النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

الفصل الثالث

فى أنّ النفس داخلة فى مقولة الجوهر

فنقول نحن إنك تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم ، فإن ثبت لك أن نفسا مّا يصح لها الانفراد بقوام ذاتها ، لم يقع لك شك فى أنها جوهر (١) وهذا إنما يثبت لك فى بعض ما يقال له نفس. وأما غيره مثل النفس النباتية والنفس الحيوانية ، فإن ذلك لا يثبت لك فيه. لكن المادة (٢) القريبة لوجود هذه الأنفس (٣) فيها إنما هى ما هى بمزاج خاص وهيئة خاصة ، وإنما تبقى بذلك المزاج الخاص بالفعل موجودا مادام فيها النفس. والنفس هى التى تجعلها بذلك المزاج ، فإن النفس هى لا محالة علة لتكوّن النبات والحيوان على المزاج الذى لهما إذ كانت النفس هى مبدأ التوليد والتربية كما قلنا : فيكون الموضوع القريب للنفس مستحيلا أن يكون هو ما هو بالفعل إلا بالنفس ، وتكون النفس علة لكونه كذلك.

__________________

(١) فى انها جوهرة ، نسخة.

(٢) هذا بيان الاستدلال على كون النفوس الحيوانية والنباتية جوهرا لا عرضا.

(٣) اى الانفس التى لا تثبت لك انها جوهر كالنباتية والحيوانية.

٤١

ولا يجوز أن يقال : إن الموضوع (١) القريب حصل على طباعه موجودا لسبب غير النفس ، ثم لحقته النفس لحوق ما لا قسط له بعد ذلك فى حفظه وتقويمه وتربيته ، كالحال فى أعراض يتّبع وجودها وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا ، ولا تكون مقومة لموضوعها بالفعل. وأما النفس فإنها مقومة لموضوعها القريب موجدة إياه بالفعل ، كما تعلم الحال فى هذا إذا تكلّمنا فى الحيوان.

وأمّا الموضوع البعيد (٢) فبينه وبين النفس صور أخرى تقومه. وإذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب (٣). صيّر الموضوع لحالة أخرى (٤) ، وأحدث فيه صورة جمادية ، كالمقابلة للصورة المزاجية الموافقة للنفس ولتلك الصور (٥). فالمادة التى للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها ألبتة ، بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذى به كان موضوعا للنفس ، أو تخلف النفس فيها صورة تستبقى المادة بالفعل على طبيعتها ، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان ، بل تكوّن له صورة وأعراض أخرى ، ويكون أيضا قد تبدّل بعض أجزائها وفارق مع تغير الكل

__________________

(١) اى البدن.

(٢) فى تعليقة نسخة : كما لمادة المنى.

(٣) كناية عن جسم مباين للنفس وفى مجمع البحرين ج ٢ ص ١٣٤ مادة « غلب » : « الغلب الغلاظ يقال شجرة غلبا اى غليظة ».

(٤) فراقها يحدث بغالب صير الموضوع بحالة اخرى. كما فى نسخة مصحّحة مقروة عندنا. يعنى ان يحدث من الاحداث وكلمة صير فى « صير الموضوع » منصوب على المفعولية لقوله « يحدث ». فهى مصدر لا فعل. اى يحدث ذلك الفراق بغالب كمرض او ضربة او قطع صير الموضوع بحالة اخرى اى صيرورة الموضوع بحالة اخرى وسياق العبارة والمطلب يصدّق هذه القرائة.

(٥) فى تعليقة نسخة : اى الصور التى بين الموضوع البعيد وبين النفس.

٤٢

فى الجوهر ، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هى كانت موضوعة للنفس ، والآن هى موضوعة لغيرها. فإذن ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع. فالنفس إذن جوهر لأنها صورة لا فى موضوع.

لكن لقائل أن يقول : لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها ، فإنها علة لقوام مادتها القريبة ؛ وأما النفس الحيوانية فيشبه أن تكون النباتية تقوّم مادتها ثم تلزم (١) هذه النفس الحيوانية إياها ، فتكون الحيوانية متحصلة الوجود فى مادة تقومت بذاتها ، وهى علة لقوام هذه التى حلّتها أعنى الحيوانية ، فلا تكون الحيوانية لا قائمة فى موضوع.

فنقول فى جواب ذلك : إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب عنها إلا جسم متغذ مطلقا ، ولا النفس النباتية مطلقة لها وجود إلا وجود معنى جنسى ، وذلك فى الوهم فقط ؛ وأما الموجود فى الأعيان فهو أنواعها.

