النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

الفصل السابع

فى عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء فى أمر النفس وأفعالها (١)

وأنها واحدة أو كثيرة وتصحيح القول الحق فيها

إن المذاهب المشهورة فى ذات النفس وفى أفعالها مختلفة.

فمنها قول من زعم أن النفس ذات واحدة ، وأنها تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات.

ومن هؤلاء من زعم أن النفس عالمة بذاتها ، تعلم كل شىء ، وإنما تستعمل الحواس والآلات المقربة للمدركات منها بسبب أن تتنّبه به لما فى ذاتها.

__________________

(١) قال الرازى فى ص ٤١٤ ج ٢ من المباحث المشرقية : « اعلم انّا قد بيّنا ان نفس الانسان هى ذاته وحقيقته وكل عاقل يعلم ببداهة عقله انّ ذاته وحقيقته امر واحد لا امور كثيرة.

وبالجملة فعلم الانسان بوجوده ووحدته علم بديهى جلّى فكيف يكون ذلك مطلوبا بالبرهان؟ بل المطلوب بالبحث والنظر فى كتاب النفس معرفة ماهيتها وقواها وكيفية احوالها من الحدوث والقدم ولكن القدماء لما فرقّوا اصناف الافعال على اصناف القوى ونسبوا كل واحد منها الى قوة اخرى احتاجوا الى بيان انّ فى جملتها شيئا هو كالاصل والمبدأ وانّ سائر القوى كالتوابع والفروع ».

وراجع ص ١١١ ج ٤ ط ١ ـ ص ٥٦ ج ٩ ط ٢ من الأسفار.

٣٤١

ومنهم من قال : إن ذلك على سبيل التذكّر (١) لها ، فكأنّها عرض لها عنده أن نسيت.

ومن الفرقة الأولى (٢) من قال : إن النفس ليست واحدة ، بل عدة ، وأن النفس التى فى بدن واحد هى مجموع نفوس : نفس حساسة دراكة ، ونفس غضبية ، ونفس شهوانية. فمن هؤلاء من جعل النفس الشهوانية هى النفس الغذائية ، وجعل موضوعها القلب ، وجعل له شهوة الغذاء والتوليد جميعا.

ومنهم من جعل التوليد لقوة من هذا الجزء من أجزاء النفس فائضة إلى الانثيين فى الذكر والأنثى.

ومنهم من جعل النفس ذاتا واحدة ، وتفيض عنها هذه القوى ، تختص كل قوة بفعل ، وأنها إنما تفعل ما تفعله من الأمور المذكورة بتوسط هذه القوى (٣).

فمن قال : إن النفس واحدة فعالة بذاتها احتج بما سيحتج به أصحاب المذهب الأخير مما نذكره.

ثم قال (٤) : فإذا كانت واحدة غير جسم استحال أن تنقسم فى الآلات وتتكثر ، فإنها حينئذ تصير صورة مادية ، وقد ثبت عندهم أنها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة لنا إلى تعدادها هاهنا ، قالوا فهى بنفسها تفعل ما

__________________

(١) اى التذكر للمدركات ، ولعل الفرق بين التنبّه والتذكر بعروض الغفلة فى الاول والنسيان فى الثانى.

(٢) أى القائلون بان النفس تعلم كل شىء بحسب ذاتها.

(٣) وهذا مختار الشيخ.

(٤) فى تعليقة نسخة : أى من قال إنّ النفس واحدة فعالة بذاتها.

٣٤٢

تفعل بآلات مختلفة.

والذين قالوا من هؤلاء (١) : إن النفس علاّمة بذاتها ، احتجوا وقالوا : لأنها إن كانت جاهلة عادمة للعلوم فإما أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها ، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم ألبتة (٢) ، وإن كان عرضا لها فالعارض يعرض على الأمر الموجود (٣) للشىء. فيكون موجودا للنفس أن تعلم الأشياء لكن عرض لها أن جهلت بسبب ، فيكون السبب إنما يتسبب للجهل لا للعلم. فإذا رفعنا الأسباب العارضة بقى لها الأمر الذى فى ذاتها ، ثم إذا كان الأمر الذى لها فى ذاتها هو أن تعلم فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهى بسيطة روحانية لا تنفعل ، بل يجوز أن يكون عندها العلم وتكون معرضة عنه مشغولة ، إذا نبّهت علمت ، وكان معنى التنبيه ردّها إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها ، فتصادف نفسها عالمة بكل شىء (٤).

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : أى من الذين قالوا إنّ النفس واحدة.

(٢) فى تعليقة نسخة : لأن الصفة الذاتية اللازمة ممتنعة الزوال.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى الامر الطبيعى الموجود للشىء وهو كونه عالما فيما نحن فيه.

(٤) قال الفخر فى ص ٤٩٦ ج ١ من المباحث المشرقية : « إن هذا باطل لأن الصورة العقلية إما أن تكون حاضرة فى النفس موجودة فيها بالفعل أو لا تكون. فإن كانت حاضرة بالفعل وجب أن يكون لها شعور بذلك الحضور إذ لا معنى للشعور إلاّ ذلك الحضور ، وإن لم تكن حاضرة بالفعل لم يكن ذلك ذاتيا لأن الأمور الذاتية لا تكون مفارقة زائلة.

