النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

الفصل الثانى

فى تحقيق أصناف الإدراكات التى لنا

فلنتكلم الآن فى القوى الحاسة والدراكة ، ولنتكلم فيها كلاما كليا فنقول : يشبه أن يكون كل إدراك أنما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، فإن كان الإدراك إدراكا لشىء مادى فهو أخذ صورته مجردة عن المادة تجريدا ما ، إلا أن أصناف التجريد مختلفة ومراتبها متفاوتة ، فإن الصورة المادية تعرض لها بسبب المادة أحوال وأمور ليست هى لها بذاتها من جهة ما هى تلك الصورة فتارة يكون النزع عن المادة نزعا مع تلك العلائق كلها أو بعضها ، وتارة يكون النزع نزعا كاملا. وذلك بأن يجرد المعنى عن المادة وعن اللواحق التى لها من جهة المادة.

مثاله أن الصورة الإنسانية والماهية الإنسانية طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلها بالسوية ، وهى بحدها شىء واحد وقد عرض لها أن وجدت فى هذا الشخص وذلك الشخص فتكثرت. وليس لها ذلك من جهة طبيعتها الإنسانية. ولو كان للطبيعة الإنسانية ما يجب فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولا على واحد بالعدد ولو كانت الإنسانية موجودة لزيد لأجل أنها إنسانيته ، لما كانت لعمرو ، فإذن أحدى العوارض التى

٨١

تعرض للإنسانية من جهة المادة هى هذا النوع من التكثر والانقسام (١).

ويعرض لها أيضا غير هذا من العوارض (٢) ، وهو أنها إذا كانت فى مادة مّا حصلت بقدر من الكم والكيف والوضع والأين ، وجميع هذه أمور غريبة عن طبائعها ، وذلك لأنه لو كانت الإنسانية هى على هذا الحد أو حد آخر من الكمّ والكيف والأين والوضع لأجل أنها إنسانية ، لكان يجب أن يكون كل إنسان مشاركا للآخر فى تلك المعانى. ولو كانت لأجل الإنسانية على حد آخر وجهة أخرى من الكم والكيف والأين والوضع ، لكان كل إنسان يجب أن يشترك فيه. فإذن الصورة الإنسانية بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شىء من هذه اللواحق العارضة لها ، بل من جهة المادة ، لأن المادة التى تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق.

فالحس يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق ، ومع وقوع نسبة بينها (٣) وبين المادة ، إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ ، وذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة مع جميع لواحقها ، ولا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة إن غابت المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة إن غابت المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن المادة (٤) نزعا محكما ، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا فى أن تكون تلك الصورة موجودة لها.

وأما الخيال والتخيل فإنه يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة أشد ،

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى الانقسام الى الافراد.

(٢) غير هذه العوارض ، نسخة. وفى نسخة اخرى : غير هذه العوارض وهى أنّها ....

(٣) نسبة بينها ، كما فى جميع النسخ التى عندنا ، فالضمير راجع الى الحس باعتبار انها قوة.

(٤) فى تعليقة نسخة : فحضور المادة شرط فى الاحساس.

٨٢

وذلك لأنه يأخذها عن المادة بحيث لا تحتاج فى وجودها فيه إلى وجود مادتها ، لأن المادة وإن غابت عن الحس أو بطلت ، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود فى الخيال ، فيكون أخذه إياها قاصما العلاقة (١) بينها وبين المادة قصما تاما (٢) ، إلا أن الخيال لا يكون قد جردها عن اللواحق المادية ، فالحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاما ولا جردها عن لواحق المادة. وأما الخيال فإنه قد جردها عن المادة تجريدا تاما ، ولكن لم يجردها ألبتة عن لواحق المادة ، لأن الصورة التى فى الخيال هى على حسب الصورة المحسوسة ، وعلى تقدير مّا وتكيّف مّا ووضع مّا. وليس يمكن فى الخيال ألبتة أن تتخيل صورة هى بحال يمكن أن يشترك فيها جميع أشخاص ذلك النوع ، فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ، ويجوز أن يكون ناس موجودين ومتخيلين ليسوا على نحو ما تخيّل الخيال (٣) ذلك الإنسان (٤).

وأما الوهم فإنه قد يتعدى قليلا هذه المرتبة فى التجريد ، لأنه ينال المعانى التى ليست هى فى ذاتها بمادية ، وإن عرض لها أن تكون فى مادة. وذلك لأن الشكل واللون والوضع وما أشبه ذلك أمور لا يمكن أن تكون إلا لمواد جسمانية وأما الخير والشر والموافق والمخالف وما أشبه ذلك ، فهى أمور فى أنفسها غير مادية ، وقد يعرض لها أن تكون مادية. والدليل على أن هذه الأمور غير مادية ، أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان

__________________

(١) اى العلاقة التى بينها ...

(٢) فى تعليقة نسخة : فحضور المادة لا يكون شرطا فى ادراكه.

(٣) خيال ، نسخة.

(٤) فى تعليقة نسخة : بل يكونون على شكل آخر وكيف آخر فلا يكونون مشتركين فيما يخيل خيال ذلك الانسان.

٨٣

يعقل خير وشر أو موافق ومخالف إلا عارضا لجسم ، وقد يعقل ذلك بل يوجد (١). فبيّن أن هذه الأمور هى فى أنفسها غير مادية ، وقد عرض لها إن كانت مادية. والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور.

