا مذعنين لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بألسنتهم ، وإلا لما خاف ارتدادهم (٥) لأمر لا يعود بإبقائه إليهم نفع في آخرتهم ودنياهم ، وكانوا يحبون بقاءه لكونه من قواعد الجاهلية وأساس الكفر ، ولا ريب في أن توجيه الكلام إلى عائشة والتعبير عن القوم بلفظ يفيد نوعا من الاختصاص

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ ـ ١٨٠.

(٢) جامع الأصول ٩ ـ ٢٩٤ حديث ٦٩٠٧ ـ ٦٩١٢.

(٣) في ( ك‍ ) : إلى نفسه.

(٤) الحج : ١١.

(٥) في ( ك‍ ) وفي نسخة : خاف من ارتدادهم ..

٤١٣

بها يقتضي كون الحكم أخص وأقرب إلى من كان أقرب إليها وأخص بها ، لكونه متبعا في القوم أو أشد عصبية منهم .. أو نحو ذلك ، وليس في القوم أقرب إلى عائشة من أبيها.

فإن قيل : تركه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهدم ما أسسه القوم لم يكن لخوفه على نفسه أو غيره حتى يدخل في التقية ، بل هو من قبيل رعاية المصالح في تأليف قلوب القوم وميلهم إلى الإسلام ، وذلك من قبيل أمره سبحانه بمشاورة القوم والرفق بهم في قوله : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (١).

قلنا : أولا : هذا بعيد من الظاهر ، إذ الخوف من إنكار قلوب عامة القوم ـ كما يظهر من إضافة ما يفيد مفاد الجمع لحدثان عهدهم بالجاهلية والكفر مع الأمن من لحوق الضرر ولو إلى أحد من المسلمين ـ مما لا معنى له عند الرجوع إلى فطرة سليمة.

وثانيا : أنه يجوز أن يكون المانع لأمير المؤمنين عليه‌السلام من نقض أحكامهم مثل ذلك ، ولم يكن أئمة الكفر والجاهلية في صدور قوم عائشة أمكن من أبي بكر وعمر في قلوب القوم الذين كانوا يبايعون أمير المؤمنين (ع) على سيرتهما واقتفاء أثرهما ، وإذا لم يكن ذلك من التقية بطل قول قاضي القضاة ، وليس لهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية التي هي مفزعهم عند لزوم الكلام.

وثالثا : إذا جاز على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الإنكار على تغيير ما حرم الله خوفا من هذا النوع من الضعف في الإسلام الذي يئول إلى خروج قوم منافقين أو متزلزلين في الإسلام عن الإسلام من غير أن يعود به ضرر إلى المسلمين ولا إلى نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبالأولى أن يجوز لأمير المؤمنين إمضاء الباطل من أحكام القوم للخوف على نفسه أو غيره من المسلمين ، لكون ذلك أضر في

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

٤١٤

الإسلام ، وكما لم تمنع (١) العصمة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تركه إنكار المنكر لم تمنع في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويتوجه على قول قاضي القضاة : جوزوا مع ظهور المعجز أن يدعي الإمامة تقية .. أنه إن كان المراد تجويز ظهور المعجز بعد ادعاء الإمامة مع كونه غير نبي ولا إمام فبطلانه واضح.

وإن كان المراد تجويز ادعاء الإمامة مع كونه نبيا حتى يكون ما بعده كالإعادة لهذا الكلام فيرد عليه : أنه إن كان ذلك الادعاء على وجه الكذب فامتناع ظهور المعجز على طبقه واضح.

وإن كان على وجه التورية حتى يكون المراد من الإمامة النبوة لكن لم يعرف ذلك أحد من الناس ، وكانوا معتقدين لإمامته متدينين بها لا بنبوته فهو أيضا باطل ، إذ في ظهور المعجز ـ مع تلك الدعوى ـ إغراء للمكلفين بالباطل ، وهو قبيح ..

__________________

(١) توجد في ( ك‍ ) نسخة بدل : وكما أنه تمنع ..

٤١٥
٤١٦

١٣ ـ باب (١)

علة قعوده عليه‌السلام عن قتال من تأمر عليه من الأولين ،

وقيامه إلى قتال من بغى عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين ،

وعلة إمهال الله من تقدم عليه ، وفيه علة قيام من قام

من سائر الأئمة وقعود من قعد منهم عليهم‌السلام.

١ ـ ج (٢) : روي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان جالسا في بعض مجالسه بعد رجوعه عن النهروان (٣) فجرى الكلام حتى قيل : لم (٤) لا حاربت أبا بكر وعمر كما حاربت طلحة والزبير ومعاوية؟. فقال عليه‌السلام : إني كنت لم أزل مظلوما مستأثرا على حقي ، فقام إليه أشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين! لم لم تضرب بسيفك وتطلب بحقك؟! فقال : يا أشعث! قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه واستشعر الحجة ، إن لي أسوة بستة من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين :

__________________

(١) الرقم جاء في حاشية (س) وليس من الأصل.

(٢) الاحتجاج : ١ ـ ١٨٩ ـ ١٩٠ طبعة مشهد [ ١ ـ ٢٧٩ ـ ٢٨٠ النجف الأشرف ] باختلاف يسير.

(٣) في المصدر : من نهروان ..