وأما قولهم خلوها عن العلوم أمر ذاتى او عرضى. فنقول لسنا نقول إن النفوس تقتضى لا وجود العلم بل نقول إنّها لا تقتضى وجود العلم بل العلم لها ممكن الحصول فاذا لم يوجد السبب لم يكن حاصلا ولكن ليس كل ما كان معدوما كان واجب العدم وإلا لكان كل ممكن معدوم واجب العدم او كل ممكن موجودا ( وإلا لما كان ممكن معدوما. خ ل ).

٣٤٣

وأما أصحاب التذكر فإنّهم احتجوا وقالوا : إنه لو لم تكن النفس علمت وقتا ما (١) تجهله الآن وتطلبه لكانت إذا ظفرت به لم تعلم أنه المطلوب ، كطالب العبد الآبق ؛ وقد فرغنا عن ذكر هذا فى موضع آخر وعن نقضه (٢).

والذين كثّروا النفس ، فقد احتجوا وقالوا : كيف يمكننا أن نقول : إن الأنفس كلها نفس واحدة ، ونحن نجد النبات وله النفس الشهوانية (٣) ، أعنى التى ذكرناها فى هذا الفصل ، وليس له النفس المدركة الحاسة المميزة ، فتكون لا محالة هذه النفس شيئا منفردا بذاته دون تلك النفس ،

__________________

(١) موصولة.

(٢) أى فى المنطق وفى تعليقة نسخة : قال صدر المتألهين فى الأسفار : « هذه شبهة مذكورة فى أوائل كتب الميزان مع حلّها. وهى أن كل قضية لها موضوع ومحمول ونسبة بينهما فإذا كانت مطلوبة يجب أن لا يكون المطلوب تصور الطرفين أو تصور النسبة بينهما. بل المطلوب هو إيقاع تلك النسبة أو انتزاعها أى الحكم بثبوتها أو لا ثبوتها وإذا وقعت الفكرة وتأدت إلى الإذعان بها أو بسلبها عرفنا أن المطلوب قد حصل فالمطلوب كان معلوما من وجه التصور وإن كان مجهولا من وجه التصديق لأن أجزائها كانت متصورة معلومة وليست هى مطلوبة والذى منه مطلوب لم يكن قبل الاكتساب حاصلا فلكل مطلوب علامة فإذا وجده الطالب عرف أنه مطلوب بتلك العلامة انتهى ». كذا فى باب التصور فإن المطلوب التصورى مجهول بالكنه والذاتيات ومعلوم بالوجه والعرض أو مجهول من حيث عرضى من العرضيات ومعلوم بعرضى آخر.

اقول : اليك نصّ عبارة الاسفار ( ص ٣٢٠ ج ١ ط ١ ـ ص ٤٩٢ ج ٣ ط ٢ ) : « ... والذى منه مطلوب لم يكن قبل الاكتساب حاصل. وكذا فى باب التصور فإنّ الذى يكتسب بالطلب والتفكر غير الذى هو حاصل قبل الطلب فلكل مطلوب علامة فاذا وجده الطلب عرف أنه مطلوبه بتلك العلامة والطالب عرف أنّه مطلوبه بتلك العلامة. » انتهى.

(٣) فى تعليقة نسخة : أى الغذائية فلا حس ولا غضب.

٣٤٤

ثم نجد الحيوان وله هذه النفس الحساسة الغضبية ، ولا تكون هناك النفس النطقية أصلا ، فتكون هذه النفس البهيمية نفسا على حدة. فإذا اجتمعت هذه الأمور فى الإنسان ، علمنا أنه قد اجتمع فيه أنفس متباينة مختلفة الذوات ، قد يفارق بعضها بعضا ، فلذلك تختص كل واحدة منها بموضع ، فيكون للمميزة الدماغ ، ويكون للغضبية الحيوانية القلب ، ويكون للشهوانية الكبد.

فهذه هى المذاهب المشهورة فى أمر النفس وليس يصح منها إلا المذهب الأخير (١) مما عدّ أوّلا فلنبين صحته. ثم نقبل على حلّ الشبه التى أوردوها.

فنقول : قد بان مما ذكرناه أن الأفعال المتخالفة هى بقوى متخالفة وأن كل قوة من حيث هى فإنما هى كذلك (٢) من حيث يصدر عنها الفعل الأول الذى لها فتكون القوة الغضبية لا تنفعل من اللذات ولا الشهوانية من المؤذيات ولا تكون القوة المدركة متأثرة مما تتأثر عنه هاتان ولا شىء من هاتين من حيث هما قابل للصور المدركة متصور لها. فإذا كان هذا متقررا فنقول :

إنه يجب أن يكون لهذه القوى رباط يجمع كلها وتجتمع إليه ، وتكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحس المشترك إلى الحواس التى هى الرواضع. فإنا نعلم يقينا أن هذه القوى يشغل بعضها بعضا ، ويستعمل بعضها بعضا ، وقد عرفت هذا فيما سلف. ولو لم يكن رباط يستعمل هذه

__________________

(١) وهو أن النفس ذات واحدة تفيض عنها هذه القوى.

