النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

الفصل الخامس

فى العقل الفعال فى أنفسنا والعقل المنفعل عن أنفسنا (١)

نقول : إن النفس الإنسانية قد تكون عاقلة بالقوة ، ثم تصير عاقلة بالفعل ، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فإنما يخرج بسبب بالفعل يخرجه. فهاهنا سبب هو الذى يخرج نفوسنا فى المعقولات من القوة إلى الفعل ، وإذا هو السبب فى إعطاء الصور العقلية ، فليس إلا عقلا بالفعل عنده مبادئ الصور العقلية مجردة ، ونسبته إلى نفوسنا كنسبة الشمس إلى إبصارنا. فكما أن الشمس تبصر بذاتها بالفعل ويبصر بنورها بالفعل ما ليس مبصرا بالفعل ، كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا ، فإن القوة العقلية إذا اطلعت على الجزئيات التى فى الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال (٢)

__________________

(١) راجع ص ٣١٣ ج ١ من الاسفار ط ١. تعليقات الشيخ ص ٣٤ ، ومباحثاته ص ٢٠٤.

(٢) قال فى المبدأ والمعاد ص ٩٨ : « ومعنى كونه فعالا انّه فى نفسه عقل بالفعل ، لا أنّ فيه شيئا هو قابل للصورة المعقولة كما هو عندنا ، وشيئا هو كمال. بل ذاته صورة عقلية قائمة بنفسها وليس فيها شىء مما هو بالقوة ومما هو مادة ألبتة ... فهذا احد معانى كونه عقلا فعّالا. وهو ايضا عقل فعال بسبب فعله فى انفسنا واخراجه اياها عن القوة الى الفعل ».

٣٢١

فينا الذى ذكرناه ، استحالت (١) مجردة عن المادة وعلائقها ، وانطبعت فى النفس الناطقة ، لا على أنها نفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منا ، ولا على أن المعنى (٢) المغمور فى العلائق وهو فى نفسه واعتباره فى ذاته مجرد يفعل مثل نفسه ، بل على معنى أن مطالعتها تعدّ النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال. فإن الأفكار والتأملات حركات معدة للنفس نحو قبول الفيض ، كما أن الحدود الوسطى معدة بنحو أشد تأكيدا لقبول النتيجة ، و (٣) إن كان الأول على سبيل. والثانى على سبيل أخرى ، كما ستقف عليه.

فتكون النفس الناطقة إذا وقعت لها نسبة مّا إلى هذه الصورة بتوسط إشراق العقل الفعال حدث فيها منه شىء من جنسها من وجه وليس من جنسها من وجه ، كما أنه إذا وقع الضوء على الملونات فعل فى البصر منها أثرا ليس على جملتها من كل وجه.

فالخيالات التى هى معقولات بالقوة تصير معقولات بالفعل ، لا أنفسها ، بل ما يلتقط عنها ؛ بل كما أن الأثر المتأدى بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس هو نفس تلك الصور ، بل شىء آخر مناسب لها يتولد بتوسط الضوء فى القابل المقابل ، كذلك النفس الناطقة إذا طالعت تلك الصور الخيالية واتصل بها نور العقل الفعال ضربا من الاتصال استعدت لأن تحدث فيها من ضوء العقل الفعال مجردات تلك الصور عن الشوائب.

__________________

(١) اى الجزئيات.

(٢) اى الكلى الطبيعى.

(٣) وصلية.

٣٢٢

فأول ما يتميز عند العقل الإنسانى أمر الذاتى منها والعرضى وما به تتشابه تلك الخيالات وما به تختلف ، فتصير المعانى التى لا تختلف تلك بها معنى واحدا فى ذات العقل بالقياس إلى التشابه لكنّه فيه بالقياس إلى ما تختلف به يصير معانى كثيرة ، فتكون للعقل قدرة على تكثير الواحد وتوحيد الكثير من المعانى (١).

أما توحيد الكثير فمن وجهين : أحدهما بأن تصير المعانى الكثيرة المختلفة فى المتخيلات بالعدد ، إذا كانت لا تختلف فى الحد معنى واحدا. والوجه الثانى بأن يركب من معانى الأجناس والفصول معنى واحدا بالحد.

ويكون وجه التكثير بعكس هذين الوجهين.

فهذه من خواص العقل الإنسانى ، وليس ذلك لغيره من القوى ، فإنها تدرك الكثير كثيرا كما هو ، والواحد واحدا كما هو ،

__________________

(١) راجع ص ٢٩٢ ج ١ من الاسفار : فصل فى ان القوة العاقلة كيف تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد.

قال فى المباحث المشرقية ص ٣٤٧ ج ١ : « اما قوتها على توحيد الكثير فمن وجهين :

الاول بالتحليل لانها اذا حذفت عن الاشخاص الداخلة تحت النوع مشخصاتها وسائر العوارض اللاحقة بها بقيت الحقيقة النوعية ماهية متحدة وحقيقة واحدة.