والذى يجب أن يقال : إن النفس النباتية سبب واحد وله شىء أيضا عام كلى غير محصل ، وهو الجسم المتغذى النامى المطلق الجنسى غير المنوّع.

وأما الجسم ذو آلات الحس والتمييز والحركة الإرادية ، فليس مصدره عن النفس النباتية بما هى نفس نباتية ، بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به طبيعة أخرى ، ولا يكون ذلك إلا أن تصير نفسا حيوانية.

بل يحب أن نبتدىء فنزيد هذا شرحا.

__________________

(١) يلزم اتباع ، نسخة.

٤٣

فنقول : إن النفس النباتية.

إما أن يعنى به النفس النوعية التى تخص النبات دون الحيوان ، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم النفس النباتية والحيوانية من جهة ما تغذى وتولّد وتنمى ، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية ، وهذا مجاز من القول ، فإن النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات ، ولكن المعنى الذى يعم نفس النبات والحيوان يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات ووجوده ، كما يوجد المعنى العام فى الأشياء.

وإما أن يعنى بها القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد.

فإن عنى بها النفس النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعية ، فذلك يكون فى النبات لا غير ، ليس فى الحيوان.

وإن عنى بها المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص ، فإن الصانع العام هو الذى ينسب إليه المصنوع العام ، والصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع النوعى ، والصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين. فهذا شىء قد مرلك تحقيقه. فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام ، وأما أنه نام بحيث أنه يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من حيث هى عامة ، ولا هذا المعنى يتبعه.

وأما القسم الثالث (١) فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية

__________________

(١) وفى تعليقة نسخة : وهو الذى قال « واما ان يعنى به القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها افعال التغذية والتربية والتوليد ».

٤٤

تأتى وحدها فتفعل بدنا حيوانيا ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمّم جسما نباتيا ، وليس كذلك ، بل إنما كانت تتمّم جسما حيوانيا بآلات الحس والحركة ، فتكون هى قوة لنفس (١) لتلك النفس قوى أخرى. وهذه القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى استعداد الآلة للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها وتلك النفس هى الحيوانية.

ويتضح من بعد أن النفس واحدة ، وأن هذه قوى تنبعث عنها فى الأعضاء ، ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب (٢) استعداد الآلة. فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقسات بدنه ، ومؤلّفتها ومركّبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها ، وهى حافظة لهذا البدن على النظام الذى ينبغى ، فلا تستولى عليه المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه ولو لا ذلك لما بقيت على صحتها.

ولاستيلاء النفس عليها (٣) ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو تحبها كراهة ومحبة ليست ببدنية ألبتة ، وذلك عند ما يكون الوارد على النفس تصديقا مّا ، وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد ، بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم (٤) ،

__________________

(١) قوله : فتكون هى قوة لنفس الخ ، اى فتكون القوة النباتية قوة لنفس ، يعنى بناء على الشق الثالث وهو ان يعنى بالنفس النباتية القوة من قوى النفس الحيوانية. فتكون النباتية قوة لنفس اى لنفس حيوانية لتلك النفس قوى اخرى وهذه القوة النباتية من قواها ايضا ، تتصرف تلك النفس على المثال الخ. وقوله التى هذه قوتها يعنى ان هذه القوة النباتية قوة تلك النفس الحيوانية.

(٢) متعلق بقوله تنبعث.

(٣) وفى تعليقة نسخة : اى على تلك القوة النباتية والحيوانية.

(٤) كلّيات قانون ـ ص ١٩٥ ـ ط ناصرى. فصل ٦ نمط ٣ اشارات.

٤٥

وذلك أيضا من المدركات النفسانية ، وليس مما يعرض للبدن بما هو بدن فيؤثّر ذلك فى القوة النامية الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس أولا ـ وليكن الفرح النطقى ـ شدة ونفاذا (١) فى فعلها ، ومن العارض المضاد لذلك ـ وليكن الغم النطقى الذى لا ألم بدنىّ فيه ـ ضعفا وعجزا حتى يفسد فعلها ، وربما انتقض المزاج به انتقاضا.

وكل ذلك مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوى الإدراك واستعمال الغذاء ، وهى واحدة لها ، ليست هذه منفردة عن تلك (٢).

فبيّن أن النفس هى مكمّلة البدن الذى هى فيه ، وحافظته على نظامه الذى الأولى به أن يتميّز ويتفرّق ، إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر ويتسوجب مفارقة لقرينه ، وإنما يحفظه على ما هو عليه شىء خارج عن طبيعته ، وذلك الشىء هو النفس فى الحيوان.

