النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

جهة مخصوصة حركات كثيرة يراعى بها الإشارة. وأما الصوت فقد تغنى الاستعانة به عن أن يكون من جهة مخصوصة ، وتغنى أيضا عن أن تراعى تحريكات (١) ، ومع ذلك فليس يحتاج فى أن يدرك إلى متوسط كما لا يحتاج اللون إليه ، لا كحاجة الإشارات.

فجعلت الطبيعة (٢) للنفس أن تؤلف من الأصوات ما يتوصل به إلى إعلام الغير. وفى الحيوانات الأخرى أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال فى نفسها. لكن تلك الأصوات إنما تدل بالطبع وعلى جملة من الموافقة أو المنافرة (٣) غير محصلة ولا مفصلة.

والذى للإنسان فهو بالوضع ، وذلك لأن الأعراض الإنسانية تكاد أن لا تتناهى ، فما كان يمكن أن تطبع هى على أصوات بلانهاية ، فمما يختص بالإنسان هذه الضرورة الداعية إلى الإعلام والاستعلام لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء بقدر عدل ولضرورات أخرى ، ثم اتخاذ المجامع واستنباط الصنائع.

وللحيوانات الأخرى وخصوصا للطير صناعات أيضا ، فإنها تصنع بيوتا ومساكن لا سيما النحل. لكن ذلك ليس مما يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك ليس مما يختلف ويتنوّع ، وأكثرها لصلاح أحوالها وللضرورة النوعية ليست للضرورة الشخصية. والذى للإنسان فكثير منه للضرورة الشخصية ، وكثير لصلاح حال الشخص بعينه.

__________________

(١) ان تراعى بحركات ، نسخة.

(٢) فى تعليقة نسخة : جواب لما كان الانسان فى وجوده.

(٣) والمنافرة ، نسخة.

٢٨١

ومن خواص الإنسان أنه يتبع إدراكاته للأشياء النادرة انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك ، ويتبع إدراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر ويتبعه البكاء.

ويخصه فى المشاركة أن المصلحة تدعو إلى أن تكون فى جملة الأفعال التى من شأنه أن يفعلها أفعال (١) لا ينبغى له أن يفعلها ، فيعلّم ذلك صغيرا وينشأ عليه. ويكون قد تعوّد منذ صباه سماع أن تلك الأفعال ينبغى أن لا يفعلها ، حتى صار هذا الاعتقاد له كالغريزى له ، وأفعال أخرى بخلاف ذلك ، وتسمى الأولى قبيحة ، والأخرى جميلة.

وليس يكون للحيوانات الأخرى ذلك ، فإن كانت الحيوانات الأخرى تترك أفعالا لها أن تفعلها مثل أن الأسد المعلّم لا يأكل صاحبه ولا يأكل ولده فليس سبب ذلك اعتقادا فى النفس ورأيا ، ولكن هيئة أخرى نفسانية ، وهى أن كل حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذه وبقاءه ، وأن الشخص الذى يمونه (٢) ويطعمه قد صار لذيذا له لأن كل نافع لذيذ بالطبع عند المنفوع ، فيكون المانع عن فرسه ليس اعتقادا ، بل هيئة وعارضا نفسانيا آخر. وربما وقع هذا العارض فى الجبلة ومن الإلهام الإلهى كحب كل حيوان ولده من غير اعتقاد ألبتة ، بل على نوع تخيل بعض الإنسان لشىء نافع أو لذيذ او نفرته عنه إذا كان فى صورته ما ينفرّ عنه.

والإنسان قد يتبع شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئا من الأشياء التى قد أجمع على أنه لا ينبغى أن يفعلها انفعال نفسانى يسمى الخجل ، وهذا

__________________

(١) فاعل تكون.

(٢) فى تعليقة نسخة : قوله « يمونه » مان القوم احتمل مأونتهم اى قوتهم وقد لا يهمز فالفعل مانهم.

٢٨٢

أيضا من خواص الناس.