(٢) فى تعليقة نسخة : أى متخالفة الأفعال.

٣٤٥

فيشتغل ببعضها عن بعض فلا يستعمل ذلك البعض ولا يدبره ، لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه ولا ينصرف عنه. لأن فعل قوة من القوى إذا لم يكن لها اتصال بقوة أخرى ، لا يمنع القوة الأخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة ولا المحل مشتركا ولا أمر يجمعهما غير ذلك مشتركا. ونحن نرى أن الإحساس يثير الشهوة ، والقوة الشهوانية لا تنفعل عن المحسوس من حيث هو محسوس (١) ، فإن انفعل لا من حيث هو محسوس لم يكن الانفعال الذى يكون لشهوة ذلك المحسوس ، فيجب لا محالة أن يكون هو الذى يحس. وليس يجوز أن تكون القوتان واحدة ، فبين أن القوتين لشىء واحد ، فلهذا يصدق أن نقول : إنا لما أحسنا اشتهينا ، أو لما رأينا كذا غضبنا (٢).

وهذا الشىء الواحد الذى تجتمع فيه هذه القوى هو الشىء الذى يراه كل منا أنه ذاته ، حتى يصدق أن نقول لما أحسسنا اشتهينا.

وهذا الشىء لا يجوز أن يكون جسما :

أما أولا ، فلأن الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه

__________________

(١) بل الحاس ينفعل عن المحسوس.

(٢) قال الفخر فى ص ٤٠٦ ج ٢ من المباحث المشرقية فى تقرير هذه الحجة : « إنّ هذه القوى تارة تكون متعاونة على الفعل وتارة تكون متدافعة. أما المعاونة فلأنا نقول : متى احسسنا الشىء الفلانى اشتهينا أو غضبنا. وأما المدافعة فلأنا إذا توجهنا إلى التفكر اختلّ الحس أو إلى الحس اختل الغضب أو الشهوة.

وإذا ثبت ذلك فنقول لولا وجود شىء مشترك لهذه القوى يكون كالمدبّر لها بأسرها لامتنع وجود المعاونة والمدافعة لأن فعل كل قوة إذا لم يكن له اتصال بالقوة الأخرى وليست الآلة مشتركة بل لكل واحد منها آلة مخصوصة وجب أن لا يحصل بينها هذه الممانعة والمعاونة ».

٣٤٦

القوى ، وإلا كان كل جسم له ذلك ، بل لأمر به يصير كذلك ، ويكون ذلك الأمر هو الجامع الأول ، وهو كمال الجسم من حيث هو مجمع ، وهو غير الجسم ، فيكون إذن المجمع هو شىء غير جسم وهو النفس.

وأما ثانيا ، فقد تبين أن من هذه القوى ما ليس يجوز أن يكون جسمانيا مستقرا فى جسم.

فإن تشكك فقيل : إنه إن جاز أن تكون هذه القوى لشىء واحد ، مع أنها لا تجتمع معا فيه ، إذ بعضها لا يحل الأجسام وبعضها يحلّها ، فتكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة منسوبة (١) إلى شىء واحد ، فلم لا يكون كذلك الآن وتكون كلها منسوبة إلى جسم أو جسمانى.

فنقول لأن هذا الذى ليس بجسم ، يجوز أن يكون منبع القوى فيفيض عنه بعضها فى الآلة ، وبعضها يختص بذاته ، وكلها يؤدّى إليه نوعا من الأداء. واللواتى تكون فى الآلة تجتمع فى مبدأ يجمعها فى الآلة ذلك (٢) المبدأ ، وهو (٣) فائض عن الغنىّ عن الآلة كما نبيّن حاله بعد فى حل الشبه. وأما الجسم فلا يمكن أن تكون هذه القوى كلها فائضة منه ، فإن نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان ، بل على سبيل القبول ، والفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة الفيض عن المفيض (٤) ، والقبول لا يجوز أن يكون على تلك السبيل.

وأما ثالثا فإن هذا الجسم إما أن يكون جملة البدن ، فيكون إذا نقص

__________________

(١) خبر « كان » فى قوله : « فتكون مع افتراقها ».

(٢) فاعل قوله : « يجمعها ».

(٣) اى ما فى الآلة.

(٤) مفارقة المفيض عن الفيض. كما فى نسخة مصحّحة.

٣٤٧

منه شىء لا يكون ما نشعر به أنّا نحن (١) موجودا ، وليس كذلك ، فإنى أكون أنا وإن لم أعرف أن لى يدا ورجلا أو عضوا من هذه الأعضاء ، على ما سلف فى مواضع أخرى ، بل أظن أن هذه توابعى ، وأعتقد أنها آلات لى أستعملها فى حاجات ، لولا تلك الحاجات لما احتيج إليها ، وأكون أنا أيضا أنا ولست هى.

ولنعد إلى ما سلف ذكره منا (٢) فنقول :

لو خلق إنسان دفعة واحدة ، وخلق متباين الأطراف ، ولم يبصر أطرافه ، واتفق أن لم يمسّها ، ولا تماسّت ، ولم يسمع صوتا ، جهل وجود جميع أعضائه ، وعلم وجود إنيته شيئا واحدا مع جهل جميع ذلك.