فالنفس إذن كمال لموضوع ، ذلك الموضوع يتقوّم به ، وهو أيضا مكمّل النوع وصانعه ، فإن الأشياء المختلفة الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع ، ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص. فالنفس إذن ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع ، ولا يكون لها مدخل فى تقويم الموضوع. فالنفس إذن كمال كالجوهر لا كالعرض ، وليس يلزم هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق. فإنه ليس كل جوهر بمفارق ، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة ، وقد علمت أنت أن الأمر كذلك ، فلندلّ الآن دلالة مّا مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم نتبعها بالاستقصاء.

__________________

(١) مفعول لقوله يحدث.

(٢) وفى تعليقة نسخة : اى ليست قوة التغذية منفردة عن قوة الادراك.

٤٦

الفصل الرابع

فى تبيين أنّ اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها (١)

نقول : إن للنفس أفعالا تختلف على وجوه :

فيختلف بعضها بالشدة والضعف ، وبعضها بالسرعة والبطء. فإن الظن اعتقاد مّا يخالف اليقين بالتأكيد والشدة ، والحدس يخالف التلقين التفكّر ( خ ل ) بسرعة الفهم.

وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة ، مثل أن الشك يخالف الرأى ، فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض ، والرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض ؛ ومثل التحريك والتسكين.

وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس بالأسود وإدراك الحلو وإدراك المر.

وقد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون وإدراك الطعم ، بل مثل الإدراك والتحريك.

وغرضنا الآن أن نعرف القوى التى تصدر عنها هذه الأفاعيل ،

__________________

(١) راجع ص ١٢ ج ٤ من الاسفار وص ٢٣٩ ج ٢ من المباحث المشرقية للفخر الرازى.

٤٧

وأنه هل يجب أن تكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أو لا يجب ذلك.

فنقول : أما الأفعال المختلفة بالشدة والضعف فإن مبدأها قوة واحدة ، لكنها تارة تكون أتم فعلا ، وتارة تكون أنقص فعلا. ولو كان النقصان يقتضى أن تكون هناك للأنقص قوة غير القوة التى للأتم ، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان والزيادة التى لا تكاد تتناهى ، بل القوة الواحدة يعرض لها تارة أن تفعل الفعل أشد وأضعف بحسب الاختيار ، وتارة بحسب مؤاتاة الآلات ، وتارة بحسب عوائق (١) من خارج أن تكون أو لا تكون وأن تقل أو تكثر.

فأمّا الفعل وعدمه فقد سلف لك فى الأقاويل الكلية أن مبدأ ذلك قوة واحد.

وأما اختلاف أفعالها التى من باب الملكة بالجنس كالإدراك والتحريك أو كإدراك وإدراك ، فذلك مما بالحرى أن يفحص عنه فاحص ، فينظر مثلا هل القوى المدركة كلها قوة واحدة ، إلا أن لها إدراكات مّا بذاتها هى العقليات ، وإدراكات مّا بآلات مختلفة بسبب اختلاف الآلات. فإن كانت العقليات والحسيات مثلا لقوتين ، فهل الحسيات كلها التى تتخيل من باطن والتى تدرك فى الظاهر لقوة واحدة ، فان كانت التى فى الباطن لقوة أو لقوى ، فهل التى فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات مختلفة أفعالا مختلفة. فإنه ليس بممتنع أن تكون قوة واحدة تدرك أشياء مختلفة الأجناس والأنواع ، كما هو مشهور من

__________________

(١) وفى تعليقة نسخة : اى العوائق فى الفعل والترك.

٤٨

حال العقل عند العلماء ومشهور من حال الخيال عندهم ، بل كما أن المحسوسات المشتركة (١) التى زعموا أنها العظم والعدد والحركة والسكون والشكل قد تحسّ بكل واحدة من الحواس أو بعدة منها وإن كانت بوساطة محسوس آخر.