والثانى بالتركيب لانها اذا اعتبرت المعنى الجنسى والفصلى امكنها ان يقترن الفصل بالجنس بحيث تحصل منهما حقيقة متحدة اتحادا طبيعيا لا صناعيا.

واما قوتها على تكثير الواحد فهى ان تميز ذاتيّها عن عرضيّها وجنسها عن فصلها وجنس جنسها عن جنسها بالغة ما بلغت وفصل فصلها وفصل جنسها عن فصلها بالغة ما بلغت وتميز لازمها عن مفارقها وقريبها عن بعيدها والغريب منها عن الملائم فيكون الشخص الواحد فى الحس واحدا لكنه فى العقل امور كثيرة ولذلك يكون ادراك العقل اتم الادراكات.

٣٢٣

ولا يمكنها أن تدرك الواحد البسيط ، بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور وأعراضها ، ولا يمكنها أن تفصّل العرضيّات وتنزعها من الذاتيات.

فإذا عرض الحس على الخيال والخيال على العقل صورة مّا وأخذ العقل منها معنى ، فإن عرض عليه صورة أخرى من ذلك النوع وإنما هى أخرى بالعدد لم يأخذ العقل منها ألبتة صورة مّا غير ما أخذ إلا من جهة العرض الذى يخص هذا من حيث هو ذلك العرض ، بأن يأخذه مرة مجردا ومرة مع ذلك العرض.

ولذلك يقال : إن زيدا وعمروا لهما معنى واحد فى الإنسانية ، ليس على أن الإنسانية المقارنة بخواصّ عمرو هى بعينها الإنسانية التى تقارن خواص زيد ، وكأن ذاتا واحدة هى لزيد ولعمرو كما يكون بالصداقة أو بالملك أو بغير ذلك ، بل الإنسانية فى الوجود متكثرة فلا وجود لإنسانية واحدة مشترك فيها فى الوجود الخارج حتى تكون هى بعينها إنسانية زيد وعمرو ، وهذا سنبّين فى الصناعة الحكمية.

ولكن معنى ذلك أن السابق من هذه إذا أفاد النفس صورة الإنسانية ، فإن الثانى لا يفيد ألبتة شيئا آخر ، بل يكون المعنى المنطبع منهما فى النفس واحدا هو عن الخيال الأول ؛ ولا تأثير للخيال الثانى ، فإن كل واحد منهما كان يجوز أن يسبق فيفعل هذا الأثر بعينه فى النفس ليس كشخصى إنسان وفرس هذا.

ومن شأن العقل إذا أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل معها الزمان ضرورة ، وذلك لا فى زمان ، بل فى آن. والعقل يعقل الزمان فى آن ، وأما تركيبه القياس والحد فهو يكون لا محالة فى زمان ، إلا أن تصوره

٣٢٤

النتيجة والمحدود يكون دفعة (١).

والعقل ليس عجزه عن تصور الأشياء التى هى فى غاية المعقولية ، والتجريد عن المادة لأمر فى ذات تلك الأشياء ، ولا لأمر فى غريزة العقل ، بل لأجل أن النفس مشغولة فى البدن بالبدن ، فتحتاح فى كثير من الأمور إلى البدن ، فيبّعدها البدن عن أفضل كمالاتها.

وليست العين إنما لا تطيق أن تنظر إلى الشمس لأجل أمر فى الشمس وأنها غير جلية ، بل لأمر فى جبلّة بدنها. فإذا زال عن النفس منا هذا الغمور وهذا العوق كان تعقّل النفس لهذه أفضل التعقلات للنفس وأوضحها وألذها.

ولأن كلامنا فى هذا الموضع إنما هو فى أمر النفس من حيث هى نفس ، وذلك من حيث هى مقارنة لهذه المادة. فليس ينبغى لنا أن نتكلم فى أمر معاد النفس ـ ونحن متكلمون فى الطبيعة ـ إلى أن ننتقل إلى الصناعة الحكمية وننظر فيها فى الأمور المفارقة. وأما النظر فى الصناعة

__________________

(١) قال فى ص ٤٧٦ ج ١ من المباحث فى فصل امكان اجتماع التعقلات الكثيرة فى النفس دفعة واحدة : « اذا عرّفنا الشىء بحدّه لا يكون العلم باحد اجزائه مثل الجنس وحده او الفصل وحده مفيدا للعلم بتمام حقيقته فلو استحال حصول العلم بكل اجزائه دفعة واحدة لاستحال العلم فى وقت من الاوقات بحقيقته فهذا بيان امكان حصول التصورات الكثيرة.

وأما أنه يمكن حصول التصديقات الكثيرة فلان المقدمة الواحدة لا تنتج فلو استحال حصول العلم بالمقدمتين معا لاستحال حصول العلم بالنتيجة ... ان القوة الخيالية لا تقوى على استحضار امور كثيرة وتخيلات مختلفة دفعة واحدة لانها كيف كانت لا تتم الا بآلة جسمانية واما القوة العقلية فانها تقوى على ذلك والذى نجد من انفسنا كالمتعذر عائد الى القوة الخيالية لا الى القوة العقلية.

