النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

أن تكون فى نفسها لا فى موضوع ألبتة ، وقد علمت ما الموضوع.

فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع ، فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس مّا قائمة بذاتها والبواقى كل واحد منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس مّا قائمة فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض ، وجميع هذا كمال. فلم يتبين لنا بعد أن النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال. وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة.

فنقول : إنا إذا عرفنا أن النفس كمال بأى بيان وتفصيل فصلنا الكمال ، لم يكن بعد عرفنا النفس وماهيتها ، بل عرفناها من حيث هى نفس ؛ واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها ، بل من حيث هى مدبرة للأبدان ومقبسة إليها. فلذلك يؤخذ البدن فى حدها ، كما يؤخذ مثلا البناء فى حد البانى ، وإن كان لا يؤخذ فى حده من حيث هو إنسان.

ولذلك صار النظر فى النفس من العلم الطبيعى ، لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة والحركة ، بل يجب أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر. ولو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس ، لما أشكل علينا وقوعها فى أى مقولة تقع فيها. فإن من عرف وفهم ذات الشىء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له ، كما أوضحناه فى المنطق.

لكن الكمال على وجهين : كمال أول ، وكمال ثان. فالكمال الأول

__________________

جوهرا فلم يتبيّن بعد من مفهوم كون النفس كمالا انّ ذلك الكمال جوهر او عرض ».

الاسفار الاربعة ج ٤ ص ٥ ط ١ ـ ج ٨ ص ٢٥ ط ٢.

٢١

هو الذى يصير به النوع نوعا بالفعل كالشكل للسيف. والكمال الثانى هو أمر من الأمور التى تتبع وجود نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته ، كالقطع للسيف ، وكالتمييز والرويّة والإحساس والحركة للإنسان. فإن هذه كمالات لا محالة للنوع ، لكن ليست أوّليّة ، فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل ، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صار له هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شىء حتى تصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس كمال أول.

ولأن الكمال كمال للشىء ، فالنفس كمال الشىء ، وهذا الشىء هو الجسم ، ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسى (١) لا بالمعنى المادى (٢) ، كما علمت فى صناعة البرهان. وليس هذا الجسم الذى النفس كماله كل جسم ، فإنها ليست كمال الجسم الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما ، بل كمال الجسم الطبيعى. ولا كل جسم طبيعى ، فليست النفس كمال نار ولا أرض ولا هواء ، بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها فى أفعال الحياة التى أولها التغذى والنمو. فالنفس التى نحدّها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال الحياة.

لكنه قد يتشكك فى هذا الموضوع بأشياء ، من ذلك أن لقائل أن يقول : إن هذا الحد لا يتناول النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات. وإن تركتم ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا ، فإن

__________________

(١) اى لا بشرط.

(٢) اى بشرط لا.

٢٢

الحياة التى لها ليس هو التغذى والنمو ، ولا أيضا الحس. وأنتم تعنون بالحياة التى فى الحد هذا ، وإن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصور العقلى أو التحريك لغاية إرادية ، أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس. وأيضا إن كان التغذى حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا.

وأيضا لقائل أن يقول : ما الذى أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ولم لم يكفكم أن تقولوا : إن الحياة نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذى يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس.

فلنشرع فى جواب واحد واحد من ذلك وحله ، فنقول : أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين : مذهب من يرى أن كل كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد ، فتكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها بعدة أجزاء ذوات حركات ، فتكون هى كالآلات. وهذا القول لا يستمر فى كل الكرات (١). ومذهب من يرى أن كل كرة فلها فى نفسها حياة مفردة ، وخصوصا ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه. فهؤلاء يجب أن يروا أن اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية وعلى النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك (٢) ، وأن هذا الحد إنما هو للنفس الموجودة للمركبات ، وإنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات (٣) والفلك فى معنى اسم النفس ، خرج

__________________

(١) وفى تعليقة : بل فى غير الفلك الاطلس.

(٢) اى اللفظى.

(٣) وفى تعليقة نسخة : وانما خصّها بالذكر لوجود الحد المشترك بين النفس الفلكية والحيوانية وهو مبدأ فعل ما بالقصد والنبات لا قصد له.