وقد يعرض للإنسان انفعال نفسانى بسبب ظنه أن أمرا فى المستقبل يكون مما يضره ، وذلك يسمى الخوف. والحيوانات الأخرى إنما يكون لها ذلك بحسب الآن فى غالب الأمر ، أو متصلا بالآن. وللإنسان بإزاء الخوف الرجاء ، ولا يكون للحيوانات الأخرى إلا متصلا بالآن ، ولا يكون فيما يبعد عن الآن من الزمان ذلك. والذى تفعله من الاستظهار (١) فليس ذلك لأنها تشعر بالزمان وما يكون فيه ، بل ذلك أيضا ضرب من الإلهام. والذى تفعله النمل من نقل الميرة (٢) بالسرعة إلى جحرتها (٣) منذرة بمطر (٤) يكون ، فلأنها تتخيل أن ذلك هوذا يكون فى هذا الوقت. كما أن الحيوان يهرب عن الضد لما يتخيل انّه هو ذا يريد أن يضربه فى الوقت.

ويتصل بهذا الجنس ما للإنسان أن يروّى فيه من الأمور المستقبلة أنه هل ينبغى له أن يفعلها أو لا ينبغى فيفعل ما يصح أن توجب روّيته أن لا يفعله وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما روّى ، ولا يفعل ما يصح أن توجب روّيته أن يفعل وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما روّى. وسائر الحيوانات إنما يكون لها من الإعدادات للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيها وافقت عاقبتها أو لم توافق.

__________________

(١) الظهير : المعين والاستظهار طلب المعاونة.

(٢) البرة ، نسخة. والميرة بكسر الميم : الطعام.

(٣) الجحر بضم الجيم وسكون الحاء : كل مكان تحتفره الهوام والسباع لانفسها ، ج جحرة بكسر الجيم وفتح الحاء.

(٤) منذرة لمطر ، نسخة.

٢٨٣

وأخص الخواص بالإنسان تصور المعانى الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد على ما حكيناه وبيناه ، والتوصل إلى معرفة المجهولات تصديقا وتصورا من المعلومات العقلية. فهذه الأحوال والأفعال المذكورة هى مما يوجد للإنسان ، وجلها يختص به الإنسان وإن كان بعضها بدنيا ، ولكنه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس التى للإنسان التى ليست لسائر الحيوان.

بل نقول : إن للإنسان تصرفا فى أمور جزئية وتصرفا فى أمور كلية والأمور الكلية إنما يكون فيها اعتقاد فقط ولو كان أيضا فى عمل ، فإن من اعتقد اعتقادا كليا أن البيت كيف ينبغى أن يبنى ، فإنه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوليا ، فإن الأفعال تتناول أمورا جزئية وتصدر عن آراء جزئية ، وذلك لأن الكلى من حيث هو كلى ليس يختص بهذا دون ذلك. ولنؤخر شرح هذا معوّلين على ما يأتيك فى الصناعة الحكمية فى آخر الفنون.

فتكون للإنسان إذن قوة تختص بالآراء الكلية ، وقوة أخرى تختص بالروية فى الأمور الجزئية ، فيما ينبغى أن يفعل ويترك مما ينفع ويضر ، وفيما هو جميل وقبيح وخير وشر ، ويكون ذلك بضرب من القياس والتأمل صحيح أو سقيم غايته أنه يوقع رأيا فى أمر جزئى مستقبل من الأمور الممكنة ، لأن الواجبات والممتنعات لا يروّى فيها لتوجد أو تعدم ، وما مضى أيضا لا يروّى فى إيجاده على أنه ماض. واذا حكمت هذه القوة تتبع (١) حكمها حركة القوة الإجماعية إلى تحريك البدن ، كما كانت

__________________

(١) تبع حكمها ، نسخة. هذه القوّة ، أى القوّة العملية.

٢٨٤

تتبع أحكام قوى أخرى فى الحيوانات ، وتكون هذه القوة استمدادها من القوة التى على الكليات ، فمن هناك تأخذ المقدمات الكبرى فيما تروّى وتنتج فى الجزئيات.

فالقوة الأولى للنفس الإنسانية قوة تنسب إلى النظر فيقال عقل نظرى ؛ وهذه الثانية قوة تنسب إلى العمل فيقال عقل عملى (١) ؛ وتلك للصدق والكذب وهذه للخير والشر فى الجزئيات ، وتلك للواجب والممتنع والممكن وهذه للقبيح والجميل والمباح ، ومبادئ تلك من