٣٢٥

الطبيعية فيختص بما يكون لائقا بالأمور الطبيعية ، وهى الأمور التى لها نسبة إلى المادة والحركة.

بل نقول : إن تصور العقل يختلف بحسب وجود الأشياء ، فالأشياء القوية جدا قد يقصر العقل عن إدراكها لغلبتها ، والأشياء الضعيفة الوجود جدا كالحركة والزمان والهيولى فقد يصعب تصورها ، لأنها ضعيفة الوجود.

[ العقول التى لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم والشر ]

والأعدام لا يتصورها العقل وهو بالفعل مطلقا (١) ، لأن العدم يدرك من حيث لا تدرك الملكة فيكون مدرك العدم من حيث هو عدم والشر من حيث هو شرّ شىء هو بالقوة وعدم كمال ، فإن أدركه عقل (٢) فإنما يدركه لأنه بالإضافة إليه بالقوة فالعقول التى لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم والشر من حيث هو شر وعدم ولا تتصورهما ، وليس فى الوجود شىء هو شر مطلقا.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى لا يكون فيه جهة القوة.

(٢) راجع ص ٣٧٧ ج ١ من المباحث المشرقية للفخر : الفصل الثانى فى أن الأعدام كيف يعلم.

٣٢٦

الفصل السادس

فى مراتب أفعال العقل

وفى أعلى مراتبها وهو العقل القدسى

فنقول : إن النفس تعقل بأن تأخذ فى ذاتها صورة المعقولات مجردة عن المادة ، وكون الصورة مجردة إما أن يكون بتجريد العقل إياها ، وإما أن يكون لأن تلك الصورة فى نفسها مجردة عن المادة ، فتكون النفس قد كفيت المؤنة فى تجريدها.

والنفس تتصور ذاتها ، وتصورها ذاتها يجعلها عقلا وعاقلا ومعقولا (١) ، وأما تصورها لهذه الصور فلا يجعلها كذلك (٢) ، فإنها فى جوهرها فى البدن دائما بالقوة عقل (٣) ، وإن خرج فى أمور مّا إلى الفعل.

وما يقال من أن ذات النفس تصير هى المعقولات ، فهو من جملة ما

__________________

(١) قال فى ص ٤٤٨ ج ١ من المباحث المشرقية : « اعلم ان الشيخ فى جميع كتبه مصرّ على ابطال الاتحاد الاّ فى كتاب المبدأ والمعاد وذلك عند ما قال فى بيان ان واجب الوجود عاقل ».

(٢) فى تعليقة نسخة : اى لا تصير متحدة مع المعقولات ولا يصير عقلا بنحو الاطلاق.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى مادام فى البدن لها القوة ولا يكون عقلا مطلقا.

٣٢٧

يستحيل عندى ؛ فإنى لست أفهم قولهم : إن شيئا يصير شيئا آخر ، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون ، فإن كان بأن يخلع صورة ثم يلبس صورة أخرى ، ويكون هو مع الصورة الأولى شيئا ، ومع الصورة الأخرى شيئا ، فلم يصر بالحقيقة الشىء الأول الشىء الثانى ؛ بل الشىء الأول قد بطل وإنما بقى موضوعه أو جزء منه ، وإن كان ليس كذلك فلينظر كيف يكون.

فنقول : إذا صار الشىء شيئا آخر ، فإما أن يكون إذ هو قد صار ذلك الشىء موجودا أو معدوما (١). فإن كان موجودا ، فالثانى الآخر إما أن يكون موجودا أيضا أو معدوما. فإن كان (٢) موجودا ، فما موجودان لا موجود واحد. وإن كان (٣) معدوما ، فصار هذا الموجود شيئا معدوما لا شيئا آخر موجودا ، وهذا غير معقول.

وإن كان الأول قد عدم فما صار شيئا آخر ، بل عدم هو وحصل شىء آخر. فالنفس كيف تصير صور الأشياء.

وأكثر ما هوّس الناس فى هذا هو الذى صنف لهم إيساغوجى (٤) وكان

__________________

(١) اى الشىء الاول اما ان يكون موجودا او معدوما.

(٢) اى الثانى.

(٣) اى الاخر الثانى.

(٤) اى فرفوريوس. وكتابنا « دروس اتحاد العاقل بالمعقول » يحق الحق بكلماته ويبطل الباطل.

قال الرازى فى ص ٤٤٧ ج ١ من المباحث المشرقية : « الفصل الخامس فى إبطال قول من قال ان التعقل عبارة عن اتحاد المعقول بالعاقل ، وقد عرفت بطلان القول بالاتحاد والذى يخصّ هذا الموضع انّ من عقل شيئا فلو اتحد به فاذا عقل شيئا آخر حتى اتحد به فصارت حقيقته حقيقة المعقول الثانى فحينئذ وجب ان لا يبقى عاقلا للمعقول الاوّل والاّ لكان للشىء الواحد حقيقتان مختلفتان وذلك محال فاذا يلزم ان لا يبقى عاقلا للأول عند كونه عاقلا للثانى وهو محال ».