٢٣

معنى النبات من تلك الجملة. على أن هذه الحيلة صعبة ، وذلك لأن الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى اسم الحياة ولا فى معنى اسم النطق أيضا لأن النطق الذى هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيان (١) ، وليس هذا مما يصح هناك على ما يرى. فإن العقل هناك عقل بالفعل ، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس الكائنة جزء حد للناطق (٢).

وكذلك الحس هاهنا يقع على القوة التى تدرك بها المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها ، وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما يرى.

ثم إن اجتهد فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكية ، خرج النبات من تلك الجملة. وهذا هو القول المحصل.

وأما أمر الحياة والنفس فحل الشك فى ذلك على ما نقول له : إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل. فإن سمّى مسمّ هذا المبدأ حياة لم تكن معه مناقشة.

وأما المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران : أحدهما كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه ، أو كون الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه. فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه (٣). وأما الثانى فيدل على معنى أيضا

__________________

(١) اى العقل الهيولانى والعقل بالملكة.

(٢) وفى تعليقة نسخة : يعنى ان النفس التى هى جزء من حد الناطق فى قولنا الناطق نفس ذات نطق ليس مقوّمها العقل بالفعل بل القدر المشترك بينه وبين العقل بالقوة والا لم يكن الانسان ناطقا فى مرتبة العقل الهيولانى.

(٣) وفى تعليقة نسخة : لانه ليس المفهوم من كون الجسم ذا مبدأ هو المفهوم من ذلك المبدأ.

٢٤

غير معنى النفس.

وذلك لأن كون الشىء بحيث يصح أن يصدر عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين : أحدهما أن يكون فى الوجود شىء غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة ، بحيث تصدر عنه المنافع السفينية. وذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا الكون ، والربان وهذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع. والثانى أن لا يكون شىء غير هذا الكون فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة ، حتى يكون وجود الحرارة فى الحسم هو وجود هذا الكون ، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون (١) على ظاهر الأمر.

إلا أن ذلك فى النفس لا يستقيم ، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا ، وكيف لا يكون كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ ، ثم للجسم هذا الكون. والمفهوم من الكمال الأول الذى رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ، لأن الكمال الأول ليس له مبدأ وكمال أول فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذا عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس فى الدلالة على الكمال الأول لم نناقش ، وتكون الحياة اسما لما كنا وراء إثباته من هذا الكمال الأول.

فقد عرفنا الآن معنى الاسم الذى يقع على الشىء الذى سمى نفسا بإضافة له.

__________________

(١) وفى تعليقة : اى كون الجسم بحيث يصدر عنه تلك الافعال

٢٥

فبالحرى أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشىء الذى صار بالاعتبار المقول نفسا (١).

ويجب أن نشير فى هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التى لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير إشارة شديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه (٢) وقرع (٣) عصاه وصرفه عن المغلطات.

فنقول : يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا (٤) ، لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات ، وخلق يهوى (٥) فى هواء أو خلاء هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما مّا يحوج إلى أن يحسّس ، وفرّق بين أعضائه (٦) فلم تتلاق ولم تتماس ، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ولا يشك فى إثباته لذاته موجودا ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج.

__________________

(١) وفى تعليقة. اى باعتبار اضافته الى البدن يقال له نفس.

(٢) ثقف ككرم وفرح : صار حاذقا.

(٣) قال الجوهرى فى الصحاح : « وقولهم : « ان العصا قرعت لذى الحلم » ، اى انّ الحليم اذا نبّه انتبه واصله انّ حكما من حكام العرب عاش حتى اهتر ـ اى صار خرفا ـ فقال لا بنته اذا انكرت من فهمى شيئا عند الحكم فاقرعى لى المجّن بالعصا لارتدع » الصحاح ج ٤ ص ١٢٦١ مادة « قرع ». وفى القاموس : « لما طعن عامر فى السنّ او بلغ ثلاثمأة سنة انكر من عقله شيئا فقال لبنيه اذا رأيتمونى خرجت من كلامى واخذت فى غيره فاقرعوا لى المجّن بالعصاء » القاموس المحيط ج ٣ ص ٦٦ مادة « قرع ».