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : واطلاق العقل على القوتين بالاشتراك اللفظى لاختلافهما من حيث ان الاولى مبدأ الانفعال والثانية مصدر الفعل او بطريق التشابه الاسمى لاشتراكهما فى كونهما قوى النفس. ولما انقسم الادراك الى قسمين ادراك بأمور لا تتعلق بالعمل وادراك بآراء متعلقة بالعمل لاجرم انقسم العقل النظرى الى قوتين او الى وجهين : قوة ادراك الامور التى لا تتعلق بالعمل كالعلم بالسماء والارض ومبنى الحكمة النظرية على هذه القوة. وقوة ادراك الآراء التى تتعلق بالعمل كالعلم بان العدل حسن والظلم قبيح ومبنى الحكمة العملية على هذه القوة لان مرجعهما العلم. واما العقل العملى فانما يصدر عنه الافعال بحسب استنباطه ما يجب ان يفعل من رأى كلى مستنبط من مقدمات كلية. ولما كان ادراك الكلى واستنباطه من المقدمات الكلية انما هو للعقل النظرى فهو مستعين فى ذلك بالعقل النظرى اذ العمل لا يتأتى بدون العلم مثلا لها مقدمة كلية وهى ان كل حسن ينبغى ان يؤتى به وقد استخرجنا منه ان الصدق ينبغى ان يؤتى به لان الصدق حسن وكل حسن ينبغى ان يؤتى به ينتج ان الصدق ينبغى ان يؤتى به وهذا رأى كلى ادركها العقل النظرى. ثم ان العقل العملى لما اراد ان يوقع صدقا جزئيا فهو انما يفعل بواسطة استخراج ذلك الجزئى من الرأى الكلى كانه يقول هذا صدق وكل صدق ينبغى ان يؤتى به فهذا الصدق ينبغى ان يؤتى به وهذا رأى جزئى ادركها العقل النظرى ايضا لكن العقل العملى انما يفعل هذا الصدق للعلم بذلك الجزئى فالعقل العملى بل النفس انما يصدر منه الافعال لآراء جزئية تنبعث من آراء كلية عندها مستنبطة من مقدمات بديهية او مشهورية او تجربية.

٢٨٥

المقدمات الأولية ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجربيات الواهية التى تكون من المظنونات غير التجربيات الوثيقة.

ولكل واحدة من هاتين القوتين رأى وظن ، فالرأى هو الاعتقاد المجزوم به ، والظن هو الاعتقاد المميل إليه مع تجويز الطرف الثانى. وليس كل من ظن فقد اعتقد ، كما ليس كل من أحس فقد عقل ، أو من تخيل فقد ظن أو اعتقد أو رأى ، فيكون فى الإنسان حاكم حسى وحاكم من باب التخيل وهمى وحاكم نظرى وحاكم عملى ، وتكون المبادئ الباعثة لقوته الإجماعية على تحريك الأعضاء وهم خيالى وعقل عملى وشهوة وغضب ، وتكون للحيوانات الأخرى ثلاثة من هذه.

والعقل العملى محتاج فى أفعاله كلها إلى البدن وإلى القوى البدنية.

وأما العقل النظرى فإن له حاجة مّا إلى البدن وإلى قواه لكن لا دائما ومن كل وجه ، بل قد يستغنى بذاته.

وليس لا واحد منهما هو النفس الإنسانية ، بل النفس هو الشىء الذى له هذه القوى. وهو كما تبين جوهر منفرد وله استعداد نحو أفعال بعضها لا يتم إلا بالآلات وبالإقبال عليها بالكلية ، وبعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة مّا ، وبعضها لا يحتاج إليها ألبتة. وهذا كله سنشرحه بعد.

فجوهر النفس الإنسانية مستعد لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته وبما فوقه ولا يحتاج فيه إلى مادونه ، وهذا الاستعداد له هو بالشىء الذى يسمى العقل النظرى ؛ ومستعد لأن يتحرز عن آفات تعرض له من المشاركة ، كما سنشرحه فى موضعه.

وأن يتصرف فى المشاركة تصرفا على الوجه الذى يليق به. وهذا الاستعداد له بقوة تسمى العقل العملى ، وهى رئيسة القوى التى له إلى

٢٨٦

جهة البدن. وأما ما دون ذلك فهى قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها ولمنفعته.