٣٢٨

حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل ، ويدلّ أهل التمييز على ذلك كتبه فى العقل والمعقولات وكتبه فى النفس.

نعم إن صور الأشياء تحلّ النفس (١) وتحليّها وتزيّنها ، وتكون النفس كالمكان لها بتوسط العقل الهيولانى ، ولو كانت النفس صورة شىء من الموجودات بالفعل ، والصورة هى الفعل ، وهى بذاتها فعل ، وليس فى ذات الصورة قوة قبول شىء ، إنما قوة القبول فى القابل للشىء ، وجب أن تكون النفس حينئذ (٢) لا قوة لها على قبول صورة أخرى وأمر آخر. وقد نراها تقبل صورة أخرى غير تلك الصورة ، فإن كان ذلك الغير أيضا لا يخالف هذه الصورة فهو من العجائب ، فيكون القبول واللاقبول واحدا (٣). وإن كان يخالفه ، فتكون النفس لا محالة إن كانت هى الصورة المعقولة قد صارت غير ذاتها ، وليس من هذا شىء ، بل النفس هى العاقلة.

والعقل إنما يعنى به قوتها بها تعقل ، أو يعنى به صور هذه المعقولات فى انفسها. ولأنها فى النفس تكون معقولة ، فلا يكون العقل والعاقل والمعقول شيئا واحدا فى أنفسنا ، نعم هذا فى شىء آخر يمكن أن يكون على ما سنلمحه فى موضعه (٤).

__________________

(١) تحلّ فى النفس ، نسخة.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى حين صارت عين تلك الصورة.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى لا يحصل من هذه الاقوال شىء بل يكون هذه تخيلات لا معنى لها او المراد ان ليس من الاول شىء باق بل الاول عدم وحدث شىء آخر.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى لا يتحد العقل الهيولانى ايضا مع ما يحصل فيه.

٣٢٩

وكذلك العقل الهيولانى إن عنى به مطلق الاستعداد للنفس فهو باق فينا أبدا ما دمنا فى البدن ، وإن عنى بحسب شىء شىء فإن الاستعداد يبطل مع وجود الفعل (١).

وإذ قد تقرر هذا فنقول : إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة (٢) :

أحدها التصور الذى يكون فى النفس بالفعل مفصّلا منظّما ، وربما يكون ذلك التفصيل والنظام غير واجب ، بل يصحّ أن يغيّر. مثاله أنك فصلّت فى نفسك معانى الألفاظ التى يدل عليها قولك : كل إنسان حيوان ، وجدت كل معنى منها كليا لا يتصور إلا فى جوهر غير بدنى (٣) ، ووجدت لتصورها فيه تقديما وتأخيرا.

فإن غيّرت ذلك حتى كان ترتيب المعانى المتصورة الترتيب المحاذى لقولك : الحيوان محمول على كل إنسان لم تشك أن هذا الترتيب من حيث هو ترتيب معان كلية لم يترتب إلا فى جوهر غير بدنى ، وإن كان أيضا يترتب من وجه مّا فى الخيال فمن حيث المسموع لا من حيث المعقول ، وكان الترتيبان مختلفين ، والمعقول (٤) الصرف منهما واحد.

والثانى أن يكون قد حصل التصور واكتسب ، لكل النفس معرضة عنه ، فليست تلتفت إلى ذلك المعقول ، بل قد انتقلت عنه مثلا إلى معقول آخر ، فإنه ليس فى وسع أنفسنا أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة.

__________________

(١) الشيخ لم يعرف معنى العقل البسيط ولم يحصّل مفاده. واعترض صاحب الاسفار عليه ( ج ٤ ص ١٢٦ ط ١ ـ ج ٩ ص ١١٤ ط جديد ).

(٢) راجع ص ٢٩٢ ج ١ ط ـ ١ ص ٣٦٦ ج ٣ ط جديد من الاسفار ، وص ٣٦٩ ج ٣ ط جديد الفصل الخامس عشر من المسلك الخامس.

(٣) فى تعليقة نسخة : لانها كليات والكليات يجب ان يكون مدركها مجردا.

(٤) وان كان التمثل منه غير واحد.

٣٣٠

ونوع آخر من التصور (١) وهو مثل ما يكون عندك فى مسألة تسئل عنها مما علمته أو مما هو قريب من أن تعلمه فحضرك جوابها فى الوقت ، وأنت متيقن بأنك تجيب عنها مما علمته من غير أن يكون هناك تفصيل ألبتة ، بل إنما تأخذ فى التفصيل والترتيب فى نفسك مع أخذك فى الجواب الصادر عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب.

فيكون الفرق بين التصور الأول والثانى ظاهرا. فإن الأول كأنه شىء قد أخرجته من الخزانة وأنت تستعمله.