وليس المجهول بعينه هو المعلوم ، وليست هذه الأعضاء لنا فى الحقيقة إلا كالثياب التى صارت لدوام لزومها إيانا كأجزاء منا عندنا. وإذا تخيلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة ، بل نتخيّلها ذوات أجسام كاسية ، والسبب فيه دوام الملازمة. إلا أنا قد اعتدنا فى الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد فى الأعضاء ، فكان ظننا الأعضاء أجزاء منا آكد من ظننا الثياب أجزاء منا.

وأما إن لم يكن ذلك (٣) جملة البدن ، بل كان عضوا مخصوصا ، فيكون ذلك العضو هو الشىء الذى أعتقده أنه لذاته أنا ، أو يكون معنى ما أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك العضو ، وإن كان لابد له من العضو. فإن كان ذات ذلك العضو وهو كونه قلبا أو دماغا أو شيئا آخر أو عدة أعضاء بهذه

__________________

(١) فى غير واحدة من النسخ : ما نشعر نحن. وموجودا خبر لا يكون.

(٢) فى آخر الفصل الأول من المقالة الأولى.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى الجسم الذى يكون محل النفس.

٣٤٨

الصفة هويتها أو هوية مجموعها هو الشىء الذى أشعر به أنّه أنا ، فيجب أن يكون شعورى بأنا شعورى بذلك الشىء. فإن الشىء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون مشعورا به وغير مشعور به ، وليس الأمر كذلك ، فإنى إنما أعرف أن لى قلبا ودماغا بالإحساس والسماع والتجارب ، لا لأنى أعرف أنى أنا ، فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشىء الذى أشعر به أنه أنا بالذات ، بل يكون بالعرض أنا ، ويكون المقصود بما أعرفه منى أنى أنا الذى أعنيه فى قولى : أنا أحسست وعقلت وفعلت ، وجمعت هذه الأوصاف ، شيئا آخر هو الذى أسمّيه أنا.

فإن قال هذا القائل : إنك أيضا لا تعرفه أنه نفس.

فأقول : إنى دائما أعرفه على المعنى الذى أسميه النفس (١) ، وربما لا أعرف تسميته باسم النفس. فإذا فهمت ما أعنى بالنفس ، فهمت أنه ذلك الشىء ، وأنه المستعمل للآلات من المحركة والدراكة. وإنما لا أعرف مادمت لا أفهم معنى النفس ، وليس كذلك حال قلب ولا دماغ فإنى أفهم معنى القلب والدماغ ولا أعلم ذلك ، فإنى إذا عنيت بالنفس أنه الشىء الذى هو مبدأ هذه الحركات والإدراكات التى لى ومنتهاها فى هذه الجملة عرفت أنه إما أن يكون بالحقيقة أنا أو يكون هو أنا مستعملا لهذا البدن ، فكأنى الآن لا أقدر أن أميز الشعور بأنا مفردا عن مخالطة الشعور بأنه مستعمل للبدن ومقارن للبدن. وأما أنه جسم أو ليس بجسم ، فليس يجب عندى أن يكون جسما ، ولا يتخيل هو (٢) لى جسما من الأجسام

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : وهو انه الشىء الذى هو مبدأ هذه الحركات والادراكات.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى الشىء الذى هو مبدأ هذه الحركات والادراكات.

٣٤٩

ألبتة ، بل يتخيل لى وجوده فقط من غير جسمية. فيكون قد فهمته من جهة أنه ليس بجسم ، إذ لم أفهم الجسمية ، مع أنى فهمته.

ثم إذا حققت فإنى كلما عرضت (١) جسمية لهذا الشىء الذى هو مبدأ هذه الأفعال ، لم يجز أن يكون ذلك الشىء جسما ، فبالحرى أن يكون تمثله الأول فى نفسى أنه شىء مخالف لهذه الظواهر وأن تغلطنى (٢) مقارنة الآلات ومشاهدتها وصدور الأفعال عنها ، فأظن أنها كالأجزاء منى ، وليس إذا غلط فى شىء وجب له حكم ، بل الحكم لما يلزم أن يعقل. وليس إذا كنت طالبا لوجوده (٣) ولكونه غير جسم فقد كنت جاهلا بهذا جهلا مطلقا ، بل كنت غافلا عنه. وكثيرا ما يكون العلم بالشىء قريبا ، فيغفل عنه ، ويصير فى حد المجهول ، ويطلب من موضع أبعد. وربما كان العلم القريب جاريا مجرى التنبيه ، وكان مع خفة المؤونة فيه كالمذهوب عنه ، فلاترجع الفطنة إلى طريقه لضعف الفهم ، فيحتاج أن يؤخذ فيه مأخذ بعيد.

فبين من هذا أن لهذه القوى مجمعا هو الذى تؤدّى كلها إليه ، وأنه غير جسم وإن كان مشاركا للجسم أو غير مشارك.

وإذ قد بينا صحة هذا الرأى فيجب أن نحل الشبه المذكورة.