فإذن الوهم قد يدرك أمورا غير مادية ، ويأخذها عن المادة ، كما يدرك أيضا معانى غير محسوسة وإن كانت مادية. فهذا النزع إذن أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين ، إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة ، لأنه يأخذها جزئية وبحسب مادة مادة ، وبالقياس إليها ، ومتعلقة بصورة محسوسة مكنوفة بلواحق المادة وبمشاركة الخيال فيها.

وأما القوة التى تكون الصورة المثبتة (٢) فيها ، إما صور موجودات ليست بمادية ألبتة ولا عرض لها أن تكون مادية ، أو صور موجودات مادية ولكن مبرأة عن علائق المادة من كل وجه ، فبيّن أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجردا عن المادة من كل وجه. فأما ما هو متجرد بذاته عن المادة فالأمر فيه ظاهر ، وأما ما هو موجود للمادة إما لأن وجوده مادى ، وإما عارض له ذلك فتنزعه عن المادة وعن لواحق المادة معه ، فتأخذه أخذا مجردا ، حتى يكون مثل الإنسان الذى يقال على كثيرين ، وحتى تكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة ، وتفرزه عن كل كم وكيف وأين ووضع مادى. ولو لم تجرّده عن ذلك لما صلح أن يقال على الجميع.

فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسى ، وإدراك الحاكم الخيالى ، وإدراك الحاكم الوهمى ، وإدراك الحاكم العقلى. وإلى هذا المعنى كنا نسوق

__________________

(١) اى تعقل مجردة وتوجد مجردة فى الخارج.

(٢) المستثبة ـ خ.

٨٤

الكلام فى هذا الفصل.

فنقول : إن الحاس فى قوته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشىء مجردة عن مادته فيتصور بها الحاس ، فالمبصر (١) هو مثل المبصر بالقوة (٢) ، وكذلك الملموس والمطعوم وغير ذلك ، والمحسوس الأول بالحقيقة هو الذى يرتسم فى آلة الحس وإياه يدرك ، ويشبه أن يكون إذا قيل : أحسست الشىء الخارجى كان معناه غير معنى أحسست فى النفس ، فإن معنى قوله : أحسست الشىء الخارجى ، أن صورته تمثّلت فى حسى ، ومعنى أحسست فى النفس أن الصورة نفسها تمثلت فى حسى. فلهذا (٣) يصعب إثبات وجود الكيفيات المحسوسة فى الأجسام.

لكنا نعلم (٤) يقينا أن جسمين وأحدهما يتأثر عنه الحس شيئا ، والآخر لا يتأثر عنه ذلك الشىء أنه مختص فى ذاته بكيفية هى مبدأ إحالة الحاسة دون الآخر.

وأما ذيمقراطيس وطائفة من الطبيعيين فلم يجعلوا لهذه الكيفيات وجودا ألبتة ، بل جعلوا الأشكال التى يجعلونها للأجرام التى لا تتجزأ أسبابا لاختلاف ما يتأثر فى الحواس باختلاف ترتيبها ووضعها. قالوا : ولهذا ما يكون الإنسان الواحد قد يحس لونا واحدا على لونين مختلفين :

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى المبصر بالفعل.

(٢) المبصر بالكسر وهو الحاس مثل المبصر بالقوة بالفتح وهو الشىء الخارجى المحسوس بالعرض.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى فلانّ الشىء الخارجى لا يدرك بالذات.

(٤) قوله : « لكنا نعلم » ، يريد بذلك ان يثبت ان الكيفيات المحسوسة موجودات خارجية لها حقائق فى الخارج.

٨٥

بحسب وقوفين منه تختلف بذلك نسبتهما من أوضاع المرئى الواحد ، كطوق الحمامة (١) فإنها ترى مرة شقرا (٢) ومرة أرجوانية ومرة على لون الذهب ، بحسب اختلاف المقامات ، فلهذا ما يكون شىء واحد عند إنسان صحيح حلوا ، وعند إنسان مريض مرا. فهؤلاء هم الذين جعلوا الكيفيات المحسوسة لا حقائق لها فى أنفسها ، إنما هى أشكال (٣).

وهاهنا قوم آخرون أيضا (٤) ممن لا يرون هذا المذهب لا يجعلون لهذه الكيفيات حقيقة فى الأجسام ، بل يرون أن هذه الكيفيات إنما هى انفعالات للحواس فقط من غير أن يكون فى المحسوسات شىء منها. وقد

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : قال المحققون طوق الحمامة ليس المرئى منه شيئا واحدا بل هناك اطراف ريش ذوات جهات وكل جهة لها لون يسترلون جهة الاخرى بالقياس الى القائم الناظر.

(٢) بعيرا شقر : شتر سخت سرخ موى. شقراء : ماديان. صراح اللغة.

(٣) فى المباحث : قال بعض القدماء ان الكيفيات المحسوسة لا حقيقة لها فى انفسها بل هى انفعالات تعرض للحواس فقط. قيل لهم ولولا اختصاص الملوّن بكيفية مخصوصة لا توجد فى غيره لم يكن انفعال الحس عن الملون اولى من انفعاله عن الشفاف.