(٤) قيل له لم .. كذا في المصدر ، ونسخة جاءت على ( ك‍ ).

٤١٧

أولهم : نوح عليه‌السلام حيث قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) ، فإن قال قائل : إنه قال لغير (٢) خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

وثانيهم : لوط عليه‌السلام حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (٣). فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

وثالثهم : إبراهيم خليل الله حيث قال : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٤). فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

ورابعهم : موسى عليه‌السلام حيث قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) (٥). فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

وخامسهم : أخوه هارون عليه‌السلام حيث قال : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (٦). فإن قال قائل : إنه قال هذا (٧) لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

وسادسهم : أخي محمد سيد البشر (٨) صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشه ، فإن قال قائل : إنه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.

فقام إليه الناس بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين! قد علمنا أن القول قولك ونحن المذنبون التائبون ، وقد عذرك الله!.

__________________

(١) القمر : ١٠ ، وفي المصدر : رب إني ..

(٢) في المصدر : قال هذا لغير ..

(٣) هود : ٨٠.

(٤) مريم : ٤٨.

(٥) الشعراء : ٢١.

(٦) الأعراف : ١٥٠ ، وفي المصدر : يا ابن أم ..

(٧) لا توجد : هذا ، في (س).

(٨) في المصدر : خير البشر ..

٤١٨

٢ ـ ج (١) : عن إسحاق بن موسى ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه خطبة بالكوفة فلما كان في آخر كلامه قال : إني (٢) لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام الأشعث بن قيس لعنه الله فقال (٣) : يا أمير المؤمنين! لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا وقلت : والله إني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! ولما ولي تيم وعدي ، ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟! فقال له أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : يا ابن الخمارة! قد قلت قولا فاستمع ، والله ما منعني الجبن ولا كراهية الموت ، ولا منعني ذلك (٤) إلا عهد أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خبرني وقال (٥) : يا أبا الحسن! إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى. فقلت : يا رسول الله! فما تعهد إلي إذا كان كذلك؟ فقال : إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما. فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ، ثم آليت يمينا (٦) أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت (٧) ، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم (٨) حقي ودعوتهم إلى نصري (٩) ، فما أجابني

__________________

(١) الاحتجاج : ١ ـ ١٩٠ ـ ١٩١ مشهد [ ١ ـ ٢٨٠ ـ ٢٨١ النجف الأشرف ] باختلاف يسير.

(٢) في المصدر : ألا وإني ..

(٣) في المصدر : فقام إليه الأشعث بن قيس فقال ..

(٤) لا توجد في المصدر : الجبن ، ولا كراهية الموت ، ولا منعني ذلك .. وفيه : ما منعني من ذلك ..

(٥) في المصدر : أخبرني ، وقال لي ..

(٦) وفي نسخة على المطبوع من البحار : ألبث بيتا.

(٧) هنا سقط ، وجاء في المصدر : ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم ، قالوا : لا حاجة لنا به.

(٨) في المصدر : فأنشدتهم.

(٩) في الاحتجاج : نصرتي.

٤١٩

منهم إلا أربعة رهط : سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي ، وبقيت بين خفيرتين (١) قريبي العهد بجاهلية : عقيل والعباس.

فقال له الأشعث : يا أمير المؤمنين! كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل مظلوما (٢)؟.

فقال أمير المؤمنين : يا ابن الخمارة! ليس كما قست ، إن عثمان لما جلس (٣) جلس في غير مجلسه ، وارتدى بغير ردائه ، وصارع الحق فصرعه الحق ، والذي بعث محمدا بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطا لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري. ثم أيها (٤) الناس! إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز ..

إيضاح : قوله عليه‌السلام : بين خفيرتين ـ بالخاء المعجمة والراء المهملة أي طليقين معاهدين أخذا في الحرب وحقن دمهما بالأمان والفداء ، أو ناقضين للعهد ، قال في القاموس : الخفير : المجار والمجير .. وخفره : أخذ منه جعلا ليجيره ، وبه خفرا وخفورا : نقض عهده وغدركه كأخفره (٥) ، وفي بعض النسخ :بالحاء المهملة والزاي المعجمة من قولهم : حفزه .. أي دفعه من خلفه ، وبالرمح :طعنه ، وعن الأمر : أعجله وأزعجه ، قاله الفيروزآبادي (٦).

وقال : أبلاه عذرا : أداه إليه فقبله (٧).

__________________

(١) في المصدر : حفيرين ، والظاهر أنه غلط وليس له معنى مناسب ، كما لم يتعرض له العلامة المجلسي رحمه‌الله في بيانه.

(٢) لا يوجد في الاحتجاج : يا أمير المؤمنين .. مظلوما.

(٣) لا توجد في المصدر : لما جلس.

(٤) في المصدر : ثم قال : أيها .. ، وهو الظاهر.

(٥) القاموس ٢ ـ ٢٢ ، وقارن ب : النهاية ٢ ـ ٥٢.

(٦) في القاموس المحيط ٢ ـ ١٧٣ وانظر : النهاية ١ ـ ٤٠٧ وغيرها.

(٧) في القاموس المحيط ٤ ـ ٣٠٥ ، والنهاية لابن الأثير ١ ـ ١٥٥.

٤٢٠