أما الشبهة الأولى ، فنقول : إنه ليس يجب إذا كانت النفس واحدة الذات أن لا تفيض عنها فى أعضاء مختلفة قوى مختلفة ، بل من الجائز أن يكون أول ما يفيض عنها فى البزر والمنى قوة الإنشاء ، فتنشىء أعضاء على

__________________

(١) فرضت ، نسخة.

(٢) أغلطه أى أوقعه فى الغلط.

(٣) أى وجود ذلك المبدأ.

٣٥٠

حسب موافقة أفعال تلك القوة ، ويستعدّ كلّ عضو لقبول قوة خاصة لتفيض عنه ، ولولا ذلك لكان خلق البدن معطلا لها.

وأما من تشكك فجعل النفس عالمة لذاتها فهو فاسد ، فإنه ليس يجب إذا كان جوهر النفس خاليا بذاته عن العلم أن يستحيل له وجود العلم. فإنه فرق بين أن يقال : إن جوهر الشىء باعتبار ذاته لا يقتضى العلم ، وبين أن يقال : إن جوهره بذلك الاعتبار يقتضى أن لا يعلم ، فإن لزوم الجهل مع كل واحد من القولين مختلف.

فإنا إذا سلمنا (١) أن النفس بجوهرها جاهلة ، فإنما نعنى أن جوهرها إذا انفرد ولم يتصل به سبب من خارج لزمه الجهل ، بشرط الانفراد مع شرط الجوهر ، لا بشرط الجوهر وحده. ولسنا نعنى بهذا أن جوهرها جوهر لا يعرّى عن الجهل.

وإن لم نسلّم ، بل قلنا : إن ذلك (٢) أمر عارض لها ، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعى ، فإنه ليس إذا قلنا : إن الخشبة خالية عن صورة السريرية ، وأن ذلك الخلو ليس لجوهرها (٣) ، بل أمر عارض لها جائز الزوال ، كان هذا القول كانّا نقول (٤) : يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السريرة فانفسخت (٥).

من المحال أيضا ما قاله المتشكك من ارتداد الشىء (٦) إلى ذاته ، فإن

__________________

(١) فإنا وإن سلمنا ، نسخة.

(٢) أى كون النفس بجوهرها جاهلة.

(٣) بجوهرها ، نسخة.

(٤) كأنك تقول يجب ، نسخة.

(٥) ثم انفسخت ، نسخة.

(٦) أى النفس.

٣٥١

الشىء لا يغيب ألبتة عن ذاته ، بل ربما قيل إنه قد يغيب عن أفعال تختص بذاته ، وتتم بذاته وحدها ، وإنما يتوسع فيقال هذا ، لأن هذه الأفعال لا تكون موجودة له ، بل لا تكون موجودة أصلا. وأما ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها وبالحقيقة ، فإن أفعاله لا يجوز أن يقال فيها إنه يغيب عنها لأن الغائب هو موجود فى نفسه غير موجود للشىء ، وهذه الأفعال ليست موجودة أصلا إلا وقت ما يوجدها فلا يكون غائبا عنها ، وأما ذات الشىء فلا يغيب الشىء عنه ولا يرجع إليه.

وأما أصحاب التذكر فقد نقض احتجاجهم فى الصناعة الآلية (١).

وأما حجة هؤلاء الذين يجزّئون النفس فقد أخذ فيها مقدمات باطلة ، من ذلك قولهم : إنه توجد النفس النباتية مفارقة للحساسة ، فيجب أن يكون فى الإنسان شىء آخر غيره. فإن هذه المقدمة سوفسطائية.

وذلك لأن المفارقة تتوهم على وجوه ، والتى يحتاج إليها هاهنا وجهان :

أحدهما أنه قد تتوهم لها مفارقة ، كما لللّون عن البياض وللحيوان عن الإنسان إذ توجد هذه الطبيعة فى غير البياض وتلك فى غير الإنسان بأن يقارن كل (٢) فصلا آخر.

وقد تتوهم مفارقة ، كما للحلاوة المقارنة للبياض فى جسم. فإنها قد توجد مفارقة له ، فتكون الحلاوة والبياض قوتين مختلفتين لا يجمعهما

__________________

(١) قوله قدس‌سره : « فى الصناعة الآلية » يعنى بها المنطق. وفى بعض النسخ حرفّت الآلية بالآلهية. قال ـ قدس‌سره ـ فى الفصل العاشر من رابعة برهان الشفاء وهو آخر كتاب البرهان : « وإن كنا نعلم ثم نسينا ، متى كنا نعلم وفى اىّ وقت نسينا وليس يجوز أن نعلمها ونحن أطفال وننساها بعد الاستكمال ثم نتذكرها بعد مدّة اخرى عند الاستكمال ... » فراجع.

(٢) أى كل من اللون والحيوان.

٣٥٢

شىء واحد (١). وأليق المفارقات بالنفس النباتية للنفس الحساسة هو القسم الأول ، وذلك لأن النفس النباتية الموجودة فى النخلة لا تشارك القوة النامية الموجودة فى الإنسان ألبتة فى النوع (٢) ، فإن تلك القوة (٣) ليست بحيث تصلح لأن تقارن النفس الحيوانية ألبتة ، ولا القوة النامية التى فى الحيوان تصلح لأن تقارن النفس النخليّة ، ولكن يجمعهما معنى واحد (٤) وهو أن كل واحدة منهما تغذّى وتنمى وتولّد وإن كانت تنفصل عنه بعد ذلك بفصل مقوّم منوع ، لا بعرض فقط. والمعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوة النباتية التى للإنسان ، ويفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسى.