ثم هل قوة التحريك هى قوة الإدراك ، ولم لا يمكن ذلك. وهل قوة الشهوة بعينها هى قوة الغضب ، فإذا صادفت اللذة انفعلت على نحو ، وإن صادفت الأذى انفعلت على نحو آخر ، بل هل الغاذية والنامية والمولدة شىء من هذه القوى ، وإن لم تكن فهل هى قوة واحدة ، حتى إذا كان الشىء لم يتم بصورة حرّكت الغذاء إلى أقطاره على هيئة وشكل ، فإذا استكمل حرّكت ذلك التحريك بعينه. إلا أن الشكل قد تم فلا يحدث شكل آخر ، والعظم قد بلغ مبلغا لا تفى القوة بأن تورد من الغذاء فيه أكثر مما يتحلل منه فتقف. وهناك يفصل من الغذاء فضل يصلح للتوليد لتنفذه إلى أعضاء التوليد ، كما تنفذ الغذاء إليها لتغذوها به ، لكنه يفصل عما

__________________

(١) قوله المحسوسات المشتركة. سيأتى كلامه فى ذلك فى آخر الفصل الثامن من المقالة الثالثة : فهذه هى المحسوسات التى تسمى مشتركة ، اذ قد تشترك فيها عدة من الحواس الخ. وكذا فى الفصل الثانى عشر من الباب الثالث فى الابصار من المباحث المشرقية للفخر الرازى ص ٣١٩ ج ٢. فى المحسوسات المشتركة. والغرض فى عنوان البحث عن المحسوسات المشتركة ان العظم والعدد والحركة واخواتها مما لا تكون من الملموسات والمذوقات والمشمومات والمسموعات والمبصرات تشترك فى ادراكها الحواس الظاهرة او تشترك فى ادراكها عدة من الحواس فلا تحتاج فى الاحساس الى قوة اخرى كما توهم بعض الناس انه لا بد من حس آخر غير هذه الخمسة لادراك تلك الأمور المعدودة فتبصر وارجع الى الفصل الثانى عشر وهو الفصل الاخير من الباب الرابع من نفس الاسفار ( ص ٤٩ ج ٤ ). والى ص ١٢٣ من نفس ارسطو.

٤٩

تحتاج إليه أعضاء التوليد من الغذاء فضل يصلح لباب آخر ، فتصرفه تلك القوة بعينها إليه ، كما تفعل بفضول كثيرة من الأعضاء ، ثم تعجز هذه القوة فى آخر الحياة عن إيراد بدل ما يتحلّل مساويا لما يتحلّل ، فيكون ذبول. فلم تفرض قوة نامية ولا تفرض قوة مذبلة ، واختلاف الأفعال ليس يدل على اختلاف القوى ، فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد ، بل القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة حركات مختلفة ، بل القوة الواحدة قد تفعل فى مواد مختلفة أفاعيل مختلفة.

فهذه شكوك يجب أن يكون حلها مهيئا عندنا ، حتى يمكننا أن ننتقل ونثبت قوى النفس ؛ وأن نثبت أن عددها كذا (١) ، وأنّ بعضها مخالف للبعض ، فإن الحق عندنا هذا.

فنقول : أما أولا ، فإن القوة من حيث هى قوة بالذات وأوّلا ، هى قوة على أمر مّا ويستحيل أن تكون مبدأ لشىء آخر غيره ، فانّه من حيث هو قوة عليه مبدأ له ، فإن كان مبدأ لشىء آخر فليس هو من حيث هو مبدأ لذلك الأول فى ذاته. فالقوى من حيث هى قوى إنما تكون مبادئ لأفعال معينة بالقصد الأول.

لكنه قد يجوز أن تكون القوة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد الثانى ، بأن تكون تلك كالفروع ، فلا تكون مبدأ لها أوّلا ، مثل أن الإبصار أنّما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التى بها يكون الجسم بحيث إذا توسّط بين جسم قابل للضوء وبين المضىء لم يفعل المضىء فيه الإضاءة ، وهذا هو اللون ، واللون يكون بياضا وسوادا.

__________________

(١) الاسفار ، ط ١ ، ج ٤ ـ ص ١٢ ؛ والمباحث المشرقية ، ط ١ ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

٥٠

وأيضا القوة المتخيلة هى التى تستثبت صور الأمور المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا من التجريد غير بالغ ، كما نذكره بعد. ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك. والقوة العاقلة هى التى تستثبت صور الأمور من حيث هى بريّة عن المادة وعلائقها ، ثم يتفق أن يكون ذلك شكلا ، ويتفق أن يكون عددا.

وقد يجوز أن تكون القوة معدّة نحو فعل بعينه ، لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ ، حتى يصير لها ما بالقوة حاصلا بالفعل ، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل ، فيكون مثل هذه القوة تارة مبدأ للفعل بالفعل وتارة غير مبدأ له بالفعل ، بل بالقوة ، مثل القوة المحركة فإنها إذا صح الإجماع من القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو المعقول إلى التحريك حرّكت لا محالة ، فإن لم يصح لم تحرّك.