قال الامام : فنقول الآثار الحاصلة فى الحواس اشكال او غير اشكال؟ فان كانت اشكالا وكل شكل ملموس فالاثر الحاصل فى العين ملموس هذا خلف. وان لم يكن اشكالا فقد ثبت القول بوجود كيفيات وراء الاشكال فاذا جاز ذلك فاىّ مانع يمنع من اثباتها فى الجسم الخارجى. الوجه الثانى فى اثبات الكيفيات : ان الالوان والطعوم والروائح فيها مضادة والاشكال ليس فيها مضادة. الوجه الثالث : الاحساس بالشكل يتوقف على وجود اللون فلو كان اللون نفس الشكل لتوقف الاحساس بالشىء على الاحساس به.

قال صدر المتألهين فى الاسفار : وهذا المذهب سهل الدفع فان ما فى الحواس صورة المحسوسات ومثالها ومثال الشكل غير مثال الطعم واللون وغيرهما.

(٤) راجع ص ٢١ ج ٢ ط ١ ـ ص ٦٧ ج ٤ ط ٢ من الاسفار.

٨٦

بينا فساد هذا الرأى ، وبينا أن فى بعض الأجسام خاصية تؤثر فى حاسّة اللسان ، مثلا الشىء الذى نسميه إذا ذقناه حلاوة ، ولبعضها خاصية أخرى من جنسها ، وهذه الخاصية نسميها الطعم لا غير.

وأما مذهب أصحاب الأشكال فقد نقضنا أصله فيما سلف (١).

ثم قد يظهر لنا سريعا بطلانه ، فإنه لو كان المحسوس هو الشكل لكان يجب إذا لمسنا الشكل وأدركناه خصوصا بالحدقة (٢) أن نكون رأينا أيضا لونه ، فإن الشىء الواحد من جهة واحدة يدرك شيئا واحدا ، فإن أدرك من جهة ولم يدرك من جهة ، فالذى لم يدرك منه غير المدرك ، فيكون اللون إذن غير الشكل ، وكذلك أيضا الحرارة غير الشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الشىء الواحد يؤثر فى شيئين أثرين مختلفين ، فيكون أثره فى شىء مّا ملموسا وأثره فى شىء آخر مرئيا. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل نفسه محسوسا ، بل أثر مختلف يحدث عنه فى الحواس المختلفة غير نفسه. والحاس أيضا جسم (٣) ، وعنده أنه لا يتأثر إلا بالشكل ، فيكون أيضا

__________________

(١) ص ١٩٠ ، ١٩٨ من الفصل الأولى الى السادس من الفن الثالث.

(٢) كما فى الاجسام البعيدة عنا اذا ادركنا منها شكلا.

(٣) فى تعليقة نسخة : قوله : « والحاس ايضا جسم » اى كالمحسوس والجسم الحاس عنده لا يتأثر الا بالشكل عند الادراك. فان قيل ان الشكل المحسوس هو الشكل لكن يختلف الاشكال بحسب المدارك والحواس. فشكل يكون مرئيا وشكل يكون ملموسا وهكذا فى الباقى. قلنا يمكن ان يكون شىء واحد مرئيا وملموسا وغيرهما وكيف يكون الشىء الواحد والشكل الواحد يؤثر فى آلة شكلا وفى آلة اخرى شكلا آخر مع ان كل شكل عنده ملموس ولا يكون عنده شكل مخصوص بالرؤية ، وشكل مخصوص بالذوق مثلا. فعلى هذا يجوز أن يلمس هذا المرئى او هذا المذوق مثلا لان المرئى او المذوق كلاهما شكل والشكل ملموس اىّ شكل كان.

٨٧

الحاس إنما يتأثر بالشكل (١) ، فيكون الشىء الواحد يؤثر فى آلة شكلا مّا وفى آلة أخرى شكلا آخر لكن لا شىء من الأشكال عنده إلا ويجوز أن يلمس ، فيكون هذا المرئى (٢) أيضا يجوز أن يلمس. ثم من الظاهر البين أن اللون فيه مضادة وكذلك الطعم وكذلك أشياء اخرى ، ولا شىء من الأشكال بمضاد لشىء ، وهؤلاء بالحقيقة يجعلون كل محسوس ملموسا ، فإنهم يجعلون أيضا البصر ينفذ فيه شىء ويلمس ، ولو كان كذلك لكان يجب أن يكون المحسوس فى الوجهين (٣) جميعا هو الشكل فقط.

ومن العجائب غفلتهم عن أن الأشكال لا تدرك إلا أن تكون هناك ألوان أو طعوم أو روائح أو كيفيات أخرى ؛ ولا تحس ألبتة بشكل مجرد. فإن كان لأن الشكل المجرد إذا صار محسوسا أحدث فى الحس أثرا من هذه الآثار غير الشكلية ، فقد صح وجود هذه الآثار. وإن لم تكن هذه الآثار إلا نفس الشكل ، وجب أن يحس شكل مجرد من غير أن يحس معه شىء آخر.

وقال قوم من الأوائل : إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلاوسائط ألبتة ولا آلات ، أما الوسائط فمثل الهواء مثلا للإبصار وامّا الآلات فمثل العين للإبصار.

وقد بعدوا عن الحق ، فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات لكانت هذه الآلات معطلة فى الخلقة لا ينتفع بها ، وأيضا فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع فيستحيل أن يكون بعض

__________________

(١) لانه جسم.