ونحن لا نمنع أن يوجد جنس هذه القوى لأشياء أخرى ، وليس فى ذلك أنه يجب أن لا تجتمع هذه القوى فى الإنسان لنفس واحدة ، بل ليس يجب من ذلك أن لا تكون الطبيعة النامية الموجودة فى الحيوان مقولة على النفس الحيوانية التى له حتى تكون نفسه الحيوانية هى تلك القوة ، كما أن الإنسان ليس شيئا غير حصته فى جنس الحيوانية. وهذا شىء قد تحقق لك فى المنطق ، فهذا ليس يوجب أن تكون النفس النباتية التى فى الإنسان غير النفس الحيوانية ، فضلا عن أن تكونا قوتى نفس واحدة ، فليس إذن النباتية التى فى الإنسان توجد ألبتة مفارقة بنوعها للإنسان (٥).

__________________

(١) أى معنى واحد جنسى. وفى نسخة مصحّحة : « لا يجمعهما شىء واليق ... »

(٢) بل فى الجنس.

(٣) أى التى فى النخلة.

(٤) أى جنسى.

(٥) بل تكون مفارقة بجنسها.

٣٥٣

واحتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوة لا تفارق بنوعيتها ، بل بجنسيتها ، وهما مختلفان. ومع ذلك فلنضع القوة النباتية فى الحيوان مخالفة للقوة الحيوانية فيه ، كأنّ كل واحدة منهما نوع محصّل منفرد بنفسه ، وليس أحدهما الآخر ، ولا مقولا عليه ، فما فى ذلك مما يمنع أن تكون القوتان جميعا فى الحيوان (١) لنفس الحيوان ، كما أنه ليس إذا وجدت الرطوبة فى غير الهواء ، وليست مقارنة للحرارة ، يجب من ذلك أن لا تكون الرطوبة والحرارة فى الهواء لصورة واحدة أو لمادة واحدة ، وليس إذا كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة ، بل عن حرارة أخرى ، يجب من ذلك أن الحرارة فى موضع آخر ليست تابعة للحركة.

ونقول : ليس يمتنع أن تكون هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا ، وتنسب إلى ذات واحدة هى فيها. فأما كيفية تصور هذا فهو أن الأجسام العنصرية (٢) تمنعها صرفية التضاد عن قبول الحياة ، فكلما أمعنت فى هدم

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى تكون نفس الحيوان أصلا والقوة الحيوانية والنباتية تابعتان لها.

(٢) قوله قدس‌سره : « إن الأجسام العنصرية » هذا أصل قويم وأساس رصين فى البحث عن اعتدال المزاج وفيضان النفس والمعارف عليها بحسبه ومنه تستفاد كثير من المسائل الحكمية المتقنة ، منها احكام النفوس المكتفية كعلم الإمام واخباره عن المغيبات مثلا ، ومنها البحث عن التضاد كما عنون فى الفصلين الرابع والخامس من الموقف الثامن من الهيات الأسفار من انه لو لا التضاد ما صحّ حدوث الحادثات ، وانّه لولا التضاد لما صحّ الكون والفساد ، وانه لولا التضاد ما صح دوام الفيض من المبدأ الجواد ( ص ١١٦ ـ ١١٨ ج ٣ ط ١ ).

ثم تجد البحث عن المضادة الاولى فى سادس الثالثة من الهيآت هذا الكتاب ، أعنى الشفاء ، ايضا ما يجديك فى البحث عن التضاد ، وتفصيل البحث عن ذلك يطلب فى رسالتنا فى التضاد.

٣٥٤

طرف من التضاد وردّه إلى التوسط الذى لا ضد له جعلت تضرب إلى شبه بالأجسام السماوية ، فتستحق بذلك قبول قوة محيية من الجوهر المفارق المدبر.

ثم إذا ازدادت قربا من التوسط ازدادت قبول حياة حتى تبلغ الغاية التى لا يمكن أن يكون أقرب منها إلى التوسط ، ولا أهدم منها للطرفين المتضادين ، فتقبل جوهرا مقارب الشبه من وجه مّا للجوهر المفارق كما للجواهر السماوية ، فيكون حينئذ ما كان يحدث فى غيره من المفارق يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتصل به الجوهر.

ومثال هذا فى الطبيعيات : لنتوهم مكان الجوهر المفارق نارا أو شمسا ، ومكان البدن جرما يتأثر عن النار وليكن كرة ما (١) ، وليكن مكان النفس النباتية تسخينها إياها ، ومكان النفس الحيوانية إنارتها فيها ، ومكان النفس الإنسانية اشتعالها فيها نارا.