والثانى كأنه شىء لك مخزون متى شئت استعملته.

الثالث يخالف الأول بأنه ليس شيئا مرتبا فى الفكر ألبتة ، بل هو كمبدأ (٢) لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثانى بأنه لا يكون معرضا عنه ، بل منظورا إليه نظرا مّا بالفعل يقينا إذ تتخصص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.

فإن قال قائل : إن ذلك علم أيضا بالقوة ولكن قوة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ، لأن لصاحبه يقينا بالفعل حاصلا لا يحتاج أن يحصله بقوة قريبة او بعيدة. فذلك اليقين اما (٣) لأنّه متيقّن أن هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقّنه بالفعل بأن هذا حاصل تيقنا به بالفعل ، فإن الحصول حصول لشىء (٤) ، فيكون هذا الشىء الذى نشير إليه حاصلا بالفعل ،

__________________

(١) هذا هو المرتبة الثالثة.

(٢) مبدأ ، نسخة.

(٣) قال صاحب القاموس : اما بالتخفيف تحقيق للكلام الذى يتلوه. وقال صاحب المجمع بالتخفيف لتحقيق الكلام الذى يتلوه تقول اما ان زيدا عاقل يعنى انه عاقل على الحقيقة دون المجاز.

(٤) الشىء ، نسخة.

٣٣١

لأنه من المحال أن يتيقّن أن المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون ، فكيف يتيقّن حال الشىء إلا والأمر هو من جهة ما يتيقّنه معلوم ، وإذا كانت الإشارة تتناول للمعلوم بالفعل ومن المتيقن بالفعل أن هذا عنده مخزون فهو بهذا النوع البسيط معلوم عنده ، ثم قد يريد أن يجعله معلوما بنوع آخر.

ومن العجائب أن هذا المجيب حين يأخذ فى تعليم غيره تفصيل ما هجس فى نفسه دفعة يكون مع ما يعلّمه يتعلّم العلم بالوجه الثانى فيرتّب تلك الصورة فيه مع ترتب ألفاظه.

فأحد هذين هو العلم الفكرى الذى إنما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتب وتركب.

والثانى هو العلم البسيط (١) الذى ليس من شأنه أن يكون له فى نفسه

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اعلم ان العقل البسيط الاجمالى خلاقيته للتفاصيل لا معنى له الاّ الاتحاد بحسب الوجود ، والاختلاف والكثرة بحسب الماهية ، حتى يكون الاجمال بحسب الوجود والتفصيل بحسب الماهية وهذا هو معنى اتحاد العاقل والمعقول.

وقال الفخر فى ص ٣٣٦ ج ١ من المباحث المشرقية : « هذا غاية ما يقولون. وليس الامر عندى كما يقولون بل العلم اما ان يكون بالقوة واما ان يكون بالفعل على سبيل التفصيل.

واما القسم الثالث وهو البسيط فهو عندى باطل فان العلم عندهم عبارة عن حضور صورة المعقول فى العاقل فهذا العقل البسيط ان كان صورة واحدة مطابقة فى الحقيقة لأمور كثيرة فذلك باطل إذ الصورة العقلية الواحدة لو كانت مطابقة لأمور كثيرة لكانت مساوية فى الماهية لتلك الأمور المختلفة فى الحقيقة فتكون لتلك الصورة حقائق مختلفة فلا تكون الصورة الواحدة صورة واحدة هذا خلف.

فان قيل : ان لهذا التعقل البسيط صورا مختلفة بحسب اختلاف المعقولات.

فنقول : العلم التفصيلى بتلك المعلومات حاصل اذ لا معنى للعلم التفصيلى الاّ ذلك

٣٣٢

صورة بعد صورة ولكن هو واحد تفيض عنه الصور فى قابل الصور فذلك علم فاعل للشىء الذى نسميه علما فكريا ومبدأ له ، وذلك هو للقوة (١) العقلية المطلقة من النفوس (٢) المشاكلة للعقول الفعالة.

وأما التفصيل فهو للنفس من حيث هى نفس ، فما لم يكن له ذلك لم يكن له علم نفسانى. وأما أنه كيف يكون للنفس الناطقة مبدأ غير النفس له علم غير علم النفس ، فهو موضع نظر يجب عليك أن تعرفه من نفسك.

واعلم أنه ليس فى العقل المحض منهما تكثر ألبتة ولا ترتيب صورة فصورة ، بل هو مبدأ لكل صورة تفيض عنه على النفس. وعلى هذا ينبغى أن تعتقد الحال فى المفارقات المحضة فى عقلها الأشياء ، فإن عقلها هو العقل

__________________

فثبت ان ما يقولونه بعيد عن التحصيل فلعلهم ارادوا بهذا العقل البسيط ان تكون صور المعلومات تحصل دفعة واحدة وارادوا بهذا العقل التفصيلى ان تكون صور المعلومات تحضر على ترتيب زمانى واحدة بعد واحدة فان ارادوا به ذلك فهو صحيح ولا منازعة فيه معهم ولكنه لا يكون هذا مرتبة متوسطة بين القوة المحضة والفعل المحض ».