والأخلاق تكون للنفس من جهة هذه القوة كما قد أشرنا إليه فيما سلف. ولكل واحد من القوتين استعداد وكمال ، فالاستعداد الصرف من كل واحدة منهما يسمى عقلا هيولانيا سواء أخذ نظريا أو عمليا. ثم بعد ذلك إنما يعرض لكل واحدة منهما أن تحصل لها المبادئ التى بها تكمل أفعالها ، إما للعقل النظرى فالمقدمات الأولية وما يجرى معها ، وإما للعملى فالمقدمات المشهورة وهيئات أخرى. فحينئذ يكون كل واحد منهما عقلا بالملكة ، ثم يحصل لكل واحد منهما الكمال المكتسب. وقد كنا شرحنا هذا من قبل (١) ، فيجب أول كل شىء أن نبين أن هذه النفس المستعدة لقبول المعقولات بالعقل الهيولانى ليس بجسم ولا قائم صورة فى جسم.

__________________

(١) فى الفصل الخامس من المقالة الاولى من هذا الفن.

٢٨٧

الفصل الثانى

فى اثبات ان قوام النفس الناطقة غير منطبع فى مادة جسمانية (١)

إن مما لا شك فيه أن الإنسان فيه شىء (٢) وجوهر مّا يتلقى المعقولات بالقبول.

[ البرهان الاول على تجرد النفس الناطقة ]

فنقول : إن الجوهر الذى هو محل المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه. فإنه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإما أن تكون الصورة المعقولة تحل منه شيئا وحدانيا غير منقسم ، أو تكون إنما تحل منه شيئا منقسما. والشىء الذى لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ لا محالة.

__________________

(١) روز سه شنبه هشتم ذى القعدة سنه ١٣٨٠ ه‍. ق ـ ٢٩ / ١ / ١٣٤٠ ه‍. ش بود كه در تهران در محضر مبارك علامه ذو الفنون معلّم عصر آية الله العظمى جناب حاج ميرزا ابو الحسن شعرانى ـ روحى فداه ـ اين بنده حسن حسن زاده آملى به تنهائى در محضر شريفش اين فصل را تدرّس مى كرد چنانكه همه درس شفاء را به تنهائى از وى آموختم.

(٢) راجع الفصل ٣ من المقالة الاولى من هذا الفن. وص ٦٣ ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٥٦ ج ٨ ط ٢ من الاسفار.

٢٨٨

ولنمتحن أولا أنه هل يمكن أن يكون محلها طرفا غير منقسم ، فنقول إن هذا محال ، وذلك لأن النقطة (١) هى نهاية ما لا تميز لها عن الخط فى

__________________

(١) قال الرازى فى المباحث ج ٢ ص ٣٦٠ : « سلمنا انه ليس للنقطة امتياز عن المقدار الذى هى نهايته لكن لم قلتم انه لا يحلّ فيها الاطرف ما يكون حالا فى ذلك المقدار وما البرهان على ذلك؟ فانه ليس ذلك من الاوليات. ثم انّ ذلك منقوض بالالوان فانها لا توجد عندكم الا فى السطوح ولا حصول لها بالفعل فى اعماق الاجسام وكذلك النور والضوء لا يوجدان الا فى السطوح وكذلك المماسة والملاقاة لا تحصل الا فى النهايات وكذلك الملاسة والخشونة لا تحصل الا فى السطوح فبطل قولكم ان النهايات لا يحلّ فيها الا نهايات ما هى حالة فى المقادير ».

وفى تعليقة نسخة : اقول : يمكن ان يقال ان النقطة عدمية مطلقا وليست لها جهة وجودية حتى يصلح للمحلية. اما السطح والخط فليسا عدميين على الاطلاق لانهما من حيث انهما نهايتان يكونان عدميين ولكن لهما جهة غير الانتها وهى كون السطح ذا امتدادين والخط ذا امتداد واحد فيكونان من هذه الجهة وجوديين. فالخط والسطح يمكن ان يكونا محلّين.

واعلم ان بعض الاعراض والحوادث لا يحتاج حدوثه الى الفعل والانفعال فى محله بل استعداد المحل له هو محض المقابلة وكونه سطحا مثلا كالاضواء والالوان. والالوان عند المحققين لا تكون غير الاضواء والتماس والتلاقى والصورة المعقولة حدوثها فى القوة المدركة ليست من هذا القبيل فاذا كان محلها ما هو طرف الجسم فلابد من الفعل والانفعال فى محله حتى يستعد والا يجب ان يكون حصول الصورة فيها إما دائما او ممتنع الحصول فيها والنقطة مادامت نقطة وتكون متصلة لا تكون قابلة لتحقق الفعل والانفعال فيها الا بتحقق الفعل والانفعال فى الشىء الذى هى طرفه فالمحل حينئذ يكون ذلك الشىء بالذات لا النقطة ، نعم لو تميزت النقطة عن ذى الطرف فيكون منفصلة عنه ومعلوم انها حينئذ لا تكون نقطة بل يكون جسما من الاجسام يصح ان يحل فيها الصورة بعد الاستعداد ويلزم على حلولها فيها ما يلزم على حلولها فى الجسم.