وليس يصدر عن قوة محركة واحدة بآلة واحدة إلا حركة واحدة ، إذ الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التى هى العضل فينا وفى كلّ عضلة قوة محركة جزئية لا تحرّك إلا حركة بعينها.

وقد تكون القوة الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة أو الآلات المختلفة ، وهذا ظاهر.

فنقول الآن : إن أول أقسام أفعال النفس ثلاثة :

أفعال يشترك فيها الحيوان والنبات كالتغذية والتربية (١) والتوليد.

وأفعال تشترك فيها الحيوانات أكثرها أو جلّها ولا حظّ فيها للنبات مثل الإحساس والتخيل والحركة الإرادية.

__________________

(١) التربية اشارة الى النموّ.

٥١

وأفعال تختص بالناس مثل تعقل المعقولات (١) واستنباط الصنائع (٢) والرويّة فى الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح.

فلو كانت القوى النفسانية واحدة وكانت الأفعال النباتية تصدر عن القوة التى تصدر عنها الحيوانية صدورا أوليا لكان عدم الأجسام النباتية وأعضاء الحيوان التى تغذى ولا تحس مما هو صلب (٣) أو ليّن للإحساس إما أن يكون بسبب عدم القوة ، أو بسبب أن المادة ليست تنفعل عنها.

ومحال أن يقال : إن المادة ليست تنفعل عن الحر والبرد ولا تتأثر عنهما وعن الطعوم القوية والروائح القوية ، فإنها تنفعل عنها ، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة الفعالة لذلك (٤) ، و (٥) قد وجدت القوة الغاذية ، فإذن القوتان مختلفتان.

وأيضا فإن تحريك النفس لا يخلو إما أن يكون على سبيل نقل مطلق وكل جسم قابل للنقل مطلقا ، وإما أن يكون لنقل على سبيل قبض وبسط ، وفى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك (٦) من العضل وفيها حياة للتغذى ، وليس يمكن تحريكها. فالسبب فى ذلك ليس من جهتها (٧) ، بل من جهة فقدانها للقوة المحركة.

__________________

(١) اشارة الى القوة النظرية.

(٢) اشارة الى القوة العملية.

(٣) فى تعليقة نسخة : كالعظام والرباطات التى تربط بين المفاصل. وللاحساس متعلق بقوله عدم الأجسام.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى للاحساس.

(٥) حالية.

(٦) اى للقبض أو البسط.

(٧) اى من جهة تلك الاعضاء بل من جهة فقدان تلك الاعضاء للقوة المحركة.

٥٢

وكذلك بعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحس فقط دون الحركة ، وبعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحركة ولا تتفاضل بشىء يعتد به ، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحس ويزيد عليه فى الكيف وينقص ، وقد تنفذ فيه قوة الحركة ، وقد يوجد ما هو كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحس.

وكذلك يمكنك أن تعلم أن العين ليست دون اللسان فى أن تنفعل عن الطعوم المجاورة ، ولا تحس العين بالطعم من حيث هو مذوق ؛ لست أقول من حيث هو كيفية ولا بالصوت.

وأما القوة الإنسان فسنبين من أمرها أنها مبرّئة الذات عن الانطباع فى المادة ، ونبيّن أن جميع الأفعال المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة. فإذن الحواس والتخيلات لقوة أخرى مادية غير القوة المحركة وإن كانت تفيض عنها. وقوى الحركة أيضا متعلقة من وجه ، كما سنبين ، بقوى الحسن والتخيل. فإذا فهمت هذا وما أعطيناك من الأصول سهل عليك أن تعرف فرقان ما بين القوى التى نحن فى ترتيبها وتعديدها ، وتعلم أن كل قوة لها فعل أوّلى فلا تشارك قوة أخرى لها فعل أوّلى مخالف لفعلها الأوّلى.

٥٣

الفصل الخامس

فى تعديد قوى النفس (١) على سبيل التصنيف (٢)

__________________

(١) راجع ص ١١ ج ٤ من الاسفار وص ٣١ منه ( ـ ج ٨ ص ٥٣ و ١٢٩ ط ٢ )

(٢) قوله : على سبيل التصنيف ، لا يخفى عليك ان تلك القوى ليست اصنافا على معنى الصنف الحقيقى ايضا. ولذا عبر المحقق الطوسى فى شرحه على الاشارات بقوله فكانّها اصناف ، فالصنف بمعناه الاوسع من ذلك كالقسم والشأن ونحوهما. وللمحقق آقا حسين الخوانسارى فى تعليقاته على الاشارات كلام آخر فى المقام وهو ان التصنيف بمعنى المصادرة والوضع ، وان شئت تفصيل ذلك فارجع الى تعليقاته عليها.