(٢) قوله : « فيكون هذا المرئى » اى المرئى بالذات وهو الشبح المنطبع فى الجليدية.

(٣) اى فى اللمس والبصر.

٨٨

الأجسام قريبا منها ومتجها إليها فيحس ، وبعضها بعيدا منها محتجبا عنها فلا يحس. وبالجملة يجب أن لا يكون اختلاف فى أوضاع الأجسام منها وحجب وإظهار (١) ، فإن هذه الأحوال تكون للأجسام عند الأجسام. فيجب أن تكون النفس إما مدركة لجميع المحسوسات وإما غير مدركة ، وأن لا تكون غيبة المحسوس تزيله عن الإدراك. لأن هذه الغيبة عند شىء لا محالة هى خلاف الحضرة منه. فيكون عند ذلك الشىء لهذا الشىء غيبة مرة وحضور مرة ، وذلك مكانى وضعى فيجب أن تكون النفس جسما ؛ ليس ذلك بمذهب هؤلاء ؛ وسنبين لك من بعد أن الصورة المدركة لا يتم نزعها عن المادة وعلائق المادة يستحيل أن تستثبت بغير آلة جسدانية ؛ ولو لم تحتج النفس فى إدراك الأشياء إلى المتوسطات لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء وإلى توسط الشاف ، ولكان تقريب المبصر من العين لا يمنع الإبصار ، ولكان سد الأذن لا يمنع الصوت ، ولكانت الآفات العارضة لهذه الآلات لا تمنع الإحساس.

ومن الناس من جعل المتوسط عائقا ، وقال إنه لو كان المتوسط كلما كان أرّق كان أدلّ (٢) ؛ فلو لم يكن ، بل كان خلأ صرفا ، لتمت

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى لا تكون حجب واظهار للاجسام منها.

(٢) ص ٣١٨ ج ٢ من المباحث المشرقية للفخر : قال الشيخ من الناس من قال المتوسط كلما كان ارقّ كان ادلّ فلو كان خلأ صرفا لكان الابصار اكمل حتى يمكن ابصار النملة على السماء الخ. والمذكور فى الاسفار منقول من المباحث. ولكن عبارة الفخر منقولة بالمعنى. وقوله : لا بصر عطف على قوله لتمت الدلالة. والمعنى ولابصر الشىء اكثر من المسافة الّتى يبصر ذلك الشىء حتى يمكن ان تبصر نملة فى السماء. وقال صدر المتألهين فى الاسفار ( ج ٤ ص ٤٨ ط ١ ـ ج ٨ ص ٢٠٠ ط ٢ ) : « فعلى هذا يظهر فساد قول من قال : المتوسط كلما كان ارق كان اولى فلو كان خلأ صرفا لكان الابصار اكمل

٨٩

الدلالة ، ولأبصر الشىء أكبر مما يبصر ، حتى كان يمكن أن تبصر نملة فى السماء.

وهذا كلام باطل ، فليس إذا أوجب رقته زيادة ، يجب أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك ، فإن الرقة ليس هى طريقا إلى عدم الجسم. وأما الخلأ فهو عدم الجسم عندهم ، بل لو كان الخلأ موجودا لما كان بين المحسوس والحاس المتباينين موصل ألبتة ، ولم يكن فعل ولا انفعال ألبتة.

ومن الناس من ظن شيئا آخر وهو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح ، وهو جسم لطيف ، سنشرح حاله بعد ، وأنه آلة الإدراك ، وأنه وحده يجوز أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها أو يوازيها أو يصير منها بوضع ذلك الوضع يوجب الإدراك.

وهذا المذهب أيضا فاسد ، فإن الروح لا يضبط جوهره إلا فى هذه الوقايات (١) التى تكتنفه ، وأنه إذا خالطه شىء من خارج أفسد جوهره مزاجا وتركيبا. ثم ليس له حركة انتقال خارجا وداخلا ، ولو كان له هذا

__________________

حتى كان يمكن ابصارنا النملة على السماء ، لا بما ذكروه فى جوابه بانّ هذا باطل فليس اذا اوجب رقة المتوسط زيادة قوة فى الابصار لزم ان يكون عدمه يزيد ايضا فى ذلك فان الرقة ليست طريقا الى عدم الجسم ، لأنّ اشتراط الرقة فى الجسم المتوسط لو كان لاجل ان لا يمنع نفوذ الشعاع فصح انه اذا كان رقة الجسم منشأ سهولة النفوذ كان عدم الجسم فيما بين اولى فى ذلك وكانت الرقة على هذا التقدير طريقا الى العدم ، بل فساده لانه لو لم يكن بين الرائى والمرئى امر وجودى متوسط موصل رابط لم يكن هناك فعل وانفعال. »

(١) تلك الوقايات هى اوعية الروح ولكن كل وعاء ليس بواق كالغدير للماء فان الماء لا يفسد بالخروج عنه بخلاف الروح وتلك الاوعية ولذا عبر عنها بالوقايات اى الواقيات.

٩٠

لجاز أن يفارق الإنسان ويعود إليه ، فيكون للإنسان أن يموت وأن يحيا باختياره فى ساعته ولو كان الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات البدنية.