(٤) سيأتى هذا الدليل فى الفصل السابع من المقالة الخامسة من هذا الفن السادس.

(٥) اى يسقط فى الهواء كانّه معلق فيه.

(٦) وفى تعليقة : اى يكون منفرجة الاعضاء بحيث لا تتلامس اعضائه.

٢٦

فإن قيل : انّ ، المشعور به هو المزاج.

فالجواب : انّ المزاج لا يدرك الا بالانفعال والمنفعل عنه غير المنفعل (١) ، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا ، ولو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته ، وأنت تعلم أن المثبت غير الذى لم يثبت والمقرّ به غير الذى لم يقرّبه ، فإذن للذات التى اثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التى لم تثبت ، فإذن المتنبّه له سبيل إلى أن يتنبه على وجود النفس بكونه شيئا غير الجسم بل غير جسم ، وأنه عارف به مستشعر له ، فإن كان ذاهلا عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه.

__________________

(١) هذه الزيادة ـ من قوله : « فان قيل » ... إلى قوله : « غير المنفعل » ـ توجد فى نسختين من الشفاء مخطوطتين عندنا. والشيخ يقول فى آخر الفصل الآتى : « واما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا القول ». ولم يسلف بطلانه الاّ فى هذا الموضع من هذه الزيادة.

٢٧

الفصل الثانى

فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها ونقضه

فنقول : قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسالك إليه ، فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة ، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك ، ومنهم من جمع بين المسلكين ، ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة (١).

فمن سلك منهم جهة الحركة ، فقد كان تخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلا عن محرك ، وأن المحرك الأول يكون لا محالة متحركا بذاته (٢) ، وكانت النفس محركة أولية ، إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب ، فجعل النفس متحركة لذاتها ، وجعلها لذلك جوهرا غير مائت ، معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت. قال : ولذلك ما ، كانت الأجسام السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها.

فمنهم من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته ومنهم من جعلها جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته.

__________________

(١) اى ملخّصة.

(٢) فى تعليقة نسخة : لانه ظن ان المحرك يجوز ان يتحرك وان لم يتحرك لا يجوز ان يحرك.

٢٨

فمنهم من جعل ما كان من الأجرام (١) التى لا تتجزأ كرّيا ليسهل دوام حركته ، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس ، وأن التنفس غذاء للنفس ، وأن النفس تستبقى به النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ التى هى المبادئ وأنها متحركة بذاتها ، كما يرى من حركة الهباء دائما فى الجو ، فلذلك صلحت لأن تحرّك غيرها.

ومنهم من قال : إنها ليست هى النفس ، بل إن محركها هو النفس وهى فيها ، وتدخل البدن بدخولها.

ومنهم من جعل النفس نارا ورأى أن النار دائمة الحركة.

وأما من سلك طريق الإدراك :

فمنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له (٢) ، فوجب أن تكون النفس (٣) مبدأ ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه المبدأ : إما نارا ، أو هواء ، أو أرضا ، أو ماء. ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التى هى مبدأ التكون وبعضهم جعلها جسما بخاريا ، إذ كان يرى أن البخار مبدأ الأشياء على حسب المذاهب التى عرفتها (٤) ، وكل هؤلاء كان يقول : إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها. وكذلك من رأى أن المبادئ هى الأعداد ، فإنه

__________________

(١) اى الاجزاء الصغار الصلبة.

(٢) اى علة له.

(٣) لكونها مدركة.

(٤) الفصل الثانى من الفن الثالث من هذا الكتاب ص ١٨٨ من الطبعة الحجرية فى اقتصاص المذاهب. والثالث منه ص ١٩١ فى نقضها والبحث عن مذهب البخار فى ص ١٨٩ ونقضه فى ص ١٩٢ فراجع.

٢٩

جعل النفس عددا.

ومنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبة (١) من الأشياء التى يراها عناصر (٢) ، وهذا هو قول انباذقلس ، فإنه قد جعل النفس مركبة من العناصر الاربعة ومن الغلبة والمحبة (٣) ، وقال : إنما تدرك النفس كل شىء شبهه فيها.

وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا : إن النفس عدد متحرك لذاته ، فهى عدد لأنها مدركة (٤) وهى متحركة لذاتها ، لأنها محركة أولية.