وقال الشيخ فى الفصل العاشر من النمط الثالث من الاشارات : « واما نظير هذا التفصيل فى قوى النفس الانسانية على سبيل التصنيف فهو ان النفس الانسانية التى لها ان تعقل جوهر له قوى وكمالات ». وقال المحقق الطوسى فى شرحه : « يريد ذكر القوى التى يختص الانسان بها وانما قال « على سبيل التصنيف » لان القوى الحيوانية المذكورة كانت متباينة بالذوات لكونها مبادئ افعال مختلفة فكان تفصيلها على سبيل التنويع وهذه غير متباينة بالذوات لكونها متعلقة بذات واحدة مجردة انما هى تختلف بحسب الاعتبارات التى هى بالقياس الى تلك الذات عوارض فكانها اصناف » شرح الاشارات ج ٢ ص ٣٥١ ، ط دفتر نشر كتاب.

وقال بهمنيار فى التحصيل : « فصل فى تعديد القوى النفسانية على سبيل التصنيف ومعنى التصنيف هو ما لا يتميز بالمقومات بل بالعوارض وهاهنا فانّ النفوس الثلاث اصناف لا انواع للنفس الانسانية مثلا. وقد بان انّ النفس الانسانى تنقسم انقساما ثلاثة : النفس النباتية ، والنفس الحيوانية ، والنفس الانسانية ». وقال صدر المتألهين فى سفر النفس من الاسفار : « فصل فى الاشارة الى تعديد القوى النفسانية وما دونها على

٥٤

لنعدّ الآن قوى النفس عدّا على سبيل الوضع (١) ، ثم لنشتغل ببيان حال كل قوة فنقول : القوى النفسانية تنقسم بالقسمة الأولى أقساما ثلاثة :

أحدها النفس النباتية ، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يتولد وينمى ويغتذى ، والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذى قيل إنه غذاء له فيزيد فيه مقدار ما يتحلّل أو أكثر أو أقل.

والثانى النفس الحيوانية ، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.

والثالث النفس الإنسانية ، وهى كمال أول لجسم طبيعى آلى من جهة ما ينسب إليه أنه يفعل الأفاعيل الكائنة بالاختيار الفكرى والاستنباط بالرأى ، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.

ولو لا العادة لكان الأحسن أن يجعل كل أول شرط (٢) مذكورا فى رسم الثانى إن أردنا أن نرسم النفس لا القوة النفسانية التى للنفس بحسب ذلك الفعل. فإن الكمال مأخوذ فى حد النفس لا فى حد قوى النفس.

وأنت ستعلم الفرق بين النفس الحيوانية وبين قوة الإدراك والتحريك ،

__________________

سبيل التصنيف ومعنى التصنيف هاهنا ان هذه القوى لا يتميز بعضها عن بعض بفصول ذاتية كما فى الانواع النباتية والحيوانية بل امتيازها بعوارض انسانية من تقدم بعضها على بعض واستخدام بعضها قبل بعض » اسفار ج ٤ ص ٣١ ط ١ ـ ج ٨ ص ١٢٩ ط ٢.

(١) قوله : على سبيل الوضع ، أى على سبيل المصادرة والوضع اى الاصول الموضوعة من دون استعمال حجة وبرهان. نحو قوله فى عنوان الفصل الثانى من المقالة الأولى من الطبيعات ( ص ٥ ) : « فى تعديد المبادى للطبيعيات على سبيل المصادرة والوضع » فهذا الفصل كالذى قبله كالفهرس لمطالب كتاب النفس. وسيبيّنها ويفصّلها فى المقالة الثانية إلى آخر كتاب النفس. فتبصّر.

(٢) اى النبات يجعل شرطا للنفس الحيوانى ، والحيوانى شرطا للنفس الانسانى.

٥٥

وبين النفس الناطقة وبين القوة على الأمور المذكورة من التميّز وغيره.

فإن أردت الاستقصاء فالصواب أن تجعل النباتية جنسا للحيوانية ، والحيوانية جنسا للإنسانية (١) ، وتأخذ الأعم فى حد الأخص. ولكنك إذا التفت إلى النفس من حيث القوى الخاصة لها فى حيوانيتها وإنسانيتها ، فربما قنعت بما ذكرناه.

وللنفس النباتية قوى ثلاث :

الغاذية وهى قوة تحيل جسما غير الجسم الذى هى فيه إلى مشاكلة الجسم الذى هى فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.