وقال صدر المتألهين فى ص ٢٩٣ ج ١ ط ١ ـ ص ٣٧٢ ج ٣ ط ٢ : « اقول اثبات هذا العقل البسيط لا يمكن الا بالقول باتحاد العاقل بالمعقولات على الوجه الذى اقمنا البرهان. والعجب من الشيخ الرئيس حيث اذعن بمثل هذه الامور التى ذكرها فى هذا الموضع مع غاية اصراره فى انكار القول بذلك الاتحاد فاذا لم يكن للعقل البسيط الذى اعتقد وجوده فى هذا النوع الانسانى وفى الجواهر المفارقة بالكلية من الاجساد والمواد فيه المعانى المعقولة فكيف يفيض منه على النفوس ما لا يكون حاصلا له ، وكيف يخرج النفوس من القوة الى الفعل بما لا حصول لها فيه ، وايضا كيف يختزن فيه مع بساطته صور المعقولات التى تذهل عنها النفس ثم تجدها مخزونة لها عند المراجعة الى خزانتها العقلية كما أثبتها الشيخ فى ذلك الفصل بعينه ».

(١) القوة ، نسخة.

(٢) النفس ، نسخة.

٣٣٣

الفعال للصور والخلاق لها لا الذى (١) يكون الصور (٢) أو فى صور (٣).

فالنفس التى للعالم من حيث هى نفس فإن تصوّرها هو التصور المرتب المفصل ، فلذلك ليست بسيطة من كل وجه ، وكل إدراك عقلى فإنه نسبة مّا إلى صورة مفارقة للمادة ولأعراضها المادية على النحو المذكور. فللنفس ذلك بأنها جوهر قابل منطبع به ، وللعقل بأنه جوهر مبدأ فاعل خلاق ، فما يخص ذاته من مبدئيته لها هو عقليته بالفعل ، وما يخص النفس من تصورها بها وقبولها لها هو عقليتها بالفعل.

والذى ينبغى أن يعلم من حال الصور التى فى النفس هو ما أقوله :

أما المتخيلات وما يتصل بها فإنها إذا اعرض عنها النفس كانت مخزونة فى قوى هى للخزن (٤) ، وليست بالحقيقة مدركة ، وإلا لكانت مدركة وخزانة معا ، بل هى خزانة إذا رجعت القوة الدرّاكة الحاكمة وهى الوهم والنفس أو العقل وجدتها حاصلة ، فإن لم تجدها احتاجت إلى استرجاع بتحسس أو بتذكّر.

ولولا هذا العذر لكان من الواجب أن يشك فى أنّ (٥) كل نفس إذا كانت ذاهلة عن صورة ، أتلك الصورة موجودة أم ليست بموجودة إلا بالقوة.

ويتشكك فى أنها كيف ترتجع ، وإذا لم تكن عند النفس فعند أى شىء

__________________

(١) اى لا العقل الذى.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى من حيث الترتيب والنظم فى تعقلها.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى من حيث انتقال النفس من بعض الصور الى بعض آخر.

(٤) الخزن ـ كما فى نسخة مصحّحة.

(٥) أن يشك فى أمر كل نفس ، نسخة.

٣٣٤

تكون ، والنفس بأى شىء تتصل حتى تعاود هذه الصورة.

لكن النفس الحيوانية قد فرّقت قواها ، وجعلت لكل قوة آلة مفردة ، فجعلت للصور خزانة (١) قد يغفل عنها الوهم ، وللمعانى خزانة (٢) قد يغفل عنها الوهم ، إذ ليس للوهم (٣) موضع ثبات هذه الأمور (٤) ، ولكن الحاكم (٥).

فلنا أن نقول : إن الوهم قد يطالع الصور والمعانى المخزونة فى حيّزى القوتين (٦) ، وقد يعرض عنها ، فماذا نقول الآن فى الأنفس الإنسانية والمعقولات التى تكتسبها وتذهل عنها إلى غيرها ، أتكون موجودة فيها بالفعل التام فتكون لا محالة عاقلة لها بالفعل التام ، أو تكون لها خزانة تخزنها فيها ، وتلك الخزانة إما ذاتها أو بدنها أو شىء بدنى لها. وقد قلنا : إن بدنها وما يتعلق ببدنها مما لا يصلح لذلك ، إذ لم يصلح أن يكون محلا للمعقولات ، ولا يصلح أن تكون الصور العقلية ذات وضع وكان اتصالها بالبدن بجعلها ذات وضع ، وإذا صارت فى البدن ذات وضع بطل أن تكون معقولة.

أو نقول : إن هذه الصور العقلية أمور قائمة فى أنفسها ، كل صورة منها نوع آخر قائم (٧) فى نفسه ، والعقل ينظر إليها مرة ويغفل عنها

__________________

(١) وهى الخيال.

(٢) وهى الحافظة.