وأما الذين اعتبروا أمر الحياة (٥) غير ملخص :

__________________

(١) لان مدركات النفس مركبة منها

(٢) فى تعليقة نسخة : اى يعتقدها اصولا للكون والبقاء فى العالم فيشمل الغلبة والمحبة فالكون منوط بالعناصر الاربعة والبقاء وبدفع المنافر وجذب الملائم وهما منوطان بالغلبة والمحبة فتدبّر.

(٣) قوله : من الغلبة والمحبة ، المحبة بمعنى الباعثة للتركيب. والغلبة بمعنى الحافظة للتركيب كما فى تعليقة مخطوطة من الأسفار ( ج ٤ ص ٥٩ ) عندنا. وقال المتأله السبزوارى فى تعليقته على الاسفار فى المقام ما هذا لفظه : أى يتخذها أصولا للكون والبقاء فى العالم فيشمل الغلبة والمحبة فالكون منوط بالعناصر الاربعة والبقاء بدفع المنافر وجذب الملائم وهما منوطان بالغلبة والمحبة. وقد مضى الكلام فى المحبة والغلبة فى الفصل الخامس من الفن الثالث ص ١٩٨.

وفى تعليقة نسخة : من الغلبة والمحبة اى من الغضب والشهوة كذا قال المحقق اللاهيجى.

(٤) وفى تعليقة نسخة : أى النفس مدركة وكل مدرك يجب أن يكون مبدأ لمدركه والمبدأ هو العدد ، فيجب أن يكون النفس عددا.

(٥) وفى تعليقة نسخة : اى هولاء لما وصلوا الى معرفة النفس من مسلك الحياة فجعلوها من سنخ الحياة ومقوماتها ولوازمها ومعداتها وممداتها.

٣٠

فمنهم من قال : إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها.

ومنهم من قال بل برودة وأن النّفس مشتقة من النّفس والنّفس هو الشىء المبرد ولهذا ما ، يتبرد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.

ومنهم من قال بل النفس هو الدم ؛ لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة.

ومنهم من قال بل النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم تتغير صحة الحياة.

ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم أن تأليفا مّا يحتاج إليه حتّى يكوّن من العناصر حيوان ، ولأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم والاراييح والطعوم وتلتذبها.

ومن الناس من ظن أن النفس هو الإله ـ تعالى عما يقوله الملحدون ـ وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون فى شىء طبعا وفى شىء نفسا وفى شىء عقلا سبحانه وتعالى عما يشركون.

فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس (١) ، وكلها باطلة.

فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى الاسفار ـ بعد نقل هذه الاقول ـ : « اقول : نقض ظواهر هذه الاقوال وابطالها فى غاية السهولة بعد ان ثبت ان النفس جوهر مفارق الذات عن الاجسام ، وكل من له ادنى بضاعة فى الحكمة يعلم ان النفس جوهر شريف ليس من نوع الاجسام الدنية كالنار والهواء والماء والارض ولا من باب النسب والتأليفات. كيف يذهب على الحكماء السابقين كانباذقلس وغيره أن يجهلوا ما يعلمه من له أدنى معرفة فى علم النفس وأحوالها فان التأويل والتعديل لكلامهم أولى من النقض والجرح ».

فشرع فى التأويل ومن أراد الإطلاع على التأويلات فليرجع الى الاسفار ج ٤ ص ٥٩ ط ١ ج ٨ ص ٢٤٤ ط ٢.

٣١

السكون (١) ، فإن كانت النفس تحرّك بأن تتحرّك فكان لا محالة تحرّكها علة للتحريك ، فلم يخل تسكينها إما أن يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين والتحريك واحدة. فلم يمكن أن يقال : إنها تحرك بأن تتحرك (٢) ، وقد فرضوا ذلك. أو يصدر عنها وقد سكنت ، فلا تكون متحركة بذاتها.

وأيضا فقد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته فلا تكون النفس شيئا متحركا من ذاته.