قال الرازى فى المباحث ج ٢ ص ٣٦٠ : « النقطة مما لا يعقل لها حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها فى القابلية وعدم القابلية بل ان كانت قابلة للصور العقلية وجب ان يكون ذلك القبول حاصلا لها ابدا فلو كان القبول حاصلا ابدا لكان المقبول

٢٨٩

الوضع أو عن المقدار الذى هو منته إليها (١) تميزا يكون له النقطة شيئا يستقر فيه شىء (٢) من غير أن يكون فى شىء من ذلك المقدار ، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها وإنما هى طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار كذلك إنما يجوز أن يقال بوجه مّا أنه يحل فيها طرف شىء حال فى المقدار الذى هى طرفه.

فهو متقدر بذلك المقدار بالعرض ، وكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة ، فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات.

ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات. فكانت النقطة إذن ذات جهتين : جهة منها تلى الخط الذى تميّزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها. وللخط المنفصل عنها نهاية ولا محالة غيرها تلاقيها ؛ فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه. والكلام فيها وفى هذه النقطة واحد ، ويؤدى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة فى الخط إما متناهية وإما غير متناهية.

وهذا أمر قد بان لنا فى مواضع أخرى استحالته ، فقد بان أن النقط لا يتركب بتشافعها جسم ، وبان أيضا أن النقطة لا يتميز لها وضع خاص.

__________________

حاصلا ابدا لما علمت انّ المبادئ المفارقة عامة الفيض فلا يتخصّص فيضها الا لاختلاف القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول ولو كان كذلك لكان جميع الاجسام ذوات النقط تكون عاقلة فوجب ان يبقى البدن بعد موته عاقلا للمعقولات لبقاء محل الصور العقلية على استعدادها التام ولما لم يكن كذلك بطل هذا القسم ».

(١) فى تعليقة نسخة : سواء كان خطا او غير خط كالمخروط.

(٢) اى الصورة المعقولة فى المقام.

٢٩٠

ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها فنقول : إن النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ : إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان ، فيلزم حينئذ أن تنقسم الواسطة على الأصول التى قد علمت ، وهذا محال. وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس (١) فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة فى جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة. وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط ، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها ، فتكون تلك النقطة مباينة لهذه فى الوضع. وقد وضعت النقط كلها مشتركة فى الوضع وهذا محال (٢).

فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم ، فبقى أن يكون محلها من الجسم ـ إن كان محلها فى الجسم ـ منقسما.

فلنفرض صورة معقولة فى شىء منقسم ، فإذا فرضنا فى الشىء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم ، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين :

فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما ، إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء ، إلا أن يكون ذلك الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة فى المقدار أو الزيادة فى العدد لا من جهة الصورة ، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا مّا أو عددا مّا ، وليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد ، وتصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة ، وأنت تعلم أنه

__________________

(١) قوله : « عن التماس » فتتداخل النقاط فلا يحصل منها خط اذ لا يحصل امتداد على هذا الفرض قطعا وايضا تكون الصورة المعقولة حالة فى جميع النقط. ولقد اسقط اللازم من التشافع واقام المطلوب مقامه فان ابطال التشافع مقصود بالعرض.

(٢) فهذا خلف ، نسخة.

٢٩١

ليس يمكن أن يقال ، إن كل واحد من الجزئين هو بعينه الكل ، كيف والثانى داخل فى معنى الكل وخارج عن معنى الجزء الآخر. فمن البين الواضح أن الواحد منهما وحدّه ليس يدل على نفس معنى التمام (١).