فنقول : إن ذلك الجرم المتأثر كالكرة (٢) ، إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثر فيه وضعا يقبل الاشتعال منه نارا ولا إضائة وإنارة ، ولكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير ذلك. فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه ، ومع ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه استنارة قوية ، فإنه يتسخّن عنه ويستضىء معا ، ويكون الضوء الواقع فيه منه هو مبدأ أيضا مع ذلك المفارق لتسخّنه. فإن الشمس إنما تسخن بالشعاع ، ثم إن كان الاستعداد أشد وهناك ما من شأنه أن يشتعل عن المؤثر الذى من

__________________

ـ ثم فى عدة مواضع من تمهيد القواعد لصائن الدين على بن تركة يبحث عن الاعتدال المذكور فى معرفة الانسان الكامل نافعة جدا فراجع.

(١ و ٢) « كوّة ما » ، « كالكوّة » كما فى نسخة مصحّحة.

٣٥٥

شأنه أن يحرق بقوته أو شعاعه اشتعل فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه ، وتكون تلك الشعلة أيضا مع المفارق علة للتنوير والتسخين معا حتى لو بقيت وحدها لاستتم أمر التنوير والتسخين ، ومع هذا فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده ، أو التسخين والتنوير وحدهما ، ولم يكن المتأخر منهما مبدأ يفيض عنه المتقدم (١) ، وكان إذا اجتمعت الجملة (٢) يصير حينئذ كل ما فرض متأخرا مبدأ أيضا للمتقدم وفائضا عنه المتقدم.

فهكذا فليتصور الحال فى القوى النفسانية وسيأتى فى بعض الفنون المتأخرة ما نشرح صورة الأمر فى هذا حيث نتكلم فى تولد الحيوان.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : أى إذا كان وحده لا يكون فيه المتقدم والمتأخر حتى يقال انّ المتأخر يفيض عنه المتقدم.

(٢) قوله قدس‌سره : « وكان اذا اجتمعت الجملة ... » ، أقول النبات والقوة النباتية متقدمة على الحيوانية وهى على الانسانية فكل واحدة منهما لا تكون علة انشائية للمتقدمة منها اذا لوحظت بحسب نوعيتها وكذلك للمتأخرة عنها ، وامّا اذا اجتمعت كالنفس الانسانية مثلا كانت المتأخرة علة منشئة للمتقدمة منها وذلك لان النفس النطقية إذا وجدت كانت ما قبلها من النباتية والحيوانية منشأة معها بوجودها الجمعى الأحدى. فافهم. ٥ / ٣ / ١٣٦٣ ه‍. ش.

٣٥٦

الفصل الثامن

فى بيان الآلات التى للنفس

فبالحرىّ أن نتكلم الآن فى الآلات للنفس ، فنقول :

إنه قد أفرط الناس فى أمر الأعضاء التى تتعلق بها القوة الرئيسة من النفس إفراطا فى جنبتى اللجاج ، وركنوا إلى تعسف كثير وتعصب شديد مال إليه كل واحد من الفريقين حتى خرج من الحق.

وأكثرهم غلطا من جعل النفس ذاتا واحدة وقضى مع ذلك أن الأعضاء الرئيسة كثيرة ، فإنه لما خالف فيه الفلاسفة القائلة بتكثر أجزاء النفس ، ووافق من قال بوحدانيتها ، لم يعلم أنه يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا ، وهو الذى يكون به اوّل تعلق النفس. وأما المكثّرون لأجزاء النفس فما عليهم أن يجعلوا لكل جزء منه معدنا مخصوصا ومركزا مفردا.

فنقول أولا : إن القوى النفسانية البدنية مطيتها الأولى جسم لطيف نافذ فى المنافذ روحانى ، وإنّ ذلك الجسم هو الروح ، وإنه لولا أن قوى النفس المتعلقة بالجسم تنفذ محمولة فى جسم لما كان سدّ المسالك حابسا لنفوذ القوى المحركة والحساسة والمتخيلة أيضا ، وهو حابس

٣٥٧

ظاهر الحبس عند من جرّب التجارب الطبية ، وهذا الجسم نسبته إلى لطافة الأخلاط وبخاريتها (١) نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط ، وله مزاج مخصوص ، ومزاجه يتغير أيضا بحسب الحاجة إلى اختلاف يقع فيه ليصير به حاملا لقوى مختلفة ، فإنه ليس يصلح المزاج الذى منه يغضب للمزاج الذى معه يشتهى أو يحس ، ولا المزاج الذى يصلح للروح الباصر هو بعينه الذى يصلح للروح المحرك. ولو كان المزاج واحدا لكانت القوى المستقرة فى الروح واحدة وأفعالها واحدة ، فإذا كانت النفس واحدة. فيجب أن يكون لها أول تعلق بالبدن ، ومن هناك تدبّره وتنميه ، وأن يكون ذلك بتوسط هذا الروح ، ويكون أول ما تفعل النفس ، تفعل العضو الذى بوساطته تنبعث قواه فى سائر الأعضاء بتوسط هذا الروح ، وأن يكون ذلك العضو أول متكوّن من الأعضاء وأول معدن لتولد الرّوح. وهذا هو القلب (٢) ، يدل على ذلك ما حققه التشريح المتقن ، وسنزيد هذا المعنى شرحا فى الفن الذى فى الحيوان.