(٣) الوهم ، نسخة.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى الصور والمعانى.

(٥) فى تعليقة نسخة : اى ولكن الوهم هو الحاكم.

(٦) الحافظة والخيال.

(٧) نوع أمر قائم ، عدة نسخ.

٣٣٥

أخرى ، فإذا نظر إليها تمثّلث فيه ، وإذا أعرض عنها لم تتمثل ، فتكون النفس كمرآة وهى كأشياء خارجة ، فتارة تلوح فيها وتارة لا تلوح ، وذلك بحسب نسب تكون بين النفس وبينها.

أو يكون المبدأ الفعال يفيض على النفس صورة بعد صورة بحسب طلب النفس ، وأن يكون إذا أعرضت عنه انقطع الفيض. فإن كان هذا هكذا فلم لا تحتاج كل كرّة إلى تعلّم من رأس.

فنقول : إن الحق هو القسم الآخر ، وذلك أنه من المحال أن نقول إن هذه الصورة موجودة فى النفس بالفعل التام ولا تعقلها بالفعل التام ، إذ ليس معنى أنها تعقلها إلا أن الصورة موجودة فيها ، ومحال أن يكون البدن لها خزانة ، ومحال أن تكون ذاتها خزانتها ، إذ ليس كونها خزانة لها إلا أن تلك الصورة معقولة موجودة فيها وبهذا تعلقها.

وليس كذلك الذكر والمصورة ، فان إدراك هذه الصورة ليس لهما ، بل حفظها فقط ، وإنما إدراكها بقوّة اخرى ، وليس وجود الصورة المذكورة والمتصورة فى شىء هو إدراك ، كما ليس وجود صورة المحسوسات فى الشىء هو حس ، ولذلك ليست الأجسام وفيها صورة المحسوسات بمدركة ، بل الإدراك يحتاج أن يكون لما من شأنه أن ينطبع بتلك الصورة انطباعا مّا بما هو قوة مدركة. وأما الذكر والمصورة فإنما تنطبع فيهما الصور بما هى آلة ولها جسم يحفظ تلك الصور قريبا من حامل القوة الدرّاكة وهى الوهم حتى ينظر إليها متى شاء ، كما يحفظ الصور المحسوسة قريبا من الحس ليتأملها الحس متى شاء.

فهذا التأويل يحتمله الذكر والمصورة ولا تحتمله النفس ، فإن وجود الصورة المعقولة فى النفس هو نفس إدراكها لها ، وأيضا سنبين بعد فى

٣٣٦

الحكمة الأولى (١) أن هذه الصورة لا تقوم منفردة.

فبقى أن يكون القسم الصحيح هو القسم الأخير ، ويكون التعلم طلب الاستعداد التام للاتصال به ، حتى يكون منه (٢) العقل الذى هو البسيط فتفيض منه الصور مفصلة فى النفس بتوسط الفكرة ، فيكون الاستعداد قبل التعلم ناقصا ، والاستعداد بعد التعلم تاما.

واذا تعلم يكون من شأنه أنه إذا خطر بباله ما يتصل بالمعقول المطلوب ، وأقبلت النفس على جهة النظر ـ وجهة النظر هو الرجوع إلى المبدأ الواهب للعقل ـ اتصل به ففاضت منه (٣) قوة العقل المجرد (٤) الذى يتبعه فيضان التفصيل ، وإذا أعرض عنه عادت فصارت تلك الصورة بالقوة ، لكن قوة قريبة جدا من الفعل. فيكون التعلم الأول كمعالجة العين ، فإذا صارت العين صحيحة فمتى شاءت نظرت إلى الشىء الذى منه تأخذ صورة مّا ، وإذا أعرضت عن ذلك الشىء صار ذلك بالقوة القريبة من الفعل. وما دامت النفس البشرية القاسية (٥) فى البدن ، فإنه ممتنع عليها أن تقبل العقل الفعال دفعة ، بل يكون حالها ما قلنا.

وإذا قيل : إن فلانا عالم بالمعقولات ، فمعناه أنه بحيث كلما شاء أحضر صورته فى ذهن نفسه ، ومعنى هذا أنه كلما شاء كان له أن يتصل بالعقل الفعال اتصالا يتصور فيه منه ذلك المعقول ، ليس أن ذلك المعقول

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى الأسفار اشار بذلك إلى إبطاله للصور المفارقة التى نسب القول بها إلى افلاطون وشيعته من الاقدمين.

(٢) اى من العقل الفعال.

(٣) اى من المبدأ الواهب.

(٤) اى العلم الاجمالى البسيط.

(٥) العامية ، عدة نسخ.

٣٣٧

حاضر فى ذهنه ومتصور فى عقله بالفعل دائما ، ولا كما كان قبل التعلم.

وبتحصيل هذا الضرب من العقل بالفعل (١) ، وهو القوة تحصل للنفس أن تعقل بها ما تشاء ، فإذا شاءت اتصلت وفاضت فيها الصورة المعقولة ، وتلك الصورة هى العقل المستفاد بالحقيقة ، وهذه القوة هى العقل بالفعل فينا من حيث بها أن نعقل. وأما العقل المستفاد فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال.