فالحق أن الحواس محتاجة إلى الآلات الجسدانية ، وبعضها إلى وسائط ، فإن الإحساس انفعال مّا ، لأنه قبول منها لصورة المحسوس ، واستحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل ، فيكون الحاس بالفعل مثل المحسوس بالفعل ، والحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة ، والمحسوس بالحقيقة القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة المحسوس ، فيكون الحاس من وجه مّا يحس ذاته لا الجسم المحسوس ، لأنه المتصور بالصورة التى هى المحسوسة القريبة منها (١). وأما الخارج فهو المتصور بالصور التى هى المحسوسة البعيدة ، فهى (٢) تحس ذاتها لا الثلج ، وتحس ذاتها لا القار ، إذا عنينا (٣) أقرب الإحساس الذى لا واسطة فيه. وانفعال الحاس من المحسوس ليس على سبيل الحركة ، إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد ، بل هو استكمال. أعنى أن يكون الكمال الذى كان بالقوة قد صار بالفعل (٤) من غير أن بطل فعل إلى القوة.

وإذ قد تكلمنا الآن على الإدراك الذى هو أعم من الحس ، ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحس مطلقا ، فنقول : إن كل حاسة فإنها تدرك محسوسها وتدرك عدم محسوسها ، أما محسوسها فبالذات ، وأما عدم

__________________

(١) راجع الى الحاس باعتبار القوة.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى القوة تحس نفس ذاتها لا شيئا خارجا عن ذاتها.

(٣) بالاحساس والمحسوس.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى يكون استكمال من العدم الى الوجود لا ابطال امر وجودى.

٩١

محسوسها كالظلمة للعين والسكوت للسمع وغير ذلك فإنها (١) تكون بالقوة لا بالفعل. وأما إدراك أنها أدركت فليس للحاسة ، فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو صوتا فيسمع ، ولكن إنما يدرك ذلك بالفعل العقل أو الوهم على ما يتضح من حالهما بعد.

__________________

(١) اى الحاسة.

٩٢

الفصل الثالث

فى الحاسة اللمسية (١)

وأول الحواس الذى يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس ، فإنه كما أن

__________________

(١) راجع الفصل الثانى من الباب الرابع من نفس « الاسفار فى اللمس واحواله ص ٣٩ ج ٤ ط ١ ـ ج ٨ ص ١٥٩ ط ٢.

قال العلامة الشيرازى فى شرح حكمة الاشراق ص ٤٥٤ : « لكن اللمس اهمّ للحيوان فانهّ لمّا كان مركبا من العناصر وكان صلاحه باعتدالها وفساده بتغالبها وجب ان يكون له قوة سارية فى كليته بها يدرك المنافى من الكيفيات ».

وقال صدر المتألهين فى تعليقاته عليه : « يرد عليه ان ما ذكره لا يدل على كون اللامسة قوة سارية فى البدن كله ولا على عدم صحة بقاء الحيوان بدون اللامسة ، ولو تم ما ذكره لدلّ على وجودها فى النباتات بل فى الجمادات فانها ايضا مركبة من العناصر صلاحها ببقاء الاعتدال وفسادها بزواله والذى يصلح ان يقال فى اثبات هذا المطلب ان قوة اللامسة لما كانت من شأنها ادراك كيفيات العناصر وهى اوائل المحسوسات من باب الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وموضوع هذه القوة ايضا مركب كالحيوان من العناصر بحسب صورتها التى تلزمها هذه الاوائل لا بحسب مادتها المشتركة بين الكل فقوام هذه القوة ايضا بما به قوام الحيوان بما هو حيوان اعنى كيفية الصورة العنصرية المتوسطة بين الاربع لاعتداله فلهذا سرت هذه القوة فى كل البدن الحيوانى لان طبيعتها كطبيعة الحيوان ومادتّها كمادّته وكذا كل عضو من الاعضاء الحيوانية كاصل البدن مركب من صورة هذه الكيفيات اعنى المعتدل المتوسط فاذن صلاحهها كصلاحه ببقاء الاعتدال وفسادها بفساده بزوال ذلك الاعتدال. فافهم يا حبيبى هذا فانه مع وضوحه دقيق.

٩٣

كل ذى نفس أرضية فإن له قوة غاذية ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الأخرى ولا ينعكس ، كذلك حال كل ذى نفس حيوانية فله حس اللمس ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الآخرى ولا ينعكس. وحال الغاذية عند سائر قوى التى للنفس الأرضية ، حال اللمس عند سائر قوى الحيوان. وذلك لأن الحيوان تركيبه الأول هو من الكيفيات الملموسة ، فإن مزاجه منها وفساده باختلالهما.

والحس طليعة للنفس ، فيجب أن تكون الطليعة الأولى ، هو ما يدل على ما يقع به الفساد ويحفظ به الصلاح وأن تكون قبل الطلائع التى تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو مضرة خارجة عن الفساد.

والذوق ، وإن كان دالا على الشىء الذى به تستبقى الحياة من المطعومات ، فقد يجوز أن يعدم الذوق ويبقى الحيوان حيوانا ، فإن الاحساس الأخر ربما أعان على ارتياد (١) الغذاء الموافق واجتناب المضارّ.