فيجب أن يكون أول تعلق النفس بالقلب ، وليس يجوز أن تتعلق بالقلب ثم بالدماغ ، فإنها إذا تعلقت بأول عضو صار البدن نفسانيا ، وأما

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : أى الروح تحصل من لطافة الأخلاط كما أن الأعضاء تحصل من كثافة الأخلاط.

(٢) قال الآملى فر شرح القانون : اختلفوا فى أول ما يتكون من الأعضاء ، فذهب القدماء من الأطباء إلى أنه فقرات الظهر لأنّها أساس البدن. وذهب بقراط إلى أنه الدماغ.

وقال محمد بن زكريا إنه الكبد. وقال الشيخ هو السرة اذ منها يأتى غذاء الجنين ولولاها لم يتحقق شىء من الأعضاء. وهذا ضعيف لجواز أن يكون تكوّن العصب مقدّما عليها لكن ظهوره حسّا وتمامه يكون مؤخرا. »

٣٥٨

الثانى فإنما تفعل لا محالة بتوسط هذا الأول. فالنفس تحيى الحيوان بالقلب ، لكن يجوز أن تكون قوى الأفعال الأخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى ، لأن الفيض يجب أن يكون صادرا من أول متعلق به ، فيكون الدماغ هو الذى يتم فيه مزاج الروح الذى يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحس والحركة إلى الأعضاء حملا يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها. وكذلك حال الكبد بالقياس إلى قوى التغذية ، ولكن يكون القلب هو المبدأ الأول الذى أول تعلقه به ومنه ينفذ إلى غيره ويكون الفعل فى أعضاء أخرى. كما أن مبدأ الحس عند مخالفى هذا القول إنما هو فى الدماغ ، لكن أفعال الحس لا تكون به وفيه ، بل فى أعضاء أخرى كالجلد وكالعين وكالأذن.

وليس يجب من ذلك أن لا يكون الدماغ مبدأ ، لذلك أيضا لجواز أن يكون القلب مبدأ لقوى التغذية ولكن أفعالها فى الكبد ، ولقوى التخيل والتذكر والتصور ولكن أفعالها فى الدماغ ، بل ينبغى أن يكون المبدأ للقوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنها جميع أفعالها ، بل يجب أن تتفرع فى آلات مختلفة تتخلق بعد ذلك العضو تخلقا وتفيض من ذلك العضو إليها قوة ملائمة لمزاج ذلك الفرع واستعداده ، على ما ستقف عليه فى ذكر الحيوان ، حتى لا يكون على العضو الذى هو المبدأ ثقل.

ولذلك خلقت العصب للدماغ والأوردة للكبد ، كانّ الدماغ والكبد مبدأين أولين للحس والحركة والتغذية أو كانا مبدأين ثانيين. وإذا فاض من القلب قوة التكوين والتخليق إلى الدماغ فيكوّن الدماغ ؛ فلا كثير بأس بأن يكون الدماغ يرسل من نفسه آلة يستمد بها الحس والحركة من القلب ،

٣٥٩

أو يكون القلب ينفذ إليه (١) الآلة التى بتوسطها ينفذ اليه (٢) الحس والحركة. فلا يجب أن يقع من المضايقة فى أمر خلقة العصب أن مبدأها من القلب أو من الدماغ ما هو ذا يقع ، بل نسلم أنه من الدماغ ويستمد من القلب ، كما أن الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمد منها فيه ولها أيضا عروق تمد غيرها بها. فليس يجب أن يكون العضو الذى هو مبدأ قوة فيه (٣) أيضا أول أفعال تلك القوة ، وأن يكون (٤) آلة لأفعال تلك القوة ، بل يجوز أن تكون الآلة خلقت للاستمداد من شىء آخر ، وأن يكون إنما يستمد بعد تخلّقها (٥) ، حتى يكون الدماغ أول ما يخلق لم يكن مبدأ للحس والحركة بالفعل ، بل مستعدا لأن يصير مبدأ مّا للأعضاء التى بعده إذا استمد من غيره بعد أن تتخلق آلة الاستمداد من غيره له ، فلما تخلق منه عصب ذاهب إلى القلب استمد الحس والحركة منه (٦) حينئذ. ويمكن أن يكوّن (٧) مع تخلق هذا المنفذ بلا تأخر فلا تكون فى نفوذه عنه (٨) إلى القلب حجة أيضا ولا شبه حجة ، بل كما يخلق الدماغ يخلق معه من مادته شىء نافذ إلى القلب غريب عن القلب استمد منه الحس والحركة. على أن نبات هذا العصب من الدماغ ومصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظهور الذى يظنّه مدّعى نبات العصب الذى بين الدماغ والقلب من الدماغ إلى القلب لا من القلب إلى الدماغ ، على ما

__________________

(١) أى إلى الدماغ.

(٢) أى بتوسط تلك الآلة ينفذ إلى الدماغ.

(٣ و ٤) أى العضو.

(٥) أى بعد تخلّف الآلة.

(٦) أى استمد الدماغ الحس والحركة من القلب.

(٧ و ٨) أى الدماغ.

٣٦٠