والقوة المنمية وهى قوة تزيد فى الجسم الذى هى فيه بالجسم المتشبه به زيادة متناسبة فى أقطاره طولا وعرضا وعمقا ليبلغ به كمال النشوء.

والقوة المولدة و (٢) هى قوة تأخذ من الجسم الذى هى فيه جزءا (٣) هو شبيهه بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التخليق والتمزيج ما يصيّره شبيها به بالفعل.

وللنفس الحيوانية بالقسمة الأولى قوتان : محركة ، ومدركة.

والمحركة على قسمين : إما محركة بأنها باعثة على الحركة ، وإما محركة بأنها فاعلة :

__________________

(١) فيقال كمال نباتى وكمال حيوانى.

(٢) فى تعليقة نسخة : أما المولدة فهى قوتان : إحداهما ما يجعل فضلة الهضم الرابع منيّا وهذه القوة فعلها فى الأنثيين لانّ ذلك الام يصير منيّا فيهما. وثانيهما ما يهيؤ كل جزء من المنى الحاصل من الذكر والأنثى فى الرحم لعضو مخصوص بأن يجعل بعضه مستعدا للعظميّة وبعضه للعصبيّة مثلا. وفعل هذه القوة إنما يكون حال كون المنى فى الرحم لتصادف ذلك فعل القوة المصورة.

(٣) أى مادة كالبذر.

٥٦

والمحركة على أنها باعثة هى القوة النزوعية الشوقية ، وهى القوة التى إذا ارتسمت فى التخيل الذى سنذكره بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها بعثت القوة المحركة (١) الأخرى التى نذكرها على التحريك ، ولها شعبتان : شعبة تسمى قوة شهوانية وهى قوة تبعث على تحريك تقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية كانت أو نافعة طلبا للذة. وشعبة تسمى غضبية وهى قوة تبعث على تحريك تدفع به الشىء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة.

وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهى قوة تنبعث فى الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب (٢) الأوتار (٣) والرباطات المتصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ (٤) أو ترخيها (٥) أو تمدها طولا ، فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين : منها قوة تدرك من خارج ، ومنها قوة تدرك من داخل.

__________________

(١) أى فاعل الحركة.

(٢) لجذب الملائم.

(٣) فى تعليقة نسخة : الاوتار هى اجسام تنبت من اطراف اللحم من العضل شبيهة بالعصب فيلاقى الاعضاء المتحركة فتارة تجذبها بانجذابها وتارة ترخيها بارخائها.

والرباط هى اجسام شبيهة بالعصب فى البياض والليانة تاتى من العظم الى العظم توصل بين طرفى العظم من المفاصل كرباطات الزندين او بين اعضاء آخر كالرباط الذى يربط العصب بالليف وقد يخص هذا باسم العقب وليس لشىء من الروابط حس لئلا يتاذى بكثرة ما يلزم من الحركة.

(٤) اى الدماغ فسّر بهمنيار فى التحصيل المبدأ بالقلب حيث قال : « فهى التى تجذب الاوتار والرباطات المتصلة بالاعضاء الى نحو جهة المبدأ وهو القلب او ترخيها ». ص ٨١٨.

(٥) لدفع المنافر.

٥٧

فالمدركة من خارج هى الحواس الخمس أو الثمانى (١) :

فمنها البصر وهى قوة مرتبة فى العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع فى الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية فى الأجسام (٢) الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة.

ومنها السمع وهى قوة مرتّبة فى العصبة المتفرقة فى سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليها من تموّج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه صوت فيتأدى تموّجه إلى الهواء المحصور الراكد فى تجويف الصماخ ، ويحرّكه بشكل حركته ، وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع.

ومنها الشم (٣) وهى قوة مرتبة فى زائدتى مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتى الثدى تدرك ما يؤدى إليها الهواء المستنشق من الرائحة الموجودة فى البخار المخالط له أو الرائحة المنطبعة فيه بالاستحالة من جرم ذى رائحة.

ومنها الذوق وهى قوة مرتّبة فى العصب المفروش على جرم اللسان

__________________

(١) اذا كانت قوة اللمس اربعة كما سيجيئ.

(٢) قوله : المتأدية فى الأجسام الخ المتأدية صفة للاشباح. وقوله : الى سطوح الاجسام ، متعلق بالمتأدية. وقوله فى الاجسام الشفافة ، بيان للواسطة فى الرؤية كالهواء الشاف. ثم انّ قوله سطوح الاجسام الصقيلة كلى له افراد منها الرطوبة الجليدية فكما تتأدى اشباح الاجساد ذوات اللون فى الهواء الشفاف بالفعل الى سطح المرآة الصقيلة كذلك تتادى فيه الى الرطوبة الجليدية.