وأما الحواس الأخرى فلا تعين على معرفة أن الهواء المحيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد. وبالجملة فإن الجوع شهوة اليابس الحار والعطش شهوة البارد الرطب. والغذاء بالحقيقة ما يتكيف بهذه الكيفيات التى يدركها اللمس. وأما الطعوم فتطييبات ، فلذلك كثيرا ما يبطل حس الذوق لآفة تعرض فيكون الحيوان باقيا ، فاللمس هو أول الحواس ولا بد منه لكل حيوان أرضى.

وأما الحركة فلقائل أن يقول : إنها أخت اللمس للحيوان ، وكما أن من

__________________

(١) فان الحواس الاخرى ربما اعانت على ارتياد ، نسخة. الارتياد اى الطلب.

٩٤

الحس نوعا متقدما كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدم. وأما المشهور فهو أن من الحيوان ما له حس اللمس وليس له قوة الحركة ، مثل ضروب من الأصداف.

لكنا نقول : إن الحركة الإرادية على ضربين : حركة انتقال من مكان إلى مكان ، وحركة انقباض وانباسط للأعضاء من الحيوان وإن لم يكن به انتقال الجملة من موضعه فيبعد أن يكون حيوان له حس اللمس ولا قوة حركة فيه ألبتة ، فإنه كيف يعلم أنه له حس اللمس إلا بأن يشاهد فيه نوع هرب من ملموس وطلب لملموس. وأما ما يتمثلون هم به من الأصداف والإسفنجات (١) وغيرها ، فإنا نجد للأصداف فى غلفها حركات انقباض وانبساط والتواء وامتداد فى أجوافها ؛ وإن كانت لا تفارق أمكنتها ، ولذلك يعرف أنها تحس بالملموس. فيشبه أن يكون كل ما له لمس فله فى ذاته حركة مّا إرادية إما لكليته وإما لأجزائه.

وأما الأمور التى تلمس (٢) ، فإن المشهور من أمرها أنها الحرارة

__________________

(١) فى بحر الجواهر للهروى : اسفنج جسم بحرى رخو متخلخل كاللبد ، وعامة الفرس تقولون انه « ابر مرده ».

واذا القى فى الماء نشفه وحمل منه قريبا من حبشه وهو جسم خفيف يميل الى السواد غالبا ينبت فى صخور السواحل ومنهم من يظن انه حيوان لانقباضه وتجمعه إذا لمس.

(٢) قوله : واما الامور التى الخ ، هذا شروع فى بيان الاشياء الملموسة وذكر اولا انّ المشهور ذهب الى انها ثمانية اشياء ، وهى الحرارة واخواتها السبعة. والبواقى تلمس تبعا لهذه الثمانية. مثلا ان الصلابة تلمس تبعا لليبوسة ، واللزوجة تبعا للرطوبة. ثم تعرض لقول المشهور فى الملموس بذاته والملموس بالعرض بان المشهور يظن ان الحرارة والبرودة تلمسان بذاتهما بلادخالة انفعال عضو حاس عبر عنه بالآلة. واما البواقى

٩٥

والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة والثقل والخفة. وأما الصلابة واللين واللزوجة والهشاشة (١) وغير ذلك فإنها تحس تبعا لهذه المذكورات. فالحرارة والبرودة كل منهما يحس بذاته ، لا لما يعرض فى الآلة من الانفعال بها. وأما الصلابة واللين واليبوسة والرطوبة فيظن (٢) أنها لا تحس بذاتها ، بل يعرض للرطوبة أن تطيع (٣) لنفوذ ما ينفذ فى جسمه ، ويعرض من اليبوسة أن تعصى فتجمع العضو الحاس وتعصره ، والخشونة أيضا يعرض لها مثل ذلك بأن تحدث الاجزاء الناتية (٤) منه عصرا ولا تحدث الغائرة شيئا ، والأملس يحدث ملاسة واستواء ، وأما الثقل فيحدث تمددا إلى أسفل ، والخفة خلاف ذلك.

فنقول لمن يقول هذا القول : إنه ليس من شرط المحسوس بالذات أن يكون الإحساس به من غير انفعال يكون منه ، فإن الحار أيضا ما لم يسخّن لم يحسّ. وبالحقيقة ليس إنّما يحس ما فى المحسوس بل ما يحدث منه فى الحاس حتّى انّه ان لم يحدث ذلك لم يحس به. لكن المحسوس بالذات هو الذى تحدث منه كيفية فى الآلة الحاسة مشابهة لما فيه فيحس. وكذلك الانعصار عن اليابس والخشن والتملس من

__________________

سواء كانت توابع وغيرها فهى تحسّ بدخالة عضو حاس. وبعد نقل ظن المشهور اخذ فى ردهم حيث قال : فنقول لمن يقول هذا القول ....

(١) فى تعليقة نسخة : الهشاشة ما يصعب تشكيله ويسهل تفريقه لغلبة اليابس وقلة الرطب مع ضعف المزاج واللزوجة مقابلة لها.

(٢) اى المشهور.

(٣) اى ان تطيع الرطوبة لنفوذ العضو الحاس ينفذ فى جسم المحسوس البعيد اى المحسوس بالعرض.

(٤) الاجزاء الناتية من النتو والناتية تقابل الغائرة. منه ، اى من الجسم الخشن.