وإن كانا غير متشابهين ، فلينظر كيف يمكن أن يكون ذلك ، وكيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة. فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء غير المتشابهة إلا أجزاء الحد التى هى الأجناس والفصول ، وتلزم عنها (٢) محالات :

منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا فى القوة قبولا غير متناه ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول فى القوة غير متناهية وهذا محال. و (٣) قد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشىء الواحد ليست فى القوة غير متناهية ، ولأنه ليس يمكن أن يكون فيه توهم القسمة يفرز الجنس والفصل ، بل مما لا نشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تميزا فى المحل أن ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشىء الواحد متناهية من كل وجه. ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية بالفعل ، لما كان يجوز أن تجتمع فى الجسم اجتماعا على هذه الصورة (٤) ، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى معنى التمام من الكل.

(٢) من هذا ، نسخة.

(٣) حالية.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى على الصورة الغير المتناهية.

٢٩٢

وأيضا ولتكن القسمة مما قد وقع من جهة ، فأفرز (١) من جانب جنسا ومن جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة لم يخل إما أن يقع بها (٢) فى كل جانب نصف جنس ونصف فصل أو يوجب انتقال الجنس والفصل إلى القسمين ، فيميل الجنس والفصل كل إلى قسم من القسمة ، فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية تدور بمكان الجنس والفصل ، وكان يجرّ (٣) كل واحد منهما إلى جهة مّا بحسب إرادة مريد من خارج فيه. على أن ذلك أيضا لا يغنى ، فإنه يمكننا أن نوقع قسما فى قسم.

وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه ، فإن هاهنا معقولات هى أبسط المعقولات ، وهى مبادئ للتركيب فى سائر المعقولات ، وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هى منقسمة فى الكم ، ولا هى منقسمة فى المعنى. فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها هو فى معنى الكل ، وإنما يحصل الكل بالاجتماع فقط ، ولا أيضا يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يجب (٤) أن تنقسم الصورة المعقولة.

وإذا لم يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ولابد لها من قابل فينا ، فلابد من أن نحكم أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا متلقّيها منا قوة فى جسم ، فإنها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثم يتبعه سائر المحالات ، بل متلقّى

__________________

(١) من جهة فافرزت ، نسخة. اى القسمة افرزت ، والمآل واحد.

(٢) منها ، نسخة.

(٣) تخيّر ، نسخة.

(٤) فليس يمكن أن ... ، خ ل.

٢٩٣

الصورة المعقولة منا غير جسمانى.

ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر.

[ البرهان الثانى على تجرد النفس الناطقة ]

فنقول : إن القوة العقلية هوذا تجرد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل من قبل ، فيجب أن ننظر فى ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هى مجردة عنه أبا لقياس إلى الشىء المأخوذ منه أو بالقياس إلى الشىء الآخذ ، أعنى أن وجود هذه الحقيقة المعقولة المتجردة عن الوضع هل هو فى الوجود الخارجى أو فى الوجود المتصور فى الجوهر العاقل.

ومحال أن نقول : إنها كذلك فى الوجود الخارجى ، فبقى أن نقول :

إنها إنما هى مفارقة للوضع والأين عند وجودها فى العقل. فإذا وجدت فى العقل لم تكن ذات وضع وبحيث تقع إليها إشارة أو تجزّو انقسام أو شىء مما أشبه هذا المعنى ، فلا يمكن أن تكون فى جسم.

[ البرهان الثالث على تجرد النفس الناطقة ]

وأيضا إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة (١) التى هى لأشياء غير منقسمة فى المعنى فى مادة منقسمة ذات جهات ، فلا يخلو إما أن لا تكون ولا لشىء من أجزائها التى تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة (٢) إلى الشىء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرد عن المادة ، أو تكون

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : كصورة الوحدة والنقطة والجوهر الذى هو جنس عال.

(٢) اسم لا تكون.

٢٩٤

لكل واحد من أجزائها التى تفرض نسبة ، أو تكون لبعض دون بعض.

فان لم تكن ولا لشىء منها فلا لكلّها ، فان ما يجتمع عن مباينات مباين.

وان كان لبعضها دون بعض فالبعض الذى لا نسبة له ليس هو من معناه فى شىء.

وإن كان لكل جزء يفرض نسبة مّا ، فإما أن يكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات (١) كما هى أو إلى جزء من الذات ، فإن كان لكل جزء يفرض نسبة إلى الذات كما هى فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول ، بل كل واحد منها معقول فى نفسه مفردا ؛ وإن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات ، فمعلوم أن الذات منقسمة فى المعقول (٢) وقد وضعناها غير منقسمة ، هذا خلف.