وأما التصور للأمور المتخيلة فهو رجوع من النفس إلى الخزائن للمحسوسات. والأول نظر إلى فوق ، وهذا نظر إلى أسفل. فإن خلص عن البدن وعوارض البدن فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعال تمام الاتصال ويلقى هناك الجمال العقلى واللذة السرمدية كما نتكلم عليه فى بابه.

واعلم أن التعلم سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم فإنه متفاوت فيه ، فإن من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور ، لأن استعداده الذى قبل الاستعداد الذى ذكرناه أقوى ، فإن كان ذلك للإنسان فيما بينه وبين نفسه سمى هذا الاستعداد القوى حدسا.

وهذا الاستعداد قد يشتد فى بعض الناس ، حتى لا يحتاج فى أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شىء وإلى تخريج وتعليم ، بل يكون شديد

__________________

(١) العقل بالفعل : اى العقل بالملكة ، والعقل المستفاد.

قال الشيخ فى المبدأ والمعاد ص ٩٩ : « فاذا حصل للنفس المعقولات المكتسبة صار من جهة تحصيلها لها ـ وإن كانت غير قائمة فيه بالفعل ـ عقلا بالفعل ، لأنّ له ان يعقل متى شاء من غير استيناف طلب ، واذا اعتبر وجودها فيه بالفعل قائمة سميت تلك المعقولات عقلا مستفادا من خارج اى من العقل الفعال بطلب وحيلة.

٣٣٨

الاستعداد لذلك كأنّ الاستعداد الثانى حاصل له ، بل كأنّه يعرف كل شىء من نفسه.

وهذه الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد ، ويجب أن تسمى هذه الحالة من العقل الهيولانى عقلا قدسيا ، وهى من جنس العقل بالملكة ، إلا أنه رفيع جدا ليس مما يشترك فيه الناس كلهم.

ولا يبعد أن يفيض بعض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسية لقوتها واستعلائها فيضانا على المتخيلة ، فتحاكيها المتخيلة أيضا بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو الذى سلفت الإشارة إليه.

وممّا يحقّق هذا أن من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التى يتوصل إلى اكتسابها إنما تكتسب بحصول الحد الأوسط فى القياس. وهذا الحد الأوسط قد يحصل من ضربين من الحصول :

[ تعريف الحدس والذكاء ]

فتارة يحصل بالحدس ، والحدس فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط والذكاء قوة الحدس.

وتارة يحصل بالتعليم ، ومبادئ التعليم الحدس ، فإن الأشياء تنتهى لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس ثم اوردوها (١) إلى المتعلمين. فجائز إذن أن يقع للإنسان بنفسه الحدس وأن ينعقد فى ذهنه القياس بلا تعلّم (٢).

وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف : أما فى الكم فلأن بعض الناس يكون

__________________

(١) أدّوها ، نسخة.

(٢) بلا معلّم ، نسخة.

٣٣٩

أكثر عدد حدس للحدود الوسطى ، وأما فى الكيف فلأن بعض الناس أسرع زمان حدس. ولأنّ هذا التفاوت ليس منحصرا فى حد ، بل يقبل الزيادة والنقصان دائما ، وينتهى فى طرف النقصان إلى من لا حدس له ألبتة ، فيجب أن ينتهى أيضا فى طرف الزيادة إلى من له حدس فى كل المطلوبات أو أكثرها ، وإلى من له حدس فى أسرع وقت وأقصره.

[ القوة القدسية ]

فيمكن إذن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل حاسا ، أعنى قبولا لها من العقل الفعال فى كل شىء وترتسم فيه الصور التى فى العقل الفعال ، إما دفعة ، وإما قريبا من دفعة ارتساما لا تقليديا ، بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى. فإن التقليديات فى الأمور التى إنما تعرف بأسبابها ليست يقينية عقلية. وهذا ضرب من النبوة ، بل أعلى قوى النبوة ، والأولى أن تسمى هذه القوة قوة قدسية (١) ، وهى أعلى مراتب القوى الإنسانية.

__________________

(١) قال الرازى فى ج ١ ص ٣٥٤ من المباحث المشرقية : « وتلك القوة تسمى قدسية ومخالفتها لسائر النفوس بالكم والكيف. اما الكم فلانّها اكثر استحضارا للحدود الوسطى واما الكيف فلانّها اسرع انتقالا من المبادئ الى الثوانى ومن المقدمات الى النتائج. ويخالف سائر النفوس من جهة اخرى وهى انّ سائر النفوس تعيّن المطالب ثم تطلب الحدود الوسطى المنتجة لها واما النفوس القدسية فيقع الحدّ الاوسط فى ذهنها ويتأدى الذهن منه الى النتيجة المطلوبة فيكون الشعور بالحد الاوسط مقدما على الشعور بالمطلوب ».

٣٤٠