وايضا فإن هذه الحركة لا يخلو إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك (٣). فإن كانت مكانية فلا يخلو إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية ، فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة واحدة لا محالة ، فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط. وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ، ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها ، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول وأن يكون هو النفس. وإن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس (٤) وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما

__________________

(١) قوله : انهم نسوا السكون ، هكذا فى جميع النسخ المخطوطة عندنا وبعضها مصحّحة بالعرض والمقابلة والقرائة غاية الاتقان. ونسوا من : « ن ـ س ـ ى » ناقص يائى. إلا أن صدر المتألهين نقل عبارة الشيخ فى الاسفار ( ج ٤ ص ٦٢ ط ١ ـ ص ٢٥٥ ج ٨ ط ٢ ) هكذا : « انهم نسبوا السكون الى النفس » بالباء وزيادة « الى النفس » ، ونسخ الاسفار التى عندنا متفقة ايضا فى ذلك. والظاهر بل المتيقن انّ عبارة الاسفار محرّفة فتدبر.

(٢) وفى تعليقة نسخة : فكونها علة للحركة لا يكون علة لكونها متحركة ، ويصلح ان يقال ان النفس تسكن فيجب ان تكون ساكنة.

(٣) اى وضعية.

(٤) لانّ المحرك قبل المتحرك.

٣٢

واحدة لا تختلف ، فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة ، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة ، فلا تكون متحركة لذاتها.

وأما الحركة من جهة الكم فأبعد شىء من النفس ، ثم لا يكون شىء متحركا من جهة الكم بذاته ، بل لدخول (١) داخل عليه أو استحالة فى ذاته.

وأما الحركة على سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا (٢) فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا ، وإما حركة فى عرض من الأعراض لا فى كونها نفسا ، فأول ذلك أن لا يكون تحركها ، من نحو تحريكها ، بل تكون ساكنة فى المكان حين تتحرّك فى المكان. والثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض ، وإذا حصل فقد وقفت الاستحالة.

وأيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما والمحرك الذى

__________________

(١) فان كان بدخول الداخل فهى الحركة الاغتذائية او السّمن وان كان بالاستحالة فهى الحركة التخلخلية او التكاثفية وان كان بخروج شىء فهى الذبولية والهزالية.

(٢) اقول : العبارة منقولة فى الاسفار ( ص ٦٣ من ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٥٦ ج ٨ ط ٢ ) هكذا : « عن كونها نفسا » ـ اى جائت كلمة عن مكان فى ـ ونسخ الاسفار من المخطوطات والمطبوعات المصحّحة جدّا عندنا كلها متفقة فى ذلك واما نسخ الشفاء التى عندنا فهى مطبقة على فى. وبعضها مصحح غاية التصحيح بالقرائة والمقابلة والإجازة. كما ان بعض نسخ اسفارنا ايضا كذلك. الا ان واحدة من نسخة الشفاء جعلت كلمة عن اصلا وفى فوقها كلمة فى نسخة بدلا عنها. وعبارة الكتاب على كلمة عن ظاهرة المعنى ولا غبار عليها. واما معناها على كلمة فى فهو ان النفس اذا حركت فى كونها نفسا الخ فمعناه انها لم تكن قبل الحركة نفسا. وان لم تخل عن تكلف فتبصر.

٣٣

يحرك فى المكان بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة فلو كان للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه. وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض الأجسام ، فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيارية.

وأيضا فقد علمت أن القول بالهباء (١) هذر باطل ، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف.

ثم من المحال ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ماوراءه ، فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادئ لها.

وأما إثبات ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات ، فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها ، ولا هى مبدأ للأسطقسات وهو أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود وإما أن لا يكون ، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية. فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال : إن النار والماء وغير ذلك مبادئ لها فنعلمها بها ، ولا بالعكس.

وأيضا إما أن تكون معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ ، أو تتناول الأشياء التى تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ ، أو تكون بكليهما. فإن كانت إنما تتناول ذلك المبدأ أو تتناول كليهما ، وكان العالم بالشىء يجب أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدأ وايضا مبدأ لذاتها ، لأنها تعلم ذاتها ، وإن كانت ليس تعلم المبدأ ، ولكن تعلم

__________________

(١) بالهباءات باطل كما فى اكثر النسخ ، بالهباءات هذر باطل بالذال المعجمة كما فى بعضها. والهباء : الأجزاء التى لا تتجزّأ.