٩٦

الأملس والتمدد إلى جهة معلومة من الثقيل والخفيف ، فإن الثقل والخفة ميلان والتمدد أيضا ميل إلى نحو جهة مّا. فهذه الأحوال إذا حدثت فى الآلة أحس بها لا بتوسط حر أو برد ، أو لون أو طعم ، أو غير ذلك من المحسوسات ، حتى كان يصير لأجل ذلك المتوسط غير محسوس أوّلى أو غير محسوس بالذات ، بل محسوسا ثانيا أو بالعرض. ولكن هاهنا ضرب آخر (١) مما يحس مثل تفرق الاتصال الكائن

__________________

(١) قوله : ولكن هيهنا ضرب آخر ، حاصل السؤال ان تفرق الاتصال امر عدمى وادراك ألمه امر وجودى فكيف يلمس التفرق وهو ليس بشىء من الامور المعدودة التى تلمس ، وكذا السؤال فى نحو لذة الجماع؟ فاجاب بان الحيوان متحقق اى متكون من المزاج والتركيب والمراد من التركيب هو مقابل التفرق اى الاتصال. ولكل واحد منهما صحة ومرض والمرض ايضا قد يكون مفسد المزاج اى قد يكون مهلكا وقد لا يكون وكذلك المرض العارض للتركيب قد يكون مهلكا وقد لا يكون. واللمس حس يتقى به ما يفسد به المزاج والتركيب ايضا. فالالم والراحة من الالم من المحسوسات اللمسية.

ثم اورد فى الاثناء بعض الآراء تسديدا للسؤال وقال : وخصوصا وقد ظن بعض الناس الخ. وردّه بقوله : ليس كذلك ، لان الحار والبارد يتغير بكل واحد منهما المزاج وبذلك التغير يحس كل واحد منهما والحال انّ المزاج باق على استوائه واتصاله واعتداله. يعنى ان ذلك المزاج مع تغيره الانفعالى لا يخرج عن الاستواء ، يعنى لا يتحقق تفرق الاتصال لانه لو تحقق ذلك التفرق لا يكون جميع اجسام العضو اللامس متشابها مستويا ، والحال انّ جميع اجسام العضو مستو متشابه مع صدق ذلك التغير الانفعالى فلا يكون سائر الكيفيات اى جميعها انما تحس بتوسط ما يحدث من تفرق الاتصال.

وبعد ذلك اجاب عن سؤال مقدر وهو انّ بعض الامراض مع شدته لا يحس كالدق يعنى حمى الدق وبعضها مع كونه ليس بتلك الشدة يحسّ كالغب اى حمى الغب.

فاجاب عنه بقوله : ونقول انّ كل حال الخ.

ثم اعلم انّ لصدر المتألهين فى الفصل الخامس من القسم الثالث من الجواهر والاعراض من الاسفار تحقيقا انيقا فى المقام ( ص ٤١ ج ٢ ط ١ ص ١٢٥ ج ٤ ط ٢ ) فراجع.

وراجع ايضا العين الثامنة عشرة من عيون مسائل النفس.

٩٧

بالضرب وغير ذلك ، وذلك ليس بحرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا صلابة ولا شىء من المعدودات ، (١) وكذلك أيضا الإحساس بالملذات اللمسية مثل اللذة التى للجماع وغير ذلك ، فيجب أن ننظر أنها كيف هى وكيف تنسب إلى القوة اللمسية وخصوصا وقد ظن بعض الناس أن سائر الكيفيات إنما تحس بتوسط ما يحدث من تفرق الاتصال. وليس كذلك (٢) ، فإن الحار والبارد من حيث يتغير به المزاج يحس على استوائه ، وتفرق (٣) الاتصال لا يكون مستويا متشابها فى جميع الاجسام.

لكنا نقول (٤) : إنه كما أن الحيوان متكون بالامتزاج الذى للعناصر ، كذلك هو متكون أيضا بالتركيب. وكذلك الصحة والمرض ، فإن منهما ما ينسب إلى المزاج ومنهما ما ينسب إلى الهيئة والتركيب. وكما أن من فساد المزاج منه ما هو مفسد كذلك من فساد التركيب منه ما هو مهلك؟

وكما أن اللمس حس يتقى به ما يفسد المزاج ، كذلك هو حس يتقى به ما يفسد التركيب. فاللمس أيضا يدرك به تفرق الاتصال ومضاده وهو عوده إلى الالتئام.

ونقول : إن كل حال مضادة لحال البدن فإنها يحس بها عند الاستحالة وعند الانتقال إليها ، ولا يحس بها عند حصولها واستقرارها. وذلك لأن الإحساس انفعال مّا أو مقارن لانفعال مّا ، والانفعال إنما يكون عند زوال

__________________

(١) فى المطبوعة بمصر : ولا صلابة ولالين ولا شىء من المعدودات. ولكن المتن موافق لنسخنا الثلاثة المخطوطة.

(٢) جواب عن ذلك الظن.

(٣) الواو حالية.

(٤) جواب عن قوله : ولكن هيهنا ضرب آخر الخ.

٩٨

شىء وحصول شىء ، وأما المستقر فلا انفعال به. وذلك فى الأمزجة الموافقة والرديئة معا ، فإن الأمزجة الرديئة إذا استقرت وأبطلت الأمزجة الأصلية حتى صارت هذه الرديئة كانها أصلية لم يحس بها ، ولذلك لا تحس بحرارة الدق وإن كانت أقوى من حرارة الغب. وأما إن كانت الأصلية موجودة بعد وهذه الطارئة مضادة لها أحس بها ، وهذا يسمى سوء المزاج المختلف ، وهذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق ، فالألم والراحة من الألم أيضا من المحسوسات اللمسية.