(٣) فى شرح الموجز : قوة الشم هى قوة مرتّبة فى الزائدتين الشبيهتين بحلمتى الثدى من شانها ادراك الرائحة المتصعدة مع الهواء المستنشق بتكيف الهوى بذى الرائحة على ما هو الحق. او بانفصال اجزاء لطيفة بخارية من ذى الرائحة واتصالها بالة الشم انتهى.

فقول الشيخ قدس‌سره اشارة الى اختلاف المذهبين.

٥٨

تدرك الطعوم (١) المتحللة من الأجسام المماسة له المخالطة للرطوبة العذبة التى فيه مخالطة محيلة.

ومنها اللمس وهى قوة مرتّبة فى أعصاب جلد البدن كله ولحمه تدرك ما يماسه ويؤثر فيه بالمضادة المحيلة للمزاج أو المحيلة لهيئة التركيب. ويشبه أن تكون هذه القوة عند قوم لا نوعا أخيرا ، بل جنسا لقوى أربع أو فوقها (٢) منبثة معا فى الجلد كله.

واحدتها حاكمة فى التضاد الذى بين الحار والبارد.

والثانية حاكمة فى التضاد الذى بين الرطب واليابس.

والثالثة حاكمة فى التضاد الذى بين الصلب واللين.

والرابعة حاكمة فى التضاد الذى بين الخشن والأملس. إلا أن اجتماعها فى آلة واحدة يوهم تأحّدها فى الذات (٣).

وأما القوى المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات ، وبعضها تدرك معانى المحسوسات. ومن المدركات ما يدرك ويفعل معا ، ومنها ما يدرك ولا يفعل ، ومنها ما يدرك إدراكا أوليا ، ومنها ما يدرك إدراكا ثانيا.

والفرق بين إدراك الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هو الشىء الذى يدركه الحس الباطن والحس الظاهر معا. لكن الحس الظاهر يدركه أولا

__________________

(١) الطعوم تسعة وهى : الحرافة والمرارة والملوحة والحموضة والعفوصة والقبض والدسومة والحلاوة والتفاهة. هذا ان جعلت التفاهة من الطعوم والافثمانية.

(٢) قوله : او فوقها ، كالقوة الحاكمة بين الثقيل والخفيف.

(٣) ص ٤٨ من نفس الاسفار ( ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٠٠ ج ٨ ط ٢ ) فى انحصار الحواس فى هذه الخمس.

٥٩

ويؤديه إلى الحس الباطن مثل إدراك الشاة لصورة الذئب أعنى تشكّله وهيئته ولونه ، فإن الحس الباطن من الشاة يدركها ، لكن إنما يدركها أوّلا حسها الظاهر. وأما المعنى فهو الشىء الذى تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أوّلا ، مثل إدراك الشاة للمعنى المضاد فى الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إياه ، وهربها عنه من غير أن يدرك الحس ذلك ألبتة. فالذى يدرك من الذئب أولا الحس الظاهر ثم الحس الباطن فإنه يخصّ فى هذا الموضع باسم الصورة (١). والذى تدركه القوى الباطنة دون الحس فيخص فى هذا الموضع باسم المعنى.

والفرق بين الإدراك مع الفعل والإدراك لا مع الفعل ، أن من أفعال بعض القوى الباطنة أن يركّب بعض الصور والمعانى المدركة مع بعض ويفصّله عن بعض ، فيكون قد أدرك وفعل أيضا فيما أدرك.

وأما الإدراك لا مع الفعل فهو أن تكون الصورة أو المعنى يرتسم فى الشىء فقط من غير أن يكون له أن يفعل فيه تصرفا ألبتة.

والفرق بين الإدراك الأول والإدراك الثانى أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو مّا من الحصول وقد وقع للشىء من نفسه ؛ والإدراك الثانى هو أن يكون حصولها للشىء من جهة شىء آخر أدّى إليها.

فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية قوة بنطاسيا (٢) والحس المشترك

__________________

(١) قوله : يخص فى هذا الموضع باسم الصورة. وسيأتى قوله فى ذلك فى آخر الفصل الاول من المقالة الرابعة : « قد جرت العادة بان يسمى مدرك الحس المشترك صورة ، ومدرك الوهم معنى ».

(٢) بنط : بتقديم الباء على النون بمعنى اللوح. والسيا بمعنى النفس يونانى. يعنى لوح النفس.

٦٠