فان كان نسبة كل واحد إلى شىء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر ، فانقسام الذات أظهر.

ومن هذا تبين أن الصور المنطبعة فى المادة الجسمانية لا تكون إلا أشباها لأمور جزئية منقسمة ، ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.

[ البرهان الرابع على تجرد النفس الناطقة ]

وأيضا فإن الشىء المتكثر فى أجزاء الحد ، له من جهة التمام

__________________

(١) اى تمام الذات.

(٢) فى تعليقة نسخة : لان النسبة الى الشىء الواحد البسيط الغير المنقسم لا تكون مختلفة الا ان يكون ذلك الشىء مختلفا.

٢٩٥

وحدة مّا لا تنقسم. فلينظر أن ذلك الوجود الوحدانى ، من حيث هو واحد مّا ، كيف يرتسم فى المنقسم ويكون الكلام فيها وفيما لا ينقسم بالحد واحدا.

[ البرهان الخامس على تجرد النفس الناطقة ]

وأيضا فإنه قد صح لنا أن المعقولات المفروضة التى من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوة. وقد صح لنا أن الشىء الذى يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون جسما ولا قوة فى جسم ، قد برهن على هذا فى الفنون الماضية. فلا يجوز إذن أن تكون الذات المتصورة للمعقولات قائمة فى جسم ألبتة ، ولا فعلها كائن فى جسم ولا بجسم.

وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيلات ، فذلك خطأ ، فإنه ليس للقوة الحيوانية أن تتخيل أى شىء اتفق مما لا نهاية له فى أى وقت كان ما لم يقرن بها تصريف القوة الناطقة.

ولا لقائل أن يقول : إن هذه القوة أى العقلية قابلة لا فاعلة ، وأنتم إنما أثبتم تناهى القوة الفاعلة ، والناس لا يشكّون فى جواز وجود قوة قابلة غير متناهية كما للهيولى. فنقول : إنك تعلم أن قبول النفس الناطقة فى كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى.

[ البرهان السادس على تجرد النفس الناطقة ]

ولنستشهد أيضا على ما بينّاه بالكلام الناظر فى جوهر النفس الناطقة وفى أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أخرى له مناسبة

٢٩٦

لما ذكرناه.

فنقول : إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يستتم (١) باستعمال تلك الآلة الجسدانية ، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة وأن لا تعقل أنها عقلت ، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس لها بينها وبين آلتها آلة ، وليس لها بينها وبين أنها عقلت آلة ، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التى تدّعى لها وانّها عقلت (٢) فإذن تعقل بذاتها لا بآلة.

بل قد نحقق فنقول : لا يخلو إما أن يكون تعقلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك ، أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد ، وهى أيضا فيها وفى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع ، وهى فيها وفى آلتها.

فإن كان لوجود صورة (٣) آلتها فصورة آلتها فى آلتها (٤) وفيها بالشركة دائما. فيجب أن تعقل آلتها دائما ، إذ كانت إنما تعقلها لوصول

__________________

(١) وفى نسختين من الشفاء عندنا « انما يستقيم » مكان « انما يستتم ». وفى النجاة : « انما يتمّ ».

(٢) اى تعقل انها عقلت.

(٣) اى ذات صورة آلتها.

(٤) فى تعليقة نسخة : قوله : « فصورة آلتها فى آلتها وفيها بالشركة » يعنى ان صورة آلتها قائمة فى مادة آلتها فيكون فى آلتها. وكذلك تكون فيها اى فى القوة العاقلة ايضا لانّ المفروض ان القوة العاقلة حالة فى مادة آلتها. فهى ـ اعنى صورة الآلة ـ كما تكون حاضرة لمادة الآلة تكون حاضرة للقوة العاقلة ايضا فيجب ان تكون عاقلة لصورة الآلة دائما. وقوله : « بالشركة » معناه ان صورة الآلة صورة واحدة موجودة لكليهما لا ان تكون الموجودة للعاقلة صورة اخرى مخالفة للموجود للآلة بالوجود او بالماهية فتدبّر لتفهم معنى قوله « وفى آلتها » فى العبارتين السابقتين ايضا. ملا عبد الرزاق.

٢٩٧

الصورة إليها (١).

وإن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل.