٣٤

الأحوال والتغيرات التى تلحقه. فمن الذى يحكم (١) بأن الماء والنار أو أحد هذه مبدأ.

وأما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن المبدأ لكل شىء عدد ، بل قالوا ماهية كل شىء عدد ، وحدّه عدد ، وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى موضع أخر ، وسندلّ فى صناعة الفلسفة الأولى (٢) أيضا على استحالة رأيهم هذا وما أشبهه ، فإن مذهبهم هاهنا نزيّفه من حيث النظر الخاص بالنفس ، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة ، أو بأنها مثلا زوج أو فرد أو شىء أعم من عدد معين.

فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين ، فما يقولون فى الحيوان المخرز (٣) الذى إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحسّ ، وإذا أحسّ فلا محالة هناك تخيل مّا (٤) ، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة من تخيل ما لا محالة. ومعلوم أن الجزءين يتحركان عن قوتين فيهما ، وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذى كان فى الجملة ، وإنما كان النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير ، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس وهذا محال ، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر ، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل ، متكثرة

__________________

(١) كما فى جميع النسخ التى عندنا. وذلك لأن الحكم فرع ادراك الطرفين فاذا لم يدرك احدهما فكيف يحكم على شيء بشيء.

(٢) ج ٢ ص ٧٠ ـ ط ١.

(٣) المخرز كمعظّم : كل طائر على جناحيه نمنمة أى نقش.

(٤) اى فاعل بالقصد ، اذ ليس عن طبع والاّ لما اختلفت ، ولا عن قسر لعدم القاسر فهو عن التخيل والقصد.

٣٥

بالقوة تكثرا إلى النفوس.

وإنما تفسد فى الحيوان المخرز نفساه (١) ولا تفسد فى النبات ، لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المخرز ، بل بعض بدن الحيوان المخرز لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس. وفى بعضه الآخر ذلك المبدأ ، ولكنه يحتاج فى استبقائه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر ، فيكون بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج.

فإن لم تكن النفس عددا بعينه ، بل كانت عددا له كيفية مّا وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس كثيرة. فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا ، وفى كثير من المربعات مربعات ، وكذلك سائر الاعتبارات.

وأيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع (٢) ، أو لا يكون لها وضع ، فإن كان لها وضع فهى نقط ، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة (٣) تلك النقط أو لا تكون كذلك ، بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك. لكنهم جعلوا الطبيعة النفسية مجرد عددية ، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس ، فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس ، فكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت ، فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه.

__________________

(١) بعد مهلة وفى بعضها بلا مهلة فان بعض الحيوان يموت بلا مهلة بعد الجزو القطع وفى بعضها يبقى قليلا ثم يموت.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى قابل للاشارة الحسية.

(٣) عدد ، نسخة.

٣٦

وإن كانت عددا لا وضع له ، وإنما هى (١) آحاد متفرقة ، فبماذا تفرقت (٢) وليس لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات اخر وفصول أخرى وإنما تتكثر الأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة. فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها أبدان شتى.

ثم فى الحالين (٣) جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا ، لأنه إن كان ارتباطها بعضها ببعض والتئامها للطبيعة الوحدية والنقطية ، فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت ، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الأخرى وضامّ ضمّ بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة ، فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا.

وأما الذين قالوا إن النفس مركبة من المبادئ حتى يصح أن تعرف المبادئ وغير المبادئ بما فيها منها ، وإنه انّما يعرف كل شىء بشبهه فيه ، فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التى تحدث عن المبادئ مخالفة لطبيعتها. فإن الاجتماع قد يحدث هيئات فى المبادئ وصورا لا توجد فيها مثل العظمية واللحمية والإنسانية والفرسية وغير ذلك ، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس ، إذ ليس فيها هذه الأشياء ، بل إنما فيها أجزاء المبادئ فقط ، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا ، كما فيه نار وأرض وغلبة ومحبة ، وقال إن فيها هذه الأشياء ، فقد ارتكب العظيم.

__________________

(١) و (٢) اى النفس.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى الوضع وعدم الوضع.