ويفارق اللمس فى (١) هذا المعنى سائر الحواس ، وذلك لأن الحواس

__________________

(١) قوله : ويفارق اللمس ، اقول : اللمس لانغماره فى الطبيعة كان ادراكه فى منغمره وكذا الذوق والشم. فهذه الثلاثة احكام الطبيعة غالبة عليها فلا يتحقق ادراكها الا بمماسة محسوساتها الخارجية اعنى بها المحسوس بالعرض فتلتذ وتالم كل واحدة منها من محسوساتها القريبة اعنى بها الذاتية فى موطنها ومنغمرها. بخلاف البصر والسمع فانّ لهما شأنا من التفوق والاستعلاء على الطبيعة فلالذة ولا الم لهما من محسوساتهما المبصرة والمسموعة. بل النفس تلتذ وتتالم من داخل.

فان قلت : ان النفس مطلقا مدركة لان تلك القوى كلها فروعها فلافرق من هذه الحيثية بين تلك الثلاثة وبين هاتين.

قلت : لا مشاحة فى ذلك وانما الكلام فى ان اللمس الذى من فروع النفس انما هو مدرك فى موطنه وإنما يلتذ او يالم من ملموسه فى موطنه ومنغمره من حيث انه ملموسه وكذا الذوق والشم. بخلاف البصر والسمع فانهما لا يلتذان ولا يتألمان من مدركاتهما من حيث انها مبصرة او مسموعة وانما ذلك الالتذاذ والتألم للنفس من داخل لا فى موطنهما. فان اصابتهما لذة او الم فانما تلك الاصابة من حيث اللمس السارى فيهما كسائر اللوامس.

وبالجملة اللمس منغمر فى الطبيعة وان كان فى الرتبة فوقها. يعنى ان الطبيعة اذا صوعدت صارت لمسا واللمس اذا صوعد صار ذوقا وهكذا الذوق اذا صوعد صار شمّا ، والشم سمعا والسمع بصرا والبصر خيالا والخيال عقلا وان للنفس فى كل واحدة

٩٩

الأخرى : منها ما لا لذة لها فى محسوسها ولا ألم. ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد المحسوسات. فأما التى لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان

__________________

منها حكما بحسبها. ولكل واحدة منها بحسب انغمارها فى الطبيعة وانقهارها عليها حكما آخر وان كان حكمها حكمها فافهم.

ثم ان لصدر المتألهين كلاما فى المقام فى الاشراق السادس من الشاهد الاول من المشهد الثالث من الشواهد الربوبية ( ص ١٣٣ ط ١ ـ ١٩١ ط ٢ ) قال : « حكمة عرشية : ومما ذكره الشيخ فى القانون : ان هاتين القوتين [ السمع والبصر ] لا لذة لهما فى محسوسيها ولا الم بخلاف البواقى. فعجزت عن دركه شرّاح القانون واعترضوا عليه وطال الكلام بينهم جرحا وتعديلا ولم يأتوا عن آخرهم بشىء يطمئن به القلب. وفيما قسم لنا من الملكوت ان الحيوان بما هو حيوان تتقوم مادة حياته من الكيفيات الملموسة وهذه اولى مرتبة الحيوانية التى لا يخلو منها حيوان. كما لا يخلو حيوان من قوة اللمس لانّ المدرك من كل شىء والشاعر من كل حىّ قوة من باب ما يدركه وآلة من جنس ما يشعر به ويحضر عنده اذ به يخرج من القوة الى الفعل فالملايم والمنافر للحيوان بما هو حيوان ولأدنى الحيوانات اولا وبالذات انّما هما من مدركات قوة اللمس لانها يتقوم بها بدنه.

ثم مدركات الذائقة فى الحيوانات المرتفعة درجتها قليلا عن ادنى المراتب فيفتقر الى اغذية مخصوصة والى قوة من شأنها تمييز النافع عن الضار فيما يتغذى ويزداد به بدنه من المذوقات وتالى الكيفيتين فى الملايمة والمنافرة مدركات الشامة حيث يتغذى بها لطائف الاعضاء كالارواح البخارية.

واما مدركات السامعة والباصرة فليس للحيوان بما هو حيوان اليها حاجة قريبة لانّ بدنه ليس مركبا من الاصوات ولا من الاضواء ولا الالوان ولا شك فى أن الآلات الحساسة جسم حيوانى واللذة هى ادراك الملايم والملايم للجسد الحيوانى اما الملموس او المذوق او المشموم لا الاصوات والانوار بل هى ملايمة للنفس التى هى من عالم النور كما سيجىء وقس عليها حال الالم. ومما يؤكد ما ذكرنا ان جنس الحيوان مدة مديدة فى الموضع المظلم الخالى عن الصوت لا يوجب موته بخلاف حبسه عن الملموس لحظة وعن المطعوم ايّاما قلائل والشم ضرب من الطعم قد يصير بدلا منه فى بعض الحيوان احيانا وفى الجنّ دائما ». انتهى كلامه.

١٠٠