أما أوّلا (٢) فلأن المغايرة بين أشياء تدخل فى حد واحد ، إما لاختلاف المواد والأحوال والأعراض ، وإما لاختلاف ما بين الكلى والجزئى والمجرد عن المادة والموجود فى المادة ، وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض ، فإن المادة واحدة والأعراض لموجودة واحدة ؛ وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود فى المادة ، فإن كليهما فى المادة ؛ وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأن إحداهما إن استفادت جزئية فإنما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التى تلحقها من جهة المادة التى فيها. وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى ، ولا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها ، فإنها تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها فى الأغلب مقارنة للأجسام التى هى معها على ما بيّناه.

وأنت تعلم أنه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها (٣) ، فإن هذا أشد استحالة ، لأن الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة إليه ، فتكون صورة المضاف داخلة فى هذه الصورة ، وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا صورة شىء مضاف إليها بالذات ،

__________________

(١) اى انما تعقل القوة العقلية الآلة لوصول صورة الآلة الى تلك القوة العقلية ، والفرض ان تلك الصورة حاصلة للعقلية لان القوة العقلية منطبعة فى تلك المادة الجسدانية بالفرض.

(٢) قوله : « أما أوّلا » هكذا فى جميع النسخ من الشفاء عندنا. ولكنه لم يأت بما يكون هو ثانيا.

(٣) اى غيرها بالنوع.

٢٩٨

لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن إنما نجد (١) ونعتبر صورة ذاته ، والجوهر فى ذاته غير مضاف ألبتة.

فهذا برهان واضح على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته فى الإدراك. ولهذا فإن الحس إنما يحسّ شيئا خارجا ولا يحس ذاته ، ولا آلته ولا إحساسه. وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ألبتة (٢) ، بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه وأنها لا محالة له دون غيره ، إلا أن يكون الحس يورد عليه صورة آلته لو أمكن ، فيكون حينئذ إنما يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شىء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيله.

[ البرهان السابع على تجرد النفس الناطقة ]

وأيضا مما يشهد لنا بهذا (٣) ويقنع فيه أن القوى الدرّاكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكلّ ، لأجل أن الآلات تكلّها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذى هو جوهرها وطبيعتها ، والأمور القوية الشاقة الإدراك توهنها ، وربما أفسدتها ولا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها فى الانفعال عن الشاق ، كالحال فى الحس فإن المحسوسات الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر والرعد الشديد للسمع ، ولا يقوى

__________________

(١) نأخذ ، نسخة.

(٢) قوله : « ولا فعله ألبتة » ، اقول : هكذا جائت العبارة فى عدة نسخ اخرى مخطوطة من الشفاء ايضا. ولكن العبارة حرّفت واصلها هكذا : « ولا فعله ولا آلته بل ان تخيّل الخ » كما فى النجاة ، على أنّ سياق العبارة ينادى بذلك ايضا.

(٣) اى يكون النفس غير جسمانية.

٢٩٩

الحس عند إدراك القوى على إدراك الضعيف ، فإنّ المبصر ضوءا عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا ضعيفا ، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه ولا عقيبه صوتا ضعيفا ، ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة.

والأمر فى القوة العقلية بالعكس ، فإن إدامتها للعقل وتصورها للأمور التى هى أقوى تكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها ؛ فإن عرض لها فى بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التى تكلّ فلا تخدم العقل ، ولو كان لغير هذا لكان يقع دائما وفى الاكثر (١) والأمر بالضد.

[ البرهان الثامن على تجرد النفس الناطقة ]

وأيضا فإن أجزاء البدن كلها تأخذ فى الضعف من قواها بعد منتهى النشوء والوقوف ، وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين. وهذه القوة المدركة للمعقولات إنما تقوى بعد ذلك فى أكثر الأمر ، ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما فى كل حال أن تضعف حينئذ. لكن ليس ذلك (٢) إلا فى أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال ، فليست هى إذن من القوة البدنية.

ومن هذه الأشياء تبيّن أن كل قوة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ولا آلتها ولا إدراكها ، ويضعفها تضاعف الفعل ، ولا تدرك الضعيف إثر القوىّ ، والقوى يوهنها ويضعف فعلها عن ضعف آلات فعلها ، والقوة العقلية بخلاف ذلك كله.

__________________

(١) وفى اكثر الأمر ، والأمر بالضد ، نسخة.

(٢) الضعف للقوة العقلية.

٣٠٠