٣٧

ثم إن كان فى النفس إنسان ، ففى النفس نفس ، ففيه مرة أخرى إنسان وفيل ، ويذهب ذلك إلى غير النهاية (١). وقد يشنّع عليه من جهة أخرى هى أنه يجب على هذا الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء ، وكلاهما كفر ، ومع ذلك يجب أن يكون غير عالم بالغلبة ، لأنه لا غلبة فيه. فإن الغلبة توجب التفريق والفساد فيما تكون فيه ، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادئ ، وهذا شنيع وكفر.

ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض ؛ والماء بالماء ، وأن تكون الأرض لا تعلم الماء ، والماء لا يعلم الأرض ، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد.

ويجب أن تكون الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض وليست هى كذلك ، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها ، وذلك كالظفر والعظم. ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده ، أولى من أن يتأثر عن شكله (٢). وأنت تعلم أن الإحساس تأثر مّا وانفعال مّا و (٣) يجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد فيكون السواد والبياض ليس يدركان بحاسة واحدة ، بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض ، والسواد بجزء منه هو أسود ، ولأن الألوان لها تركيبات بلانهاية ، فيجب

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : قوله : « ويذهب الى غير النهاية » لان المفروض انّ فى نفس الانسانى يكون جميع الاشياء ، ففى النفس يكون على هذا الفرض الانسان وللانسان الحاصل فى النفس ايضا نفس وفى هذه النفس ايضا انسان وله نفس وفى هذه النفس الثالثة ايضا جميع الاشياء ومن الأشياء الانسان فيحصل نفس رابعة وهكذا الى غير النهاية.

(٢) أى عن مشاكله.

(٣) الواو حالية ، اى والحال يجب أن لا تكون على هذا الوضع هاهنا قوّة ....

٣٨

أن يكون قد أعدّ للبصر أجزاء بلانهاية مختلفة الألوان.

وإن كان لا حقيقة للوسائط ، وما هو إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر ، فيجب أن يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا ، ومدرك السواد يدرك السواد صرفا ، إذ لا يمكن أن يدرك غيره ، فيجب أن لا تشكل علينا بسائط الممتزج ولا تتخيل إلينا الوسائط التى لا يظهر فيها بياض وسواد بالفعل.

وكذلك يجب أن يدرك المثلث بالمثلث ، والمربّع بالمربّع ، والمدوّر بالمدوّر ، والأشكال الأخرى التى لا نهاية لها ، والأعداد أيضا بأمثالها ، فتكون فى الحاسّة أشكال بلا نهاية ، وهذا كله محال. وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا للأضداد تعرف به ، كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم والمنحنى جميعا ، وأنه لا يجب أن يعلم كل شىء بشىء خاص.

وأما الذين جعلوا النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التى تتحرك على الأشياء لتدرك بها الأشياء ، فسنوضح بعد فساد قولهم حين يتبيّن أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم.

وأما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا القول (١) وعلى أنه ليس كل ما يفسد بفساده الحياة يكون نفسا ، فإن كثيرا من الأشياء والأعضاء والأخلاط وغير ذلك بهذه الصفة. وليس بمنكر أن يكون شىء (٢) لا بد منه حتى تكون للنفس علاقة بالبدن ، ولا يوجب ذلك

__________________

(١) فقد علم فى آخر الفصل الاول ص ٢٧ من قوله : فان قيل المشعور به هو المزاج الخ.

(٢) اى المزاج فى ما نحن فيه.

٣٩

أن يكون ذلك الشىء نفسا.

وبهذا يعلم خطأ من ظن أن النفس دم ، فكيف يكون الدم محرّكا وحسّاسا.

والذى قال : إن النفس تأليف فقد جعل النفس نسبة معقولة بين الأشياء ، وكيف تكون النسبة بين الأضداد محركا ومدركا والتأليف يحتاج إلى مؤلف لا محالة ، فذلك المؤلف أولى أن يكون هو النفس. وهو الذى إذا فارق وجب انتقاض التأليف. ثم سيتضح فى خلال ما نعرفه من أمر النفس بطلان جميع هذه الأقاويل بوجوه أخرى. فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب طبيعة النفس. وقد قيل فى مناقضة هذه الآراء أقاويل ليست بالواجبة ولا اللازمة وإنما تركناها لذلك.

٤٠